الفصل الثالث
(١) قلمي
من ذكريات المدرسة التي أستعيدها الآن لمناسبتها، حادث شجار عنيف بين تلميذين على قلمين من أقلام الكتابة العربية، يدعي كلاهما أن أحد القلمين قلمه، ويرد الآخر إلى صاحبه.
أكان النزاع على القلم المطلوب من أجل قيمته الغالية؟ …
كلا … فإن قيمة القلمين معًا لم تكن تزيد على ثلاثة مليمات أو أربعة؛ لأنهما من أقلام البوص التي كانت توجد يومئذ في جميع الأسواق.
فلم يكن النزاع بين الزميلين لغلو الثمن، وإنما كان لنفاسة أخرى غير نفاسة المال، وهي أن القلم الذي تنازعا عليه كان من الأقلام التي براها الأستاذ وقطها بيديه، فهو صالح لتجويد الخط، وضمان بعض الدرجات في الامتحان!
كان ذلك يوم كان القلم ثمرة من ثمرات الطبيعة، وكان لكل قلم شخصية ممتازة بما يكتبه من نوع الخط، ثلثًا كان، أو نسخًا، أو رقعة، أو حرفًا من الحروف الديوانية أو الفارسية … ويوم كانت لكل قلم شخصية ممتازة يستمدها ممن براه، وقطه، وهيأه للكتابة، وقلما يحسن ذلك غير أستاذ خبير بالأقلام، وبما تخطه الأقلام.
كان ذلك على التقريب شأن كل قلم في المدرسة، وفي غير المدرسة، فكان قلم البوص هو القلم المعتمد بين التلاميذ، وبين الموظفين، وبين الكتبة في كل مكان.
أما اليوم فلا «شخصية» للأقلام؛ لأنها جميعًا من صنع «الفابريكة» التي تخرج مصنوعاتها بالألوف، وعشرات الألوف!
إنها «نمر» مرصوصة في صناديق، وكل قلم فيها ككل قلم بلا اختلاف في غير علامة «الفابريكة» أو قدم القلم وجدته … وفيما عدا ذلك فالأقلام جميعًا سواء!
•••
وكنت في المدرسة من المعدودين بين المتقدمين في الخط، فلم تكن درجتي فيه تقل عن الدرجة العليا بأكثر من درجتين أو ثلاث.
ولكنني لم أكن من المتقدمين في صناعة البري، والقط، وتنويعها على حسب الحروف والخطوط … وكنت أعول في هذه الصناعة على الأستاذ، وأحتفظ بأقلامه طوال العام، فلما تركت المدرسة لبثت برهة أنتفع بأقلامي المدرسية، ثم عدلت عنها مضطرًّا إلى الريشة المعدنية، ولم أزل أكتب بها في الدواوين، حتى اشتغلت بالصحافة، ووجدت الكلفة في الاستملاء، وحمل الدواة إلى كل جهة أذهب إليها، وأحتاج إلى الكتابة فيها …
ولم يكن من اليسير أن أحصل على قلم «مداد» أو قلم «أمريكاني» كما كان يُسمَّى في تلك الأيام، فلجأت إلى استخدام القلم الرصاص.
وأتعبني القلم الرصاص؛ لأنه ينقصف، ويؤلم الأصابع بضغطه، ويترك فيها مثل علامة السجدة في جباه المصلين، ولكنها علامة لا تنفع أصحابها كما تنفع علامة السجدة من ينتفعون بها في سوق الرياء!
فما هو إلا أن تيسر لي ثمن القلم المداد، أو القلم «الأمريكاني»، حتى استبدلته بأقلام الرصاص، وما زلت أكتب به إلى اليوم.
واتفق أنني عملت في عدة صحف صباحية على التوالي، فظهر لي أن المداد الأحمر «أريح» للنظر في ضياء الليل، فهو المداد الذي استعملته إلى عهد قريب …
هل احتفظت بقلم من أقلامي هذه أو غيرها لمناسبة خاصة تهمني ذكراها؟ …
نعم … احتفظت بأقلام ثلاثة، كان لاحتفاظي بكل منها سبب وتاريخ، وكان كل منها باينًا لصاحبيه في سببه وتاريخه …
قلم منها احتفظت به لأنه كان هدية من إنسان أعزه، وكان قد كتب به قصيدة من شعري في وصف ليلة على النيل، ثم أهدى إليَّ القلم، والصحيفة المكتوبة بخطه.
وقلم ثانٍ كتبت به الفصول الأولى من كتابي عن «ابن الرومي»، ثم أدركني وأدركه شؤم الرجل، وسوء طالعه، فدخلت السجن، ودخله معي حيث قضى فيه تسعة أشهر، ولكن في مخزن الأمانات!
وقلم آخر أخرجته لخصم من خصومي السياسيين، وأقسمت له لتسقطن الوزارة النسيمية قبل أن ينبري هذا القلم … وقد كان من أجود الأقلام المعروفة «بالكوبية» أهديت بصندوق من نوعه، فجعلت أرواح في الكتابة العجلى بينه وبين القلم المداد.
أين هذه الأقلام الآن؟ هل هي محفوظة كما احتفظت بها في أوانها؟
كلا … مع الأسف، فليس عندي منها اليوم قلم واحد؛ لأنها ضاعت بسبب وتاريخ، كما كان لها في الاحتفاظ بها سبب وتاريخ.
القلم الذي أهداه إليَّ إنسان عزيز عاد بعد فترة من الوقت، فأصبح في حياتي غصة لا تُطاق.
فحملته ذات ليلة، وحملت معه الصحيفة التي كتبها بيد ذلك الإنسان العزيز، ووهبته للنيل في الموضع الذي وصفته بذلك القصيد!
والقلم الذي صاحبني في السجن، أفرجت عنه، وأصررت على أن أتم به الكتاب الذي شرع معي في تأليفه.
ثم أدركه نحس «ابن الرومي» مرة أخرى، فامتدت إليه يد سارق لا بد أنه حبس بعد ذلك …! إذا جرى «ابن الرومي» على عاداته، سامحه الله!
فإنني على ما أظن قد عثرت بالقلم عينه، وإن خطر لي في ذلك الحين — ولا يزال يخطر لي الساعة — أنه شبيه به مشابهة الزميلين في صنعة واحدة …
ولقد رثيت القلم المسروق بقصيدة أقول في مطلعها:
ومنها أقول:
ثم عثرت بقلم «مرجوع» من لونه، ونقشته، وعلامته، فاشتريته وقلت فيه:
ولكنني أعطيته لمن طلبه في الإسكندرية، وذهب به إلى الشاطئ فضاع! …
أما القلم الذي راهنت به على الوزارة النسيمية، فقد احتفظت به زمنًا بعد سقوط تلك الوزارة، ثم التبس عليَّ بفضلات من أقلام أخرى تشبهه، فلم أشأ أن أحتفظ بنسخ متعددة لا أدري أيها الجدير بالاحتفاظ، وتركته مع شبيهاته لما يصيبه من صروف الأقدار.
