الرواة وانتحال الشعر
•••
ذكر المؤلف أنه مضطر إلى أن يقف عند الأسباب التي تتصل بأشخاص أولئك الذين نقلوا أدب العرب ودونوه وقال في ص١١٨: «وهؤلاء الأشخاص هم الرواة. وهم بين اثنتين: إما أن يكونوا من العرب، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب. وإما أن يكونوا من الموالي، فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي من تلك الأسباب العامة. وهم على تأثرهم بهذه الأسباب العامة متأثرون بأشياء أخرى هي التي أريد أن أقف عندها وقفات قصيرة.»
عرف القراء الأسباب التي يومئ إليها المؤلف وهي ما كان بصدد الحديث عنه من دواع سياسية ودينية وقصصية وشعوبية، وقد زعم هنا أن أمر الرواة دائر على هذه الأسباب فما من راو إلا وهو متأثر بشيء منها؛ لأنه يقول: هم بين اثنتين إما أن يتأثروا بما تأثر به العرب، وإما أن يتأثروا بما تتأثر به الموالي، ويريد من التأثر — بطبيعة السياق — الوجه الذي يحمل على صنع الشعر وعزوه إلى الجاهلية، ومعنى هذا نفي أن يكون لطائفة من الرواة خطة ثالثة، وهي ألا يتأثروا بشيء من هذه الأسباب تأثرًا يستهينون معه بموبقة الافتراء على الناس كذبًا، وهذه مبالغة لا تأويل لها إلا أن المؤلف يحب أن يكون هذا الشعر الجاهلي منحولًا؛ ويحاول أن يسد عليك كل طريق تخرق بها هذه النظرية، وتظن أن يكون هذا الشعر من الجاهلية في شيء.
نحن نعلم أن قسمًا عظيمًا من أهل العلم لم يتأثروا بالدين هذا التأثر الذي يجعل وزر الكذب أمرًا هينًا، ومن هذا القبيل أولئك الرواة الذين ينقدون ما يضاف إلى مقام النبوة، وقد ينفونه من الحديث ولو اشتمل على شيء من الحكمة أو الموعظة أو المعجزة، ونعلم أن قسمًا عظيمًا يطلبون العلم لفضيلته، ولا تلين قناتهم لأن يتصرفوا في الحقيقة ولو جلبت عليهم السياسة بخيلها ورجلها، أو وضعت في أيمانهم الصفراء وفي شمائلهم البيضاء. ونعلم أن في الموالي من ينشأ على آداب راقية، فلا يجد في صدره حاجة مما أوتي العرب من مجد أو سعادة، فضلًا عن أن يستخف وزر الكذب ويقول على ألسنتهم ما لا يعلمون.
فمن الجائز القريب أن يوجد في رواة الأدب من يعاف هذا الذي يقال له الكذب، ويأبى أن يضع شيئًا منه على طرف لسانه، ولعلنا نريك أن هذا الجائز القريب كان أمرًا واقعًا.
•••
قال المؤلف في ص١١٨: «ولعل أهم هذه المؤثرات التي عبثت بالأدب العربي وجعلت حظه من الهزل عظيمًا مجون الرواة وإسرافهم في اللهو والعبث وانصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق إلى ما يأباه الدين وتنكره الأخلاق، ولعلي لا أحتاج بعد الذي كتبته مفصلًا في الجزء الأول من حديث الأربعاء إلى أن أطيل في وصف ما كان فيه هؤلاء الناس من اللهو والمجون.»
ينزع المؤلف في يوم الأربعاء وفي غير يوم الأربعاء إلى أن يتحدث عن المتهتكين ويكثر سوادهم، فإذا كان في أمة من الناس نفر خاضوا في فجور، أحب أن يريك الأمة كلها فاسقة ماجنة.
نعلم أن المبالغة فن من فنون البلاغة، ونعلم أنها لا تكون مقبولة إلا أن يشعرك صاحبها بأنها مبالغة، أما إذا ألقاها عليك في صورة الحقيقة المحضة فإنها تسمى باسم ما لا يلتقي مع الصدق على لسان.
