الشعوبية وانتحال الشعر
يرجع حديث المؤلف في هذا الفصل إلى نتيجتين:
الأولى أن الشعوبية انتحلوا من الشعر ما فيه عيب للعرب وغض منهم. والثانية أن الذين كانوا يعتنون بالرد على الشعوبية قد أجابوهم بلون من الانتحال.
أما النتيجة الأولى فإنك لا تجد لها في حديثه سوى مقدمتين: أولاهما أنه وجد على ظهر الأرض طائفة تبغض العرب يقال لها: الشعوبية، والثانية أن في الشعوبية شعراء منهم أبو العباس الأعمى وإسماعيل بن يسار، فيكون تأليف القياس هكذا: بعض الناس شعوبية، وبعض الشعوبية شعراء، وكل شاعر شعوبي ينتحل شعرًا جاهليًّا، النتيجة:
الشعوبية من أسباب انتحال الشعر الجاهلي. إذًا عنوان «الشعوبية وانتحال الشعر» عنوان مستقيم، ولكن القائم على قانون المنطق يرى أن انتحال الشعر الجاهلي غير لازم للشعوبية لا عقلًا ولا عادة، ولم يقم المؤلف دليلًا على التلازم بينهما، بل لم يأت برواية تدل على أن بعض الشعوبية انتحل شعرًا جاهليًّا.
وأما النتيجة الثانية فليس لها من مقدمات سوى أن طائفة كالجاحظ انتصروا للعرب وردوا على الشعوبية وأوردوا في هذا الصدد شعرًا جاهليًّا، وقد قلنا لكم: إن علماء العربية يعدون الجاحظ ممن لا يوثق بروايتهم، فإذا انفرد بإنشاد شعر جاهلي نقلوه على وجه الأدب دون أن يعولوا عليه في لغة أو تاريخ. ولا حق لنا مع هذا أن نسمي ما يرونه مصنوعًا ومنتحلًا لمجرد وقوعه في سبيل الرد على الشعوبية، بل لا بد من النظر فيه كشعر لم يقع في سياق الرد على هذه الطائفة؛ إذ من المحتمل أن يقوم الشعر الثابت وحده بالرد عليهم ولا يحتاج إلى أن يضم إليه اختلاق وانتحال.
•••
كنا نحسب أن يؤلف كتابًا يملؤه بازدراء أهل العلم ولا يفتأ يرميهم بعدم التثبت في الرواية، يأخذ نفسه بالتحفظ من الوقوع في مثل ما يشهِّرهم به. ولكن المؤلف بلي بقلم أينما يوجهه لا يأت بخير، فالقصة مأخوذة من الأغاني وصاحب الأغاني يقول: «استأذن إسماعيل على الغمر بن يزيد بن عبد الملك يومًا فحجبه إلخ.» وإذا كان الوليد بن عبد الملك لا يسمى «الغمر» والغمر بن يزيد لا يسمى «الوليد» كان المؤلف مخطئًا في زعمه أن واقعة إسماعيل كانت مع رجل يسمى «الوليد بن عبد الملك».
•••
قال المؤلف عن الشعوبية ما شاء أن يقول، واغترف من كتاب الأغاني قصصًا عن أبي العباس الأعمى وإسماعيل بن يسار، وقصارى ما تدل عليه هذه القصص أن الأول كان يهجو آل الزبير، وأن الثاني كان يبغض آل مروان، وله شعر يفخر به بالأعاجم، وزعم أنه وصل بهذا إلى ما كان يريده من تأثير الشعوبية في انتحال الشعر، ولكنه لم يستطع أن يضرب لك مثلًا يريك كيف انتحلت الشعوبية شعرًا جاهليًّا، فضاق بمنهج ديكارت ذرعًا وجهل على هذه القوانين التي ترسم للباحث حدودًا، وأخذ يحدثك عن الموالي ويقول لك في ص١١١: «فهم أنطقوا العرب بكثير من نثر الكلام وشعره، فيه مدح للفرس، وثناء عليهم، وتقرب منهم. وهم زعموا لنا أن الأعشى زار كسرى ومدحه وظفر بجوائزه، وهم أضافوا إلى عدي بن زيد ولقيط بن يعمر وغيرهما من إياد والعباد كثيرًا من الشعر فيه الإشادة بملوك الفرس وسلطانهم وجيوشهم.»