وقيل لي كثيرًا: «احتفظ بهذا القلم أو ذاك؛ لأنك كتبت به هذا الكتاب أو ذاك …» فلم أجد معنى للاحتفاظ بقلم تغني عنه في عملي، وفي نظري أقلام.
(٢) لماذا هويت القراءة
أول ما يخطر على البال حين يُوجَّه هذا السؤال إلى أحد مشتغل بالكتابة أنه سيقول: إنني أهوى القراءة لأنني أهوى الكتابة!
ولكن الواقع أن الذي يقرأ ليكتب وكفى هو «موصل رسائل» ليس إلا … أو هو كاتب «بالتبعية» وليس كاتبًا بالأصالة. فلو لم يسبقه كتاب آخرون لما كان كاتبًا على الإطلاق، ولو لم يكن أحد قبله قد قال شيئًا لما كان عنده شيء يقوله للقراء.
وأنا أعلم فيما أعهده من تجاربي أنني قد أقرأ كتبًا كثيرة لا أقصد الكتابة في موضوعاتها على الإطلاق، وأذكر من ذلك أن أديبًا زارني، فوجد على مكتبي بعض المجلدات في غرائز الحشرات، فقال مستغربًا: وما لك أنت والحشرات؟! … إنك تكتب في الأدب وما إليه، فأية علاقة للحشرات بالشعر والنقد والاجتماع؟!
ولو شئت لأطلت في جوابه … ولكنني أردت أن أقتضب الكلام بفكاهة تبدو كأنها جواب وليس فيها جواب …
فقلت: نسيت أنني أكتب أيضًا في السياسة!
قال: نعم نسيت والحق معك! … فما يستغني عن العلم بطبائع الحشرات رجل يكتب عن السياسة والسياسيين في هذه الأيام!
والحقيقة — كما قلت مرارًا — أن الأحياء الدنيا هي «مسودات» الخلق التي تتراءى فيها نيات الخالق كما تتراءى في النسخة المنقحة، وقد تظهر من «المسودة» أكثر مما تظهر بعد التنقيح. فإذا اطلع القارئ على كتاب في الحشرات، فليس من اللازم اللازب أن يطلع عليه ليكتب في موضوعه، ولكنه يطلع عليه لينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى، ويعرف من ثم كيف نشأ هذا الإحساس أو ذاك الإحساس، فيقترب بذلك من صدق الحس وصدق التعبير، ولو في غير هذا الموضوع.
كذلك لا أحب أن أجيب عن السؤال كما أجاب قارئ التاريخ في البيت المشهور:
فليست إضافة أعمار إلى العمر بالشيء المهم إلا على اعتبار واحد، وهو أن يكون العمر المضاف مقدارًا من الحياة لا مقدارًا من السنين، أو مقدارًا من مادة الحس والفكر والخيال، لا مقدارًا من أخبار الوقائع وعدد السنين التي وقعت فيها؛ فإن ساعة من الحس والفكر والخيال تساوي مائة سنة أو مئات من السنين، ليس فيها إلا أنها شريط تسجيل لطائفة من الأخبار، وطائفة من الأرقام.
كلا … لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرًا في تقدير الحساب …
وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة.
والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب …
فكرتك أنت فكرة واحدة …
شعورك أنت شعور واحد …
خيالك أنت خيال فرد إذا قصرته عليك …
ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، أو لاقيت بشعورك شعورًا آخر، أو لاقيت بخيالك خيال غيرك … فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين أو أن الشعور يصبح شعورين، أو أن الخيال يصبح خيالين …
كلا … وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الفكر في القوة والعمق والامتداد.
والمثل على ذلك، محسوس في عالم الحس والمشاهدة، ومحسوس في عالم العطف والشعور.
ففي عالم المشاهدة يجلس المرء بين مرآتين فلا يرى إنسانًا واحدًا أو إنسانين اثنين، ولكنه يرى عشرات متلاحقين في نظره إلى غاية ما يبلغه النظر في كل اتجاه.
وفي عالم العطف والشعور نبحث عن أقوى عاطفة تحتويها نفس الإنسان فإذا هي عاطفة الحب المتبادل بين قلبين … لماذا؟ لأنهما لا يحسان بالشيء الواحد كما يحس به سائر الناس …
لا يحسان به شيئًا ولا شيئين، وإنما يحسان به أضعافًا مضاعفة، لا تزال تتجاوب وتنمو مع التجاوب إلى غاية ما تتسع له نفوس الأحياء.
هكذا يصنع التقاء مرآتين، وهكذا يصنع التقاء قلبين … فكيف بالتقاء العشرات من المرائي النفسية في نطاق واحد؟
وكيف بالتقاء العشرات من الضمائر والأفكار؟
إن الفكرة الواحدة جدول منفصل.
أما الأفكار المتلاقية فهي المحيط الذي تتجمع فيه الجداول جميعًا، والفرق بينها وبين الفكرة المنفصلة كالفرق بين الأفق الواسع والتيار الجارف، وبين الشط الضيق والموج المحصور.
وقد تختلف الموضوعات ظاهرًا أو على حسب العناوين المصطلح عليها، ولكنك إذا رددتها إلى هذا الأصل كان أبعد الموضوعات كأقرب الموضوعات من وراء العناوين.
أين غرائز الحشرات مثلًا من فلسفة الأديان؟
وأين فلسفة الأديان من قصيدة غزل وقصيدة هجاء؟
وأين هذه القصيدة أو تلك من تاريخ نهضة أو ثورة؟
وأين ترجمة فرد من تاريخ أمة؟
ظاهر الأمر أنها موضوعات تفترق فيما بينها افتراق الشرق من الغرب والشمال من الجنوب، وحقيقة الأمر أنها كلها مادة حياة، وكلها جداول تنبثق من ينبوع واحد وتعود إليه.
غرائز الحشرات بحث في أوائل الحياة.
وفلسفة الأديان بحث في الحياة الخالدة الأبدية.
وقصيدة الغزل أو قصيدة الهجاء قبسان من حياة إنسان في حالي الحب والنقمة.
ونهضة الأمم أو ثورتها هما جيشان الحياة في نفوس الملايين، وسيرة الفرد العظيم معرض لحياة إنسان ممتاز بين سائر الناس.
