عمرو بن قميئة – مهلهل – جليلة
تحدث المؤلف في هذا الفصل عن هذين الشاعرين وهذه الشاعرة، فابتدأ بحديث عمرو بن قميئة وتعرض للوجه الذي يذكرونه في تسميته بالضائع ثم قال في ص١٥٥: «قال الرواة: إن ابن قميئة عمر طويلًا وعرف امرأ القيس وقد انتهت به السن إلى الهرم، ولكن امرأ القيس أحبه واستصحبه في رحلته رغم سنه. قال ابن سلام: إن بني أقيش كانوا يدعون بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة، وليس هذا بشيء. وفي الحق أن هذا ليس بشيء، فإن هذا الشعر لا يمكن أن يكون لعمرو بن قميئة كما لا يمكن أن يكون لامرئ القيس فهو شعر محدث محمول.»
يختلف الرواة الذين كانوا يلاقون أقوامًا من كندة وأقوامًا من قيس في أن هذا الشعر هل هو لكندي يقال له امرؤ القيس، أم لقيسي يقال له: عمرو بن قميئة، ويرجح الثقاة من هؤلاء الرواة أنه لامرئ القيس، ونحن نعلم من سيرتهم في نقد الشعر أنهم لا يرجحون نسبته إلى شاعر على نسبته إلى آخر إلا لوجوه تعتمد في الترجيح. ولكن المؤلف يقول: إن هذا الشعر لا يمكن أن يكون لعمرو بن قميئة، كما لا يمكن أن يكون لامرئ القيس، وإذا كان تاريخ الأدب يُغيَّر بمثل هذه الكلمة الساذجة فمن الجائز أن يأتي آخر ويقول: وفي الحق أن ما قاله المؤلف ليس بشيء، فلا يلبث الأدب أن يعود إلى تاريخه القديم.
•••
أتى المؤلف بقصة عمرو بن قميئة وقصيدته التي يعتذر بها لعمه ثم قال في ص١٥٧: «ونظن أن النظر في هذه القصة وفي هذه القصيدة يكفي ليقتنع القارئ بأننا أمام شيء منتحل متكلف لا حظ له من صدق.»
أما القصيدة فقد حكم المؤلف بانتحالها مستندًا إلى أن فيها سهولة ولينًا، وإذا لم يكن يعرف من عمرو بن قميئة إلا اسمه فما أدراه أنه لا ينظم في سهولة ولين؟
•••
تعرض المؤلف إلى الشعر الذي يقال إن عمرو بن قميئة أنشأه لما تقدمت به السن وجاوز التسعين وقال في ص١٥٧: «ويزعم الشعبي، أو من روى عن الشعبي أن عبد الملك بن مروان تمثل به في علته التي مات فيها.» ثم ساق المؤلف الشعر في سبعة أبيات.
•••
عاد المؤلف يلهج بقصة حرب البسوس ولم ينس أن ينبهك على أنه غير ساذج حتى يسلم بما يتحدث به الرواة من أمرها الطويل العريض، ولكنه اعترف بأن خصومة عنيفة كانت بين القبيلتين، وأن هذه الخصومة سفكت فيها الدماء وكثرت فيها القتلى ثم قال في ص١٥٩: «على أن بعض الرواة كانوا يظهرون كثيرًا من الشك فيما كانت تتحدث به بكر وتغلب من أمر هذه الحروب.»
إذا كان المؤلف يعلم أن من الرواة من كان يظهر كثيرًا من الشك في حديث هذه الحروب أفلا يكفكف من غلوائه حين ينسب إلى الرواة بإطلاق أنهم كانوا يقبلون ما يروى من أيام العرب أو أيام الناس على أنه جد من الأمر! أولا يخفف من نزقه حين يسمي القول بأن في حرب البسوس توسيعًا، نظرية له!
•••
ذكر المؤلف قول ابن سلام: إن العرب كانت ترى أن مهلهلًا كان يتكثر ويدعي في شعره، وزعم أن مهلهلًا لم يتكثر أو لم يدع وإنما تكثرت تغلب في الإسلام وادعت، وقال في ص١٦٠: «ولم تكتف بهذا الانتحال بل زعمت أنه أول من قصد القصيد وأطال الشعر. ثم أحست ما نحس الآن أو أحسه الرواة أنفسهم وهو أن في هذا الشعر اضطرابًا واختلاطًا فزعمت أو زعم الرواة أنه لهذا الاضطراب والاختلاط سمي مهلهلًا؛ لأنه هلهل الشعر. والهلهلة الاضطراب. ويستشهد ابن سلام على هذا بقول النابغة:
وليس من شك في أن شعر مهلهل مضطرب فيه هلهلة واختلاط.»
شاعر نشأ في عصر جاهلي، ليس في البيئة التي عاش فيها عناية بالكتابة، وإنما ينقل حديثه وأشعاره الناس الذين شهدوا عصره ويتلقاها من بعدهم فمن بعدهم إلى عصر التدوين، وكل أهل العلم أو أشباه أهل العلم لا يفوتهم أن أخبارًا هذا شأنها لا تخلو من إضافات أو إعطائها لونًا غير لونها الموافق للحقيقة، ومن الذي لا يشعر بأنه يطمئن إلى أن قصيدة: «السيف أصدق أنباء من الكتب» لأبي تمام أكثر ما يطمئن إلى أن قصيدة «خليلي لا تستعجلا أن تزودا» لعمرو بن قميئة.
