امرؤ القيس – عبيد – علقمة
ابتدأ المؤلف هذا الفصل بالحديث عن امرئ القيس وقال في ص١٣٢: «مَنْ امرؤ القيس؟ أما الرواة فلا يختلفون في أنه رجل من كندة. ولكن مَنْ كندة؟ لا يختلف الرواة في أنها قبيلة من قحطان، وهم يختلفون بعض الاختلاف في نسبها وفي تفسير اسمها وفي أخبار سادتها. ولكنهم على كل حال يتفقون على أنها قبيلة يمانية.»
أخذ المؤلف يذكر اختلاف الرواة في اسم امرئ القيس واسم أبيه واسم أمه، واختلافهم في أن له ولدًا أو كان عقيمًا. ثم قال في ص١٣٣: «وأي شيء أيسر من أن نأخذ ما اتفقت عليه كثرة الرواة على أنه حق لا شك؟ وكثرة الرواة قد اتفقت على أن اسمه حندج بن حجر ولقبه امرؤ القيس، وكنيته أبو وهب، وأمه فاطمة بنت ربيعة، على هذا اتفقت كثرة الرواة. وإذا اتفقت الكثرة على شيء فيجب أن يكون صحيحًا أو على أقل تقدير يجب أن يكون راجحًا.
أما أنا فقد أطمئن إلى آراء الكثرة، أو قد أراني مكرهًا على الاطمئنان لآراء الكثرة في المجالس النيابية وما يشبهها. ولكن الكثرة في العلم لا تغني شيئًا فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر أن الكثرة كانت مخطئة. وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح. فالكثرة في العلم لا تغني شيئًا.»
لا ندري في أي بحث أو في أي فن يحسن المؤلف أن ينطق فيقول صوابًا، يريد أن يخيل إلى الطائفة التي يسميها مستنيرة أن أهل العلم في الشرق يرجعون إلى الترجيح بالكثرة عند اختلاف الآراء أو تعدد الروايات، وهذا التخييل غير مطابق للحقيقة، وهمم أهل العلم أكبر من أن تنحط إلى هذه الخطة المبتذلة.
المعلوم إما معقول كحدوث العالم، أو مشاهد كالألوان والأصوات. أما المعقول وهو ما يكتسب بالأدلة النظرية فلا يترجح فيه رأي الأكثرية على الأقلية عند عالم نحرير، وكثيرًا ما تكون الأقلية في هذا القسم على حق وتكون الأكثرية على باطل.
وأما المشاهد وهو ما يدرك بنحو السمع والبصر فقد يحدثك عنه جمع كثير استوفى شرط التواتر، فيكون العلم الحاصل من هذا الحديث يقينًا، ويسقط بجانبه خبر الأقلية بلا مرية ولا نزاع. فإن لم يستوف كل من الجمعين شرط التواتر ترجح خبر أوفرهما صدقًا ونباهة وإن كان أقلهما عددًا، فإن تساويا في الصدق والنباهة الكافية في ضبط حال المخبر عنه وكان أحد الجانبين أكثر من الآخر عددًا فهذا ما يمكن أن يكون موضع نظر أو خلاف، ومن فروع هذا اختلاف الفقهاء في ترجيح بينة على أخرى بأكثرية شهودها، وكذلك اختلف الأصوليون في ترجيح الأخذ بحديث على الأخذ بحديث آخر، لأكثرية رواته.
ومن يذهب إلى أن للكثرة أثرًا في الترجيح يعتمد على أن ظن موافقة الكثرة للحقيقة يكون أقوى، واحتمال وقوع الغلط أو الكذب على العدد الكثير أبعد من احتمال وقوعه في العدد القليل. ولا ننسى أن المسألة مفروضة فيما لا يمكن الوصول إليه إلا من طريق الرواية، ولا يجد الناظر لتقديم أحد الخبرين على الآخر وجهًا غير هذه الكثرة.
وإذا رجعنا إلى علماء العربية وجدناهم ينظرون في الترجيح إلى ثقة الراوي، فإن لم يجدوا لها ولا لغيرها من المرجحات سبيلًا عادوا إلى الترجيح بكثرة الرواة كما يفعل جمهور الأصوليين.
وخلاصة هذا أن الأقوال إما أن تكون من قبيل الرأي، والترجيح فيها إنما يرجع فيه إلى الأدلة النظرية، وإما أن تكون من قبيل الرواية، وهذا هو الذي يمكن أن يُرجح فيه جانب الكثرة على جانب القلة.
وقد رأيت المؤلف كيف خلط في حديثه بين الرواية والرأي وحشر كثرة الآراء في المجالس النيابية ونظرية كروية الأرض في موضع الكلام عن الترجيح بالكثرة فيما لا يمكن الوصول إليه إلا من طريق الرواية.
•••
أراد المؤلف أن يضع قصة امرئ القيس في معمل فلسفته الممتازة، فحام على تاريخ كندة في الإسلام، ووقع على أسرة الأشعث بن قيس وأخذ يقص كيف وفد من كندة وفد على النبي ﷺ وعلى رأسه الأشعث، وكيف ارتدت كندة، وكيف تاب الأشعث واشترك في فتح الشام وفتح الفرس، وتولى عملًا لعثمان وظاهر عليًّا على معاوية، ثم انتقل إلى الحديث عن ابنه محمد بن الأشعث وذكر اعتماد زياد عليه في أخذ حجر بن عدي الكندي، وعرج على قتل معاوية لحجر بن عدي هذا في نفر من أصحابه، وانتقل إلى سيرة عبد الرحمن بن الأشعث وثورته بالحجاج وخلعه لعبد الملك، ووقوعه في يد عامل الحجاج وانتهاء واقعته بقتل نفسه.