يحدثك المؤلف عن الرواة في هيئة الباحث الذي لا يطوي صدره على شيء فيقسمهم شطرين: شطر يندفع للكذب بما تتأثر به العرب، وشطر يندفع له بما تتأثر به الموالي، ثم يأتي بعبارة تتناول الفريقين، ويصفهم بالمجون والانصراف عن الدين وقواعد الأخلاق.
يحيلنا المؤلف على كتابه: «حديث الأربعاء» فإذا هو يلعن منهج ديكارت، ويمثل بالأدب والتاريخ تمثيل من يعتقد أن الأسماع في صمم، وأن العيون في سبات، وأن الأقلام والأنامل لا يلتقيان. ولولا أن في نشئنا الطيب من يقرؤه قبل أن يدرس التاريخ الصحيح، لقلنا للكتاب اضربوا عن نقده صفحًا فإن انكشاف أمره في قراءته.
ندع حديث الأربعاء إلى أجل قريب، ولكل أجل كتاب، ونكتفي بأن نقول لك: إن في الرواة أصحاب لهو ومجون، وفي الرواة أصحاب جد ومروءة، وفي الكتاب باحث بأناة، وفي الكتاب باحث بداعية هوى، والهوى يستولي على فؤاد الرجل، كالزجاجة الفاحمة يضعها على بصره فيرى الأشياء كلها في لون قاتم.
•••
قال المؤلف في ص١١٩: «فلست أذكر هنا إلا اثنين إذا ذكرتهما فقد ذكرت الرواية كلها والرواة جميعًا: فأما أحدهما فحماد الراوية. وأما الآخر فخلف الأحمر.»
ثم إن الطبقة التي خلفت من بعده هؤلاء كأبي زيد الأنصاري وسيبويه والكسائي كانوا يروون عن فصحاء الأعراب، من أفواههم إلى أسماعهم، ولا يكون هناك خلف ولا حماد.
والمؤلف انخدع في هذه الكلمات بأمثالها من مقال مرغليوث وقد قال المستشرق تشارلس لايل في ردها: «نرى الفرق بين حماد والمفضل في نظر الرواة عظيمًا، وإن ما جمعه المفضل بعيد عن الشك وتزوير حماد، ولا يوجد سبب معقول يجعل حمادًا مثال المنابع الأخرى التي مر بها الشعر العربي حتى وصل إلى التدوين.»
•••
ذكر المؤلف صداقة حماد الراوية لحماد عجرد وحماد الزبرقان ومطيع بن إياس، وصداقة خلف لوالبة بن الحباب وأستاذيته لأبي نواس، وقال في ص١١٩: «وكان هؤلاء الناس جميعًا في أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة، ليس منهم إلا من اتهم في دينه ورُمي بالزندقة، يتفق على ذلك الناس جميعًا. لا يصفهم أحد بخير ولا يزعم لهم أحد صلاحًا في دين أو دنيا.»
تطالع تاريخ القدماء من الزنادقة فتجده مطابقًا من أكثر الوجوه لحال إخوانهم في هذا العصر، يقول الجاحظ وغيره في تلك الطائفة: كانوا يجتمعون على الشراب ويأتون المنكر ويدعون إلى غير العفاف، وإذا رأيت طائفتهم الجديدة على هذا المثال من الهزل والفسوق وتزيين التهتك في أعين الشباب، قلت: ما أشبه الليلة بالبارحة!
•••
ساق المؤلف شيئًا مما قاله الرواة في حماد وخلفٍ ومصادقتهما لطائفة من الزنادقة، وأتى على ما أتى عليه مرغليوث من صنعهما الأشعار وإضافتها إلى العرب ثم قال في ص١٢٠: «فأما حماد فيحدثنا عنه راوية من خيرة رواة الكوفة هو المفضل الضبي أنه قد أفسد الشعر إفسادًا لا يصلح بعده أبدًا.» إلى قول المفضل: «فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب الرجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك.»
