السياسة وانتحال الشعر
فلما أفضى الأمر إلى معاوية اقتضت سياسته ومصلحته أن يجدد تلك الضغائن فجعل يغري الشعراء على الطعن بالأنصار؛ لأنهم أصحاب علي بن أبي طالب خصمه.
وكان يفعل ذلك تحت طي الخفاء، ومن الذين أغراهم على ذلك الطعن الأخطل الشاعر التغلبي المشهور فعظم ذلك على الأنصار خصوصًا لأنه نصراني، واستعان به معاوية على المسلمين، فغضب متكلم الأنصار وشاعرهم وهو يومئذ النعمان بن بشير ودخل على معاوية وأنشده قصيدة في الدفاع عن الأنصار مطلعها:
إلخ.
ثم تخلص إلى الفخر بأعمال الأنصار وأنسابهم وختم القصيدة بالطعن على خلافة معاوية.»
وقال: «وتحولت المهاجاة بين الأنصار والمهاجرين إلى المشاتمة بين بني هاشم وبني أمية وانتشر ذلك في المملكة الإسلامية.»
سقنا هذه المقالة ليكون القراء على بينة من الأساس الذي عقد عليه المؤلف هذا الفصل.
•••
ذكر المؤلف أن العرب خضعوا لمثل ما خضعت له الأمم الأخرى من المؤثرات الداعية إلى انتحال الشعر والأخبار؛ وأن أهم هذه المؤثرات الدين والسياسة، ثم قال في ص٤٧: «فقد أرادت الظروف ألا يستطيع العرب منذ ظهر الإسلام أن يخلصوا من هذين المؤثرين في لحظة من لحظات حياتهم في القرنين الأول والثاني.»
لو قدر للمؤلف أن يكتب في علم الحساب أو الهندسة لما طاب له الانصراف عن الحديث حتى يرمي إلى ناحية الإسلام أو رجال الإسلام بكلمة يمن بها على أوليائه من غير المسلمين.
يقول المؤلف: أرادت الظروف ألا يستطيع العرب أن يخلصوا من مؤثر الدين، وهو يعلم أن معنى الخلوص من الشيء النجاة والسلامة منه، ولا عجب أن يخيل المؤلف الإسلام في صورة ما ينبغي للناس أن ينجوا بأنفسهم من تأثيره فإنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا ما يؤذي العقلية التي «أخذت منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية».
•••
قال المؤلف في ص٤٧: «هم مسلمون لم يظهروا على العالم إلا بالإسلام، فهم محتاجون إلى أن يعتزوا بهذا الإسلام ويرضوه ويجدوا في اتصالهم به ما يضمن لهم هذا الظهور وهذا السلطان الذي يحرصون عليه، وهم في الوقت نفسه أهل عصبية وأصحاب مطامع ومنافع ويلائمون بينها وبين منافعهم ومطامعهم ودينهم.»
لم يظهر العرب على العالم إلا بالإسلام، وهم محتاجون إلى أن يعتزوا به ويرضوه، وكانوا يجدون في اتصالهم به ليقينهم بأن هذا الاتصال يضمن لهم الظهور والسلطان والسعادة في الآخرة والأولى. وكثير من رجال هذه الأمة النجيبة أرضوا الإسلام وجدوا في اتصالهم به من قبل أن يظهروا على العالم ومن قبل أن يكون له سلطان، بل أرضوه وجدوا في اتصالهم به يوم كانوا يلقون من الذين أشركوا أذى كثيرًا، ويوم كانوا يقاسون مضض الغربة عن أوطانهم، ويوم كانوا يخافون أن يتخطفهم الناس.
فالتاريخ يشهد بأن في العرب رجالًا أنفقوا في سبيل الإسلام كل ما استطاعوا من قوة، وسيرتهم تنطق بأنهم أقاموا الدعوة إليه بعقيدة أنه هداية ومنبع سعادة، وسواء عليهم بعد ذلك الجهاد الحق أن يعيشوا به أعزاء أو يموتوا شهداء، فإذا أرضى أولئك الرجال الإسلام فإنما أرضوا الإنسانية، وإذا جدوا في الاتصال به فإنما يجدون في الاتصال بالفضيلة، ولكن المؤلف لا ينظر إلى الفضيلة وآداب الإنسانية الراقية بعين تقدرها.
فما كان للمؤلف أن يرمي العرب بهذه العبارة المطلقة الشائنة، وما كان له أن يخيل إلى قراء كتابه أن العرب لم يجدُّوا في اتصالهم بالإسلام إلا رغبة في الظهور وحرصًا على السلطان، فإن في الإسلام حجة وحكمة تأخذان ذوي الفطر السليمة والعقول السامية إلى أن يتصلوا به ويرضوه ولو نسلت عليهم الخطوب من كل حدب، أو سخط عليهم أمثال هؤلاء الذين أخذت عقليتهم «منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية».
•••
قال المؤلف في ص٤٨: «فخليق بالمؤرخ السياسي أو الأدبي أو الاجتماعي أن يجعل مسألة الدين والسياسة عند العرب أساسًا للبحث عن الفرع الذي يريد أن يبحث عنه من فروع التاريخ. وسترى عندما نتعمق بك قليلًا في هذا الموضوع أنا لسنا غلاة ولا مخطئين.»
لم يوضح المؤلف وجه التأثر بالسياسة حتى يعلم القارئ أن هذا المعنى يختص بالعرب أو هو شأن كل جماعة تساس بسلطان، وإذا كان دأب العرب خاصة فهل هو عارض لهم في بعض أطوارهم السياسية أم هو مظهر لم ينفكوا عنه منذ قامت لهم الدولة في الإسلام؟ ومن شأن المخلص في بحثه ألا يؤذي تاريخ أمة بحديث يبهمه، وكلام يلوي رأسه على ذنبه.
تتأثر الأمة بالسياسة على معنى أن يكثر فيها الطامحون إلى الرياسة كالملك والوزارة وقيادة الجيش ونحوها، وذلك ما يبعث على التنافس وبذل المستطاع في سبيل الوصول إليها، وتختلف الطرق التي يسلكها هؤلاء المتنافسون في كونها مشروعة أو غير مشروعة، والأخذ في نيلها بالطرق المشروعة خصلة مألوفة وسعي لا بأس به، وفي العرب من وضعت مقاليد السياسة في يده دون أن يبذل في سبيلها درهمًا أو ينتضي حسامًا، وذلك شأن الخلفاء الراشدين، فإن أردت أن تجعل لأبي بكر الصديق أو علي بن أبي طالب سيفًا مسلولًا، فإنما هو الدفاع عن نظام الأمة أو عن تلك الرياسة التي تدير شؤونها بحكمة وعدالة، والواقع أن هذا الضرب من التأثر بالسياسة لم يكن له في عهد الخلافة الرشيدة مظهر، وهو العهد الذي يمثل روح الإسلام وينطبق على مبادئه من كل ناحية.
تتأثر الأمة بالسياسة على معنى أن يبالغ القابضون على سياستها في التعرض لشؤون الأفراد واستعمالهم فيما يعود على ولايتهم بالبقاء، ولو بغير حق، ومن طبيعة السياسة المستبدة أن يتزلف لها الناس بالملق رهبة من بطشها، أو رغبة في أن ينالهم قسط من سرفها. وهذا المعنى لا يستطيع المؤلف أن يصف به العرب لعهد الخلفاء الراشدين، أو من ساروا على مبادئ الإسلام بإطلاق كعمر بن عبد العزيز. وقد وجد هذا الضرب من التأثر بالسياسة في كثير من الدول التي تجعل دينها الرسمي الإسلام عربًا كانوا أو غير عرب، كما يوجد في غير المسلمين حتى الأمم التي يملأ المؤلف قلبه بإجلالها، فإننا نرى سياستها تستعمل أقلامًا في تغيير تاريخ بعض الأمم وفك عرى وحدتها وقلب أخلاقها وجميع مميزاتها إلى ما يجعلها تحت تلك السياسة كالأنعام أو أضل سبيلًا.
أما تأثر العرب بالدين فلأن الإسلام عقيدة وآداب وشريعة وسياسة، وقد أخذ العرب في يقينهم صحة تلك العقائد ووضاءة تلك الآداب وعدالة تلك الشريعة وحكمة تلك السياسة، فلا بدع أن يكون للإسلام تأثير في آدابهم ومعاملاتهم وأخلاقهم وسياستهم ولا سيما بعد أن أبصروا بأعينهم يد النائم في المسجد تتناول تاج كسرى وتضرب به بين لابتي يثرب، وتطوي سلطان قيصر عن ممالك بعيدة ما بين المناكب. فاجعل مسألة الدين عند العرب يوم أدهشوا العالم، أساسًا للبحث عن الفرع الذي تريد أن تبحث عنه من فروع التاريخ، ولا تكن كمؤلف كتاب «في الشعر الجاهلي» من المغالين أو المخطئين.
•••
ذكر المؤلف أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه كانوا بمكة مستضعفين، وأن الجهاد بينهم وبين قريش وأوليائهم كان جدليًّا خالصًا، وأن النبي عليه السلام كاد يقوم بهذا الجهاد الجدلي وحده، وكان كلما بلغ حظًّا من إفحام قريش انتصر له فريق من قومه حتى تكوَّن له حزب ذو خطر، ولم يكن هذا الحزب سياسيًّا يطمع في ملك ولا تغلب ولا قهر أو لم يكن ذلك في دعوته، وانتهى به الحديث إلى الهجرة ثم قال في ص٤٩: «ولكنا نستطيع أن نسجل مطمئنِّين أن هذه الهجرة قد وضعت مسألة الخلاف بين النبي وقريش وضعًا جديدًا، جعلت الخلاف سياسيًّا يعتمد في حله على القوة والسيف بعد أن كان من قبل دينيًّا يعتمد على الجدل والنضال بالحجة ليس غير.» وقال: «فليس من شك إذن أن الجهاد بين النبي وقريش قد كان دينيًّا خالصًا ما أقام النبي في مكة. فلما انتقل إلى المدينة أصبح هذا الجهاد دينيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وأصبح موضوع النزاع بين قريش والمسلمين ليس مقصورًا على أن الإسلام حق أو غير حق، بل هو يتناول الأمة العربية أو الحجازية على أقل تقدير لمن تذعن، والطرق التجارية لمن تخضع.»