عقد المؤلف مشابهة بين امرئ القيس وعبد الرحمن بن الأشعث وزعم أن عبد الرحمن ثار منتقمًا لحجر بن عدي كما أن امرأ القيس قام مطالبًا بثأر أبيه، وذكر في وجه الشبه أن كلًّا منهما طامع في الملك متنقل في البلاد مستعين بملك: امرؤ القيس بقيصر وعبد الرحمن بملك الترك، وأن كلًّا منهما غدر به الملك الذي التجأ إليه ويتشابهان في أن كلًّا منهما مات في طريقه عائدًا من بلاد الملك الذي التجأ إليه، ثم قال في ص١٣٧: «أليس من اليسير أن نفترض بل أن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدث بها الرواة ليست إلا لونًا من التمثيل لحياة عبد الرحمن استحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمانية في العراق واستعاروا له اسم الملك الضليل اتقاء لعمال بني أمية من ناحية، واستغلالًا لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى.»
ونحن نلقي عليك واقعة عبد الرحمن بن الأشعث في تلخيص وإيجاز لنعلم أن بينها وبين قصة امرئ القيس من الفرق ما لا يجتمعان به إلا في مخيلة تتراكم فيها صور الأشياء على غير نظام.
يذكرون أن الحجاج كان يبغض عبد الرحمن بن الأشعث ويقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله، وكان عبد الرحمن يعرف هذه السريرة من الحجاج ويقول: أنا أزيله عن سلطانه.
كان الحجاج واليًا على العراق وخراسان وسجستان، فجهز جيشًا لفتح بلاد رتبيل ملك الترك وبعثه تحت راية عبد الرحمن.
سار عبد الرحمن بالجيش حتى دخل في طرف من بلاد رتبيل، ثم عقد الرأي مع الجيش على أن يرجئوا التوغل في البلاد إلى العام المقبل، وبلغ الحجاج ما عزم عليه عبد الرحمن من هذه الهدنة، فأمره بالمضي في سبيل الفتح وهدده بالعزل إذا هو لم يفعل، فائتمر عبد الرحمن والجيش الذي تحت قيادته بخلع الحجاج ثم نادوا بخلع عبد الملك وبايعوا عبد الرحمن وأقبلوا إلى العراق.
تتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في أن يبعث إليه عبد الرحمن، وكان من أثر هذه الكتب وما تحمله من ترغيب وترهيب أن بعث رتبيل بعبد الرحمن مقيدًا إلى عمارة بن تميم ليضعه في يد الحجاج فرمى عبد الرحمن بنفسه من سطح قصر فهلك وأرسل عمارة برأسه إلى الحجاج.
نرى عرض هذه القصة على وجهها التاريخي كافيًا لنقض ما يزعمه المؤلف من المشابهة بينها وبين قصة امرئ القيس، ومن أن قصة امرئ القيس موضوعة رمزًا لها.
وأول ما يخطر لك أن عبد الرحمن بن الأشعث لم يقم للأخذ بثأر حجر بن عدي، وتستبعد هذا الذي يدعيه المؤلف من جهة أن القرابة بين عبد الرحمن وحجر لم تكن من الشدة بحيث تحمل على الخوض في محاربة دولة ذات شوكة انتقامًا لها، فإن عبد الرحمن إنما يلتقي بحجر في الأب الخامس وهو معاوية بن جبلة، ويضاف إلى هذا أن القاتل لحجر معاوية بن أبي سفيان وصاحب الدولة يوم ثورة عبد الرحمن عبد الملك بن مروان، ويزاد على هذا أن قتل معاوية لحجر كان في سنة ٥١ وثورة عبد الرحمن على عبد الملك كانت في سنة ٨١ وثلاثون سنة تمر على الواقعة شأنها أن تخفف من تغيظ النفس لها إلى حد ألا يبقى فيها من أثر الغيظ ما يدفع إلى اقتحام الأهوال والأخطار بالحياة في فتنة عمياء.
ويبدو لك بعد هذا أن ابن الأشعث إنما طلب الملك بالجيش الذي كان تحت قيادته ولم يستعن عليه بملك كما يزعم المؤلف، والذي وقع من رتبيل أنه استقبله بعد عودته في هزيمة ويأس من الملك الذي طمع فيه، ولم يرج منه ابن الأشعث أكثر من أن يحميه ويؤامنه من سطوة الحجاج.
•••
- أحدهما : يتصل بهذه القصة فشأنه شأنها في الانتحال وأنه شعر إسلامي لا جاهلي.
- ثانيهما : لا يتصل بهذه القصة وإنما يتناول فنونًا من القول مستقلة من الأهواء السياسية والحزبية.