تعرض لبحث هذه الرواية المستشرق تشارلس لايل في مقدمة المفضليات فقال: ربما دخل في هذه الرواية شيء من التحريف، وإذا فرضنا صحتها كان من واجبنا ألا ننسى أن حمادًا كان معاصرًا للمفضل وربما كان أصغر سنًّا منه، وكان المفضل بلا شك عالمًا واسع الاطلاع وكان أكثر كفاية لإظهار أي شعر مصنوع، ثم إن الرواة من العرب الذين يقال: إن حمادًا قد زوَّر فيما رواه عنهم، لا يفوت المفضل أن يكون قد تلقى منهم هذه المحفوظات. وقصارى ما تدل عليه تلك الرواية أن حمادًا زاد في الأشعار العربية ما يماثلها في اللغة والعواطف. وإذا كان الحال هكذا فكيف نستطيع الحكم على هذا الشعر بالانتحال؟ هذا الحكم لا يتيسر إلا لرجل عرف الأصل وأدرك المنحول، ومن ذا يكون أدرى بذلك من المفضل!
•••
ذكر المؤلف قصة حماد في دخوله على بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وإنشاده إياه قصيدة للحطيئة في مدح أبي موسى، وقول بلال له: ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى، ولا أعرف ذلك وأنا أروي شعر الحطيئة! ولكن دعها تذهب في الناس، وقال في ص١٢١: «وقد تركها حماد فذهبت في الناس وهي في ديوان الحطيئة. والرواة أنفسهم يختلفون، فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقًّا.»
فالجمحي والمدائني كانا في عصر، وقد اختلفت روايتهما في قصيدة الحطيئة، فهل كان ترجيح المؤلف لرواية الجمحي قائمًا على موازنة وروية؟ أم هو تقليد مرغليوث والحرص على تكثير وقائع الانتحال!
•••
قال المؤلف في ص١٢١: «وكان يونس بن حبيب يقول: العجب لمن يروي عن حماد، كان يكسر ويلحن ويكذب. وثبت كذب حماد في الرواية للمهدي، فأمر حاجبه فأعلن في الناس أنه يبطل رواية حماد.»
أورد مرغليوث قصة حماد مع المهدي في هذا السياق، وقدح في صحة هذه القصة المستشرق تشارلس لايل بأن حمادًا توفي سنة ١٥٥ كما في تاريخ ابن خلكان، أو في سنة ١٥٦ كما في الفهرست لابن النديم، والقصة يلقب فيها المهدي أمير المؤمنين، والقصر المذكور في هذه القصة إنما بناه المهدي بعد تقلده للخلافة، وهو لم يجلس على عرش الخلافة إلا في سنة ١٥٨.
ولهذا النقد قسط من الوجاهة فإنك تجد في القصة أن الخادم خرج وقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادًا بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته. وتجد فيها أن حمادًا والمفضل دخلا على المهدي في داره بعيساباذ. وفي تاريخ ابن جرير الطبري أن المهدي بنى في سنة ١٦٤ بعيساباذ الكبرى قصرًا من لبن إلى أن بنى قصره الذي بالآجر وسماه قصر السلامة.
•••
قال المؤلف في ص١٢١: «فأما خلف فكلام الناس في كذبه كثير. وابن سلام ينبئنا بأنه كان أفرس الناس ببيت شعر، ويتحدثون أنه وضع لأهل الكوفة ما شاء الله أن يضع لهم، ثم نسك في آخر أيامه فأنبأ أهل الكوفة بما كان قد وضع لهم من الشعر؛ فأبوا تصديقه.»
يقول المؤلف: كلام الناس في كذب خلف كثير، ويورد شاهدًا على هذا جملة يختطفها من حديث ابن سلام ويقطعها عن قرينتها الشاهدة بصحة ما يرويه خلف، ونص عبارة ابن سلام في الطبقات: «أجمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدقه لسانًا، كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا ألا نسمعه من صاحبه.» ومحمد بن سلام أخذ عن خلف، وكان ثقة جليلًا. إذن هو يعني بقوله: أفرس الناس ببيت شعر، جودة نظره في معاني الأبيات وحسن بيانه لما يقصد الشعراء، وفي أساس البلاغة: «فرس صار ذا رأي وعلم بالأمور.» وفي اللسان: «رجل فارس بالأمر؛ أي: عالم به بصير.»
