الدين وانتحال الشعر
أتى المؤلف في صدر الفصل على أن العواطف والمنافع السياسية والمنافع الدينية ليست أقل من العواطف والمنافع السياسية أثرًا في تكلف الشعر وانتحاله وإضافته إلى الجاهليين، وزعم أن هذا الانتحال المتأثر بالدين ربما ارتقى إلى أيام الخلفاء الراشدين، ثم قال في ص٦٩: «ولو أن لدينا من سعة الوقت وفراغ البال ما يحتاج إليه هذا الموضوع للهونا وألهينا القارئ بنوع من البحث لا يخلو من فائدة علمية أدبية قيمة، وهو أن نضع تاريخًا لهذا الانتحال المتأثر بالدين.»
رأيتم المؤلف كيف عقد فصلًا تحت عنوان «السياسة وانتحال الشعر»، ولم يستطع أن يسوق في ذلك الفصل الطويل شعرًا انتحل لداعٍ سياسي وأضيف إلى الجاهليين، وها هو ذا يعقد فصلًا آخر تحت عنوان «الدين وانتحال الشعر» ثم لا تجدونه يضرب لكم مثلًا صحيحًا فوق ما عرفتموه من ضروب الشعر التي تحدث عنها الأقدمون.
يقول المؤلف: ربما ارتقى عصر الانتحال المتأثر بالدين إلى أيام الخلفاء الراشدين. ولعل القراء يتيقنون حرص المؤلف على تشويه سمعة العرب لعهد أولئك الخلفاء بوجه خاص، فلا يفوتهم أنه لو لمست يده شعرًا انتحل لذلك العهد لطار به فرحًا، وكتبه كما كتب عنوان الفصل بأحرف ممتازة.
وحشوُه هذا الفصل بما تقرأونه من لهو الحديث دليل على أنه لو ملك من سعة الوقت وفراغ البال أكثر من هذا الذي يملك، لم يزد على أن يلهو أو يلهي القراء بنوع من البحث لا يخرج عن هذه الدعاية المتصلة بالمعمل الذي خرج منه ذيل مقالة في الإسلام، ثم لا يخلو من تحريف حقائق تاريخية أو أدبية قيمة.
أنكر المؤلف في ص٦٩ كل ما يروى من الشعر الذي قيل في الجاهلية ممهدًا للبعثة النبوية وكل ما يتصل به من الأخبار وزعم أنها «تروى لتقنع العامة بأن علماء العرب وكهانهم وأحبار اليهود ورهبان النصارى كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي يخرج من قريش أو من مكة».
كان لحماة حقائق الإسلام في المناظرة موقفان: موقف مع المخالفين، وهؤلاء إنما كانوا يناضلونهم في أصول العقائد، ويحاكمونهم إلى النظر والحجج العقلية البحتة. وموقف مع موافقيهم في الأصول، ومناظرة هؤلاء إنما تكون في ظل تلك الأصول فتجري المناظرة في نظام، وتنتهي في الغالب بسلام.
وقد خرج في هذا العصر طائفة يقولون بأفواههم: إنهم مسلمون بقلوبهم جاحدون بعقولهم، فإذا أنكروا رواية أو فرعًا يتصل بالدين، لا تدري أتحاورهم تحت ظل الأصول المقررة، أم ترجع بهم إلى النظر الصرف وتعود بهم إلى البحث في الإيمان بالله وكتبه ورسله؟
ينكر المؤلف كل ما يروى من الشعر والأخبار الممهدة للبعثة النبوية، وإنكارها على هذا الوجه إنما تسمعه ممن ربط قلبه على نفي النبوة؛ إذ ليس من المحتمل عنده أن يقال فيها شعر أو يرد عنها خبر قبل أن يدعيها صاحبها. أما الذين يعتقدون بأن نبوة أفضل الخليقة حق، فمن الجائز عندهم أن يسبقها شعر أو خبر يتصل بها، وشأنهم أن يفحصوا ما يرد في هذا الصدد ويضعوه بمنزلته من الوضع أو الضعف أو الصحة، وكذلك فعل علماء الإسلام فحكموا على جانب مما كان من هذا القبيل بالوضع كالأخبار والأشعار المعزوة إلى قس بن ساعدة.
•••
قال المؤلف في ص٧٠: «فقد يظهر أن الأمة العربية لم تكن أمة من الناس الذين ينتسبون إلى آدم ليس غير، وإنما كان بإزاء هذه الأمة الإنسية أمة أخرى من الجن كانت تحيا حياة الأمة الإنسية وتخضع لما تخضع له من المؤثرات، وتحس مثلما تحس وتتوقع مثل ما تتوقع، وكانت تقول الشعر، وكان شعرها أجود من شعر الإنس، فأنت تعرف قصة عبيد وهبيد. وأنت تعرف أن الأعراب والرواة قد لهوا بعد الإسلام بتسمية الشياطين الذين كانوا يلهمون الشعراء قبل النبوة وبعدها.»