وكلها أمواج تتلاقى في بحر واحد، وتخرج بنا من الجداول إلى المحيط الكبير.
ولم أكن أعرف حين هويت القراءة أنني أبحث عن هذا كله، أو أن هذه الهواية تصدر من هذه الرغبة.
ولكنني هويتها ونظرت في موضوعات ما أقرأ فلم أجد بينها من صلة غير هذه الصلة الجامعة، وهي التي تتقارب بها القراءة عن فراشة، والقراءة عن المعري وشكسبير.
لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة.
ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني … ومهما يأكل الإنسان فإنه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة، ومهما يلبس فإنه لن يلبس على غير جسد واحد، ومهما يتنقل في البلاد فإنه لن يستطيع أن يحل في مكانين، ولكنه بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد، ويستطيع أن يضاعف فكره وشعوره وخياله كما يتضاعف الشعور بالحب المتبادل، وتتضاعف الصورة بين مرآتين.
(٣) الكتب المفضلة عندي
هذا موضوع جليل، ولكن هل تعرف أنني أفضل قراءة كتب فلسفة الدين، وكتب التاريخ الطبيعي، وتراجم العظماء، وكتب الشعر؟
إنني أقرأ هذه الكتب وأعتقد أن العلاقة بينها متينة، وإن كانت تفترق في الظاهر؛ لأنها ترجع إلى توسيع أفق الحياة أمام الإنسان … فكتب فلسفة الدين تبين إلى أي حد تمتد الحياة قبل الولادة وبعد الموت. وكتب التاريخ الطبيعي تبحث في أشكال الحياة المختلفة وأنواعها المتعددة، وتراجم العظماء معرض لأصناف عالية من الحياة القوية البارزة، والشعر هو ترجمان العواطف، فإنني أفضل من الكتب كل ما له مساس بسر الحياة.
•••
وتسألني ما هو سر الحياة، فأقول على الإجمال إنني أعتقد أن الحياة أعم من الكون، وأن ما يُرى جامدًا من هذه الأكوان أو مجردًا من الحياة إن هو في نظري إلا أداة لإظهار الحياة في لون من الألوان أو قوة من القوى … والحياة شيء دائم أبدي أزلي، لا بداية له ولا نهاية …
فإذا كنت تستطيع أن تعرف سر الله عرفت سر الحياة، ولكننا مطالبون بأن نحفظ لأنفسنا في هذا المحيط الذي لا نهاية له أوسع دائرة يمتد إليها شعورنا وإدراكنا. والكتب هي وسائل الوصول إلى هذه الغاية، وهي النوافذ التي تطل على حقائق الحياة، ولا تغني النوافذ عن النظر.
ومن جهة أخرى فإن الكتب طعام الفكر، وتوجد أطعمة لكل فكر كما توجد أطعمة لكل بنية، ومن مزايا البنية القوية أنها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام، وكذلك الإدراك القوي يستطيع أن يجد غذاء فكريًّا في كل موضوع. وعندي أن التحديد في اختيار الكتب إنما هو كالتحديد في اختيار الطعام، وكلاهما لا يكون إلا لطفل في هذا الباب أو مريض، فاقرأ ما شئت تستفد إذا كان لك فكر قادر أو معدة عقلية تستطيع أن تهضم ما يُلقَى فيها من الموضوعات، وإلا فاجعل القابلية حكمًا لك فيما تختار؛ لأن الجسم في الغالب يغذيه ما نشتهيه.
ولا تغني الكتب عن تجارب الحياة، ولا تغني التجارب عن الكتب؛ لأننا نحتاج إلى قسط من التجربة لكي نفهم حق الفهم، أما أن التجارب لا تغني عن الكتب؛ فذلك لأن الكتب هي تجارب آلاف من السنين في مختلف الأمم والعصور، ولا يمكن أن تبلغ تجربة الفرد الواحد أكثر من عشرات السنين.
•••
ولا أظن أن هناك كتبًا مكررة لأخرى؛ لأني أعتقد أن الفكرة الواحدة إذا تناولها ألف كاتب أصبحت ألف فكرة، ولم تعد فكرة واحدة؛ ولهذا أتعمد أن أقرأ في الموضوع الواحد أقوال كتاب عديدين، وأشعر أن هذا أمتع وأنفع من قراءة الموضوعات المتعددة. فمثلًا: أقرأ في حياة نابليون أكثر من أقوال ثلاثين كاتبًا، وأنا واثق من أن كل نابليون من هؤلاء هو غير نابليون الذي وُصِف في كتب الآخرين.
أما تأثير كل من أنواع الكتب الثلاثة: العلمية، والأدبية، والفلسفية فهو أن الكتب العلمية تعلمنا الضبط والدقة، وتفيدنا المعارف المحدودة التي يشترك فيها جميع الناس، والكتب الأدبية توسع دائرة العطف والشعور، وتكشف لنا عن الحياة والجمال، والكتب الفلسفية تنبه البصيرة وملكة الاستقصاء، وتتعدى بالقارئ من المعلوم إلى المجهول، وتنتقل به من الفروع إلى الأصول.
وكل من هذه الأنواع لازم لتثقيف الإنسان، وتعريفه جوانب هذا العالم الذي يعيش فيه. وأنا أفضلها على هذا الترتيب: الأدبية، فالفلسفية، فالعلمية.
ولا يستطيع القارئ أن يحصر مقدار الفائدة التي يجنيها من كتاب، فرب كتاب يجتهد في قراءته كل الاجتهاد، ثم لا يخرج منها بطائل، ورب كتاب يتصفحه تصفحًا، ثم يترك في نفسه أثرًا عميقًا يظهر في كل رأي من آرائه، وكل اتجاه من اتجاهات ذهنه، فأنت لا تعرف حق المعرفة «الطريقة» التي تضمن الفائدة التامة من قراءة الكتب، ولكن لعل أفضل ما يُشار به — على الإجمال — هو ألا تكره نفسك على القراءة، وأن تدع الكتاب في اللحظة التي تشعر فيها بالفتور والاستثقال.
•••
أما مقياس الكتاب المفيد فإنك تتبينه من كل ما يزيد معرفتك وقوتك على الإدراك والعمل، وتذوق الحياة، فإذا وجدت ذلك في كتاب ما، كان جديرًا بالعناية والتقدير، فإننا لا نعرف إلا لنعمل أو لنشعر، أما المعرفة التي لا عمل وراءها ولا شعور فيها فخير منها عدمها، وعلى هذا المقياس تستطيع أن تفرق بين ما يصلح للثقافة والتهذيب، وما لا يصلح.