نشأ محمد بن عبد الله ﷺ في بيئة تعبد الأصنام نشأة رشد وصدق وعفاف، وقد آمن بنبوته رجال من كبار قومه يعرفونه كيف ولد، وكيف شب، وأين يذهب، ومن أين يجيء، ولو لم يعرفوه رشيدًا صادقًا عفيفًا لذكروا ما يعرفونه له من هفوة أو هفوات، وكانت هذه الذكرى عرضة في سبيل إيمانهم وسلاحًا يقفون به في وجه دعوته، فإيمان كثير من عظماء عشيرته الذين هم على كثب من سيرته يرقبونها بكرة وأصيلًا، يشهد بأن محمدًا ﷺ شب في طهر واستقامة وصدق لهجة وأناة.
قضى محمد بن عبد الله ﷺ أربعين حجة في سيرة تلألأ صدقًا ووفاء وتؤدة، فإذا هو بعد الأربعين يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة، لا يهاب جبارًا ولا يحابي قريبًا ولا يبالي أو يتهكم به غير حليم.
أبصر أولئك القوم الذين يعترف المؤلف بذكائهم ودهائهم واستنارتهم تلك الآيات المحكمات حقًّا، فكانوا كلما استطاعت طائفة منهم أن تخلص من أهوائها وما وجدت عليه آباءها، اطمأنت إلى دعوته وانتصرت لما آمنت به، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
لم يدخر المشركون وسعًا في أذى المؤمنين حتى ألجئوا فريقًا منهم إلى الهجرة وأخذوا يأتمرون في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد تعرض القرآن لهذه المؤامرة وحكى الآراء التي دارت بين المؤتمرين فقال: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
خرج عليه الصلاة والسلام على حين غفلة من أولئك الملأ الذين ائتمروا به، خرج ولا رفيق له من أصحابه سوى أبي بكر، وتواريا في غار ثور حذرًا من أن تقع عليهما عين مشرك، وكذلك رسل الله يأمنون ويحذرون، وقد أتى القرآن على هذه الواقعة في آية: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا وإسناد الإخراج في الآية إلى الذين كفروا؛ لأنهم تصدوا إلى ما يقتضي خروجه، وهو إذايتهم له بأشد مما كانوا يصنعون.
نزل الرسول — صلوات الله عليه — المدينة وحوله حزب استيقن أن هذه الدعوة حق، ووطد نفسه لكل ما يلاقيه في سبيلها من خطوب، ولم يكن يخفى على الرسول عليه السلام أن أشد الناس عداوة لهذه الدعوة وأجمعهم قوة على محاربتها مشركو قريش، وإذا كان عبدة الأوثان في مكة هم أشد الناس داعية إلى محاربة دين الحق، بل كانوا أول من بسطوا أيديهم إلى أوليائه بالسوء والأذى، كان من مصلحة هذه الدعوة أن تبتدئ بعمل الوسائل لإخلاء مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل من رؤوس تسجد للات والعزى، وقلوب لا تضمر لحماة هذه الدعوة إلا شرًّا.
فالرسول عليه السلام وحزبه الطامح إلى السعادة الخالدة لم ينتضوا سيفًا أو يهزوا أسلًا أو يرموا نبلًا، ليظفروا بملك أو ليستأثروا بسلطة، كما يحاول المؤلف أن يصوره لقراء كتابه. والحق أن الإسلام عقيدة وشريعة ونظام، ولا بد لهذه الحقائق من حماية، ولا حماية إلا بقوة وسلطان.
وإذا كان من مقاصد الإسلام إنشاء دولة تُجرَى على قانون شريعته وتتحرَّى نظام سياسته، فالنبي عليه السلام وحزبه من المهاجرين والأنصار إنما يجاهدون في سبيل هذه المبادئ والمقاصد التي نزل بها القرآن في أحسن تقويم، فمحاربة المسلمين للمشركين يومي بدر وأُحد لا يقصد بها إلا ظهور الإسلام ونشر مبادئه ونفاذ أوامره، وإذا نالت أحد هؤلاء المجاهدين إمارة أو حياة ناعمة فتلك سنة الله في الذين يجاهدون فينتصرون.
•••
انقاد المؤلف بزمام المناسبة إلى الحديث عما أحدثته الهجرة النبوية من العداوة بين مكة والمدينة أو بين قريش والأوس والخزرج بعد أن توثقت صلات الود بينهما، وذكر أن الشعر اشترك في هذه العداوة مع السيف، وأن شعراء الأنصار وشعراء قريش وقفوا يتهاجون، ثم قال في ص٥٠: «ويجب أن يكون هذا الهجاء قد بلغ أقصى ما يمكن من الحدة والعنف، فإن النبي كان يحرض عليه ويثيب أصحابه ويقدمهم ويعدهم، مثل ما كان يعد المقاتلين من الأجر والمثوبة عند الله، ويتحدث أن جبريل كان يؤيد حسانًا.»
لم يجئ الإسلام ليلقي بين القبائل عداوة، ولا ليطلق ألسنة الشعراء بالهجاء، ولكنه فتح بصائر الأوس والخزرج فرأوا أبا جهل وشيعته في عماية وتمنوا رشدهم فاستحبوا العمى على الهدى، وإذا كانت القبيلتان تتفقان في الجاهلية على ضلالة وتقتربان في شقاء فإن اختلافهما بالهداية خير من ذلك الاتفاق، وتباعدهما بالسعادة أفضل من ذلك الاقتراب.
أما الهجاء فالناس يعلمون ما للشعر من الاتصال بالنفوس، وما له من الأثر في استهواء القلوب، ولما جعل المشركون يسطون على مقام النبوة بالهجاء، ويتخذونه سلاحًا لمحاربة دين الحق، كان من الحكمة البينة أن يكافَح أولئك الهجاءون بسلاحهم، فإذن الرسول صلوات الله عليه — لحسان بن ثابت وغيره أن يجازي تلك السيئة بمثلها، وأخبر أن جبريل يؤيد حسانًا، وكذلك كانت العاقبة للذين انتصروا من بعد ما ظُلموا.
فليس من الصواب أن يخلى السبيل لتلك الأشعار الطاعنة، فتطرق كل أذن وتحوم على كل قلب دون أن تقف أمامها قوة تعمل على مثالها فتكف بأسها، وتنفض عن الصدور وساوسها.
وما مثل تلك الأشعار الغاوية إلا كمثل ما يكتبه دعاة الإباحية اليوم من الطعن في الدين وتقويض بناء الفضيلة، أفيحق لحملة الأقلام الناصحة أن ينزووا في بيوتهم ويدعوا هذه الطائفة تنفث من سموم غوايتها ما يفتك بالآداب والأعراض!
أما تأييد جبريل لحسان فقد أخبر به من قامت الآيات البينات على صدقه، والمؤلف لا ينازع في أن عدم رؤية الشيء ليس دليلًا على عدم وجوده.
•••
ذكر المؤلف أن قريشًا جاهدت بالسنان واللسان والأنفس والأموال ولكنها لم توفق ثم قال في ص٥١: «وأمست ذات يوم وإذا خيل النبي قد أظلت مكة فنظر زعيمها وحازمها أبو سفيان فإذا هو بين اثنين: إما أن يمضي في المقاومة فتفنى مكة، وأما أن يصانع ويصالح ويدخل فيما دخل فيه الناس وينتظر لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من مكة إلى المدينة ومن قريش إلى الأنصار أن يعود إلى قريش وإلى مكة مرة أخرى.»
سار النبي عليه الصلاة والسلام إلى فتح مكة في عشرة آلاف مجاهد بعد أن نبذ إليهم العهد على سواء، نزل بمر الظهران فخرج أبو سفيان يلتمس الخبر فأخذه حرس عليهم عمر بن الخطاب، وأتوا به رسول الله ﷺ فكانت العاقبة أن أصبح مسلمًا، وتألفه عليه السلام بقوله: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.» وكان يتألفه بالمال، ويذهب كثير من الرواة إلى حسن إسلامه، ومما يستدلون به على هذا أنه شهد فتح الطائف وهناك فقئت إحدى عينيه بسهم أصابها من يد الأعداء، وشهد بعدها وقعة حنين ثم وقعة اليرموك لعهد عمر بن الخطاب، ولو كان منافقًا لقعد مع الخالفين ولم يضق به الحال أن يلتمس عذرًا، لا سيما إذ كانت السلطة العسكرية لذلك العهد لا تأخذ الناس إلى الجندية قهرًا، ولا تجازي المتأخرين عن صفوف الحرب بالفصل بين الرؤوس والأعناق.
ولا أحسب المنافق، وإن بلغ في الدهاء الغاية، يستطيع أن يكتم سريرته عن قوم ليسوا بالبله ولا الأغبياء، فنحن لا نقضي مع من في قلبه زيغ مجلسًا أو مجلسين يمر فيهما الحديث بموضوع إسلامي حتى تظهر سريرته في لحظاته وبين شفتيه، قال تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وهذا شأن المنافق وكل من يحمل نية سوداء، فإنه لا يستطيع أن يشد وكاءها ولا يملك لها مردًّا. ولو كان أبو سفيان منافقًا لم يخف حاله على النبي ﷺ والصحابة المستنيرين المخلصين، ولو وُسم أبو سفيان بين هؤلاء بميسم النفاق لكان أثره في التاريخ أوضح وروايته أقوى.
لندع المؤلف يتحدث عن أبي سفيان بما يشاء، فإنه يجد في بعض الكتب أثرًا يساعده على أن يمس عقيدته وإخلاصه، وقد اعتاد التمسك بالروايات التي يكثر بها سواد المنافقين والمتهتكين وإن كانت هباء، وإنما نريد مناقشته في شيء آخر وراء إخلاص أبي سفيان.
يقول المؤلف عن أبي سفيان: وإما أن يصانع ويصالح ويدخل فيما دخل فيه الناس، لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من قريش إلى الأنصار أن يعود إلى قريش مرة أخرى.
نحن على يقين من أن المؤلف لم يتلق بطريق الرواية الصحيحة أو المصنوعة أن أبا سفيان احتمل هذه المصانعة رجاء أن ينتقل هذا السلطان السياسي من الأنصار إلى قريش. وإنما يحاول التشبه بفلاسفة التاريخ المستنبطين، وما هذا الاستنباط إلا من سقط المتاع الذي يقول له المؤرخ بيده هكذا، ويبعده عن ساحة تلاميذه؛ لأنه ناشئ عن عامل غير عامل الفكر أو عن فكر لا يتمتع باستقلاله.