وممن تعرض لهذا من الكتاب المتقدمين على المؤلف جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية فقال: «كان العرب يعتقدون أن لكل شاعر شيطانًا يوحي إليه المعاني حتى لقد يتوهم الشاعر منهم أنه رأى شيطانه وخاطبه وأوحى إليه.» وقال: «ومن غريب اعتقادهم في شياطين الشعراء أن للشعر شيطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه. ومن انفرد به الهوجل فسد شعره. وزاد ادعاؤهم ذلك حتى سموا شيطان كل شاعر باسم خاص به فكان شيطان الأعشى يسمى مسحل.»
وتعرض لهذا أيضًا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتاب آداب لغة العرب؛ إذ عقد فصلًا في شعر الجن فقال: «والقصاصون إنما قلدوا في ذلك الأعراب أيضًا، وذهبوا مذاهبهم، فللأعراب شعر كثير يزعمونه للجن، ويعقدون له الأخبار، وقد تناقله عنهم الرواة وتظرفوا به في الأحاديث وأمثلته كثيرة.»
فمزاعم بعض الناس لرؤية الجن وتلقيهم الأشعار عنهم، مما كتب فيه القدماء والمحدثون، وهذا عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب تكلم عن قصيدة:
وقصيدة:
وقال الأولى نسبت إلى سمير بن الحارث الضبي، والثانية منسوبة إلى جذع بن سنان الغساني، ثم قال: «وكلا الشعرين أكذوبة من أكاذيب العرب.»
فلم يكن المؤلف هو الذي عقل بطلان ما يزعم من أن للشعراء شياطين يلهمونهم الشعر، بل نبه عليه أناس من قبل أن يخلق ديكارت ويوضع منهج ديكارت. إذًا لا تعد هذه النظرية في حساب ما وصل المؤلف إلى استطلاعه على منهج ديكارت.
•••
قال المؤلف في ص٧٠: «وفي القرآن سورة تسمى: سورة الجن أنبأت بأن الجن استمعوا للنبي وهو يتلو القرآن فلانت قلوبهم وآمنوا بالله ورسوله، وعادوا فأنذروا قومهم ودعوهم إلى الدين الجديد، وهذه السورة تنبئ أيضًا بأن الجن كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع، ثم يهبطون وقد ألموا إلمامًا يختلف قوة وضعفًا بأسرار الغيب، فلما قارب زمن النبوة حيل بينهم وبين استراق السمع فرجموا بهذه الشهب وانقطعت أخبار السماء عن أهل الأرض.»
وجود الجن حقيقة دلت عليها الآيات المحكمات، وليس في استطاعة من لا يؤمن بهذه الآيات أن يقيم دليلًا على نفيهم ولو أصبحت عقليته غربية بحتة! وبُعث ديكارت فابتدع له منهجًا أقرب من هذا المنهج وأجلى.
إن العقل وحده لا يستطيع أن يثبت كائنًا يقال له الجن، كما أنه لا يستطيع نفيه بحجة، فوجود هذا الكائن خارج في نفسه عن حد الواجب والممتنع، وماذا بعد الواجب والممتنع إلا الإمكان، وما كان من قبيل الممكن في نفسه قد يدل على تحققه ما قام البرهان على صدقه، وهل بعد نبوة محمد عليه الصلاة والسلام من برهان! وإن شئت مزيد غوص في هذه النظرية فإليك السبيل.
- أحدهما: ما ثبت على وجه لا يجيز العقل خلافه ولو في صورة الاحتمال المجرد، كالاعتقاد بأن الكل أكبر من الجزء، وأن لهذا العالم صانعًا حكيمًا. فكل ما يتهافت من الاحتمالات المخالفة لهذا الاعتقاد يجد من الدلائل النظرية ما يطرده ولا يبقي له في ساحة التعقل باقية.
- ثانيهما: اعتقاد بأمر لا يقوم في جانب خلافه احتمال يستند إلى مأخذ دليل أو أمارة ولكن الاحتمالات المجردة عن المقتضيات ليس للعقل قوة على دفعها. وتجرد الاحتمال المقابل للمعلوم من الدلائل والأمارات لا يكفي في امتناع وقوعه وجعل هذا المعلوم أمرًا لا يتحول أو يطرأ عليها تغيير، بل لا بد من إقامة دليل خاص على أن هذا الأمر المعلوم أمر حتم، وأن خلافه ضرب من المحال الذي لا تتصور العقول وقوعه بوجه. واليقين بالنظريات التجريبية لا يخرج عن هذا النوع الذي لا يرتفع عنه إمكان التغيير، بل قد تغيره يد الإبداع عندما تريد إقامة المعجزة على سنة غير مألوفة.