والرواية التي تصف خلفًا بانتحال الشعر تقول: إنه اعترف بما كان ينتحله وبينه للناس، وقد جاءت الرواية بأن له شعرًا حمله عنه أبو نواس، وأقرب الظن أن يكون هذا الشعر المنتحل قد أضافه إلى شعره الذي أخذ عنه في حياته، ولا شك أن هذا الذي رواه عنه الكوفيون وأبوا تصديقه في انتحاله، قد عرفه البصريون وتحاموا أن يرووه لمن عزاه إليهم. وشأن الرواة الثقات من الكوفيين أن يرتابوا في هذا الشعر الذي قال لهم راويه: إنه منحول، ولم يجدوا له في رواية غيره أثرًا.
أما صداقة خلف لوالبة بن الحباب التي لوَّح بها المؤلف إلى الطعن في روايته فقد يكون والبة يكتم زندقته عن خلف ولا يكاشفه بها، فقد كان الزنادقة — بطبيعة الحال — يتظاهرون بالإسلام، بل تجد في الكتب التي تسوق شيئًا من أخبارهم أن بعضهم كانوا يخفضون رؤوسهم بالركوع والسجود، ويراءون بالإمساك عن شهوات بطونهم حين يشهدون شهر رمضان، حكى صاحب الأغاني عن علي بن القاسم أنه قال: كنت آلف إياس بن مطيع فعنفني في عشرته جماعة وقالوا لي: إنه زنديق، فأخبرته بذلك فقال: وهل سمعت مني أو رأيت شيئًا يدل على ذلك؟ أو هل وجدتني أخل بالفرائض في صلاة أو صوم، فقلت له: والله ما اتهمتك، ولكن خبرتك بما قالوا.
فقد يكون خلف ألِف والبة؛ لأنه لم يسمع منه ولم ير شيئًا يدل على زندقته، ولم يجده يخل بالفرائض في صلاة أو صوم، وقد يشعر خلف بزندقة والبة ولا يقطع صلته به ما دام والبة يكتم زندقته ويدع مجونها وغمزها إلى أن يخلو إلى مطيع بن إياس ويونس بن أبي فروة وحماد بن الزبرقان.
وأما الطعن في خلف بأستاذيته لأبي نواس فلا ندري ماذا نقول فيه! وشأن أهل العلم أن يتصدوا للإنفاق مما عندهم، فيتعرض للأخذ عنهم البر والفاجر، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
•••
قال المؤلف في ص١٢١: «وهناك راوية كوفي لم يكن أقل حظًّا من صاحبيه هذين في الكذب والانتحال. كان يجمع شعر القبائل حتى إذا جمع شعر قبيلة كتب مصحفًا بخطه ووضعه في مسجد الكوفة. ويقول خصومه: إنه كان ثقة لولا إسرافه في شرب الخمر، وهو أبو عمرو الشيباني. ويقولون: إنه جمع شعر سبعين قبيلة.»
يرمي المؤلف أبا عمرو الشيباني بالكذب والانتحال، ويقول لك: إن خصومه يقولون: إنه كان ثقة، خصوم الرجل الذين كانوا على مرأى منه ومسمع أبت ضمائرهم أن تصفه بغير الثقة، وهذا المؤلف الذي لم يلق من أثر أبي عمرو إلا ما نقله خصومه أو مريدوه، يأبى لسانه إلا أن يصفه بالكذب والانتحال! سلوا المؤلف عما استند إليه من قذف هذا الراوية الذي يقول عنه خصومه: إنه ثقة، سلوه، فلا جواب له إلا أن أبا عمرو روى شعرًا جاهليًّا، والشعر الجاهلي كعنقاء مغرب لا يحوم إلا في خيال بعيد.
سلوه عما استند إليه في شهادته على أبي عمرو بأنه كان يشرب الخمر، فإنه سيحيلكم على كتب تقول لكم: إنه كان يشرب النبيذ، والفرق بين النبيذ والخمر معروف بين الفقهاء والأدباء، ولعل المؤلف يدري هذا الفرق واستبدل في عبارته النبيذ بالخمر؛ لأنه يعمل ليغير التاريخ، والعامل على تغيير التاريخ يسوغ له في منهج ديكارت أن يضع الكلمة بدل أخرى إذا كانت أوفى وأنهض بالغرض الذي يغير من أجله التاريخ!