انظروا إلى أنصار الجديد كيف لا يحترمون ما تسمونه صدقًا، ولا يتألمون من أن يتحدثوا عما يتخيلونه، ويسوقوه إليكم في صورة ما لا يشكون في وقوعه! قولوا للمؤلف: بأي أذن سمعت، أم بأي ذوق أدركت أن الموالي هم الذين اصطنعوا هذا النثر والشعر الذي فيه مدح لكسرى أو ثناء على الفرس؟
إذا كان الأعشى شاعرًا أو جاءت كتب التاريخ والأدب بأنه كان يتردد على ملوك الفرس، أفلا يكفي هذا أمارة على أنه كان يلقي بين أيديهم شعرًا، وأن هذا الشعر يشتمل على مديح وثناء!
وإذا كان عدي بن زيد شاعرًا وحدثنا التاريخ بأنه كان يتردد على كسرى ويتولى الكتابة العربية في ديوانه، أفنستبعد مع هذا أن يأتي في شعره شيء من الثناء على كسرى أو سلطانه!
لقد سُلِّطَ هذا المؤلف على شعر الأعشى فأعطى قسطًا منه إلى اليهود وقسطًا إلى الموالي، وسُلِّط على شعر عدي بن زيد فجعله مقسمًا على النصارى والموالي ذهب أولئك بشطر منه، وذهب هؤلاء بالشطر الآخر!
إن الذي يريد أن ينفي هذا الشعر عن الأعشى وعدي بن زيد يحتاج إلى أن يدَّعي أنهما اسمان خياليان، أو أنهما لم يكونا شاعرين، أو أنهما لم يتصلا بكسرى، فلا الأعشى تمكن من زيارته، ولا عدي بن زيد عمل في دولته.
وقد أدرك الأعشى عهد البعثة، ولم يكن عدي بن زيد منها ببعيد، وقد تواردت كتب التاريخ والأدب على أنهما كانا يفدان على كسرى، فهل للمؤلف أن يناقش في هذا على طريقة النظر الصحيح!
•••
قال المؤلف في ص١١١: «وهم أنطقوا شاعرًا من شعراء الطائف بأبيات رواها الثقات من الرواة على أنها صحيحة لا شك فيها، وهي أبيات تضاف إلى أبي الصلت بن ربيعة، وهو أبو أمية بن أبي الصلت المعروف. وقد يكون من الخير أن نروي هذه الأبيات وهي:
وسرد منها سبعة أبيات تنتهي بقوله:
ثم قال: «وقد زاد ابن قتيبة في أوله هذه الأبيات وهي أبلغ في الدلالة على ما نريد أن ندل عليه وهي:
ثم قال المؤلف: «فانظر إليه كيف قدم الفرس على الروم في أول الشعر وعلى العرب في سائره.»
إن كان في أول الشعر تقديم للفرس على الروم فليس في سائره تقديمهم على العرب. أما قوله:
فإنما هي مبالغة الشاعر الذي لا يحبس نفسه في حدود الحقيقة، وقد تكون هذه الكلمة تستعمل لذلك العهد — مثلما نستعملها اليوم — للمبالغة في مدح المتحدث عنه من غير قصد إلى تفضيله على كل من سواه، أنستبعد من أبي الصلت وهو شاعر أن يقدم هذه الكلمة البالغة في المديح إلى أمة ساعدت ابن ذي يزن على طرد طائفة كانت تسعى في قسم من بلاد العرب فسادًا! وهذا المؤلف وهو غير شاعر قد فضل العقلية الغربية على عقلية قومه، ومن فضلت عقليته على آخر فقد فضلته أو كدت تفضله عليه في كل شيء، إذن ينتظر من الجيل القابل أن يذهب إلى أن كتاب في الشعر الجاهلي ليس من الدكتور طه حسين في شيء وإنما أنطقه به بعض المستشرقين.