وهذا ما دعا الثقات النبهاء من الرواة أن نقدوا تلك الأشعار من جهة نسبتها إلى قائليها، وما لم يبد على طريقه أثر الاختلاق ولم يلقوا في نفس الشعر ما ينبو به عن أن يكون لمن نسب إليه، رووه على هذا الوجه، وتلقاه الناس عارفين بمبلغ هذه النسبة من قوة أو ضعف.
وبلوغهم في نقد شعر مهلهل هذا المبلغ يجعلنا على ظن من أن هذا المقدار الذي يرويه الثقات لمهلهل بعيد عن أن يكون من المحمول عليه.
•••
قال المؤلف في ص١٦١: «ويحسن أن نظهرك على شيء من شعر مهلهل لترى كما نرى أنه لا يمكن أن يكون أقدم شعر قالته العرب.» وساق قصيدة:
ثم قال: «أليس يقع من نفسك موقع الدهش أن يستقيم وزن هذا الشعر وتطرد قافيته وأن يلائم قواعد النحو وأساليب النظم لا يشذ في شيء ولا يظهر عليه شيء من أعراض القدم أو مما يدل على أن صاحبه هو أول من قصد القصيد وطول الشعر؟ أليس يقع في نفسك هذا كله موقع الدهش حين تلاحظ معه سهولة اللفظ ولينه وإسفاف الشاعر فيه إلى حيث لا تشك أنه رجل من الذين لا يقدرون إلا على مبتذل اللفظ وسوقيه.»
لا يعرف لإنشاء الكلام الموزون بداية ولم يتفقوا في شاعر على أنه أقدم من نظم القصيد، وقد اختلفوا في أول من أطال الشعر فادعت كل قبيلة لشاعرها أنه الأول: «ادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة، والمرقش الأكبر، وإياد لأبي داود، وزعم بعضهم أن الأفوه الأودي أقدم من هؤلاء وأنه أول من قصد القصيد.» هكذا يقول عمر بن شبة في طبقات الشعراء، ثم قال: «وهؤلاء النفر المدعى لهم التقدم في الشعر يتقاربون. لعل أقدمهم لا يسبق الهجرة بمائة سنة أو نحوها.» وإذا كانوا معترفين بأن أصل نظم الشعر سابق على هؤلاء بقرون، وكان الذي ادعي لمهلهل إنما هو إطالة الشعر، لم يكن من الموقع في دهشة أن يستقيم وزن ما يقوله مهلهل وتطرد قافيته وأن يلائم قواعد النحو وأساليب النظم، بل الذي يقع في نفوسنا موقع الدهش أن يطعن في نسبة شعر إلى عربي قح بأنه مستقيم الوزن مطرد القافية ملائم لقواعد النحو! ولم يصف المؤلف أعراض الشعر لعهد إطالته حتى ننظر إلى هذه القصيدة المعزوة إلى مهلهل كيف لم تقم بها هذه الأعراض.
يذهب المؤلف إلى زعم اصطناع القصيدة من ناحية سهولتها ولينها، وهو مدفوع بأنه لا يعرف مهلهلًا ولم يثبت له شيئًا من الشعر صعبًا خشنًا حتى يتبين أن هذا الشعر السهل اللين لم يكن من منظومه.
وأما ما رماها به من الإسفاف فكلمة هو قائلها، والقصيدة لائقة بمقام شاعر بليغ، وهذا الأصمعي يقول: لو قال مهلهل مثل قوله: «أليلتنا بذي حسم أنيري» خمس قصائد لكان أفحلهم.
•••
قال المؤلف في ص١٦٢: «ولكنا لا نريد أن نترك مهلهلًا دون أن نضيف إليه امرأة أخيه جليلة التي رثت كليبًا — فيما يقول الرواة — بشعر لا ندري أيستطيع شاعر أو شاعرة في هذا العصر الحديث أن يأتي بأشد منه سهولة ولينًا وابتذالًا مع أننا نقرأ للخنساء وليلى الأخيلية شعرًا فيه من قوة المتن وشدة الأسر ما يعطينا صورة صادقة للمرأة العربية البدوية.» وساق بعد هذا قصيدة جليلة في أحد عشر بيتًا.
قصة جليلة والأبيات التي سردها المؤلف واردة في كتاب الأغاني مروية عن شرقي بن القطامي، وإذا كانت روايتها تدور على شرقي فأهل العلم ينظرون إليها بمنزلة الأسمار، ويأخذونها حرصًا على ما فيها من حلية أدبية. وسواء علينا أوجد لروايتها سند غير ابن القطامي أم لم يوجد، فالقصيدة ليست على ما يصف المؤلف من الابتذال فإنك تجد فيها نظمًا محكمًا ومعاني سامية، وأبياتها تختلف بحسب روايتها في المقدار وترتيب بعض الأبيات. وعلى أي حال كانت لا يصح لأستاذ الآداب أن يصف بالابتذال وضعف الأسر هذا الشعر:
ولا ندري كيف غاب عن المؤلف أن يشفق على هذه الثكلى ويترك لها من هذا الشعر ولو ريحه، فهلا قال كما قال في قسم من «قفا نبك»: فيه شيء من ريح جليلة ولكن من ريحها ليس غير!
ولا عجب أن يتصور المؤلف أو يصور تاريخ العرب على غير وجه الحق، ولا عجب ألا يبصر ما في حقائق الإسلام من وضاءة وحكمة، فإنه أصبح غريبًا عن العرب والإسلام، والغريب — كما يقولون — أعمى، وإنما العجب من أستاذ الآداب أن ينقد الشعر بما لا ينقده به ذوو الأذواق السليمة!