ينظر المؤرخ يوم فتح مكة فيجد القائد الأعلى للجند الفاتح من صميم قريش، ويجد كثيرًا من هذا الجند لا يمت للأوس والخزرج بنسب، وآخرين لا تزال بيوتهم التي ولدتهم بها أمهاتهم قائمة في بطحاء مكة، ولا يزال آباؤهم أو إخوانهم يغدون من هذه البيوت القائمة وإليها يروحون، وما الأوس والخزرج إلا فرقة من جند تألف حول ذلك القائد القرشي، فالسلطان يوم فتح مكة في يد قريش، ومن البعيد أن يخطر على بال أبي سفيان أنه في يد تلك الفرقة التي تسمى الأنصار حتى يقول: لعل هذا السلطان يعود إلى قريش، ولو قال المؤلف لعل هذا السلطان الذي انتقل من عبدة الأوثان إلى عباد من خلق الأوثان أن يعود إلى عبدة الأوثان، لكان خطؤه قريبًا وشبهته محتملة.
•••
قال المؤلف في ص٥١: «ولعل النبي لو عمر بعد فتح مكة زمنًا طويلًا لاستطاع أن يمحو تلك الضغائن، وأن يوجه نفوس العرب وجهة أخرى؛ ولكنه تُوفي بعد الفتح بقليل، ولم يضع قاعدة للخلافة، ولا دستورًا لهذه الأمة التي جمعها بعد فرقة. فأي غرابة في أن تعود هذه الضغائن إلى الظهور وفي أن تستيقظ الفتنة بعد نومها، وفي أن يزول هذا الرماد الذي كان يخفي تلك الأحقاد.»
تحدث النبي عليه السلام عن الإمامة والإمام في أحاديث يرويها البخاري ومسلم وغيرهما، وقد شرع القرآن للخلافة قاعدة في قوله: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وزادها النبي عليه السلام بيانًا؛ إذ ترك للأمة حريتها في انتخاب من ترى فيه الكفاية للقبض على مقاليد أمرها، حتى تكون السيرة المقتدى بها في كل عهد، أما طريقة أخذ الآراء فموكولة إلى اجتهاد أهل الحل والعقد ككل مصلحة أرشد إليها الإسلام وفوض في وسائلها إلى اجتهاد الآراء.
فالخلافة حقيقية شرعية ونظام كافل لحياة الأمة الإسلامية، ومن يدرس التاريخ بروية وأناة يدرك بوضوح أن الخلافة رفعت الشرق مكانًا عاليًا، وأنه لم يفقد سيادته ومنعته إلا حين اختل نظامها وسارت في غير سبيلها، وليس في سنة الخلافة ما تضيق عنه الدساتير المعقولة أو يمس الحرية المطمئنة، ولعل الذين عجلوا إلى التنكر لها لم يجدوا في مخيلاتهم إلا شبح الخلافة المشربة بروح استبدادية، ولو بحثوا فيها من حيث حقيقتها المشروعة ونظروا سيرتها يوم مثلها الصديق أو الفاروق، لوجدوا في سعة نطاقها ما يحفظ حقوق الأمم ويطابق مقتضيات كل عصر.
ترك النبي عليه الصلاة والسلام القرآن وما يبينه من عمل متواتر أو حديث صحيح، وفي القرآن وما يبينه من السنة أحكم دستور لقوم يعقلون.
لم يرد الإسلام أن يضع الناس في حرج فيرسم لهم نظم الإدارة أو يبين لهم دستورًا على نمط هذه الدساتير التي تتغير على حسب العصور وتختلف باختلاف البلاد، والذي يليق بحكمة التشريع السماوي أن ينص على بعض الأحكام القائمة على مصالح ثابتة عامة، ويضع أصولًا عالية يستنبط منها كل شعب ما يطابق مصالحه ويلائم عوائده. وهذا ما يفهمه الراسخون في العلم، وهذا ما يسير عليه الأئمة المجتهدون.
فلو عمِّر رسول الله ﷺ بعد فتح مكة زمنًا طويلًا لم يزد على بناء هذا التشريع لبنة، ولم يبدُ له أن يسن دستورًا كدساتير هذه الدول لا يلبث أن تكبر عنه بعض العصور فيكون غلًّا في أعناقها، أو تصغر عنه فيكون ثوبًا فضفاضًا.
أما الضغائن التي ظهرت والفتن التي استيقظت فلم يكن منشؤها نقصًا في التشريع كما يزعم المؤلف، بل سببها قلة العلم بالتشريع، وعدم القدرة على التطبيق أو تغلب الأهواء؛ إذ لا عصمة إلا لأنبياء الله المصطفين.
•••
قال المؤلف في ص٥٢: «وفي الحق أن النبي لم يكد يدع هذه الدنيا حتى اختلف المهاجرون من قريش والأنصار من الأوس والخزرج في الخلافة أين تكون؟ ولمن تكون؟ وكاد الأمر يفسد بين الفريقين لولا بقية من دين وحزم نفر من قريش، ولولا أن القوة المادية كانت إذ ذاك لقريش فما هي إلا أن أذعنت الأنصار وقبلوا أن تخرج منهم الإدارة إلى قريش.»
القوة المادية: الجند والسلاح والمال، ولم يكن هناك جيش تحت إمارة وزير أو قائد قرشي، وإنما هي الأمة تنفر للجهاد، وعندما تضع الحرب أوزارها يعود كل واحد إلى حرفته. ولم يكن هناك خزائن للسلاح مفاتيحها بيد رجل من قريش، بل كان سلاح كل أحد في يده أو في بيته، ولم يكن السلاح الذي بأيدي قريش أجود من السلاح الذي كان يحمله الأنصار وسائر القبائل العربية. أما المال فقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال عن الحسين بن محمد: أن رسول الله ﷺ لم يكن يقبل مالًا عنده ولا ببيته، قال أبو عبيدة: يعني إن جاء غدوة لم ينتصف النهار حتى يقسمه. وروى أبو داود عن عوف بن مالك: أن رسول الله ﷺ كان إذا أتاه الفيء قسمه في يومه. إذًا لم يكن هناك مال للأمة تحت يد أمير قريش.
فإن قال المؤلف: أريد من القوة المادية أن قريشًا أكثر من الأنصار عددًا أو أنصارًا، قلنا: الرواية الموثوق فيها تقول: إن المجتمعين في سقيفة بني ساعدة طرحوا مسألة الخلافة على بساط الشورى فاختلف المؤتمرون: أين تكون الخلافة؟ ولمن تكون؟ واشتدت رغبة سعد بن عبادة في أن يتقلد الإمارة على الأنصار، ولما احتدم الجدال بسط عمر بن الخطاب يده وبايع أبا بكر فتتابع الحاضرون من المهاجرين والأنصار على مبايعته، ولم يتخلف عنها سوى سعد بن عبادة، ثم عقد اجتماع عام في المسجد فتوارد الناس على مبايعته وتوانى عنها علي بن أبي طالب حينًا ثم أقبل وبايع ووفَّى.
والرواية تصرح بأن الأوس جنحوا إلى ولاية أبي بكر، وتتابع الخزرج على مبايعته دليل على أنهم لا يجدون في صدورهم حرجًا من خلافته، ويروى أن أول من قام من الأنصار وبايع أبا بكر خزرجي يقال له: بشير بن سعد وهو أبو النعمان بن بشير. فالظاهر أن عمر لم يمد يده إلى المبايعة إلا بعد أن تراءى له أن أكثر الآراء متوجهة إلى اختيار أبي بكر، وسمى مبايعته فلتة؛ لأنه بادر إليها قبل أن تخرج تلك الآراء في صراحة على ما هو المعهود في نظام الشورى، وعذره في هذه المبادرة أن بعض الأنصار أسرف في الجدل وهمَّ بما لا تحمد عقباه.
فخلافة أبي بكر لم تعقد بمبايعة عمر بل تقررت بآراء الأغلبية الساحقة، ولم تقع تحت تأثير جند يتحفز أو سلاح يشهر أو مال يبذل، وإذا فرض أن في المهاجرين أو الأنصار من بايعوا متابعة للكثرة السائدة أو حذرًا من سخطها فمثل هذا لا يخرج خلافة أبي بكر عن أن تكون قائمة على رضا الأمة.
•••
قال المؤلف في ص٥٢: «وظهر أن الأمر قد استقر بين الفريقين، وأنهم قد أجمعوا على ذلك لا يخالفهم فيه إلا سعد بن عبادة الأنصاري الذي أبى أن يبايع أبا بكر وأن يبايع عمر وأن يصلي بصلاة المسلمين، وأن يحج بحجهم. وظل يمثل المعارضة قوي الشكيمة ماضي العزيمة، حتى قتل غِيلة في بعض أسفاره.»
قلنا لكم: إن المؤلف متى وقع نظره على رواية تمس سياسة العرب بعد الإسلام ضرب منهج ديكارت برجله، وكان أجرى إليها من الماء في صبب.
يقول المؤلف: إن سعد بن عبادة قتل غيلة في بعض أسفاره، وسيقول في ص٧١: إن السياسة قتلته، ويشير إلى أن الباعث على قتله عدم إذعانه بالخلافة لقريش.
لم يذكر المؤرخون كابن جرير وابن الأثير وابن خلدون، ولا الحفاظ الكاتبون في التعريف بأحوال الصحابة كابن حجر وابن عبد البر والذهبي وجمال الدين المزي رواية أن سعد بن عبادة قتل غيلة بيد السياسة، وإنما تجدها في مثل شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة حين قال: «ويقول قوم إن أمير الشام كمَّن له من رماه ليلًا إلى الصحراء فقتله لخروجه عن طاعة الإمام.» وابن أبي الحديد على مذهب الشيعة، والأقرب أن تكون هذه الرواية شيئًا يزعمه بعض غلاتهم.
ونحن نشك في هذه الرواية ونبحثها بقلب خال من كل ما قيل في موت سعد بن عبادة.
وردت هذه الرواية في بعض كتب لا يؤخذ ما ترويه من الأخبار المتصلة بسياسة أبي بكر أو عمر إلا بالتحفظ والاحتراس، ثم إن ابن أبي الحديد لم يسندها إلى قوم بأسمائهم، فلا ندري من هؤلاء القوم، وما مبلغ نصيبهم من الصدق أو البهتان، ولا ندري أيضًا من هذا الأمير الذي كمن لسعد بن عبادة حتى رماه فقتله، وهم يختلفون في تاريخ وفاة سعد، فقيل: في خلافة أبي بكر سنة إحدى عشرة، وقيل: في خلافة عمر سنة أربع عشرة أو خمس عشرة أو ست عشرة.