والبيت الأول من الأبيات المأخوذة من كتاب الشعر والشعراء وقع في ذلك الكتاب محرفًا، ونقله أستاذ آداب العرب في الجامعة على تحريفه هكذا:
وصوابه:
•••
قال المؤلف في ص١١٢: «ومن الخير أن نروي أبياتًا قالها إسماعيل بن يسار في الفخر بالفرس، فسترى بينها وبين الشعر الذي يضاف إلى أبي الصلت ما يحمل على شيء من الشك والريبة. قال:
تقرأ الأبيات المعزوة إلى أبي الصلت، وأبيات إسماعيل بن يسار فتجد الشبه بينهما في شطرين (أحدهما) قول أبي الصلت:
وقول ابن يسار:
والمشابهة على هذا النحو قد تقع بين الشعرين اللذين يختلف قائلهما، ويسمونه سرقة أو استعانة أو يجعلونه من قبيل توارد الخواطر متى علم أن أحد الشاعرين لم يطلع على ما نظم الآخر، وليس من اللائق أن يجعل مثل هذا سببًا لإعطاء الشعر المتقدم إلى صاحب الشعر المتأخر.
وشطر أبي الصلت جاء كذلك في رواية المؤلف، أما رواية ابن قتيبة في الشعر والشعراء فهي:
ورواية ابن جرير في تاريخه: «من مثل كسرى شاهنشاه الملوك له.» وقد سرد ابن هشام في السيرة أبيات أبي الصلت ولم يأت فيها بهذا البيت جملة وقال: هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها. ولم يجئ هذا البيت أيضًا في رواية الأغاني، وهو على تسليم ثبوته لا يملك من القوة أن يخرج القصيدة من شعر أبي الصلت ويدخلها في حساب إسماعيل بن يسار.
أما ثاني الشطرين فهو قول أبي الصلت:
وقول ابن يسار:
وقد عرفت أن تشابه القصيدتين في شطر أو شطرين أو أكثر لا يدل على أنهما بنتا قريحة واحدة، وإنما هو الاختلاس أو الاسترفاد أو توافق الخواطر، ولو كان اتفاق الشعرين في شطر أو بيت يجيز إضافة السابق إلى ناظم الشعر التالي لكانت إضافة أبيات أبي الصلت إلى النابغة أولى، فإن آخر بيت فيها وهو:
ولم يكن بعد هذين الشطرين وجه شبه بين أبيات أبي الصلت وأبيات ابن يسار سوى أن كلا الشعرين مصنوع في بحر الطويل، ومشتمل على شيء من مدح الفرس، ومراعى فيه مقاييس اللغة، وهذه أحوال عامة لا يبلغ التماثل فيها أن ترد به الرواية، وينقل به الشعر من أبي الصلت إلى إسماعيل بن يسار.
•••
قال المؤلف في ص١١٣: «ثم من هنا هذه الأيام والوقائع التي كانت للعرب على الفرس والتي تحدث النبي عن بعضها وهو يوم ذي قار.»
ينظر القارئ بدقة أو بسذاجة فلا يجد من مناسبة لهذه الفقرة التي يتهجم بها المؤلف على حضرة صاحب الرسالة إلا أن ينبت في نفوس طلابه أو قراء كتابه نباتًا سيئًا. ألا يسعه إنكار يوم ذي قار دون أن يقول بعبارته الصريحة: إن النبي تحدث عنه! ألا يكون القارئ على حق إذا فهم أن المؤلف اتخذ اسم البحث في العلم برقعًا يغمز ويطعن من ورائه حتى يرضى، وأن هذا البرقع قد ينزاح فلا يبقى شيء سوى طعن القلم الذي يلذ فتنة القلوب المطمئنة بالإيمان.