ثم قال في ص١٣٨: «فامرؤ القيس هو الملك الضليل حقًّا نريد أنه الملك الذي لا يعرف عنه شيء يمكن الاطمئنان إليه. هو ضل بن قل كما يقول أصحاب المعاجم اللغوية.» وبعد أن عقد مشابهة بينه وبين هوميروس الشاعر اليوناني قال في ص١٣٩: «ونحن نذهب هذا المذهب نفسه في تفسير هذه الأخبار والأشعار التي تمس تنقل امرئ القيس في قبائل العرب. فهي محدثة انتحلت حين تنافست القبائل العربية في الإسلام، وحين أرادت كل قبيلة وكل حي أن تزعم لنفسها من الشرف والفضل أعظم حظ ممكن.»
لعلك عرفت أن ما يزعم المؤلف من أن قصة امرئ القيس رمز إلى واقعة ابن الأشعث قول مرغوب عنه وهو إلى المزح أقرب منه إلى الجد، وما لنا إلا أن ننظر في تحقق شخصية امرئ القيس، ثم ننظر في مبلغ الثقة بأن هذا الشعر صادر عنه.
يجد الباحث في كتب الأدب والتاريخ روايات متفرقة وآثارًا مختلفة تدل على أن شاعرًا من كندة يقال له: امرؤ القيس. وربما يكون كل رواية أو أثر بانفراده محتملًا لأن يرتاب فيه، ولكن مجموعة هذه الروايات والآثار تلقي في نفسك الثقة بأن امرأ القيس كان شاعرًا جاهليًّا، وأن له شعرًا يدور بين الناس.
أما هذا الشعر المضاف إليه فقد نقده علماء الأدب ونفوا عنه قسمًا ذكروا أنه محمول عليه، نفوا عنه أبياتًا من قصائد وقد ضربنا فيما سلف وسنضرب لهذا الصنيع مثلًا، وارتابوا في قصائد بجملتها فتجدهم يوردون القصيدة ويقولون لك: ويقال هي لبشر بن أبي خازم، أو لسامة البجلي، أو لعبد الله بن الرحمن السلامي، أو لأبي داود الإيادي، أو لرجل من كندة أو لرجل من بني النمر يقال له: ربيعة بن جشم أو لعمرو المرادي.
نقدوا شعر امرئ القيس جهد استطاعتهم فنفوا ما قام الدليل من رواية أو نظر على أنه منحول، وكفوا عن البقية؛ لأنها جاءت على طريق الثقات ولم يجدوا لقطع صلتها عنه وإلحاقها بالمصطنع من سبيل.
•••
قال المؤلف في ص١٣٩: «وقد أحس القدماء بعض هذا، فصاحب الأغاني يحدثنا أن القصيدة القافية التي تضاف إلى امرئ القيس على أنه قالها يمدح السموأل حين لجأ إليه منحولة نحلها دارم بن عقال وهو من ولد السموأل. وأكبر ظننا أن دارم بن عقال لم ينحل القصيدة وحدها وإنما نحل القصة كلها وانتحل ما يتصل بها أيضًا: نحل قصة ابن السموأل الذي قتل بمنظر من أبيه حين أبى تسليم أسلحة امرئ القيس.»
يصف القدماء الشعر بالانتحال مستندين إلى نقل موثوق به أو نظر يصحبه ذوق سليم، وحكمهم على قصيدة أو قصائد من شعر امرئ القيس لا يجعلونه وسيلة إلى إنكار كل ما يضاف إليه، أو يذهبون به إلى أن هذا الشعر الذي يعزى إلى الجاهليين ليس من الجاهليين في شيء.
•••
قال المؤلف في ص١٣٩: «نحل قصة الأعشى الذي استجار بشريح بن السموأل وقال فيه هذا الشعر المشهور:
ثم سرد القصيدة في ثلاثة عشر بيتًا.
المعروف في طريق نقد الشعر أن يستند الناقد إلى رواية أو تاريخ ينفيه عمن نسب إليه، أو يستبين بالنظر الصحيح أن هذا الشعر من حيث معانيه أو صناعته بحال الشاعر أو العصر الذي أنشد فيه. بين يدي المؤلف قصيدة وشاعر وممدوح، فقال إن هذه القصيدة منحولة، ولم يأتنا برواية تنسبها إلى غير الأعشى أو بتاريخ يدل على أن الأعشى وشريحًا لم يلتقيا في عصر، أو يذكر وجهًا يعرف به قراء كتابه كيف لا يصح أن تكون هذه القصيدة من نظم الأعشى، وقصارى ما فعل بهذه القصيدة أن قاسها على قصيدة امرئ القيس التي نقدها صاحب الأغاني وساق الوجوه التي جعلته يرتاب في نسبتها إلى امرئ القيس.
يذهب المؤلف في نقد الشعر هذا المذهب الذي ترونه بأعينكم، ثم يقول في غير أناة: إن مناهج القدماء في نقد تاريخ الأدب أضعف من مناهجنا!
•••
قال المؤلف في ص١٤٠: «ثم كانت هذه القصة سببًا في انتحال قصة أخرى هي قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية وما يتصل بها من الأشعار.»
من الجائز أن يكون من الأخبار المتصلة بقصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية ما ليس بثابت ولا سيما ما يحكيه الرواة أنفسهم بنحو قولهم: «ويقال.» أو «زعموا.» أو «وذكروا.» أما أصل القصة فقد تواردت عليه الروايات، وما تتوارد عليه الروايات لا ينساب إلى الحكم عليه بالانتحال وهو أعزل من البينة إلا من يخف على لسانه أن يقول ما لا يمليه عليه العقل.