•••
قال المؤلف في ص٥٢: «وانصرفت قوة قريش والأنصار إلى ما كان من انتقاض العرب على المسلمين أيام أبي بكر وعمر، وإلى ما كان من الفتوح أيام عمر. ولكن المقيمين من أولئك وهؤلاء في مكة والمدينة لم يكونوا يستطيعون أن ينسوا تلك الخصومة العنيفة التي كانت بينهم أيام النبي، ولا تلك الدماء التي سفكت في الغزوات.»
خشي المؤلف أن يقول: إن قريشًا والأنصار لعهد أبي بكر وعمر لم ينسوا تلك الدماء المسفوكة في الغزوات، فيقال له: ما بالهم امتزجوا وظهروا في قلب رجل واحد، واندفعوا في حروب أهل الردة وفتح بلاد الروم وفارس، لا يعنيهم أن يكون الخليفة قرشيًّا ولا يفرقون بين أن يكون أمير الجيش قرشيًّا أو أنصاريًّا، لهذه الحجة الدامغة استثنى المؤلف أولئك المجاهدين الفاتحين، وعرج على هؤلاء المقيمين يرميهم بالانطواء على الضغائن، ولا داعي له ولا بينة يضطرانه إلى قذف تلك النفوس المتآلفة إلا حرصه على أن يكسو تاريخ عهد أبي بكر وعمر لونًا قاتمًا.
•••
قال المؤلف في ص٥٣: «وقد ذكر الرواة أن عمر مر ذات يوم فإذا حسان في نفر من المسلمين ينشدهم شعرًا في مسجد النبي، فأخذ بأذنه وقال: أرغاء كرغاء البعير؟ قال حسان: إليك عني يا عمر، فوالله لقد كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك فيرضى، فمضى عمر وتركه. وفقه هذه الرواية يسير لمن يلاحظ ما قدمنا من أن الأنصار كانوا موتورين، وأن عصبيتهم كانت لا تطمئن إلى انصراف الأمر عنهم فكانوا يتعزون بنصرهم للنبي وانتصافهم من قريش وما كان لهم من البلاء قبل موت النبي وما أفادوا بألسنتهم من مجد.»
•••
وعد المؤلف بأنه سيمشي في البحث على منهج ديكارت، فقلنا: عوج في التاريخ سيقوَّم، وتزوير في الرواية سينجلي، فإذا هو يهجم على ما يقصه التاريخ بلسان لا عقدة فيه، ويحرفه إلى معان ليس بينها وبين اللفظ صلة إلا على طرف لسانه.
قصة حسان وردت في كتب الأدب على مثال ما قصها المؤلف نفسه، وقد رأيتم بأعينكم كيف خاض في أحشائها، وركض بين بدايتها ونهايتها ثم خرج منها بادعاء أن حسان كان ينشد من شعره الذي هجا به مشركي قريش، وأن عمر استاء من ذلك الصنيع وأخذته الحمية لقريش أن أخذ بأذن حسان معنفًا له عن تعرضه لقريش بإنشاد ذلك الهجاء. وها هي تلك القصة ماثلة بين أيديكم، فلا تدل بمنطوقها ولا بلحن خطابها إلا على أن حسان كان ينشد شعرًا في المسجد بصوت جهير والناس حوله، فكره عمر أن تقام هذه الحفلة في المسجد الذي هو معد للعبادة. ولم يذكر في القصة نوع الشعر، ولحسان قصائد غير ما هجا به قريشًا، فقد قال في الجاهلية شعرًا كثيرًا، وقال في الإسلام ما ليس بهجاء، والشاهد من القصة على أن عمر إنما كره إلقاء الشعر في المسجد على تلك الهيأة قول حسان: لقد كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك فيرضى، ولو كان حسان ينشد شعرًا في هجاء قريش لم يمض عمر ويتركه وهو الذي نهى الناس أن ينشدوا شيئًا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش وقال: في ذلك شتم الحي بالميت وتجديد للضغائن.
•••
قال المؤلف في ص٥٣: «وكان عمر قرشيًّا تكره عصبيته أن تزدرى قريش، وتنكر ما أصابها من هزيمة، وما أشيع عنها من منكر.»
كان عمر قرشيًّا مسلمًا يكره له أدبه أن تزدرَى قريش كما يكره له أن تزدرى الأوس والخزرج وقيس وتميم، ويكره له ذلك الأدب أن يزدرى عبد الله بن عمر كما يكره له أن يزدرى سلمان الفارسي وبلال الحبشي. أما أنه ينكر ما أصاب قريشًا من هزيمة وقد كان من أحرص الناس على هزيمتها، فذلك ما لا تحتمله إلا عقلية «أقرب إلى الغربية منها إلى الشرقية».
يسهل على المؤلف أن يضع إصبعه في سيرة يزيد بن معاوية أو حماد الراوية؛ لأنه يجد في التاريخ الصحيح أو الباطل ما يعبر به إلى الحديث عنهما بغلو وإغراق ثم لا يعدم أذنًا تصغي إليه أو قلبًا يتلهى به، أما عمر بن الخطاب فإن سيرته متجلية تحت نبراس من التاريخ الصحيح لا يستطيع القلم أن يغير منها لونًا أو يسومها كيدًا وإن ركب منهج ديكارت وتناول زاده من حقيبة مرغليوث.
•••
حكى المؤلف قصة عبد الله بن الزبعرى وضرار بن الخطاب حين قدما المدينة وذهبا إلى أبي أحمد بن جحش وطلبا منه أن يدعو لهما حسان لينشداه وينشدهم، فجاء حسان وأخذا ينشدانه عما قالت قريش في الأنصار، ولما فرغا استوى كل منهما على راحلته ومضيا إلى مكة، وذهب حسان مغضبًا إلى عمر وقص عليه الخبر فأرسل عمر من ردهما وقال لحسان: أنشدهما ما شئت، فأنشدهما حتى اشتفى. ثم قال المؤلف في ص٥٤: «وقال عمر — فيما يحدثنا صاحب الأغاني — قد كنت نهيتكم عن رواية هذا الشعر؛ لأنه يوقظ الضغائن، فأما إذا أبوا فاكتبوه. وسواء أقال عمر هذا أم لم يقله، فقد كان الأنصار يكتبون هجاءهم لقريش ويحرصون على ألا يضيع.»
حديث أن الأنصار كانوا يكتبون أشعارهم مما حدثه به صاحب الأغاني في رواية هذه القصة نفسها، وقد طوى المؤلف الرواية دونه وأتاك به في صورة ما لا شك فيه ليكون قبولك له أسرع وثقتك به أشد. وإذا كتب الأنصار أشعارهم فليس من المتعين أن يكون حرصهم على كتابتها من جهة أنهم «يجدون في ذلك من اللذة والشماتة ما لا يشعر به إلا صاحب العصبية القوية» فمن المحتمل أن يكون الذين كتبوها إنما يريدون الاحتفاظ بها؛ لأنها نتيجة أعمال فكرية، وكل إنسان يعز عليه إهمال آثاره أو آثار قومه الأدبية، ومن المحتمل أن يحرصوا على كتابتها؛ لأنها آثار تشهد بأنهم جاهدوا في إعلاء كلمة الإسلام بكل ما ملكوا من بسالة وبلاغة، ومن الملائم لسيرة عمر بن الخطاب — متى صحت الرواية — أن يكون إذنه لهم بكتابتها نظرًا إلى هذا الوجه الذي يجعلها أمرًا مشروعًا.
•••
قال المؤلف في ص٥٤: «ولما قُتل عمر وانتهت الخلافة بعد المشقة إلى عثمان، تقدمت الفكرة السياسية التي كانت تشغل أبا سفيان خطوة أخرى، فلم تصبح الخلافة في قريش فحسب، بل أصبحت في بني أمية خاصة. واشتدت عصبية قريش، واشتدت عصبية الأمويين، واشتدت العصبيات الأخرى بين العرب، وقد هدأت حركة الفتح، وأخذ العرب يفرغ بعضهم لبعض. وكان من نتائج ذلك ما نعلم من قتل عثمان وافتراق المسلمين وانتهاء الأمر كله إلى بني أمية بعد تلك الفتن والحروب.»
استنبط المؤلف من تاريخ أبي سفيان أنه حين أظلته خيل النبي عليه السلام بمكة دخل فيما دخل فيه الناس وهو يرجو أن ينتقل هذا السلطان من الأنصار إلى قريش، لندع للمؤلف هذا الاستنباط، ولا نحرجه بالسؤال عن الطريق الذي ألهمه أن أبا سفيان أسلم على رجاء أن يعود السلطان السياسي إلى قريش مرة أخرى، وأنه لولا هذا الرجاء لما آثر المصالحة والمصانعة على المضي في المقاومة، فإن لمثل المؤلف هواتف لا تحوم على خاطر الذي يستقبل البحث خالي الذهن من كل ما قيل فيه. وإنما نريد أن نبحث عن مبلغ العصبية في عهد عثمان — رضي الله عنه — فالذي يظهر أن المؤلف اشتد في الحديث عنها أكثر من اشتدادها.
ميل الرجل إلى قومه وعشيرته أمر مغروز في الطبيعة، كحبه أباه وابنه وأخاه، وهي فطرة لا يمكن اقتلاعها من نفوس البشر ما داموا بشرًا، بل لا ينبغي العمل على محوها؛ لأنها من أقوى وسائل العمران وأشد البواعث على التعاون والتناصر ولكنها قد تزيغ وتطغى، فتنقلب وسيلة دمار وداعية تخاذل وتقاطع، وهذه الطبيعة الزائغة الطاغية هي التي حمل عليها الإسلام وقعد لها كل مرصد وأنفق في تقويمها قسطًا وافرًا من حكمه الرائعة ومواعظه الحسنة.
يحث الإسلام عن إيثار العشيرة بخير لا يعود على غيرهم بشر، ويأذن بنصرتهم حين يسامون ضيمًا أو يجاهدون في سبيل حق، والذي يكرهه ويريد تطهير الصدور من خبثه أن يعمل الرجل على نفع رهطه ولو ألقى برهط غيره في شقاء، وأن يقف في صفوفهم أو يغمض الطرف عنهم ولو أبصرهم يرمون حبات القلوب البريئة بالسهام النافذة أو الكلمات اللاسعة.
والتحيز للعشيرة بالمعنى الأول مأذون فيه شرعًا ومرضي عنه عقلًا، وهذا هو الذي يوجد في عهد النبوة وفي عهد أبي بكر وعمر وعثمان، أما التحيز للقومية بمعنى نصرة العشيرة وإن كانت ظالمة، والحرص على نفعها وإن جر غيرها إلى أذى فلا أحسب أحدًا يستطيع أن يرمي به الأمة في عهد الخلفاء الثلاثة.