ربما يكون المؤلف قد رأى هذا الأثر في كتب الأدب أو التاريخ فأضافه إلى الحضرة النبوية كالواثق بصحة روايته، ثم جعل واقعة اليوم كذبًا، فالمؤلف يؤمن بهذه الكتب إذا روت حديثًا أو خبرًا يبدو له أن يتوكأ عليه في طعن أو غمز، ويرميها بالزور والبهتان إذا نقلت أثرًا صالحًا للعرب أو الإسلام.
تشعبت أهواء المؤلف فتركت أقواله في تخاذل بعيد، فيوم ذي قار من هذه الأيام الموضوعة لإجابة الشعوبية بلون من الانتحال، ويوم ذي قار تحدث عنه النبي! فيوم ذي قار اختلق لعهد الشعوبية وتحدث عنه النبي قبل اختلاقه.
هذا معنى كلامه إن كان يتحدث في تاريخ آداب العرب بلغتهم وعلى ما تقتضيه قواعد نحوهم وبيانهم، فإن زعم أنه ينطق على الناس بما لا ينطق به ذوو الجد منهم، قلنا له: لا تتعرض لمقام رسول الله ﷺ حين تنطق في هزل أو في غير يقظة فما نحن بتأويل منطق الهزل أو الهذر بعالمين.
•••
قال المؤلف في ص١١٤: «ولعلك تلاحظ أن الكثرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة كانوا من العجم الموالي، وكانوا يستظلون بسلطان الوزراء والمشيرين من الفرس أيضًا.» وبعد أن زعم أن غاية هؤلاء العلماء استحالت من إثبات سابقة الفرس في السلطان إلى ترويج السلطان الذي كسبوه أيام بني العباس قال: «ومن هنا كان هؤلاء العلماء والمناظرون أصحاب ازدراء للعرب ونعي عليهم وغض من أقدارهم.»
في علماء اللغة والأدب للعهد الذي يتحدث عنه المؤلف كثير من العرب مثل الخليل بن أحمد وأبي عمرو بن العلاء والمفضل الضبي والأصمعي ومحمد بن سلام الجمحي والمبرد وابن دريد، وفيهم كثير من بلاد العجم وليسوا بموالٍ كالزجاجي وأبي عمرو الهروي وابن درستويه وأبي حنيفة الدينوري. وفيهم كثير من الموالي، مثل سيبويه والكسائي والفراء وابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني. وأنت إذا تقصيت آثار هؤلاء وأمثالهم ممن خدموا اللغة العربية وآدابها بالرواية والتأليف لا تجد بها سوى روح علمية سامية، ومن قلة الإنصاف في البحث أن يقال عنهم: إنهم كانوا يزدرون العرب ويغضون من أقدارهم، ولو تبينت هذا الذي جاء به المؤلف لم تجد له من شبهة سوى أن أصلهم عجم وفي العجم شعوبية، أو يمد يده إلى رجال: «حديث الأربعاء» ويضم طائفة منهم إلى أبي عبيدة، ثم يقول لك: هؤلاء يمثلون الكثرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة.
لا يدري القارئ ما وجه هذا الحديث عن علماء الكلام والفلسفة في هذا الفصل المعقود للشعوبية وانتحال الشعر، ولا أحسب أحدًا يمشي في البحث على هذه الهيئة إلا حيث ينسى الغاية التي يرسمها عنوان الفصل، وينحرف عنها أذرعًا ليقضي حاجة أخرى.
قد يوجد في علماء الكلام والفلسفة مثل أبي عبيدة في علماء الأدب واللغة، أما دعوى أن الكثرة المطلقة من الموالي، وأن هذه الكثرة تبغض العرب أو تستحل الافتراء عليها فليس للمؤلف بها من سلطان إلا محاولته لأن يصنع لذلك العهد تاريخًا يحمل مساوي لا نرى بينها سريرة طيبة أو سيرة حسنة.