(٤) منهجي في كتابة المقالات
أكتب أكثر المقالات الصحفية للمجلات الأدبية باقتراح من الزملاء المشرفين على تحريرها، وأرحب بهذه الطريقة كل الترحيب؛ لأنني عرفت بالتجربة الطويلة أن محرر المجلة أولى باقتراح موضوعاتها، وأقدر على اختيارها، واجتناب التكرار فيها؛ إذ هو أعرف بمنهج صحيفته وأذواق قرائه، وبرنامج الأعداد التي تصدر منها مبوبة، أو مرتبة على حسب مواعيدها … فهو يعفي الكاتب من مؤنة البحث عن موضوع يوافق هذه المطالب ويجهله — أكثر الأحيان — أو لا يعلم بتفصيلاته علم صاحب الدار.
فاقتراح موضوع المقال من قبل المجلة ييسر لمحررها أن يلاحظ مطالبها، ويعفي الكاتب من البحث عنها، وليس فيها مشقة على الكاتب في استجابة الاقتراح كائنًا ما كان؛ لأنني — من وجهة نظري — لا أرى عنوانًا من العناوين غير صالح للكتابة فيه، ولو على سبيل الاستطراد، وإبداء وجهة النظر في قلة صلاحه أو قلة جدوى الكتابة فيه، إن رأى الكاتب أنها لا تجدي في حالة من الحالات، أو في جميع الحالات.
•••
أما المقالات الصحفية التي كتبتها في صحف يومية توليت تحريرها فقد كانت الصعوبة الكبرى في تقديم موضوع منها على موضوع، أو في تأجيل بعضها إلى ما بعد يومه ومناسبته؛ لأننا تولينا العمل الصحفي في إبان الحركة الوطنية قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، فلم يخلُ يوم من أيام كتابتنا الصحفية من خبر خارجي أو داخلي، يستدعي المبادرة بالتعقيب عليه، ولم تزل أعمال الإصلاح التي يشتغل بها ولاة الأمور، ويدعو إليها المصلحون الوطنيون سيلًا متدفقًا بالآراء والنصائح والمشروعات والبرامج على اختلاف المذاهب والنيات، بين أنصار الدعوة من جانب، ومعارضيها من جانب واحد، أو جوانب شتى، وكثيرًا ما كانت الصحف اليومية تصدر في وقت واحد من النهار، وفيها ما يستلزم الرد عليه قبل فوات يومه، وقد يصدر بعض الصحف صباحًا، ويتبعه الرد على ما فيه من طبعات المساء … فقد كانت الصعوبة — كما تقدم — أن نؤجل موضوعًا منها، أو نجمع ما بينها في وقت واحد، وقد يكون الجمع بين الموضوعين أيسر الأمرين، فيُنشَر أحدهما بتوقيع صريح ويُنشَر الآخر بتوقيع مستعار أو مختصر معروف. وربما لجأنا أحيانًا إلى الاقتراع بين أسماء الموضوعات إذا تعذر نشر المقالين معًا لسبب من الأسباب الفنية.
•••
ولم تكن المقالات الأدبية أقل في موضوعاتها، وازدحام مناسباتها من مقالات السياسة في الصحافة اليومية وملاحقها الأسبوعية، فقد كان الأسبوع لا ينقضي على غير كتاب يُنقَد، أو قصيد يُتبَع بالتعليق عليه، أو خبر عن أديب مشهور في الثقافة الغربية يستحق الكتابة عن سيرته أو ذكراه، أو مناقشة مذهبه ومذهب مدرسته في مسائل الفن والفكر وما إليها، وقد يتسع المجال كل وقت لكتابة المقالات المتتابعة عن موضوع من موضوعات الأدب التي تتجدد مناسباتها ولا تحتاج إلى مناسبة خاصة لإعادة البحث فيها، ومن هذا القبيل مقالات الشعر والقصص والمبادئ الفكرية، وهي حاضرة في أذهان قرائها وعلى أقلام كتابها لا يُستغرَب ابتداؤها والعودة إليها في سن من السنين ولا في موعد من مواعيد الصحف والمجلات ما لم يكن هناك موضوع يشغل الأذهان لمناسبة عاجلة تميزه بالتقديم، فهو في هذه الحالة يختار نفسه للكتابة فيه، ولا يلقي على الكاتب مؤنة الاختيار.
•••
هذا هو الغالب في أسباب اختياري لموضوعات المقالات والفصول، ولكن اختيار موضوعات الكتب يجري على غير هذه الطريقة في أهم موضوعات التأليف عندي، وهو موضوع التراجم والسير التاريخية أو الأدبية.
فالقاعدة في اختيار ترجمة ما للكتابة فيها أن تكون كتابتها لازمة لإبراز حق ضائع أو حقيقة مجهولة، وتستوي في ذلك سير العظماء والنوابغ من كل طراز، وفي كل طبقة من طبقات العظمة والنبوغ.
فالحافز الأكبر على تأليف كتابي عن «ابن الرومي» أنه مجهول القدر، مبخوس الحق، يصطلح على بخسه، والنزول به عن قدره جهل النقاد، وظلم الأغراض والأهواء، ورأيي فيه أنه أعظم شعراء العالم بلا استثناء في ملكة الوصف التصويري، والعاطفة الممثلة في قالب الحس والخيال، ولكن نقادنا يذكرونه، ويحسبون أنهم يتعطفون عليه إذا ألحقوه بشاعر كالبحتري أو ابن المعتز على غير مساواة، وهما بالقياس إليه كمن ينطق بحروف الهجاء في مجالس البلغاء.
•••
ولقد كان إنصافه — مما أصابته به خرافة الجهل وخرافة الشؤم — حافزًا يوشك أن يكون من حوافز الغيرة الدينية إلى جانب لذته الأدبية، وفضلت البدء به على البدء بتأليف غيره في موضوع النقد وتواريخ الآداب.
ولا يُقَال عن عظمة النبي — عليه الصلاة والسلام — إنه بحاجة إلى إنصاف أحد، أو دفاع في وجه ناقد ناقم يفتري عليه؛ لأنها عظمة القداسة التي تعلو على إنصاف المنصفين وافتراء المفترين. ولكنني كتبت «عبقرية محمد» للقارئ «الإنسان» الذي تضطره مقاييس الإنسانية العليا إلى تعظيم نبي الإسلام ولو لم يكن على دين المسلمين، وتوخيت في بيان خلائقه وأعماله أن تسقط عذر الخلاف في الدين لمن يحجم عن تقدير تلك العظمة جهلًا منه بدين الإسلام أو بتاريخ النبوة الإسلامية، ولم أشأ أن أجعل الاعتراف بها موقوفًا على صفة يدين بها المسلم لأنه مسلم، ويرفضها المخالف لأنه يرفضها بحكم العقيدة الدينية.