فمن ينظر إلى تاريخ المسلمين لعهد الخليفة الثالث من الطرق الموثوق بها يجد العصبية مغلوبة على أمرها، ويكاد التحيز إلى القبيلة لا يتجاوز حدوده المشروعة، ويتفقه في هذا من درس سيرة ذلك العهد في كتب علماء الحديث الذين هم أعرف بنقد الأخبار وأهدى إلى الحقائق من مؤرخين كثيرين يجمعون إلى الرشد سفهًا وإلى الجد لهوًا ولعبًا، فأمثال هذه القصص التي تجدها في كتب أهل الخلاعة أو من عرفوا بنزعة التشيع إلى قبيل، لا تجدها في كتب من زاولوا نقد الآثار وأسقطوا من حسابها زورًا كثيرًا.
اقرأ سيرة عثمان — مثلًا — في تاريخ ابن جرير الطبري أو مؤلفات أبي بكر بن العربي مثل العواصم والقواصم، وعارضه الأحوذي، اقرأها في أمثال هذه الكتب فإنك تنصرف عنها برأي أخف وأهون من الرأي الذي يحدثك بك هذا الذي يتبع أذناب الروايات الواهية أو المصنوعة، وتقع يده على رجس غير قليل.
•••
قال المؤلف في ص٥٥: «في ذلك الوقت تغيرت خطة الخليفة السياسية أو بعبارة أدق: فشلت هذه الخطة التي كان يختطها عمر وهي منع العرب أن يتذاكروا ما كان بينهم من الضغائن قبل الإسلام. وعاد العرب إلى شر مما كانوا فيه في جاهليتهم من التنافس والتفاخر في جميع الأمصار الإسلامية، ويكفي أن أقص عليك ما كان من تنافس الشعراء من الأمصار وغيرهم عند معاوية ويزيد بن معاوية، لتعلم إلى أي حد عاد العرب في ذلك الوقت إلى عصبيتهم القديمة.»
رفعت العصبية رأسها في أيام معاوية، واستوت جالسة أو انتصبت قائمة لعهد ابنه يزيد، وعاد كثير من العرب إلى بعض الشر الذي كانوا فيه في جاهليتهم وهو التفاخر بالأنساب، والنظر إلى ذوي القربى بغير العين التي ينظر بها إلى الأباعد، وإيثار أولئك بالمنافع وإن كان هؤلاء أحق بها أو أحوج إليها، وتقليدهم الأعمال وإن كان غيرهم أقوم عليها، وهذه السيرة تستدعي بطبيعتها تنافرًا بالقلوب واسترخاء عقدة الإخاء، وتكوّن حزبًا أو أحزابًا معارضة.
وقد أدركنا الأمة العربية وهي متصلة بالخلافة العثمانية اتصال الأنامل بالراحة، حتى قام نفر في الأستانة يوقدون نار العصبية التركية، فطارت شرارة منها إلى البلاد العربية، وسرعان ما سرت في قلوب الفتيان وظهروا في أحزاب معارضة، ولم يتوفق رجال الدولة إلى أن يسوسوهم بحكمة وكانت العاقبة ما كنا نسمع وما كنا نرى.
على الرغم من تلك الفتنة الساهرة أيام معاوية ويزيد لم تكن العواطف الدينية والآداب الإسلامية ملقية السلم إلى تلك الأهواء، وتاركة جماحها يذهب إلى غير منتهى، ويكفي أن أذكرك بأن تلك الأمة على ما مسها من طائف العصبية قد سكنت تحت راية معاوية ثم ابنه يزيد، وكانت تجاهد تحت رايتهما وتفتح البلاد بكل ما تملك من إقدام وإخلاص، وهذا أبو أيوب وهو من الأنصار قد سار لفتح قسطنطينية وعلى رأسه راية يزيد بن معاوية.
فالعصبية نهضت لعهد معاوية ويزيد، ولكنها وجدت مقاومًا خفف من ويلاتها، ولم يتركها إلى أن يُجنَّ جنونها وتفقد شعورها كما كانت في الجاهلية، وهو أدب الإسلام.
•••
قال المؤلف في ص٥٥: «ولعلك قرأت تلك القصة التي تخبرنا بأن عبد الرحمن بن حسان شبب برملة بنت معاوية نكاية ببني أمية.»
قصة تشبيب عبد الرحمن برملة رواها صاحب الأغاني ولم يقل: «نكاية ببني أمية.» ولا أحسب هذه الكلمة إلا من طينة الاستنباطات التي يصعد إليها المؤلف على سلم العاطفة، وتشبيب الرجل بالمرأة يكون من داعية صبابة، ويكون لرفع قيمة الشعر أو التطلع إلى فخر، ويكون نكاية بأبيها أو أخيها وحده، والظاهر أن تشبيب عبد الرحمن برملة — إن صح — لا يحمل إلا على مثل هذين الباعثين؛ وقد ذكر صاحب الأغاني نفسه أن معاوية قال لعبد الرحمن: ألم يبلغني أنك تشبب برملة؟ قال له: بلى ولو علمت أن أحدًا أشرف لشعري منها لذكرته.
فإن لم يرض المؤلف عن هذا الوجه ورآه من الاعتذار الذي يراد به التخلص، فليكن ذلك التشبيب للنكاية بيزيد، فقد حكى الجمحي في طبقاته أن يزيد وعبد الرحمن كانا يتقاولان الشعر حتى استعلاه عبد الرحمن. ومما يجعل أصل القصة في وهن أن صاحب الأغاني حدثنا تارة أخرى بأن تشبيب عبد الرحمن كان بأخت معاوية لا بابنته، وأن يزيد قال لمعاوية: إنه شبب بعمتي.
يتواضع المؤلف إلى الروايات التي توافق هواه، ولا يكفيه أن تكون واهية محفوفة بالريبة من كل جانب حتى يعمد إلى أن يستنبط منها ما لا يخطر على خيال الباحث الرصين.
كل أنصاري يشبب بأموية أو يهجو أمويًّا فللنكاية ببني أمية، وكل قرشي يشبب بأنصارية أو يهجو أنصاريًّا فللنكاية بالأنصار. فالعصبية ثائرة والفتنة غاشمة.
إذًا هذا الشعر الجاهلي منتحل وليس من الجاهلية في شيء.
•••
قال المؤلف في ص٥٥: «وأما يزيد فكان صورة لجده أبي سفيان، كان رجل عصبية وقوة وفتك وسخط على الإسلام وما سنه للناس من سنن.»
فالمؤلف يرمي أبا سفيان ويزيد بالسخط على ما سنه الإسلام من سنن، ويستند في هذا إلى استنباط أشبه شيء بالسراب، أو قصة يتفق المحققون على وضعها، وكان حقًّا عليه ألا يحرمها من التأويل الذي ابتغاه لنفسه ولم يتق وصمته الخلقية وسقطته العلمية، وهو أن الإيمان بالقرآن والتكذيب به قد اجتمعا له في وقت واحد، فهو مسلم بقلبه، جاحد بعقله، واعتقاد أن النقيضين لا يجتمعان، إنما يوجد في أدمغة أنصار القديم.
•••
قال المؤلف في ص٥٥: «وأنت لا تنكر أن يزيد هو صاحب وقعة الحرة التي انتهكت فيها حرمات الأنصار في المدينة، والتي انتقمت فيها قريش من الذين انتصروا عليها في بدر، والتي لم تقم للأنصار بعدها قائمة. ولأمر ما يقول الرواة حين يقصون وقعة الحرة: إنه قد قتل فيها ثمانون من الذين شهدوا بدرًا؛ أي: من الذين أذلوا قريشًا.»
يعلم كل من له إلمام بالتاريخ أن سبب وقعة الحرة سخط طائفة عظيمة من المسلمين على سيرة يزيد، واشترك في هذا السخط فريق من الأنصار وفريق من قريش، وكان على رأس قريش عبد الله بن مطيع بن الأسود القرشي العدوي وعلى رأس الأنصار عبد الله بن حنظلة الأنصاري، ثم إن قائد جيش يزيد وهو مسلم بن عقبة حين أرهق أهل المدينة وأسرف في قتلهم لم يميز قرشيًّا من أنصاري، فالحرب وقعت بين جيش يزيد وجماعة المسلمين القاطنين بالمدينة، وقائد هذا الجيش الذي أسرف في الفتك بأهل المدينة هو الذي سار بالجيش نفسه إلى محاربة ابن الزبير القرشي ومن معه من آل مكة القرشيين.
يحكي المؤلف عن الرواة أنه قتل في وقعة الحرة ثمانون من الذين شهدوا بدرًا، وليس في كتب التاريخ ما يصدق هذه الرواية، فمن المؤرخين من لم يتعرضوا لإحصاء القتلى بهذه الواقعة كابن جرير وابن الأثير، ومنهم من ذكروا عددهم في إجمال ولم يعرجوا على ذكر أهل بدر، كما صنع ابن الجوزي في المنتظم والصفدي في الوافي بالوفيات حيث قالا: إن القتلى يوم الحرة سبعمائة من وجوه الناس من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، ومن لا يعرف عشرة آلاف. وتعرض لذكر أهل بدر صاحب كتاب الإمامة والسياسة فقال: «وذكروا أنه قتل يوم الحرة من أصحاب النبي ﷺ ثمانون رجلًا، ولم يبق بدري بعد ذلك، ومن قريش والأنصار سبعمائة ومن سائر الناس عشرة آلاف.» وهذه الرواية لا تشهد للمؤلف في ادعائه أن الثمانين من أهل بدر.
•••
قال المؤلف في ص٥٦: «ولست في حاجة إلى أن أقص عليك هذه القصة الأخرى التي تمثل لنا عمرو بن العاص وقد ضاق ذرعًا بالأنصار حتى كره اسمهم هذا وطلب إلى معاوية أن يمحوه، واضطر النعمان بن بشير وهو الأنصاري الوحيد الذي شايع بني أمية إلى أن يقول:
وقد سمع معاوية هذا الشعر فلام عمرًا على تسرعه ليس غير.»
وإذا كان الرجل يجفو طائفة ويضم إلى هذا الجفاء عدم استقامة، فلا تحفل بما يرويه من حديث يقدح في سيرتهم، وصاعر له خدك إلا أن تكون ذا هوى وتجده مصبوبًا في قالب هواك.