•••
يقول الرواة: إن امرأ القيس يمنيٌّ نشأ في نجد، والمؤلف يخرج على أدب البحث فيؤمن لهم بأنه يمني، ويتعاصى عن قبول أن يكون نشأ في نجد، يقسم كلامهم شطرين، فيؤمن بشطر ويكفر بشطر، حتى يجد الوسيلة إلى مجادلتهم أو مغالطتهم بأن لغة اليمن غير لغة عدنان، وأن هذا الشعر الذي يعزى إلى امرئ القيس مصوغ في لسان عدناني مبين.
ومن البديهي أن الذي يتصدى لمجادلة من يقولون: امرؤ القيس يمني نشأ في نجد، وليس له علم بهذا الشاعر من غير طريقهم، إما أن يصدقهم في يمنيته ونشأته في نجد، وإما أن يكذبهم في الأمرين كليهما، فهذا الدوران الذي يشكوه المؤلف إنما وقع فيه من جهة أنه قَبِلَ من الرواة أن يكون امرؤ القيس يمنيًّا، وأبى لهم أن تكون نشأته في نجد!
•••
تعرض المؤلف لما يقوله بعض الرواة من أن امرأ القيس ابن أخت مهلهل وكليب، وذكر حرب البسوس، ثم قال في ص١٤٣: «فمن العجيب ألا يشير امرؤ القيس بحرف واحد إلى مقتل خاله كليب ولا إلى بلاء خاله مهلهل، ولا إلى هذه المحن التي أصابت أخواله من بني تغلب، ولا إلى هذه المآثر التي كانت لأخواله على بني بكر.»
وإذا فرضنا أن هذا الشعر الذي بين أيدينا هو كل ما جادت به قريحة امرئ القيس، وجارينا المؤلف في رأيه أن الشاعر لا بد أن يأخذ في شعره حروبًا لم يشهدها ويذكر فيه مقتل خاله أن قتل وبلاءه أن أبلى، لما ترتب على هذا أثر أكثر من أن تكون رواية أن امرأ القيس ابن أخت مهلهل وكليب رواية باطلة، وطرحُ هذه الرواية التي تجيء في بعض كتب الأدب أقرب إلى المعقول من طرح هذا الشعر الذي يقول الرواة الثقاة: إنه لامرئ القيس.
•••
قال المؤلف في ص١٤٤: «وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف لامرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء، وإنما هو محمول عليه حملًا ومختلق عليه اختلاقًا.»
وأقبل المؤلف على المعلَّقة وذكر أنه لا يعرف قصيدة يظهر فيها التكلف أكثر مما يظهر في هذه القصيدة، وأنه لا يحفل بقصة تعليق هذه القصائد السبع أو العشر؛ لأنها نشأت في عصر متأخر جدًّا، ولا يثبتها شيء في حياة العرب وعنايتهم بالآداب. ثم قال في ص١٤٤: «ولكننا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون في بعض هذه القصيدة فهم يشكون في صحة هذين البيتين:
وهم يشكون في هذه الأبيات:
وسرد المؤلف الثلاثة الأبيات بعدها.
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وبعد أن تكلم أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر عن هذه القصائد قال: «ولولا شهرة هذه القصائد وكثرتها على أفواه الرواة وأسماع الناس وأنها أول ما يتعلم في الكتاب لذكرناها.» والمروي عن الفضل الضبي أن العرب كانوا يسمون القصائد السبع السموط، ذكر صاحب جمهرة أشعار العرب امرأ القيس وزهيرًا والنابغة والأعشى ولبيدًا وعمرو بن كلثوم وطرفة ثم روى عن المفضل الضبي أنه قال: «هؤلاء أصحاب السموط فمن قال: إن السبع لغيرهم فقد خالف ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة.»
ذكر المؤلف أن القدماء يشكون في صحة بعض أبيات من معلقة امرئ القيس، أما البيتان الأولان وهما: «ترى بعر الأرآم إلخ» فهما من رواية أبي عبيدة ولم يروهما الأصمعي وقال: الأعراب ترويهما. ونقل عنه أبو جعفر أنهما من المنحول. وفي كتاب التصحيف والتحريف للعسكري أن أبا الوثيق يضيف البيت الثاني من هذين البيتين وهو: «كأني غداة البين إلخ» لابن خذام.
وأما أبيات: «وقربة أقوام إلخ» فقد رواها بعض الرواة. وقال الأصمعي وأبو عبيدة ويعقوب بن السكيت وغيرهم: إنها ليست منها، قال التبريزي: وزعموا أنها لتأبط شرًّا.
ونقد الرواة للقصيدة وتمييز هذه الأبيات الستة بالانتحال، يدل على أن أصلها ثابت النسبة لامرئ القيس أكثر مما يدل على انتحال القصيدة بأسرها.
•••
قال المؤلف في صفحة ١٤٥: «وهم بعد هذا يختلفون اختلافًا كثيرًا في رواية القصيدة: في ألفاظها وفي ترتيبها، ويضعون لفظًا مكان لفظ وبيتًا مكان بيت. وليس هذا الاختلاف مقصورًا على هذه القصيدة، وإنما يتناول الشعر الجاهلي كله، وهو اختلاف شنيع يكفي وحده لحملنا على الشك في قيمة هذا الشعر.»