•••
ومن حظوظ التآليف التي لها حكم كحكم الحظ في كل شيء، أنني أؤجل أحب الموضوعات عندي وقتًا بعد وقت على أمل في اقتراب الوقت الموافق لتأليفها، فلا يقترب كما أريد مع توالي الأعمال، واعتراض المطالب العاجلة التي لا تحتمل التأجيل، وأحب الموضوعات عندي تلقى مني هذا التأجيل بعد التأجيل؛ لأن توفية الكلام فيها تستغرق الوقت الطويل، وتستلزم الإحاطة بجميع الأطراف، ولا يتم إجمال القول فيها — فضلًا عن التفصيل — فيما دون المئات من الصفحات. وقد تأخرت من أجل هذا كتابتي عن أبي حامد الغزالي، وهو أحب المفكرين الإسلاميين إلي، وأقدرهم تفكيرًا على الإطلاق، ولم يتيسر لي أن أكتب عن خليفته الأستاذ الشيخ «محمد عبده» إلا بعد أن أجمعت على اطراح التردد في أمره، وأقنعت نفسي بثلاثمائة صفحة تُكتَب في ترجمته، حيث كانت ألف صفحة دون الكفاية عندي لمثل هذا الموضوع.
إن الاقتراح يعمل في تأليف الكتب أحيانًا عمل الاقتراح في تأليف المقالة الصحفية، وقد ألفت كتبي عن «سن ياتسن» و«شكسبير»، و«برنارد رشو»، و«فرنكلن»، و«عقائد المفكرين» وغيرها؛ تلبية للمقترحات التي وافقت رغبتي كما وافقت زمانها في إبانها، ولكنها كلها — من التراجم وغير التراجم ومن الموضوعات التي أختارها أو أوافق على اختيارها — لا تخرج عن مقصد واحد لا هوادة فيه، ولا يتجرد منه موضوع كتاب أو مقال: وهو إحياء الثقة بالروح الإلهي الخالد من لوثة المادة، ومهانة الإنكار العقيم، أو مهانة كل اعتقاد وخيم يغلب فيه عامل السلب والنفي على عامل الثبوت والإيجاب.
طريقتي في الكتابة
أما طريقتي في الكتابة، فإني أبدأ المقال وفي ذهني جميع أصوله، و«نقطه» مرتبة على الجملة حسب التسلسل المنطقي، ولكني إذا مضيت في الكتابة عرضت لي حاشية من هنا، أو لمحة من هناك، تطرأ في عرض الكلام، ولا تغير شيئًا من جوهر المقال إلا أن تزيده جلاء في بعض الأحيان، أو تضيف إليه عنصر الفكاهة والتبسيط.
وأكتب في كل مكان خلا من الضوضاء، أما إذا لم تقيدني الضرورة بمكان معين فأكثر ما أكتب وأنا مضطجع على الفراش، وثلاثة أرباع مقالاتي السياسية كُتِبت كذلك، هذا في النثر، أما الشعر فيغلب أن أنظمه وأنا أتمشى أو أسير في الخلاء.
•••
ويهمني كثيرًا أن أعود إلى كلامي قبل الطبع لأصححه وأراه في صورته الأخيرة، إلا أن يعوقني عن ذلك عائق … ومتى نظرت فيه قبل تسليمه إلى المطبعة فقد أحذف وأزيد عليه، ويندر جدًّا أن يمس الحذف أو الزيادة جوهر الموضوع …
وإذا شطبت على الكلمة أثناء الكتابة عُنِيت بأن أطمسها طمسًا تامًّا كأنني لا أريد أن تتراءى لنظري بعد ذلك، ويكثر الشطب إذا كنت مشغول الذهن منحرف المزاج، ويقل إذا أقبلت على العمل بنفس راضية وجسم مستريح، أما زمان الكتابة فشرطي الوحيد فيه ألا يكون بعد تناول الطعام.
وخطتي في المناقشة أن أعمد إلى أقوى الحجج بداءة فأجتهد في تقويضها، ثم أقفوها بأضعف الحجج، وقد أعود إلى ما فيه مساك من القوة، وربما كانت في هذه الخطة مفاجأة للقارئ، ولكنها مفاجأة لا تخلو — كما شاهدت بالتجربة — من تأثيرها المحمود.
•••
وأفضل الكتابة منفردًا لا يحيط بي أحد، ولم أكتب قط في الأدب خاصة ومعي آخر في الحجرة، إلا أن أملي عليه ما أقول، وهو جد نادر.
ولم أتعود أن أستعين بشيء من المنبهات التي يألفها بعض الكتاب أثناء العمل كالتدخين وشرب القهوة وما إليها، حتى أيام كنت أدخن … بل لقد كنت يومئذ أترك التدخين حين أشرع في الكتابة.
(٥) منهجي في تأليف الكتب
منهجي في التأليف يُلخَّص في كلمتين، هما: التقسيم، والتنظيم، وهما — كما سيُرى — تختلفان بعض الاختلاف عن منهج التبويب والترتيب.
فعملي الأول عند تأليف الكتاب أن أتبين في ذاكرتي أقسامه الواسعة التي تحيط بأجزائه المتفرقة، فإذا فرغت من الإحاطة بها كتبت عنوان كل قسم على غلاف متوسط الحجم يتسع لعدة أغلفة أصغر منه إذا وُضِعت فيه …
ثم أراجع في ذهني مصادر الأخبار والآراء والحوادث التي تتصل بهذه الأقسام … وهي الكتب التي اطلعت عليها في المبحث المطلوب من جميع نواحيه، وقد أضيف إليها كتبًا أخرى لم أطلع عليها، ولكنها مشتركة في مدار البحث أو معدودة من موسوعاته عند النظر في الاستقصاء، والمقابلة بين الوجهات والآراء …
•••
أذكر كيف ألفت — على سبيل المثال — كتابي في البحث عن العقيدة الإلهية، وهو الكتاب الذي أطلقت عليه اسم «الله»، ولاحظ بعض النقاد بعد صدوره أن الأحرى به من ناحية البحث العلمي أن يسمى «الإله»؛ لأن اسم «الله» عنوان لعقيدة خاصة في «الإلهية» لا يدين بها جميع المؤمنين بالربوبية، وكان موضع الخطأ في هذا النقد أن مدار البحث هو «الله» الذي انتهى إليه الإيمان ﺑ «الإله» وهما بحثان مختلفان؛ لأن الوصول إلى فكرة «الإله» قد تم قبل ظهور العقيدة في «الله» بدهر طويل …
ولا بد من تحقيق اسم الكتاب قبل الشروع في حصر أقسامه، فلو كان موضوع الكتاب «الإله» كما اقترح أولئك النقاد لاكتفينا في تقسيمه بدرجات التقدم مع العقيدة إلى أن ظهرت في التاريخ فكرة الربوبية على إطلاقها؛ لأن «الرب» يُطلَق على كل «إله» بغير تعريف، خلافًا لاسم «الله»، فإنه هو «الإله» كما انتهت إليه غاية البحث في عقيدة الوحدانية.