الخمر معروفة، وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع، والنبيذ ما يتخذ من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير ولا يسكر إلا الكثير منه، وقد اختلف العلماء في المقدار الذي لا يسكر من النبيذ، وفتاوى أهل العراق فيه مشهورة، وفي القائلين بحرمته من لا يوجب فيه حدًّا، ولا يرى للمحتسب أن يؤدب على المجاهرة به.
ولسنا بصدد البحث عن النبيذ من وجهة نظر الشارع فإن مسألته الخلافية مبسوطة بأدلتها وأقيستها في كتب الأصول والفروع، وإنما أريناكم أن المؤلف لا يبالي أن يخلع من عنقه طوق الأمانة ويضع الخمر موضع النبيذ.
•••
قال المؤلف في ص١٢٢: «وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل يجمع لكل واحدة منها شعرًا يضيفه إلى شعرائها. وليس هذا غريبًا في تاريخ الأدب فقد كان مثله كثيرًا في تاريخ الأدب اليوناني والروماني.»
إيجار عالم كأبي عمرو نفسه للقبائل في عمل يستدعي الاتصال بطائفة من الشعراء ليس بالأمر الذي يقع دون أن يشعر به أحد من خصومه أو منافسيه، وهل يمكن أحدًا اليوم مناجاة بعض الشعراء على أن يضعوا له قصائد يضيفها إلى قوم آخرين، فينفقوا أوقاتًا طويلة في إنشاء هذه الدواوين ويبقى أمرها مطويًّا عن سائر الناس ولا تلقط نبأه أذن واعية؟
ليس من السهل علينا أن نصدق أن عملًا أدبيًّا تشترك فيه طائفة من أولي الأدب وتدفع عنه القبائل أجورًا ويذهب خبره تحت أطباق الثرى.
•••
قال المؤلف في ص١٢٢: «والعجب أن رواة لم تفسد مروءتهم ولم يعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية قد كذبوا أيضًا، فأبو عمرو بن العلاء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتًا:
قال مرغليوث: من المعاصرين لخلف أبو عمرو بن العلاء وقد اعترف أنه زاد بيتًا في شعر الأعشى، والعجب له؛ إذ لم يزد فيه أكثر من بيت!
القصة رواها ابن جني في الخصائص فقال: حدثنا بعض أصحابنا يرفعه: أن أبا عمرو بن العلاء قال: ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا، يعني ما يروى للأعشى من قوله: «وأنكرتني إلخ البيت.» وهذه الرواية على فرض صحتها لا تدل إلا على أمانة أبي عمرو الثابتة بإجماع الرواة. قال ابن جني بعد حكاية ما سلف: أفلا ترى أن هذا البدر الباهر، والبحر الزاخر كيف تخلصه من تبعات هذا العلم وتحرجه حتى إنه لما زاد فيه على سعته وانتشاره بيتًا واحدًا وفقه الله تعالى للاعتراف به.
وجاءت القصة في مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي على وجه لا يصرح بأنه هو الذي زاده في شعر الأعشى، ولفظه: «ومما كتب به إليَّ أبو روق الهمذاني البصري قال: أخبرني الرياشي عن ابن مناذر قال: قال أبو عمرو أنا قلت:
فألحقه الناس في شعر الأعشى، وكان سيد الناس وأعلمهم بالعربية والشعر ومذاهب العرب.»
- أحدهما: أن الأصمعي يقول في الحديث عنه: «وكان نقش خاتمه:
إن امرأً دنياه أكبر همهلمستمسك منها بحبل غروروهذا البيت له، وكان رجلًا صالحًا ولا نعرف له شعرًا إلا هذا البيت.»١١ والأصمعي من أشهر الرواة الذين أخذوا عن أبي عمرو، فيخطر على البال أن بيت «وأنكرتني إلخ» لو كان أبو عمرو هو الذي زاده في بيت الأعشى واعترف به لكان من شأن الأصمعي أن يطلع عليه ولا يقول: ولا نعرف له شعرًا غير هذا البيت.
- ثانيهما: أن بعض أهل الأدب يعزو وضع البيت إلى حماد، قال ابن عبد ربه في العقد
الفريد: إن حمادًا الراوية يقول: ما من شاعر إلا قد حققت في شعره
أبياتًا فجازت عنه إلا الأعشى — أعشى بكر — فإني لم أزد في شعره قط غير
بيت. قيل له: وما البيت الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال:
فأنكرتني وما كان الذي نكرتمن الحوادث إلا الشيب والصلعا
•••
قال المؤلف في ص١٢٢: «ويعترف الأصمعي بشيء يشبه هذا.»