أتى على الإنسان حين من الدهر وهو يعتقد أن الضياء الساطع في ظلام الليل لا يكون إلا من طلعة القمر أو من لهب النار، فإذا آنس تحت جناح الليل نورًا يتألق بمكان بعيد لم يرتب في أنه بهرة قمر أو شعلة نار، وهذا الاعتقاد لا يبلغ في اليقين درجة اعتقاده بأن العرض كالحمرة والبياض لا يستقل بنفسه، فإن هذا الاعتقاد الأخير مبني على أن ماهية العرض تقتضي بطبيعتها ألا تبرز إلى الخارج إلا في محل وهو الجرم، فيدرك العقل بالضرورة أن البياض والسواد لا ينفرد عن المادة ويقضي بذلك قضاء لا يحوم حوله احتمال، وأما يقينه بأن ذلك الضياء نار أو قمر فقائم على التجربة فقط، فلا يخلو من احتمال أن يكون الضوء غير قمر أو نار إلا أنه احتمال لم يكن له في العهد المتقدم وجه من النظر حتى يحل من اليقين الذي عقدته التجربة، وقد أصبح ذلك الاحتمال اليوم متحققًا في العيان حيث انضم إلى القمر والنار عنصر من عناصر الإنارة وهي الكهرباء.
فلو لم يخترع الفيلسوف التنوير بالكهرباء، وكان فيما نقل من معجزات الرسل إنارة بعض الأجرام من غير أن تمسه نار، لقال الذين في قلوبهم مرض: إن الإنارة إنما تنشأ عن لهب النار، ولا سبيل إلى تحقيق الأثر متى فقد سببه.
زعم بعض المرتابين في المعجزات أن قطع المسافة البعيدة كما بين المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة أمر لا يحتمله الإمكان ولا يتقبله العقل، ولو ناظرتهم في وجه الامتناع عقلًا لم يكن منهم سوى أن يحيلوك على المشاهدة، ويقولوا: إنا نرى أن أسرع الأجسام تنقلًا يقضي في قطع تلك المسافة ليالي وأيامًا. وهذا الأمر الذي كانوا يذكرونه بوصف المحال قد كشف العلم الصحيح عن إمكانه وأخرجه للناس في جملة الكائنات المبصرة. وإذا تمكن المخلوق باختراع الطيارة أن يجعلك تقطع المسافة البعيدة في مدة وجيزة، فماذا يكون شأن قدرة الخالق التي هي أبدع تقديرًا وأحكم صنعًا!
وكان أشباه الفلاسفة يعتقدون أن الوزن من خصائص ما يوصف بالخفة والثقل من الأجسام، وقالوا: لا نفهم لوزن الأعراض معنى؛ إذ ليس من المعقول تناولها من معروضاتها ووضعها في كفة ترتفع تارة وتنخفض مرة أخرى، وما راعهم إلا أن صنع الفيلسوف ميزان الحرارة والبرودة وأراهم أن وزن الأعراض من قبيل الممكنات، وأن للوزن طرقًا غير ما تعرفه الباعة في الأسواق.
يهون علينا أن يقف عباد الطبيعة موقف المطالب ببرهان على وجود الخالق وإثبات الرسالة، ولكن الذي يثير العجب في نفوسنا ويحشرهم في زمرة المستضعفين من الرجال والولدان أن يخرجوا في زي الفلاسفة ويمسحوا ألسنتهم بطلاء من المنطق، ثم لا يلبثوا أن يصفوا كل ما لا تناله حواسهم بكونه محالًا، ويزعموا أن صدر الفلسفة يضيق عن احتماله، كأن دائرة الإمكان والفلسفة لا تسع إلا ما يرد إليها من طريق الحس والتجربة.
كشف فيلسوف هذا العصر الغطاء عن كثير من الحقائق التي كانت أذناب الفلاسفة تعجل إلى إنكارها ولا تبالي أن تلقبه باسم ما لا يكون.
ولو قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن في هذا الماء الذي تشربون حيوانًا يذهب ويجيء، وولد هذا المؤلف قبل اختراع المرآة المكبرة (مكرسكوب) لقال في كتابه هذا: فقد يظهر أن الماء العربي لم يكن من المياه التي تشرب في البلاد الأخرى ليس غير، وإنما كان بإزاء هذا الماء النقي من كل شيء ماء يحمل حيوانًا يذهب ويجيء ويطفو ويرسب، تفتح فيه الأبصار ولا تراه، وتلمسه اليد ولا تحس به، وتصغي إليه الأذن فلا تسمع له حسيسًا!