•••
ساق المؤلف قصة الزبير حين مر بنفر من المسلمين وحسان ينشدهم وهم غير حافلين به فلامهم على ذلك فمدحه حسان بقصيدته:
وبعد أن أورد المؤلف القصيدة وهي تحتوي تسعة أبيات قال في ص٥٧: «فانظر إلى هذين البيتين في أول المقطوعة كيف يمثلان ذكر حسان لعهد النبي وحزنه عليه وأسفه على ما فات الأنصار من موالاته لهم وإنصافه إياهم. ولكن بقية هذه الأبيات تدعو إلى شيء من الاستطراد لا بأس به؛ لأنه لا يتجاوز الموضوع كثيرًا، فقد يظهر من قراءة هذه الأبيات أنه قد قصد بها إلى الإلحاح في مدح الزبير وإحصاء مآثره. وقد يظهر أن في آخرها ضعفًا لا يلائم قوة أولها.» ثم قال المؤلف: «وقد روى هذه القصة نفر من آل الزبير ومن أحفاد عبد الله بن الزبير بالدقة، أفنستبعد أن تكون عصبية الزبيريين قد مدت هذه الأبيات وطولتها وتجاوزت بها ما كان قد أراد حسان من الاعتراف بالجميل إلى ما كانت تريد العصبية الزبيرية من تفضيل الزبير على منافسيه أو على منافسي ابنه عبد الله بنوع خاص.»
المؤلف في حاجة إلى جلب شواهد على أن العصبية القرشية تنظر إلى الأنصار بعين عابسة، وفي حاجة إلى جلب شواهد على أن حرفة اصطناع الشعر رائجة، ولما وقف على قصيدة حسان هذه ورأى في البيتين الأولين منها إيماء إلى أن من رجال قريش من لم يرع عهد الأنصار أو عهد حسان بنوع خاص، رغب في أن يقضي بالقصيدة الوطرين، فآمن بالبيتين؛ لأنهما يدلان في نظره على تنكر قريش للأنصار، وجحد بسائرها ليزداد شاهدًا على أن التعصب للقبيلة أو العشيرة باعث على اصطناع الشعر وإضافته إلى بعض الأقدمين.
القصيدة في تسعة أبيات كما في كتاب الأغاني، وجاءت في ثمانية أبيات فقط كما في كتابي الإصابة لابن حجر والاستيعاب لابن عبد البر. والبيت المزيد في رواية الأغاني قوله:
وأنت إذا جمعت نظرك على ما اتفقت عليه الروايات وجدت نسج الأبيات متماثلًا والروح الذي يتخللها واحدًا، فالبيتان اللذان اعترف بهما المؤلف هما:
والأبيات التي يرميها بالاصطناع:
ومن لا يقصد قصد المؤلف يرى أن هذه الأبيات رميت عن القوس التي رمي عنها البيتان الأولان، وأنهما لا يتفاوتان إلا كما تتفاوت أبيات القصيدة في البلاغة أو المتانة مع العلم بأن مصدرها قريحة واحدة.
من المعقول أن يأسف حسان على ما فات الأنصار من ولاء النبي عليه الصلاة والسلام لهم، ولكن البيتين لا يمثلان هذا الأسف ولا يزيدان على أن يمثلا ارتياحه لما صنع الزبير وحمده على إقامته على عهد الرسول عليه السلام، فإن كان هناك شيء آخر فهو التعريض بمن لم يشملوه بمثل هذا العطف والعناية. فالبيتان صالحان لأن يقولهما حسان ولم يخطر على باله حال الأنصار مع قريش. ولا سيما حين يكون هؤلاء النفر الذين لم ينشطوا لسماع إنشاده من الأنصار أنفسهم.
•••
ذكر المؤلف قصة النعمان بن بشير حين غضب من هجاء الأخطل للأنصار وخاطب معاوية في هذا الشأن بقصيدة يقول في طالعها:
ولم يزد على هذه الأبيات الثلاثة، فللمؤلف أن يعد ما زاد عليها من المصنوع على النعمان بن بشير، ولعله لا يفعل مخافة أن يفوته شعر يعزى لأنصاري وفيه روح عصبية هائجة.
•••
ثم قال المؤلف في ص٦٠: «ومع أننا نعلم أن الأنصار حين أخطأهم الحكم فاضطغنوا على قريش مالوا بطبيعة موقفهم السياسي إلى تأييد الحزب المناوئ لبني أمية، فانضموا إلى علي.»
نحن لا نعتقد للأنصار أو المهاجرين العصمة، ولا ننكر على أحد أن يخوض في تاريخ عصرهم بكل ما يملك من وسائل النقد، وإنما ندعو الباحث إلى التثبت في الرواية والتأني في الاستنباط، حتى لا يأتي مثل هذا الذي يأتيه المؤلف، فيظلم التاريخ قبل أن يظلمهم، ويفسد على نفسه نظام البحث قبل أن يفسد على طلابه عقليتهم.
•••
تعرض المؤلف لقصة عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن الحكم وتهاجيهما، وذكر ما ينقل عن الأنصار وما ينقل عن قريش في سبب هذا التهاجي، ثم قال في ص٦١: «وليس من شك في أن هذه القصة خيال كانت تتفكه به الأنصار وقريش بعد أن هدأت نار الخصومة العملية بينهما، وأن ما يرويه صاحب الأغاني عن أصل هذه المهاجاة بعيد كل البعد عن النساء. كانا صديقين يتصيدان بأكلب لهما فقال القرشي لصاحبه:
فرد عليه ابن حسان:
وعظم الشر بين الصديقين من ذلك اليوم.»
والمؤلف يأخذ في بعض الأحيان بهذه الطريقة وهي أنه يقطع الرواية عن الأغاني ويأتيك ببقية الحديث في صورة المعروف في غيرها، حتى لا تعده ضيفًا ثقيلًا يأوي إليها كلما احتاج إلى رواية تبل صدى عاطفته.
•••
أراد المؤلف ألا يبقي صبابة من حديث عبد الرحمن بن الحكم وعبد الرحمن بن حسان فملأ نحو صحيفتين بحكاية بعث معاوية إلى سعيد بن العاص يأمره بضرب كل واحد من الشاعرين مائة سوط جزاء تهاجيهما، وتعطيل سعيد أمر معاوية إلى أن خلفه مروان بن الحكم فنفذ الأمر في عبد الرحمن بن ثابت دون أخيه، وأبيات كتب بها عبد الرحمن بن حسان إلى النعمان بن بشير يشكوه فيها ما صنع مروان، وقصيدة النعمان التي خاطب بها معاوية في هذا الشأن، وبعث معاوية إلى مروان بتنفيذ أمره في أخيه عبد الرحمن بن الحكم أيضًا، ثم قال في ص٦٤: «ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتابًا خاصًّا ضخمًا في هذه العصبية بين قريش والأنصار، وما كان لهما من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية، لا نقول في المدينة ومكة ودمشق، بل نقول في مصر وإفريقيا والأندلس. ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرًا مستقلًّا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام، وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية.»
لا جناح على الرجل يعطف على قبيلته ويحرص على أن يكون لهم مجد، وأن يكون لهذا المجد ذكر سائر، فهذا أمر تنساق إليه النفس بفطرتها، وقد قلنا: إن هذه الخصلة متى سارت على منهج الاعتدال فحملت صاحبها على القيام بمصالح عشيرته، أو ذكر مآثرهم الحميدة دون أن يتعرض لغيرهم بسوء، لا تعد من الحمية الممقوتة ولا العصبية التي يريد الإسلام محوها.
وليس في تلك القصة على طولها وعرضها ما يقع في عين الموضوع وهو العصبية المشتدة بين قريش والأنصار، فمعاوية أمر بعقوبة الشاعرين: القرشي والأنصاري، وسعيد بن العاص لم يجر العقوبة على واحد منهما، ومروان قد يكون انتقم لعبد الرحمن بن الحكم من جهة كونه ابن أبيه الحكم لا من جهة أنه من قريش، وقد يفعل مثل هذا من يكون خالي الذهن من معنى التعصب للقبيلة، وشكاية عبد الرحمن إلى ابن بشير من قبيل الالتجاء إلى ذي وجاهة وقربى ليرفع عنه مظلمة، وخطاب النعمان بن بشير لمعاوية عرض لقضية اضطهد فيها مروان عامله رجلًا من الأنصار، وإن سمي مثل هذا تعصبًا فهو من نوع التعصب المقبول، وقد انتهت الرواية بأن معاوية كتب إلى مروان بتنفيذ أمره في عبد الرحمن بن الحكم فنفذه ولم يعص له أمرًا.
وفي الأبيات التي قيل: إن النعمان خاطب بها معاوية ذكر ليومي بدر وفتح مكة وإراءته الأنصار في كثرة عدد وعزة جانب، ولا حرج في رفع الشكاية بهذا الأسلوب إذا ألجأ إليه حال الدفاع ولم يرتجف له قلب السياسة حمقًا، وتجن له يدها بطشًا.
لا ينكر أحد أن الحمية المتطرفة ظهرت في عهد بني أمية، ولا يسلم أحد أنها بلغت بالعرب إلى مثل ما كانوا عليه من جاهليتهم، فضلًا عن أن يكون شرًّا منه، وهذا المؤلف يحكي أن معاوية لم يحد عن مبدأ المساواة حين أمر بتأديب القرشي والأنصاري وحين أمر عامله بضرب أخاه الأموي مقدار ما ضرب ابن حسان، وهل يستطيع المؤلف أن يقيم لنا شاهدًا على أن عصبية قريش أو الأمويين في الإسلام بلغت عُشر عصبية هذه الدول أو الأمم التي يود أن يكون له في جوفه قلب آخر يملؤه باحترامها، ورأس ثان يهوي به ساجدًا لعظمتها!
إن من هذه الأمم أو الدول القابضة على شمال إفريقية من يعتدي على حياة الوطني ولا يقضي عليه ولو بالسجن بضعة أيام، وإذا أنعمت النظر في عصبية هذه الدول أو الأمم وقايسته بعصبية قريش الخارجة عن حد الاعتدال وجدت بين العصبيتين فرقًا يكاد يشبه الفرق بين الحرية والاستبداد، أو العدالة والاضطهاد، وقد كانت عصبية الجاهلية تشبه في شدتها وآثارها عصبية هذه الأمم التي يقدس لها المؤلف، ولا تمتاز عنها بشيء إلا أنها كانت تخرج في غير نظام، بل رأينا سبعين مرة كيف تحمى عصبية المدنية ويتخبطها الغضب فتظهر في خلقتها الشوهاء، وتصبح أشبه بعصبية الجاهلية من الغراب بالغراب.