- أحدهما: أن الراوي قد يعمد إلى البيت نطق به الشاعر على لغته، فيغير منه الكلمة إلى ما يوافق لغته.
- ثانيهما: أن الراوي قد تسقط منه الكلمة على وجه النسيان فيجتهد لأن يضع مكانها كلمة تؤدي معناها أو تقاربها، وما كانوا يرون في هذا من بأس ما دام الغرض الذي يرمي إليه الشاعر قائمًا.
ومن المحتمل أن يكون الشاعر نفسه قد أنشد البيت على وجهين أو وجوه في أوقات مختلفة، فقد يبدو له أن كلمة أليق من كلمة، أو تسقط من حافظته الكلمة التي أنشأ عليها القصيدة أولًا.
وأما اختلاف الرواة في ترتيب الأبيات في بعض القصائد فلا يظهر للاستشهاد به على انتحالها وجه سائغ، وقد رد هذه الشبهة المستشرق تشارلس لايل في مقدمة المفضليات فقال: «إن في كثير من هذه الأشعار كلمات أو أشطار أبيات منقولة عن محلها. وهذا شيء طبيعي في أشعار لم تدون قط، بل كانت مروية حفظًا ينقلها المتأخر عن المتقدم، وليس في هذا التغيير معنى للتزوير، ونجد في آخر بعض القصائد أبياتًا (يعني أن الراوي لم يعرف محلها فوضعها في الآخر) وهذا أيضًا لا يدل على الاختلاق بحال.»
فالمؤلف يلقط الشبهة ويدع جوابها؛ لأنه لا يولي وجهه شطر الحقيقة حيثما كانت.
•••
قال المؤلف في ص١٤٦: «ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون في أن هذين البيتين قلقان في القصيدة وهما:
فقد وضع هذان البيتان للدخول على البيت الذي يليهما وهو:
وهذان البيتان أشبه بتكلف المشطر والمخمس منهما بأي شيء آخر.»
ليس ببعيد من أنصار القديم أن يخالفوا في أن هذين البيتين قلقان، ويروا أنهما بالنظم المألوف أشبه منهما بتكلف المشطر والمخمس. وقد يستدلون على براءتهما من هذا القلق والتكلف بأنهما مرا على فصحاء العرب ونقاد الأدب ولم يحسوا منهما بشيء من هذا الذي يرميهما به المؤلف، وربما ساقوا من كتب الأدب ما يشهد بأن هذه الأبيات كانت تقع منهم موقع الإعجاب ويضربون لها أرجلهم طربًا.
إلى قوله في البيت الخامس لها: «بأمراس كتان إلى صم جندل.» فضرب الوليد برجله طربًا. وأورد الباقلاني في كتاب الإعجاز هذه الأبيات الثلاثة وقال: إنهم يعدونها من محاسن القصيدة، وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة:
وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء فقدم أبيات امرئ القيس واستحسن استعارتها. والباقلاني — على وقوفه لهذه الأبيات موقف الناقد بكل ما لديه من نظر وذوق — لم يغمزها إلا من جهة استعارتها فوصفها بالتكلف، وليس التكلف في هذه الأبيات سوى المبالغة في الخيال وهي لا تنفي أن يكون صاحب الشعر جاهليًّا، فإن للمبالغة في الخيال مثلًا واردة في الأشعار المعزوة إلى الجاهليين.
وليس في هذه الأبيات بعد هذا سوى ما يسمونه «التضمين»، وهو عدم استقلال البيت بإفادة المعنى، وله أمثلة في الشعر الجاهلي، ومن علماء الأدب من يفصل فيه القول ولا يعد النحو الواقع في مثل: «أقول له لما تمطى.» من عيوب الشعر.
ولا نعني بهذا البحث أن يكف المحدثون عن نقد الشعر الذي وقع تحت أنظار القدماء من خالص العرب أو نبغاء الأدب ووصل إلينا سالمًا من أثر نقدهم فإن من الجائز ألا يتناولوا البيت بالنقد حتى يلوح لهم ما فيه من مغمز خفي، ومن الجائز أن يلوح لهم ويستهينوا به فلا يلقنوه غيرهم، ومن المحتمل أن يتحدثوا به ولا تحمله إلينا هذه الكتب الباقية مما تركوا، وإنما أقصد أن الوجه الذي تعرض به المؤلف لهذه الأبيات لا ينهض بدعوى أنها ملصقة بأصل القصيدة حتى يرجو من أنصار القديم ألا يخالفوه.
- أحدهما: وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش، وقال فيه: هذا أشبه أن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهليًّا.
- ثانيها: وصف امرئ القيس لخليلته وزيارته إياها وتجشمه ما تجشم للوصول إليها وتخوفها الفضيحة حين رأته وخروجها معه وتعفيتهما آثارهما بذيل مرطها وما كان بينهما من لهو، وقال: هذا أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بشيء آخر، وزعم أن الذي أضافه إلى امرئ القيس راوٍ متأثر بهذا الشاعر.