•••
أما والعقيدة المطلوبة هي العقيدة في «الله»، فالأقسام التي تناولها البحث هنا غير الأقسام التي يستوفيها البحث بمجرد الوصول إلى الاعتقاد بأي إله، وأي رب معبود …
وقد كان من أهم هذه الأقسام: قسم عن نشأة العقيدة الدينية من مبدئها، وقسم عن الاعتقاد بالأرباب على إطلاقها، وقسم عن العقيدة الإلهية في أمم التاريخ الكبرى، وقسم عن العقيدة الإلهية في الديانات الكتابية، وقسم عن الإله في مذاهب الفلسفة قبل الديانات المشهورة، وقسم عن مذاهب الفلسفة بعدها وعن مذاهب الفلسفة بعد شيوع العلوم العصرية التي أُطلِق عليها اسم العلوم التجريبية، ثم ختام لهذه الأقسام لجمع أطرافها والتعقيب عليها.
•••
وكان ابتداء التأليف في هذا الكتاب صيفًا بمدينة الإسكندرية، فنقلت إليها مكتبة صغيرة مما قرأته قبل ذلك، وطلبت من مكتبة المعارف — وهي ناشرة الكتاب — أن تستحضر أكثر من مائة مرجع من المؤلفات الأوروبية، فلم يتيسر في ذلك الحين استيرادها ولم نجد في فرع الإسكندرية غير نصفها وبعض الكتب المطلوبة باللغة الإنجليزية منقولة إلى اللغة الفرنسية، وبدأنا المراجعة تصفحًا واستعراضًا لا نتوسع فيه إلا بمقدار ما يكفي للاستذكار، والتعليق، والعلم بما يلزم في كل قسم من الأقسام، وكادت أن تنقضي إجازة الصيف في هذا الاستذكار والتعليق.
فالعمل الأول على حسب هذا المنهج هو الإحاطة بأقسام الكتاب، وتخصيص غلاف مستقل لكل قسم منها، ويليه جميع المصادر اللازمة للرجوع إليها عند كتابة كل قسم من هذه الأقسام.
ويأتي بعد ذلك عمل التصفح والمراجعة، والغرض منه حصر المسائل المتفرقة، وتوزيعها على أقسامها.
•••
فإذا مرت بي مسألة من تلك المسائل في المرجع الذي أتصفحه أثبت رقم الصفحة التي وردت فيها، وعرفتها بعنوانها المختصر، وألحقت بها إشارة تتضمن تعقيبي عليها بالموافقة أو الشك أو تعليق الرأي إلى موعده، ولم تزد هذه الإشارات على علامة كعلامة «صح» في الكراسات المدرسية، أو علامة كعلامة الاستفهام أو التعجب أو التضمين، أفهم المقصود بها ساعة النظر إليها، وتغنيني عن كتابة التعليق بالكلمات.
وتُكتَب كل إشارة من هذه الإشارات على قصاصة صغيرة، ثم تُوضَع في الغلاف الخاص بها حسب أقسام الكتاب، وإلى نهاية التصفح والمراجعة في المصادر المجموعة بين يدي، فلا يبتدئ التأليف قبل الفراغ من حصر هذه المسائل المتفرقة في موضعها، وتيسير الرجوع إليها ساعة الحاجة …
ثم تأتي بعد ما تقدم مرحلة تالية، وهي مرحلة التصفية والتنظيم.
وفي هذه المرحلة يُعاد النظر إلى قصاصات كل غلاف على حدة؛ لإبقاء ما يظهر من مجموعة المسائل أنه جوهري ضروري لا غنى عنه لاستيفاء مقاصد الكتاب، وتنحية ما يظهر على نقيض ذلك أنه زيادة يُستغنى عنها، وتكرار يدخل في خلال المقاصد الأخرى، ويلحق بها على هذا الاعتبار، ولا يندر في هذه الحالة تغيير عناوين الأقسام وتفريع المسائل إلى أبواب في القسم الواحد، كل باب منها منفرد بجانب من جوانب البحث يستقل بعنوانه وحدوده.
وقد يُرى هنا موضع الاختلاف اليسير بين منهج التقسيم والتنظيم، ومنهج التبويب والترتيب … فإن التبويب على منهجنا هذا ينطوي في التقسيم ولا يسبقه، بل لا يتأتى التفريع قبل الفراغ من تقرير الأصول.
أما الترتيب فليس من أسرار الصناعة أن أقول إنني لست ألتزمه في جميع الأحوال، فموضوع البراهين القرآنية في الكتاب الذي نحن بصدده كان أول فصل كُتِب فيه، وموضوع الفلسفة اليونانية جاء — على ما أذكر — بعده في ترتيب الكتابة … ولست أغفل الترتيب لغير سبب يستدعيه تنظيم أوقات العمل. ولكنني أنظر إلى الوقت الميسور لكتابة الفصل، وإلى الأيام التي أفرغ فيها للتأليف بين الأعمال الأخرى، فإذا كان أمامي ثلاثة أيام تركت الفصل الذي يحتاج إلى خمسة أيام أو عشرة أيام متوالية، وفضلت الابتداء بالفصل الذي يكفيه الوقت الميسور بغير انقطاع أو تأجيل.
•••
وقد كان صديقنا المازني يقول: إن أسلوبه الاستطرادي لا يمكنه من بناء الدور الثالث في المنزل قبل الدور الثاني على حسب تعبيره … ولكنني أعتقد أن تشبيه المراحل هنا بمسافات الطريق أقرب إلى الواقع من تشبيهها بطبقات البناء؛ لأن فصول الكتاب لا تقوم على اختلافها في العلو والارتفاع كما تقوم على اختلافها في الابتداء والانتهاء على خطوط الطريق، ومتى عرفت مسافات السير من الميل الأول إلى الميل الألف فلا فرق بين الابتداء بالتمهيد من الميل الأول إلى العشرين والثلاثين وبين الابتداء به من الميل العشرين والثلاثين، إلى ما بعد ذلك من المراحل والمسافات.