لا نطيل القول في الاستشهاد على أن المؤلف لا يقيم للكلام وزنًا أو حسابًا، ويكفي القارئ دليلًا على أنه لا يستطيع أن يضع كتابًا ضخمًا في العصبية بين قريش والأنصار أنه طاف على أبواب الأغاني ولم يستطع أن يحدثك في هذا الفصل حديثًا يدنيك من نظرية أن العرب عادوا بعد عمر بن الخطاب إلى شر مما كانوا فيه في جاهليتهم. وهو لا يستطيع أن يضع سفرًا مستقلًّا فيما كان لهذه العصبية من التأثير في الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهم في الجاهلية، إلا أن تغمض فيما يحدثك به من روايات موضوعة وآراء يخذل بعضها بعضًا.
•••
قال المؤلف في ص٦٥: «وأنت تعلم حق العلم أن هذه العصبية هي التي أزالت سلطان بني أمية؛ لأنهم عدلوا عن سياسة النبي التي كانت تريد محو العصبيات، وأرادوا أن يعتزوا بفريق من العرب على فريق، قووا العصبية ثم عجزوا عن ضبطها، فأدالت منهم، بل أدالت من العرب للفرس.»
جاء الإسلام بمحو العصبيات، وهي إنما تمحى بالسيرة التي تمثل هدايته ومبادئه، وقوام هذه السيرة أمران: التعليم، والعدالة.
كان النبي عليه الصلاة والسلام يقوم على أدب الأمة وتعليمها كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين.
وكانت أحكامه وسياسته عليه الصلاة والسلام تمثل العدل والمساواة في أحكم صورة. وبعاملي التعليم والعدل، ذهبت عصبية الجاهلية بين المهاجرين والأنصار، وارتبطت قلوبهم بأشد ما ترتبط به القلوب من الألفة والإخاء، قال تعالى: فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وقال: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ وقال في وصف الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
فالعصبية تضعف بقوة ذينك العاملين وتقوى بضعفهما.
وفي كل أمة نفوس لا تقبل الأدب أو لا تأخذها السياسة العادلة إلى حسن الطاعة، فلا غنى لأولي الأمر من أن يضبطوا سياستهم بالحزم، وكذلك كان الخلفاء الراشدون يشربون سياستهم من العزم والاحتراس بمقدار ما يقتضيه حال الأمة، حتى أواخر عهد الخليفة الثالث، وقد أصبح لينه أكثر من لين الخليفتين قبله، فانتهز عبد الله بن سبأ اليهودي ذلك اللين فرصة وسعى في طائفة وقعت في مكيدته إلى فتنة يوقدونها باسم الدين تارة، وباسم السياسة تارة أخرى، حتى نزلوا بالمدينة وأراقوا دم الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
كان قتل هذا الشيخ البريء من عصبية بني أمية سببًا لإذكاء هذه العصبية، ولكن حرصهم على الخلافة وأخذهم بمقاليدها جعلهم يكتمون أنفاس هذه العصبية في كثير من صروف سياستهم، ولعلك لا تستطيع أن ترى لها مظهرًا إلا حيث يلمحون يدًا تعمل على تقويض سلطانهم.
فعصبية بني أمية كانت فاسقة عن أمر الإسلام من ناحية، ومغلوبة لسلطانه من ناحية أخرى، وهذا ما ساعدها على أن تبلغ من العمر ما لا تبلغه دولة ذات عصبية جاهلية لو بسطت يدها على أمم أكثر من قبيلتها عددًا وليست أقل منها علمًا وخلقًا.
للعصبية أثر في سقوط دولة بني أمية، وأكبر سبب في سقوطها ذلك الحزب الذي يرى أن بني هاشم أحق بالخلافة، وأخذ يبدو تارة ويحتجب تارة أخرى حتى وقعت الدولة في ترف، وفقدت الرجال القوامين على الحروب، وبعدت عن خطة الخلافة الرشيدة، فنهض هذا الحزب، وسرعان ما جمع حوله شعوبًا وقبائل تنقم على تلك الدولة خلل سياستها، فافتك منها الخلافة ووضعها في أيدي بني العباس.
فدولة بني أمية — على ما كان فيها من عصبية أو هوى — قد خدمت الإسلام بفتوحات واسعة، وكان لكثير من رجالها مآثر عمرانية فاخرة، ولا تنس أن من رجال تلك الدولة من يبرأ من العصبية ولم يأت في سياسته على ناحيتها كعمر بن عبد العزيز، ومنهم من كان يغمرها بالهمم الكبيرة والقيام على كثير من المصالح العامة كالوليد بن عبد الملك.
فنسبة سقوط دولة بني أمية إلى العصبية وحدها، من نوع المبالغة التي لا تقبلها المباحث العلمية، ودعوى أن العرب وقعت بعد عمر بن الخطاب في أشد مما كانوا عليه في جاهليتهم، لا تصدر إلا ممن يريد إذاية هذه الأمة الكريمة وجحود ما كان لها من مزية وفضل حتى على هذه الدول الغربية التي يود المؤلف أن يكون له لسان آخر وقلم ثان يصرفهما في سبيل الدعوة إلى ما ينفعها.
•••
قال المؤلف في ص٦٥: «وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي؛ لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد، وإنما كانت ترويه حفظًا. فلما كان ما كان في الإسلام من حروب الردة ثم الفتوح ثم الفتن، قتل من الرواة والحفاظ خلق كثير. ثم اطمأنت العرب في الأمصار أيام بني أمية وراجعت شعرها فإذا أكثره قد ضاع، وإذا أقله قد بقي.»
بحث مرغليوث في طريق تلقي هذا الشعر الجاهلي فقال: أول ما نسأل عنه طريق وصول هذا الشعر إلى الرواة: هل الرواية حفظًا، أم الكتابة؟ والرأي الأول هو الذي يذهب إليه الجمهور، وينقلون عن الخليفة الثاني أنه قال: «تشاغل العرب عن الشعر وروايته في صدر الإسلام بالجهاد، ولما جاءت الفتوح واطمأنت العرب راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم منه كثير.»
ثم قال مرغليوث منتقدًا هذا المقال الذي يعزى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من العبث نسبة هذا القول للخليفة الثاني؛ لأن زمن السلم لم يحن إلا في عهد الأمويين أي بعد موته بثلاثين سنة. ثم قال: وبقاء قصائد تروى حفظًا غير متيسر إلا إذا كان هنالك أشخاص وظيفتهم حفظها وتعليمها لغيرهم باستمرار، وليس لدينا أي دليل على أن هنالك أشخاصًا يقومون بهذه الوظيفة، كما أنه من المستحيل أن ينجوا من حروب الفتوحات الإسلامية الأولى.»
وأما قول مرغليوث: إن رواية الأشعار حفظًا لا تتيسر إلا إذا كانت وظيفة أشخاص يقومون عليها باستمرار، فمنشؤه الذهول عن عناية العرب بالشعر وشغفهم بروايته حتى أصبحت صناعة بالغة من الرواج إلى أن لا يحتكرها فريق معلوم، ودعواه أن الحروب الأولى حصدت كل من يروي شعرًا عن الجاهلية، ملقاة على غير بينة، بل على غير روية؛ إذ من البديهي أن الحروب لم تسحق الجيوش الفاتحة على بكرة أبيها، فمن الجائز أن يبقى في هؤلاء الجنود الظافرين من يروون شعرًا كثيرًا، ولا سيما حيث نلحظ أن الرواية لا ينقطع معينها ولا يسكن ريحها ولو بين القوم الذين يصلون نار الحرب بكرة وعشيًّا، قال الإمام علي في خطبة خطبها أهل الكوفة: «إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقًا عزين تضربون الأمثال وتناشدون الأشعار.»
ثم قال مرغليوث: إن القرآن قد ذم الشعراء في قوله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وهذا الذم يكون من أقوى الدواعي إلى الانصراف عن الشعر وتناسيه، وهناك سبب آخر وهو أن أكثر الأشعار الجاهلية كانت تشتمل على مفاخر قومية، وحيث كانت غاية الإسلام توحيد الأمة العربية — وقد أفلح في ذلك — كان بالطبع يحتم على الناس تناسي كل قول يثير الأضغان ويهيج الأحقاد.
ولا يمنع الإسلام من إنشاد أشعار تشتمل على مفاخر قومية إلا أن تنطوي على هجاء يتأذى منه بعض السامعين، كالأشعار التي نهى عمر بن الخطاب عن إنشادها.
ثم تصدى مرغليوث للبحث في الطريق الثاني — وهو الكتابة — فقال: «بقي لدينا أن يقال: إنها كانت تنقل على طريق الكتابة، ولو صح زعم أن هذه القصائد كانت عندما تنشد ويعجب الناس بها يكتبونها ويسألون عن منشئها، لكان من البديهي أن تنقل صور هذه الصحائف وتباع حتى يستفيد منها أربابها.»
الشعر الجاهلي مروي بطريق الحفظ، ومن الجائز أن تصل بعض الأشعار إلى الرواة على طريق الكتابة، والقصيدة تكتب في صحيفة أو صحيفتين، ولم يكن لأمثال هذه الصحف المفرقة قيمة ورواج، حتى يذكر التاريخ أنها كانت تباع ويستفيد منها أربابها.
ويقول شاعر من هذيل:
ويقول شارحوها: أراد بذلك الكتابة الحميرية على جريد النخل.
والشاعر لقيط نظم شعرًا عنوانه:
ثم قال: «إذًا من الممكن صحة نسبة هذا الشعر إلى الجاهليين حيث نفرض أنها كانت تكتب وتنشر بانتظام، ولكن وجود أدبيات مسطورة قبل الإسلام بقلم حميري أو بخط آخر، يناقض نصوص القرآن حين يقول للعرب: أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ويقول: أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ولو أن الشعر الجاهلي كان محفوظًا في كتاب لثبت أن للجاهليين جملة كتب مهمة، وسؤال القرآن وإنكاره يدل على عدم وجودها.»
وقد تعرض «أدور براونلش» إلى هذه الشبهة في مقاله الصادر في مجلة الأدبيات الشرقية، ودفعها بما هو حق واضح فقال: «القرآن يقول لأهل مكة: أم لكم كتاب فيه تدرسون ومرغليوث يرى أن هذا حجة قوية على أن الشعر الجاهلي في عهد محمد (صلوات الله عليه) لم يكن موجودًا أو على الأقل لم يكن مدونًا، وإلا لأجابه الخصوم بقولهم: نعم، وأروه جملة دواوين. ولكن لا يريد القرآن بنفي الكتاب عن أهل مكة أي كتاب كان، وإنما يريد نفي كتاب مثل القرآن في معانيه أو على الأقل يكون قريبًا منه.»