- ثالثها: ما هو من قبيل الوصف ولا سيما وصف الفرس والصيد وقال في هذا: وأكبر الظن أن هذا الوصف فيه شيء من ريح امرئ القيس، ولكن من ريحه ليس غير.
لا أحسب القراء في حاجة إلى أن يسمعوا منا كلمة في مناقشة هذا الحديث فإن عوجه ملموس باليمين واليسار، ومن شاء أن نفتح له باب النقد فإليه كلمة تريه ما في ذلك التقسيم من خطأ مبين:
يقول المؤلف في ص١٤٦: «ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبه بأن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهليًّا.»
ثم ذكر قصة الفرزدق حين انتهى إلى غدير فيه نساء يستحممن وقص عليهن قصة امرئ القيس وأنشدهن:
ثم قال: «والذين يقرأون شعر الفرزدق ويلاحظون فحشه وغلظته وأنه قديم على هذا الفحش وعلى هذه الغلظة لا يجدون مشقة في أن يضيفوا إليه هذه الأبيات.»
يزعم المؤلف أن هذا القسم الأول من انتحال الفرزدق، ثم لا يستند في هذا إلا إلى أن فيه فحشًا وغلظة يشبهان فحش الفرزدق وغلظته. وتشابه الشعرين في الفحش والغلظة يحتمل هذا الذي يقوله المؤلف من أن الشعر المعزو إلى الأول نحله إياه الشاعر الثاني، ويحتمل وجهًا آخر وهو أن يكون الشاعر الثاني جرى على سنة الشعراء من متابعة المتأخر للمتقدم في بعض المعاني أو الأساليب، وحمل التشابه بين شعر الفرزدق وامرئ القيس على هذا الوجه أقرب إلى القبول؛ لأنه الملائم للرواية، ولأن المؤلف لم يقم دليلًا تاريخيًّا على أن سيرة امرئ القيس تبرأ من هذا الفحش ومن هذه الغلظة، ولن يستطيع لهذا الدليل طلبًا.
ومما يجعلنا نستبعد أن ينحل الفرزدق امرأ القيس شيئًا من شعره أن الفرزدق لم يكن من قبيلة كندة، ولا أن امرأ القيس من تميم. ثم إنا نجد في تاريخ الأدب قصصًا تنطق بأن الفرزدق كان حريصًا حرص المؤلف على أن ينهب ما تلده أفكار غيره من الرجال ويجره إليه.
روى المرزباني في كتاب الموشح أن أبا عمرو بن العلاء لقي الفرزدق في المربد فقال له يا أبا فراس أحدثت شيئًا؟ فقال: خذ، وأنشده:
•••
تحدث المؤلف عن القسم الثاني من قصيدة امرئ القيس وقال في ص١٤٧: «فهذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فن عمر بن أبي ربيعة قد احتكره احتكارًا ولم ينازعه فيه أحد، ولقد يكون غريبًا حقًّا أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفن ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويعرف عنه هذا النحو، ثم يأتي ابن أبي ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة قد تأثر بامرئ القيس مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء من الوصف، فكيف يمكن أن يكون امرؤ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل الذي عاش عليه ابن أبي ربيعة، والذي كون شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية ولا يعرف له ذلك؟»
يقع تشابه بين شعرين فيدعي المؤلف أن الشعر المعزو إلى المتقدم منحول: نحله بعض من تأثر بالشاعر المتأخر. وإذا قلت: لماذا لا يكون الشاعر المتأخر اقتدى في ذلك الأسلوب أو الفن بالشاعر المتقدم؟ قال لك: لو كان السابق إلى هذا الفن امرؤ القيس لأشار أحد النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة تأثر بامرئ القيس وحيث لم يبلغه أن ناقدًا أشار إلى هذا التأثر كان القسم الثاني من: «قفا نبك» منحولًا: نحله بعض المتأثرين بشعر عمر بن أبي ربيعة.
الرواة يتلقون هذا القسم من القصيدة على أنه شعر امرئ القيس، فإذا كان بينه وبين شعر عمر بن أبي ربيعة تشابه واضح فمن مقتضيات هذا أن يعتقدوا أن امرأ القيس سابق إلى هذا الفن، وإذا أدركوا أن امرأ القيس سابق إلى هذا الفن فعدم إشارتهم إلى تأثيره في عمر بن أبي ربيعة إنما يكون لذهول ونحوه ولا يدل على أنه انتحل في عهد ابن أبي ربيعة أو من بعده.
•••
تحدث المؤلف عن القسم الثالث من: «قفا نبك» وزعم أن اللغة تضطره إلى أن يقف فيه موقف التردد وقال في ص١٤٨: «فالظاهر أن امرأ القيس كان قد نبغ في وصف الخيل والصيد والسيل والمطر. والظاهر أنه قد استحدث في ذلك أشياء كثيرة لم تكن مألوفة من قبل. ولكن أقال هذه الأشياء في هذا الشعر الذي بين أيدينا؟ أم قالها في شعر آخر ضاع وذهب به الزمان ولم يبق منه إلا الذكرى وإلا جمل مقتضبة أخذها الرواة فنظموها في شعر محدث نسقوه ولفقوه وأضافوه إلى شاعرنا القديم؟ هذا مذهبنا الذي نرجحه.» ثم قال: «وأكبر الظن أن هذا الوصف الذي نجده في المعلقة وفي اللامية الأخرى فيه شيء من ريح امرئ القيس، ولكن من ريحه ليس غير.»