وإنما المهم هو التحقق من حدود كل مسافة بالنسبة إلى سائر الحدود، وهذا هو العمل الواجب قبل الشروع في الكتابة من مبدئها، فلا بد من الاطلاع على عناصر الكتاب عنصرًا عنصرًا في كل مبحث قبل كتابة فصل من الفصول.
وليس لكتابة المقالات منهج يخالف هذا المنهج في تأليف الكتب سوى الخلاف الضروري بين الإطالة والإيجاز، وبين التشعب ووحدة الموضوع، فكل فكرة في المقالة حاضرة قبل أن تُكتَب كلمتها الأولى، ولكن أفكار المقال غير تعبيراته، بل غير صبغته الفنية في أكثر الأحيان؛ لأن إشباع المعنى ساعة الكتابة قد يوحي بألفاظ العبارة التي تليها، وقد يكون للعاطفة صلة بأسلوب التعبير عن المعنى، فيشتد شعوري بها على قدر إشباعها وقوة أدائها، وربما تحول القلم من أسلوب الانفعال إلى أسلوب السخرية والتهكم، أو من أسلوب النقد إلى أسلوب التنديد والتفنيد، إذا ارتفعت نغمة المعنى وارتفعت طبقته أثناء الأداء، كما يحدث في أداء أصوات الغناء حيث تظهر آثار الفوارق العاطفية بين نغمة ونغمة، وبين توقيع وتوقيع مع وحدة النوطة الموسيقية. ويحدث هذا في فصول الكتب، كما يحدث في المقالات المنفصلة، فربما كتبت الفصل وعيناي مغرورقتان كما حدث في كتاب «أبي الشهداء»، وربما كتبت المقال وفي نفسي مغالبة عنيفة للبكاء كما حدث في مقالات الرثاء للمازني، والنقراشي، وغاندي، وسعد زغلول.
ولم أعالج كتابة القصة في غير قصة واحدة مطولة هي قصة «سارة»، وقصص قلائل من الحكايات أو الأماثيل القصار.
ورأيي في منهج القصة أن إبلاغ مؤثراتها النفسية إلى وجدان القارئ هو كل ما يُطلَب من كاتبها بغير قيد مرسوم، ولا اتباع لمذهب مدرسة خاصة أو فنان معلوم.
وقد قيل غير مرة إن «سارة» لا تجري على منهج القصة المتبع، ولم يقل أصحاب هذا الرأي ما هو المنهج المتبع الذي يعنونه، وما هو القانون الفني الذي يُفرَض على كل كاتب، ولا يُسمَح له بالتصرف فيه …
وكل ما هنالك أن الناقد يلقي بهذا الرأي، وهو يعرض في ذهنه أساليب قصص مختلفة ويريد مني أن أوافقها جميعًا في أسلوب قصة واحدة، وينسى أنني لا بد أن أخالف أسلوب عشرات من القصص إذا وافقت واحدًا منها، بل ينسى أنه لم يكلف نفسه تعريف موضوع القصة في «سارة» قبل مطالبة الكاتب بالمنهج الذي يمليه عليه.
فقصة «سارة» ليست قصة حياة همام بطل الرواية، ولا قصة حياة سارة بطلتها، ولا قصة حياة أحد من المذكورين أو المذكورات فيها، ولكنها قصة العلاقة في فترة محدودة من الزمن بين فتى وفتاة، فلا منهج لها غير المنهج الذي يصور البواعث الظاهرة والباطنة التي عملت في تعريضها للشك والاضطراب، ثم انتهت بها إلى ختامها، ولم تبتدئ الرواية إلا حيث ينبغي أن تبدأ؛ لأنها بدأت بموقف الفصل بين دواعي بطل الرواية وبطلتها إلى استئناف علاقتهما ودواعيهما إلى القطيعة والانفصال، ومن هنا ينبغي أن يبدأ تساؤل المطلع عن طبيعة تلك الصلة، وطبيعة الدواعي التي ألحت عليها بدواعي التردد إلى خاتمة التردد على غير يقين …
•••
ولست أدعو كل قلم إلى اتباع هذا المنهج في وصف هذه العلاقة، ولكنني أدعو من شاء أن يقترح لها منهجًا آخر يوافق النقاد والشعراء على أنه أصلح من منهجها لإبلاغ مؤثراتها النفسية إلى وجدانهم، ولا أحسبهم موافقين …
وبعد، فما هو المقياس الذي يُقاس به هذا المنهج، وكل منهج سواه؟
إنه هو ذلك المقياس المتفق عليه في خطوط المواصلات جميعًا: وهو وقت السفر ومحطة الوصول.
(٦) ما لم أكتب وما أريد أن أكتب
إذا سألني القارئ ما الذي تريد أن تكتبه؟ وما الذي لم تكتبه عمدًا أو لضرورة من ضرورات الوقت والحالة؟ فالجواب عن هذه الأسئلة قد يعرفه القارئ الذي يلم بعناوين كتبي وموضوعاتها؛ لأنه يعرف منها ما يهمني وما أستطيع أن أكتب فيه، ويعرف من ثم كيف يتم ما بدأته من تلك الموضوعات، وما الذي يحتاج منها إلى إتمام.
فالغالب على القراءة والكتابة عندي أنهما تتصلان بمسائل شاملة، يجمعها برنامج واضح يحيط بتفصيلاتها، وكلها تدور على مسائل الوجود والعقيدة والعظمة الإنسانية والفنون، وأكثر ما كتبت فيه من هذه المسائل يشير إلى أن بقيتها «تحت التأليف».
كتبت عن وجود الخير الأكبر، وهو الله خالق كل شيء …
وكتبت عن وجود الشر الأكبر، وهو إبليس أو الشيطان، رمز الفساد في كل شيء؛ لأن الكون هو الخلق الأعظم في مجموعته الواسعة الكاملة، ولأن الإنسان هو أشرف المخلوقات التي نعلمها، وأقربها إلى الوجود الإلهي، وقد يراه المتصوفة أكبر من الكون كله كما قال شاعرهم:
لأنهم يرون أن وجود الكون بما رحب إنما هو وجود مادي مجرد من الروح والحياة، وليس فيه من مظهر روحي حي أشرف من الإنسان.
في هذا الباب إذن أريد أن أؤلف كتابًا عن الكون وكتابًا عن الإنسان، أشرح فيهما ما أفهمه وما أحسه من معنى وجود المادة، ومعنى وجود الفكرة أو الضمير أو الروح.
وقد ألفت عن الأنبياء فكتبت «عبقرية محمد»، و«عبقرية المسيح»، و«أبي الأنبياء إبراهيم».