ويُبعد الأصمعي من تهمة اصطناع الشعر وإضافته إلى الجاهليين أنه لم يكن معدودًا في قبيل الشعراء، وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد: وكان الخليل بن أحمد أدرى الناس بالشعر ولا يقول بيتًا، وكذلك كان الأصمعي، وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر؟ قال: نظري لجيده.
•••
قال المؤلف في ص١٢٢: «ويقول اللاحقي: إن سيبويه سأله عن إعمال العرب فعلا، فوضع له هذا البيت:
•••
تحدث المؤلف عن الأعراب الذين يرحل إليهم رواة الأمصار ليسألوهم عن الشعر والغريب، وزعم أن هؤلاء الأعراب لما أحسوا ازدياد حرص الأمصار على هذه البضاعة انحدروا إلى الأمصار في العراق خاصة فنفقت بضاعتهم. ثم قال في ص١٢٣: «فأخذ هؤلاء الأعراب يكذبون وأسرفوا في الكذب.»
•••
قال المؤلف في ص١٢٤: «ويحدثنا ابن سلام عن أبي عبيدة أن داود بن متمم بن نويرة ورد البصرة فيما يقدم له الأعراب، فأخذ أبو عبيدة يسأله عن شعر أبيه وكفاه حاجته، فلما فرغ داود من رواية شعر أبيه وكره أن تنقطع عناية أبي عبيدة به أخذ يضع على أبيه ما لم يقل، وعرف ذلك أبو عبيدة.»
نصُّ ابن سلام في الطبقات حاكيًا قول أبي عبيدة: «فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكر المواضع التي ذكرها متمم والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علينا علمنا أنه يفتعله.»
•••
قال المؤلف في ص١٢٤: «كل شيء في حياة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه سواء في ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة، والحياة السيئة حياة الفساق وأصحاب المجون.»
جاء الإسلام لينبت على ظهر هذه البسيطة رجالًا يمثلون الأحلام الراجحة والسيرة القيمة، وتلقاه القوم الذين ملأوا أعينهم بمشاهدة سيرة الرسول الأعظم ﷺ وأعلام نبوته، فكانوا المثل العالي لصدق اللهجة ومضاء العزيمة وحسن النظر في السياسة، وإذا ظهر العالم الإسلامي بعد ذلك العهد في حال غير ملتئم، فإنما هو زمامه يقع في أيد تديره على غير بصيرة. وإذا ظهرت طائفة من المسلمين في حال تنبو عنها عين الأديب أو العالم فإنما هي نفوسهم لم تكن على أثارة من هداية القرآن.
لم يكن المسلمون في الاستقامة والصدق كالحلقة المفرغة، والعارفون بتاريخ صدرهم الأول لا يقبلون هذا الذي يقوله المؤلف من أن كل شيء في حياة المسلمين كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه، وأكبر جناية على التاريخ والمنطق أن يقال: إن كل شيء في حياة الأتقياء والبررة في تلك القرون كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه، فإن مغزى هذا أنه ليس هناك أتقياء ولا بررة، ولكن التاريخ يحدثنا بأن الذين كانوا يحيون حياة الأتقياء والبررة غير قليل، ويحدثنا علم النفس بأن التقي البار لا يتأثر بشيء من تلكم الأسباب تأثرًا يدعو إلى اصطناع شعر وإضافته إلى غير قائله.
•••
قال المؤلف في ص١٢٤: «وقد قدمنا أن هذا الكذب والانتحال في الأدب والتاريخ لم يكونا مقصورين على العرب، وإنما هما حظ شائع في الآداب القديمة كلها.»
وقع الانتحال في الشعر العربي وقد كفانا القدماء معظم شره، وإليك كلمة تذكرك بما صنعوا في نقد الرواية والرواة:
- أولاهما: جهة ما يترتب عليها من إثبات لغة أو تقرير قاعدة، ومطمح أنظار العلماء في هذا أن يثقوا بأن المروي صدر من عربي فصيح، ولا يعنيهم بعد هذا أن يكون قائل البيت امرؤ القيس أو ابن ميادة أو ما بينهما من جاهليين وإسلاميين، ولا يمس غرضهم بسوء أن يكون البيت منحولًا متى تلقوه من عربي مطبوع، ولهذا نجدهم يستشهدون بالبيت مع اختلاف الرواة في قائله.