•••
قال المؤلف في ص١١٤: «فأما أبو عبيدة معمر بن المثنى الذي يرجع العرب إليه فيما يروون من لغة وأدب، فقد كان أشد الناس بغضًا للعرب وازدراء لهم، وهو الذي وضع كتابًا لا نعرف الآن إلا اسمه وهو (مثالب العرب).» كأن المؤلف لا يؤمن بأن أحدًا يبغض شخصًا أو حزبًا أو شعبًا دون أن يفتري عليه كذبًا، ونحن نعرف في الشرق والغرب أناسًا انعقدت بيننا وبينهم صلة الصداقة والصحبة، وربما كانوا يبغضون أشخاصًا أو جماعات بغض المؤلف للعرب بعد الإسلام، ولكنهم يقدرون فضيلة الصدق ويحتفظون بلباس المروءة فلم نلمح في سيرتهم ما يقرب من أمثال هذه المبالغات أو المبتدعات التي يصوغها كتاب في «الشعر الجاهلي» ويدسها في التاريخ وهي لا تقبل أن تلج في التاريخ حتى يلج الجمل في سم الخياط.
نستبعد أن يكون أبو عبيدة من قبيل هؤلاء الذين يبغضون ولا يفترون، ونذكر اسمه في أسباب انتحال الشعر دون أن نبحث في سيرته بأناة!
فقد حدثوك عن أبي عبيدة بأنه شعوبي يبغض العرب وينشر مثالبهم، وأروك أنه يجمع في أخبار العرب غثًّا وسمينًا حتى لا تتلقى كل ما يرويه في هذا الشأن على أنه واقع حقًّا، وقالوا لك: إنه ثقة فيما يرويه عن العرب من الغريب، حتى لا ترتاب فيما يجيئك على طريقه من كلم يعزوها إليهم، فقد بلوه وألفوه لا يقول في اللغة كذبًا.
قالوا: إن أبا عبيدة أوسع علماء عصره رواية لأيام العرب وأخبارها، وإنه كان يجمع الغث والسمين، ولم يقولوا كما قال المؤلف: إنه الذي يرجع إليه العرب فيما يروون من لغة وأدب، فإن هذا التعبير ظاهر في أن سند اللغة والأدب إنما يتصل به، والواقع أن علماء اللغة والأدب الذين تقدموا أبا عبيدة أو عاصروه في الطلب وتلقت عنهم طبقة من بعدهم ليسوا بقليل، ومن هؤلاء الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب وأبو عمرو بن العلاء والمفضل الضبي وأبو زيد الأنصاري والأصمعي وسيبويه والكسائي وأبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي وأمثالهم.
•••
قال المؤلف في ص١١٤: «وأما غير أبي عبيدة من علماء الموالي ومتكلميهم وفلاسفتهم فقد كانوا يمضون في ازدراء العرب إلى غير حد. ينالونهم في حروبهم، ينالونهم في شعرهم، ينالونهم في خطابتهم، وينالونهم في دينهم أيضًا. فليست الزندقة إلا مظهرًا من مظاهر الشعوبية.»
من يقف على الحالة العلمية للعهد الأول ويلم بحياة الرجال القائمين بها من عرب وعجم يعرف صحة قول ابن خلدون في مقدمته: «إن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم.» ويدري بعد هذا أن الكثرة المطلقة من أولئك العجم كانوا برآء من هذا الذي يدسه المؤلف في صدور طلاب العلم بالجامعة.
يقول المؤلف: إن الكثرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة كانوا من العجم الموالي. ويقول: كان هؤلاء العلماء والمناظرون أصحاب ازدراء للعرب ونعي عليهم وغض منهم، ثم يصف هذه الكثرة المطلقة المؤلفة من العجم الموالي بأنهم كانوا يمضون في ازدراء العرب إلى غير حد، وأنهم كانوا ينالون العرب في حروبهم وشعرهم وخطابتهم ودينهم.