امرؤ القيس كان شاعرًا يجيد وصف الخيل والصيد والسيل والمطر، واستحدث في ذلك أشياء كثيرة، ولكنه قالها في شعر ضاع وذهب به الزمان وإنما بقيت منه الذكرى وجمل مقتضبة نظمها الرواة في شعر محدث وأضافوها إليه!
قال الرواة: إن امرأ القيس يمني نشأ في نجد، فقال المؤلف لهم: هو يمني لم ينشأ في نجد، قالوا: امرؤ القيس أجاد في وصف الخيل ونحوها، فقال لهم: أجاد في وصف هذه الأشياء ولكن في شعر غير هذا الذي تضيفونه إليه، ولا ندري لماذا اعترف بأن امرأ القيس يجيد وصف الخيل والصيد في حال أن الرواة لا يستندون في هذا إلا إلى الشعر الذي قال عنه: إنه منحول! وإذا أنكر هذا الشعر الذي تناقله الرواة لم يكن مضطرًا إلى هذا الاعتراف الذي لا يزيد حديثه إلا خيالًا والذي أوقفه موقفًا جعله يقول: إن هذا الشعر فيه شيء من ريح امرئ القيس ليس غير!
•••
قرأ المؤلف — كما حكى في ص١٣٨ — أن شاعرًا يونانيًّا يقال له هوميروس قد تنقل في البلاد وأثقل الناس تاريخه بأشياء مزورة، فأراد أن يقيسه بشاعر عربي ويقول في هذا الشاعر العربي ما قاله مؤرخو الآداب اليونانية في هوميروس فوقع اختياره على امرئ القيس.
والمؤلف يريد أن يحاكي كلامهم في هوميروس، فقال: إنه يرجح بل يكاد يوقن بأن امرأ القيس قد وجد حقًّا، وبقي عليه ما قالوه من أن هوميروس أثر في الشعر القصصي حقًّا، فأراد أن يجعل لامرئ القيس تأثيرًا في فن من فنون الكلام حتى يكون الشاعر العربي محاذيًا للشاعر اليوناني حذو النعل للنعل، ورأى نفسه قد ذهب إلى أن لغة امرئ القيس من هذه اللغة الأدبية بمنزلة لغة أجنبية فاكتفى بأن جعل لشخصية امرئ القيس تأثيرًا في وصف الخيل ونحوها، ولكن تأثيرها بالروح التي بقيت في جمل مقتضبة أخذها الرواة فنسقوها وأضافوها إليه! ولم يحدثنا المؤلف عن هذه الجمل المقتضبة: هل وصلت إلى الرواة في لغتها اليمنية التي يعدها المؤلف بمنزلة لغة أجنبية أم جاءتهم في هذه اللغة الأدبية التي يسميها لغة قريش؟!
•••
عرج المؤلف على القصيدة التي يُروى أن امرأ القيس قالها في مباراة بينه وبين علقمة، وهي: «خليلي مرَّا بي على أم جندب.» وقال في ص١٤٩: «نجزم نحن بأنها منتحلة انتحالًا.»
•••
انتقل المؤلف إلى الحديث عن علقمة فقال في ص١٥٠: «فأما علقمة فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئًا إلا مفاخرته لامرئ القيس ومدحه ملكًا من ملوك غسان ببائيته التي مطلعها:
وإلا أنه كان يتردد على قريش ويناشدها شعره، وإلا أنه مات بعد ظهور الإسلام أي في عصر متأخر جدًّا بالقياس إلى امرئ القيس الذي مهما يتأخر فقد مات قبل مولد النبي، والذي نرى نحن أنه عاش قبل القرن السادس، وربما عاش قبل القرن الخامس أيضًا.»
يقول الرواة: إن امرأ القيس كان معاصرًا لعلقمة، وإنه كان في منتصف المائة السادسة عائشًا، والمؤلف ينكر هذه المعاصرة ويرى أنه عاش قبل القرن السادس أو قبل القرن الخامس أيضًا.
شأن الباحث المستقيم ألا ينكر ما يقوله الرواة حتى يقدم بين يدي إنكاره بينة، والمؤلف لا يرغب في أن يأتي ببينة، كأنه لا يحتفل بتاريخ هذا الأدب إلى حد أن ينكر ما تتوارد عليه الروايات، دون أن يثير حول هذا الإنكار ولو شبهة يمكنه أن يسميها مستندًا.
•••
انتقل المؤلف إلى حديث عبيد بن الأبرص وأخذ يذكر ما ألصق به من أساطير كاسم شيطانه وما له من أحاديث مع الجن، وقال في ص١٥١: «ولكن كل ما نقرأ من أخبار عبيد لا يعطينا من شخصيته شيئًا ولا يبعث الاطمئنان إلا في أنفس العامة أو أشباه العامة.»
فأهل العلم الذين يضيفون إلى نباهتهم العلم بأحوال من يروي عنهم صاحب الأغاني هم أبعد الناس عن قبول هذا الذي يتحدث به عن عبيد.