فشبهة مرغليوث مدفوعه بأن القرآن إنما ينفي عن المشركين أن يكون لهم كتاب حكمة وهداية، وهذا لا يناقضه أن تكون لهم أشعار مخطوطة تحتوي على غزل أو فخر أو مديح أو هجاء أو وقائع حروب.
وقد أورد ابن سلام في طبقات الشعراء ما يوافق هذه القصة، ولم يسندها إلى راو بعينه فقال: «وقد كان عند النعمان بن المنذر منه (الشعر) ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه.»
فمن يهتد بهذه الآثار يَرَ أن من الشعر العربي ما وصل إلى الرواة على طريق الكتابة، فإن لم تكن بالغة مبلغ ما يعبأ به فإن اعتياد العرب لرواية الشعر حفظًا، واتساعهم في الحفظ إلى غاية بعيدة، يقوم مقام كتابته، إلا أن يلحقه تغيير بعض الكلمات أو ترتيب بعض الأبيات أو نسيان شيء منها. يُروَى عن ذي الرمة أنه قال لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أحب إليَّ من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد سهر في طلبها ليلته فيضع في موضوعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس.
•••
قال المؤلف في ص٦٥: «وليس هذا شيئًا نفترضه نحن أو نستنبطه استنباطًا، وإنما هو شيء كان يعتقده القدماء أنفسهم. وقد حدثنا به محمد بن سلام في كتابه «طبقات الشعراء» وهو يحدثنا بأكثر من هذا، يحدثنا بأن قريشًا كانت أقل العرب شعرًا في الجاهلية، فاضطرها ذلك إلى أن تكون أكثر العرب انتحالًا للشعر في الإسلام.»
أخذ المؤلف يبحث عن حتف كتابه بقلمه، فقد جعل يعترف بأن القدماء وجهوا عنايتهم إلى هذا الشعر الجاهلي وتناولوه بالنقد من جهة نسبته إلى من يعزى إليهم، وتحدثوا في هذا بالإجمال تارة وبالتفصيل تارة أخرى، وسنبسط البحث عن عنايتهم بنقد الشعر من هذه الجهة في مقالة أخرى، وإنما نريد مناقشته فيما نقله من كتاب الطبقات وتخيله حجة قائمة.
وإذا كان المنتحل من شعر قريش يعود بجملته أو بمعظمه إلى مفاخر الأنصار ومهاجاتهم، فإن ابن هشام قد نبه في السيرة على قسم كبير منه، ويحكى أن أهل العلم بنقد الشعر أنكروه ووصفوه بالاصطناع. وإذا ثبت أن العلماء بنقد الشعر قد وضعوا شعر قريش تحت أنظارهم وقلبوا فيه أذواقهم وقاسوه بما عرفوا من أسلوب الشاعر وما يناسب حال بلاغته، فالذي يغلب على الظن أن الباقي من شعر قريش بعد المطروح في سيرة ابن هشام وغيرها من كتب الأدب هو شعر ثابت النسبة إلى من يعزى إليهم، ونستمر على هذا الظن حتى يعمد المؤلف أو غيره إلى شعر بعينه وينفيه عن صاحبه ببينة.
•••
حكى المؤلف ما يراه ابن سلام من أن الرواة المصححين لم يحفظوا لطرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص إلا قصائد بقدر عشر، وأنه حمل عليهما شعر كثير، ثم قال في ص٦٦: «ولكن ابن سلام لا يقف عند هذا الحد، بل هو ينقد ما كان يرويه ابن إسحاق وغيره من أصحاب السير في الشعر يضيفونه إلى عاد وثمود، ويؤكد أن هذا الشعر منحول مختلق. وأي دليل على ذلك أوضح من هذه النصوص القرآنية التي تثبت أن الله قد أباد عادًا وثمود ولم يبق منهم باقية!»
هذه شواهد يسوقها المؤلف على أن القدماء من علماء الأدب بذلوا مجهودهم في نقد الشعر الجاهلي، وأنهم ذهبوا في نقده مذاهب شتى، ألا ترى ابن سلام كيف جعل في الرواة مصححين وهم الذين ينقدون ما يعزى إلى الشعراء من نظم فيحفظون ما صحت نسبته إليهم، وينفضون أيديهم مما عداه؟ أو لا ترى الرواة كيف كشفوا عن حال ما يرويه ابن إسحاق وأسقطوا جزءًا كبيرًا من هذه الأشعار المنتحلة، قال ابن سلام: «وممن هجَّن الشعر وأفسده وحمل كل غثاء محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسير فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتى به فأحمله، ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول من حمل هذا الشعر ومن رواه منذ ألوف من السنين، والله يقول: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ وقال في عاد: فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ.
وقال ابن النديم في وصف ابن إسحاق أيضًا: «ويقال كان يُعمل له الأشعار ويسأل أن يدخلها في كتابه في السيرة فيفعل، فضمن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر، وأخطأ في النسب الذي أورده في كتابه، وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العلم الأول، وأصحاب الحديث يضعفونه ويتهمونه.»
فقد عرف علماء الأدب شأن ابن إسحاق، وبفضل ما لديهم من روية وأناة نظروا إلى قلة أمانته أو تسرعه إلى حمل ما يؤتى به من الأشعار، وجعلوا نسبة ما يرويه من الشعر إلى شخص معين لاغية، ولم يتخذوه وسيلة إلى الطعن فيما يرويه غيره من الشعر، بل وجهوا إلى كل واحد من الرواة نظرًا خاصًّا، وتناولوا كل ما يرد عليهم من الشعر بنقد مستقل.
•••
قال المؤلف في ص٦٧: «وسنعرض بعد قليل لهذا النحو من البحث من شعر عاد وثمود وغير عاد وثمود، ولكنا إنما ذكرناه الآن لنبين كيف كان القدماء يتبينون كما نتبين، ويحسون كما نحس أن هذا الشعر الذي يُضاف إلى الجاهليين أكثره منحول، لأسباب منها السياسي ومنها غير السياسي، كان القدماء يتبينون هذا ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا، فكانوا يبدأون ثم يقصرون عن الغاية.»
يقول المؤلف هذا وهو يحسب أن نظرية الشك في الشعر الجاهلي ستبقى معزوة إليه، وأن الناس لا يشعرون بما كتبه الباحثون من قبله، ولو نظر إلى صلته بهذا البحث نظرًا عادلًا، لكبر في فمه أن يقول: «ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا.»
القدماء ألَّفوا في نقد الشعر جملًا عامة كما قال ابن سلام — بعد ذكر أبيات نسبت إلى النابغة — «وأنا منها في شك، ولكنه قلَّ ما لا شك فيه.» وكشفوا الستار عن حال رجال حتى لا يعول على روايتهم في شيء ينفردون به، كما صنعوا فيما حدثوك به عن ابن إسحاق وابن دأب وغيرهما، ثم تناولوا بالنقد المفصَّل كثيرًا من أشعار عزيت لأشخاص معينين، ففتحوا للنقد طرقًا أقل ما يستحقون بها الخلاص من أذى التطاول الذي يدعيه الطيش وينازعه فيه الغرور.
ونحن لا ندعي أن القدماء أتقنوا تاريخ الأدب من كل جانب، ولا نكره للناشئ الألمعي أن يبحث فيما صدر عنهم من رأي أو مر عليهم من رواية، ولكن المؤلف يرفع مناهجه على مناهجهم، وهو بالطبيعة لا يريد غير هذه المظاهر التي خرج فيها كتاب «في الشعر الجاهلي». ومن أشد الحيف على الذين أوتوا العلم أن تجعل هذه المظاهر الهازلة خيرًا مما صنعوا.
•••
قال المؤلف في ص٦٧: «ومهما يكن من شيء فإن هذا الفصل الطويل ينتهي بنا إلى نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك؛ وهي أن العصبية وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلى هذه النتيجة.»
عقد المؤلف الفصل في نحو عشرين صحيفة قضاها في الحديث عن أمر كتب فيه القدماء والمحدثون، وهو شأن العصبية في صدر الإسلام وعهد الأمويين وما كان من التهاجي بين بعض شعراء الأنصار وآخرين من قريش، والتوى في أثناء هذا الحديث إلى آراء قد عرفت مصدرها، وأخرى ناجتك بسريرتها ورجعت بها إلى صف دون الصف الذي وضعها فيه صاحبها.
ولم يستطع المؤلف أن يضرب في هذا الفصل الطويل مثلًا لشعر جاهلي اخترعته نزعة سياسية، وذلك ما يقتضيه عنوان الفصل: «السياسة وانتحال الشعر» وقد أدرك أنه لم يجر في حديثه تحت هذا العنوان، ولم يأت بمقدمات تنتج أن في الشعر الجاهلي ما اصطنع لغاية سياسية فقال: «ينتهي بنا إلى نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك، وهو أن العصبية وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين.»
فالقدماء ذكروا في أسباب انتحال الشعر للجاهليين العصبية القومية؛ ومن أراد أن يقرر أن من الشعر الجاهلي ما افتعل لغرض سياسي ويضع لذلك عنوانًا يكتبه بأحرف ممتازة، فليأت ولو بمثل أو مثلين واضحين ويريح القارئ من أقوال لا تقع في عين الموضوع فضلًا عما فيها من صبغ بعض الوقائع بألوان لا تلائمها.
فالواقع أن السياسة اغترفت من قرائح الشعراء مديحًا أو هجاء، أما أن يكون لها أثر في اصطناع شعر جاهلي فذلك ما لم يسق له المؤلف في طول هذا الفصل وعرضه شاهدًا، وهو ما ينتظره كل من يقرأ عنوانه «السياسة وانتحال الشعر».
•••
قال المؤلف في ص٦٧: «ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها، وإنما نستخلص منها قاعدة علمية، وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمى جاهليًّا أن يشك في صحته كلما رأى شيئًا من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب على فريق.»
إن أراد من الشك ذلك الاحتمال الذي يحوك في النفس فيحملها على البحث ويرسي بها على حال يرتضيه العلم فهو مبدأ كل ناقد نحرير، ولا يحتاج إلى هذه المقدمات الممدودة على آراء ملقوطة وقصص لا يُدرَى مبلغها من الصحة. وإن أراد من الشك معنى إلغائه وعدم الثقة به فما لا يسيغه العلم أن يطعن في نسبة شعر وتقطع صلته من قائله لمجرد ما فيه من تقوية عصبية أو تأييد فريق على فريق.