قد سردنا عليك أسماء طائفة من هذه الكثرة المطلقة التي يرميها المؤلف بوصمة عدم الإخلاص للعرب أو الإسلام، ويذهب به الافتيات على التاريخ إلى أن يقول لك: ينالونهم في دينهم. ومن ذا يصدق بأن أمثال سيبويه وأبي عبيد القاسم بن سلام والكسائي والفراء وابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني تنال ألسنتهم أو أقلامهم من دين الإسلام!
وليس الإسلام دين العرب وحدهم، وإنما هو أدب الإنسانية، ونظام الحياة الراقية، وفي العجم والموالي من نصحوا له نصح العرب، فجاهدوا في إعلاء كلمته وأنفقوا ما أوتوا من قوة في بيان حكمته، ولا يغض منه إلا من نشأ على غير روية وأصبح الشر من طرف لسانه قريبًا.
ليست المسألة نظرية محضة حتى يسهل على المؤلف أن يتحدث فيها باجتهاده المطلق، وإنما هي مسألة تاريخية، والمسائل التاريخية لا يترك فيها المنقول إلى غير منقول.
يحكي التاريخ أن طائفة قامت تنادي بالمساواة بين الشعوب فسموا «أهل التسوية» وسموا «الشعوبية» وربما يغلو بعض أفراد من هذه الطائفة فيذهب إلى ازدراء العرب والغض من شأنهم، ولا يبلغ ازدراء العرب إلى أن يكون زندقة وما هو إلا كازدراء التميمي أو الأنصاري لقريش، لا يتجاوز أن يكون هوى غالبًا أو عصبية عمياء، وقد يصف التاريخ بهذه النزعة بعض أشخاص كأبي عبيدة وإسماعيل بن يسار وسهل بن هارون.
ولا تتعدى هذه الطائفة أن تنال العرب في بعض عوائدهم وشؤونهم القومية وأكثر ما تمشي في ذمهم إلى أيام جاهليتهم، ولا تجدها تضرب إلى ساحة الدين ولو خطوة؛ لأن العجمي والعربي أصبحا فيه على سواء.
وحدثنا التاريخ في مقام منفصل عن المقام الذي حدثنا فيه عن الشعوبية: أن هناك طائفة كانت تتظاهر بأنها: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهي منطوية على زندقة، وقد حمل التاريخ أسماء أفراد كانوا يتهمون بهذه النحلة، والزنادقة في كل عصر مظهر الفسوق والمجون، وأول رذيلة يركبون غاربها رذيلة الاختلاق وسوء التأويل، هم يعرفون أن في الإسلام حكمة وحجة وأنه أنشأ رجالًا يمثلون الاستقامة والعبقرية في أسمى مظاهرهما، فيصرفون همهم إلى إراءة حقائقه في غير صبغتها، وإلى الحديث عن تاريخ رجاله بمبالغات أو مبتدعات هم برآء منها.
يقول هذا وذاك، ثم لا يجد مانعًا من أن يقول لك: إن الكثرة المطلقة من علماء الأدب واللغة من الموالي، وإن هؤلاء الموالي كانوا ينالون العرب في دينهم. فعلماء الأدب كانوا يدرسون الأدب لفهم الكتاب والسنة، والكثرة المطلقة من علماء الأدب واللغة كانوا يطعنون في ذلك الكتاب وتلك السنة!
ولعلهم كانوا يجعلون الأدب وسيلة إلى فهمهما؛ لأنهم مسلمون بقلوبهم، وينالون منهما نكاية بالعرب؛ لأنهم غير مسلمين بعقولهم، ومتى استقامت للمؤلف نظرية توزيع الآراء والعقائد على العقول والقلوب تمكن من أن يجمع الإيمان والكفر في نفس، أو يريك البياض والسواد في نقطة!
•••
قال المؤلف في ص١١٤: «وليس تفضيل النار على الطين وإبليس على آدم إلا مظهرًا من مظاهر الشعوبية الفارسية التي كانت تفضل المجوسية على الإسلام.»