•••
انصرف المؤلف للحديث عن شعر عبيد وأتى على قول ابن سلام في الطبقات إنه لم يبق من شعر عبيد وطرفة إلا قصائد بقدر عشر ثم قال في ص١٥١: «ولكنه يحدثنا في موضع آخر أنه لا يعرف له إلا قوله:
ثم يقول ابن سلام: ولا أدري ما بعد ذلك، ولكن رواة آخرين يروون هذه القصيدة كاملة.»
يقول ابن سلام لا أعرف لعبيد إلا قوله:
ومن المحتمل أن يكون معنى كلامه أنه لا يعرف له إلا هذه القصيدة وأشار إليها بذكر طالعها، ثم هو لا يدري ما وراءها من الشعر المعزوِّ إليه، ومن المستبعد أن يقول ابن سلام: إن الرواة المصححين لم يحفظوا لعبيد وطرفة إلا قصائد بقدر عشر، ثم يقول: إنه لا يعرف لعبيد إلا هذا البيت الذي هو مطلع قصيدته.
•••
قال المؤلف في ص١٥٢: «ويكفي أن نقرأ هذه القصيدة التي قدمنا مطلعها لنجزم بأنها منتحلة لا أصل لها. وحسبك أن يثبت فيها وحدانية الله وعلمه على نحو ما يثبتها القرآن فيقول:
وقال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر في اختيار المنظوم والمنثور يصف هذه القصيدة: «لم يقل أحد في وزنها وعروضها ولا على مثالها إلا ذو الإصبع العدواني وما قاربها ولا دنا منها.»
ولعل المؤلف لا ينكر القصيدة من ناحية اختلال وزنها، فإنه سيدهشك في الحديث عن مهلهل ويعد في أسباب إنكاره لقصيدة: «أليلتنا بذي حسم» استقامة وزنها واطراد قافيتها.
وأما بيت:
فقد التقط مرغليوث أبياتًا من هذا النوع وفي هذا المعنى وساقها في مقاله المنشور في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية مستشهدًا بها على أن هذا الشعر لم يصدر عن العرب قبل الإسلام.
وقد سبق القدماء إلى نقد الشعر الجاهلي من هذا الوجه، فإذا رأوا بيتًا فيه شيء من روح القرآن أو احتوى معنى يختص بالإسلام ارتابوا فيه وذهبوا به مذهب المنحول. أورد ابن قتيبة قصيدة للبيد ذكر أنه قالها قبل الإسلام، وفي آخر القصيدة:
يعزى إلى عبيد بن الأبرص، وربما وجد في بعض النسخ من ديوانه، وقد ذهب المعري في رسالة الغفران إلى أنه منحول فقال: «والذي أذهب إليه أن هذا البيت قيل في الإسلام بعد أن حرمت الخمر.»
فالقدماء يعنون بنقد الشعر الجاهلي من هذه الناحية، وحيث جاز أن تكون القصيدة في أصلها ثابتة، وأن التزوير إنما يقع في بيت منها أو أبيات يأخذون إلى المنحول ما دخلته الريبة ويذرون ما عداه معزوًّا إلى صاحبه حتى يطلعوا له على وجه من هذه الوجوه الدالة على التزوير.
فبيت: «والله ليس له شريك» إنما يحمل الاعتقاد بالإله وما يجب له من صفة العلم، ومن يسلم أن عبيد بن الأبرص لم يكن من أصحاب هذه العقيدة فأقصى ما يبنى على هذا المعنى أن يكون البيت منحولًا ولا يسري حكمه إلى القصيدة بأسرها، ولعل هذا البيت لم يتفق عليه رواة القصيدة فقد رويت في جمهرة أشعار العرب لأبي زيد ولم يجئ هذا البيت في روايتها.
•••
قال المؤلف في ص١٥٣: «وقد رأيت من هذه الإلمامة القصيرة بهؤلاء الشعراء الثلاثة (امرئ القيس وعبيد وعلقمة) أن الصحيح من شعرهم لا يكاد يُذكر، وأن الكثرة المطلقة من هذا الشعر مصنوعة لا تثبت شيئًا ولا تنفي شيئًا بالقياس إلى العصر الجاهلي.»
لم يأت المؤلف في حديثه عن هؤلاء الشعراء الثلاثة بنتيجة زائدة على ما وصل إليه علماء الأدب من قبله، وهو أن فيما يضاف إليهم من الشعر منحولًا كثيرًا، وسواء ألم بهؤلاء الشعراء إلمامة قصيرة أم ألم بهم إلمامة طويلة لا ينتظر منه أن يأتي إلى شعر اتفق الرواة على صحته ويلقي إليك من فكره كلامًا يقنعك بأنه منحول، نقول هذا بعد أن رأيناه — فيما سلف — لا يكتب إلا وهو ينظر إلى كتاب أو مقال أو ذيل، وإذا خرج عنها فإلى حرفة الكيد للحقيقة أو التاريخ.
- الأولى: طحا بك قلب للحسان طروب.
- الثانية: هل ما علمت وما استودعت مكتوم?
فقد يمكن أن يكون لهاتين القصيدتين نصيب من الصحة مع شيء من التحفظ في بعض أبيات القصيدة الثانية، ولكن صحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا في الشعر الجاهلي، فقد رأيت أن علقمة متأخر العصر جدًا، وأنه مات بعد ظهور الإسلام، ورأيت أيضًا أنه كان يأتي قريشًا ويعرض عليها شعره.»