- ثانيهما: جهة صلة الشعر بقائله وصحة نسبته إليه.
يقوم النظر في الجهة الأولى على أساس يجعل اللغة ونحوها وبيانها بمنعة من أن ينالها كاتب بفساد أو تحريف. فإن أهل العلم يوم قاموا لتدوين اللغة وتقرير قواعدها وجدوا ألسنة العرب على لهجتها الأولى ولم تزل مأخوذة باللغة الفصحى فكانوا يتلقون شعرها ونثرها ممن يتكلمون بفطرهم العربية الخالصة سواء أنشأوا الكلام من أنفسهم أو رووا لك ما قال غيرهم.
فمدار ما يعتد به في إثبات كلمة أو تقرير قاعدة لغوية على أن يسمعه الثقة من عربي فصيح. ومن هنا عُني علماء العربية بالبحث عن حال الرواة وفصلوا القول فيما يرجع إلى الثقة بهم أو الطعن في ذممهم، وجعلوا علماء اللغة طبقتين: طبقة من يوثق بهم ويطمأن إلى روايتهم كالخليل بن أحمد وأبي عمرو بن العلاء والمفضل الضبي والأصمعي وسيبويه والكسائي والنضر بن شميل وأبي عمرو الشيباني وأبي سعيد البغدادي وأبي الخطاب الأخفش والفراء وأبي زيد الأنصاري وأبي عبيد القاسم بن سلام وابن الأعرابي، وطبقة لم يكونوا على استقامة ولم يثق الناس بما ينفردون بروايته كالجاحظ وأبي بكر بن دريد وأبي عمرو المعروف بغلام ثعلب، ومنهم من يثقون بروايته ويرمونه بشيء من الغفلة في الرأي كما وصف أبو منصور الأزهري في مقدمة تهذيبه محمد بن مسلم الدينوري.
وقد تختلف الروايات في نسبة الشعر إلى قائله فيذهبون في ترجيح إحداها مذاهب تشهد بأنهم كانوا يعنون بهذه الجهة، ويصرفون إليها من مجهودهم قسطًا كبيرًا.
وقد أشرنا فيما سلف إلى أن لهم في معرفة انتحال الشعر طريقتين: طريقة النقل، كقول الجاحظ في أبيات تنسب لأوس بن حجر: أخبرني أبو إسحاق أنها لأسامة صاحب روح بن أبي همام، وهو الذي كان ولَّدها، وكما يقول ابن سلام في بيتين يرويهما الناس لأبي سفيان بن الحارث: وأخبرني أهل العلم من أهل المدينة أن قدامة بن عمر الجمحي قالها ونحلها أبا سفيان.
ثانيتهما: طريقة العلم بحال الشاعر، كنسجه الذي يمتاز به عمن عداه، مثلما قال الأصمعي في شعر ينسب لامرئ القيس: امرؤ القيس لا يقول مثل هذا، وأحسبه للحطيئة. أو من جهة مخالفته لشيء عرف عنه في حياته، كما أنكر الأصمعي أن يكون بيت:
لامرئ القيس؛ لأنه لا يلتئم مع حال من يطلب الملك ويقول:
ولا ننكر مع هذا أن يمر على الثقة النقاد شيء من الشعر فينتبه لانتحاله من يجيء من بعده، ومثال هذا قصيدة قيس بن الحدادية التي رواها أبو عمرو الشيباني وأوردها صاحب الأغاني في ترجمة قيس وقال: هذه القصيدة مصنوعة والشعر بيِّن التوليد. ويخفف التبعة عن أبي عمرو أنه روى القصيدة في سياق قصة صدرها بقوله: «وزعموا.»
وصفوة المقال أن الشعر الذي يرويه أولئك الثقات النبهاء ولم يمسه أحد منهم بنقد فإنما نقبله على أنه شعر من نسبوه إليه إلى أن تقوم على انتحاله بينة.