بقيت «عبقرية موسى» الكليم.
وبقيت معها «عبقرية بوذا»، و«عبقرية كنفشيوس».
ذلك أني تبينت من دراسة تاريخ النبوءات أن أنبياء الأديان الثلاثة الكبرى — وهي الموسوية والمسيحية والإسلام — قد ظهروا في الشرق الأوسط بين الأمم السامية، وتفسيري لذلك أن النبوة لم تكن لتظهر في بلاد الدول المتسلطة؛ لأنها تخضع في شرائعها وآدابها لقوانين السلطان، وعرف الكهان، ولم تكن لتظهر في الصحراء؛ لأنها تخضع لقوانين النار والعصبية، ولكنها تحتاج إلى بيئة تجمع بين أحوال الدولة وأحوال البادية، وهي مدينة القوافل.
إن مدينة القوافل تعرف المعاملات العامة والمصالح المختلفة والشرائع التي تقوم على حقوق المتعاملين غير مقيدين بسياسة السلطان ولا بعصبية القرابة، وفيها — أي في مدينة القافلة — تتعرض الأخلاق للفتنة والغواية لكثرة المتقلبين على المدينة من المترحلين المتنقلين، وكثرة طلاب الكسب والارتزاق حيث تروج التجارة وتروج دواعي اللهو والمتعة …
ففي هذه البيئة تتهيأ الأحوال النفسية والاجتماعية لظهور هداة الأديان ودعاة الإصلاح والإنصاف من الرسل والأنبياء؛ ولهذا ظهر إبراهيم في مدن القوافل بين «أور» في الفرات وبعلبك في سورية وبيت المقدس في فلسطين، وظهر موسى في مدين وما حولها، وظهر المسيح في الجليل، ثم في بيت المقدس، وظهر نبي الإسلام في مكة بعد أن ظهر أنبياء العرب حيث تقوم العلاقات وسطًا بين شريعة الدولة وشريعة البادية.
وموسى — عليه السلام — هو ثالث الرسل العظام في السلالة السامية، بعد أبي الأنبياء إبراهيم.
أما «بوذا» و«كنفشيوس» فهما نوع آخر من أنواع الرسالة يقترب تارة إلى الشك، وتارة إلى تعليم الأدب والسلوك، وتفصيل البحث فيهما بقية لازمة بعد جلاء آيات النبوة في إبراهيم وبنيه عليهم السلام.
•••
وقد تُضاف هنا إضافة مناسبة ولكنها لا تخطر على البال لأول وهلة … قد يُقال: إن هذا شأن النبوة فيما مضى، فكيف يكون الإصلاح الديني بيننا في العصر الحديث ولا موضع هنا للبعث ولا للرسالة؟!
أقول إنه — حيث لا يُنتظَر البعث أو الرسالة — تُنتظَر الهداية على سنة النبوة، ولن تكون الهداية فيما أعتقد إلا بفضل «الشخصية الإنسانية» في صورة من صور الإلهام والتأثير بالقدرة المهيمنة على العقول والضمائر …
كذلك كانت هداية جمال الدين، وكذلك كانت من بعده هداية تلميذه محمد عبده، وأحب ما أتمناه من موضوعات التأليف أن ألحق بعبقريات الإسلام كتابًا عن عبقرية جمال الدين، وكتابًا جامعًا يُترجَم لهما في نسق واحد، ويُترجَم معهما ببعض الإيجاز لمن عمل على نهجهما في ديار الإسلام.
وقد ألفت عن «ابن سينا» وعن «ابن رشد»، وهما أكبر فلاسفة اللغة العربية في المشرق والمغرب.
وبقي كتاب عن «الغزالي» الفيلسوف الذي يصارع الفلاسفة، والفقيه الذي يؤدب الفقهاء، والمتصوف الذي يكشف عن عالم الخفاء، كما يكشف عن عالم الشهادة.
وليس في المشرق والمغرب من هو أرجح فكرًا وأصفى عقلًا وأقوى «دماغًا» من هذا الإمام الجليل، ولولا اتساع الأفق الذي تدفعنا إليه الكتابة عنه لبدأت بترجمته ونقده قبل «ابن سينا» و«ابن رشد»، وغيرهما من حكماء المشرق والمغرب، ولعله مانع وشيك أن يزول؛ لأنه مانع يقتضينا واجبين معًا، إذا كان العمل السهل يقتضينا واجبًا واحدًا لا موانع فيه …
ولقد كتبت عن شعراء كثيرين.
كتبت المؤلفات المستقلة عن «ابن الرومي»، و«أبي نواس»، و«عمر بن أبي ربيعة»، و«جميل بثينة»، والفصول المتفرقة عن «المتنبي»، و«أبي العلاء»، و«دعبل»، و«بشار»، و«ابن زيدون»، و«ابن حمديس»، وغيرهم من المشارقة والمغاربة، ولا يزال في المجال متسع للمطولات عن أدب «أبي الطيب»، وأدب «أبي العلاء» على التخصيص.
وأريد أن أكتب ما يغني عن تفصيل الكتابة في الشاعرين الحكيمين، وفيمن عداهما من شعراء الأدب الغنائي، أو شعراء الرونق والجمال، وأحسب أنني أستغني عن ذلك اضطرارًا، بكتاب يتناول موازين النقد في الشعر وفلسفة الجمال كما نطبقها على الفنون في صورتها التي تمتزج بالفكرة والعبارة النفسية على الإجمال، وشواهد هذا البحث من كلام الشعراء والبلغاء دليل يرجع إليه من شاء فيما تقوله فلسفة الجمال عن شعرائنا الحكماء وغير الحكماء.
وقادة الفكر بين أمم الحضارة — قديمها وحديثها — كتبت عن بعض منهم ولم أكتب عن بعض، وليس في الوسع ولا في النية أن أستقصيهم بقضهم وقضيضهم، فليكن خلاصة، أو عصارة لمذاهبهم وآراء المفكرين فيهم، وبها تتأدى حصتي الصغيرة من أمانة تحملها الأرض والجبال، والإنسان! ثم ماذا بعد هذا؟
سيرة «سعد زغلول» ظهرت في زمن لا تظهر فيه حقائق الحكم والمحكومين، فمن الخير أن تُعاد، وأن يُزاد عليها ما لم يكن يُزاد في عهد أحمد فؤاد …
وإلى هنا أراني ذكرت حقًّا ما لم أكتب، وذكرت طرفًا أو أطرافًا مما أريد أن أكتب، ولكن «ما أريد» يصدق عليه قول القائل: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.»
وسأريد ما يكون، وقد يكون ما لم أذكره وما لم أرده، وعلمه عند الله.