الشعوبية طائفة تنفي فضل العرب على غيرهم أو تبغض العرب وتفضل العجم، وقد يتحقق هذا المعنى في نفوس قوم مسلمين. والزندقة خلل في العقل ومرض في القلب، وقد يختل عقل العربي ويعتل قلبه فترى عربيًّا زنديقًا، كما ترى شعوبيًّا مسلمًا. وقد يجمع الرجل بين إنكار الدين وبغض العرب فيكون زنديقًا شعوبيًّا، ولكل واحدة من هاتين النزعتين آثار خاصة، فآثار الشعوبية جحود فضل العرب أو تتبع مثالبهم، وآثار الزندقة التهكم بالشرائع والطعن في حكمتها. وتفضيل النار على الطين وإبليس على آدم ينسبونه إلى بشار بن برد. وإذا صحت نسبته إليه فهو أثر من آثار الزندقة غير الشعوبية.
•••
قال المؤلف في ص١١٦: «ونحن نعلم حق العلم أن الخصومة حين تشتد بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب. كانت الشعوبية تنتحل من الشعر ما فيه عيب للعرب وغض منهم.»
لا نفتح باب البحث مع المؤلف في قوله: إن الخصومة إذا اشتدت بين الأحزاب فأيسر وسائلها الكذب، فقد كان المؤلف مستعملًا في هذا السبيل، وليس الذي يحدثك عن شيء أجهد فيه خياله كمن ينظر إليه بمكان بعيد «وخير العلم ما حمل عن أهله». وإنما نشك في أن الشعوبية انتحلت من الشعر ما فيه عيب للعرب وغض منهم، ويزداد شكنا حينما نقرأ هذا الفصل المعد لهذا الغرض ولا نجد لانتحال الشعوبية مثلًا قائمًا، ولو كان تحت يد المؤلف أمثال قريبة لما تجاسر على أبيات أبي الصلت أو أمية بن أبي الصلت وحاول إلحاقها بإسماعيل بن يسار.
•••
قال المؤلف في ص١١٦: «إن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى أن يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلو أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة، فإذا عرضوا لشيء مما في هذه العلوم الأجنبية فلا بد من أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه أو ألموا به أو كادوا يعرفونه ويلمون به. ومن هنا لا تكاد تجد شيئًا من هذه الأنواع الحيوانية التي عرض لها الجاحظ في كتاب الحيوان إلا وقد قالت العرب فيه شيئًا قليلًا أو كثيرًا طويلًا أو قصيرًا واضحًا أو غامضًا، يجب أن يكون للعرب قول في كل شيء، وسابقة في كل شيء.»
نعرض هذه الجمل على أنظار القراء ليزدادوا خبرة بأن قلم المؤلف يقع في مبالغات يغبطه عليها الشعراء.
وكل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين إلا ونحن قد وجدنا قريبًا منه في أشعار العرب والأعراب، ومن أهل لغتنا وملتنا، ولولا أن يطول الكتاب لذكرت لك الجميع.
فهذا هو الذي يحوم عليه المؤلف — فيما أحسب — وقد رأيتم أن كلام الجاحظ يختص بباب معرفة الحيوان، ويتناول الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها، وقلنا فيما سلف: إن أهل العلم لا يعدون الجاحظ فيمن يوثق بما انفردوا بروايته.
ذهب المؤلف في أوائل كتابه إلى أن هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين يمثلهم في جهل وغباوة وغلظة وخشونة ويقول: إنهم كانوا أصحاب علم وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة. وقال: إنهم كانوا أمة متحضرة راقية لا أمة جاهلة همجية. وإذا كانوا أصحاب علم وذكاء، وكانوا أمة متحضرة راقية فلماذا ينكر شعرًا يضيفه إليهم بعض الرواة، ويرده بعلة أنه ينبئ عن علم وذكاء وحضارة راقية؟ وما الذي يعوقهم عن أن يعرفوا من أحوال الحيوان قريبًا مما سمعه الجاحظ من الفلاسفة أو قرأه في كتب الأطباء!