•••
قال المؤلف في ص٧٠: «فلم يكد القصاص والرواة يقرءون هذه السورة وما يشبهها من الآيات التي فيها حديث عن الجن حتى ذهبوا في تأويلها كل مذهب، واستغلوها استغلالًا لا حد له، وأنطقوا الجن بضروب من الشعر وفنون من السجع.»
•••
قال المؤلف في ص٧١: «وكذلك قالت الجن شعرًا رثت فيه عمر بن الخطاب:
إلخ الأبيات الخمسة.
والعجب أن أصحاب الروايات مقتنعون بأن هذا الكلام من شعر الجن، وهم يتحدثون في شيء من الإنكار والسخرية بأن الناس قد أضافوا هذا الشعر إلى الشماخ بن ضرار.»
وقال صاحب ديوان الحماسة: «وقال الشماخ يرثي سيدنا عمر بن الخطاب.» وأورد هذا الشعر، قال شارحه التبريزي: «وقال أبو رياش: الذي عندي أنه لمزرد أخيه، وقال أبو محمد الأعرابي: هو لجزء بن ضرار.»
فأولئك علماء الأدب يعزون الأبيات إلى جزء أو مزرد أو الشماخ، ولا يتعرضون لعزوها إلى الجن، فضلًا عن أن يتهكموا بمن يعزوها إلى الشماخ، وصاحب الأغاني عزاها إلى جزء بن ضرار، ثم ذكر الرواية التي تقول: إنها من نوح الجن على ابن الخطاب، ولم يتحدث في شيء من السخرية بأن الناس أضافوها إلى الشماخ.
فلو لم يكن للمؤلف مأرب غير البحث في العلم لما رأيته يقبض على الروايات الواهية وينسبها إلى أصحاب الروايات كأنها الأمر الذي انتهى إليه بحثهم وتواردت عليه كلمتهم.
•••
ذكر المؤلف أن القصاص والمنتحلين اعتمدوا على القرآن فيما رووا وانتحلوا من الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الأحبار والرهبان ثم قال في ص٧٢: «فالقرآن يحدثنا بأن اليهود والنصارى يجدون النبي مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، فإذن فيجب أن تخترع القصص والأساطير وما يتصل بها من الشعر ليثبت أن المخلصين من الأحبار والرهبان كانوا يتوقعون بعثة النبي ويدعون الناس إلى الإيمان به حتى قبل أن يظل الناس زمانه.»
أما ما زاد على القرآن من الآثار الواردة في هذا الصدد، فمنها ما هو أسطورة، ومنها ما هو قصص واهية، ومنها ما جاءت به رواية قائمة، وإن استطاع المؤلف أن يسلك إلى الطعن في أمثال هذه الرواية سيرة علمية، فدونه وإياها، فإن للنبوة آيات أخرى لا تنالها أيدي الطاعنين.
•••
قال المؤلف في ص٧٢: «فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية.»
يرسل المؤلف قلمه على الحقائق فيخمش وجوهها، ويضريه على أعاظم الرجال فينال من أعراضها، وقد اشتد به هذا الخلق حتى أصبح الناس يعدون إنحاءه على مقام بالعيب أمارة على رفعته، وكادوا يجعلون ثناءه على الشخص داعيًا إلى الريبة في سيرته.
ألا ترون إلى ذلك القلم كيف تطوح به الغرور إلى أن يحوم على مقام أكمل الخليقة فيقذف نحوه بما تملي عليه تلك الروح النازعة إلى غير هدى!
قنع الناس بأن محمدًا — صلوات الله عليه — صفوة بني هاشم بل صفوة الإنسانية؛ لأن صحيفة حياته أبدع صحيفة طويت بوفاة صاحبها، ولأن ما جرى على يده ولسانه من حكمة وإصلاح لم يأت بمثله إنسان تقدمه أو إنسان جاء من بعده.
ويرى الناس أن بني هاشم صفوة قريش، وأن قريشًا صفوة كنانة، وأن كنانة صفوة ولد إسماعيل، وقنعوا بهذا للحديث المروي في صحيح الإمام مسلم، والمسموع من أصدق الناس لهجة، وهو: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.»
فلو وجه المؤلف غمزه إلى المفاضلة بين بني هاشم ومن بعدهم، لقلنا أنكر حديثًا، ولم نؤاخذه إلا على مهاجمة الحديث بالإنكار المجرد من البحث العلمي مثلما يهاجمه الصم الذين لا يعقلون، ولكنه لم يقنع بأن ينكر حديثًا في صحيح مسلم، ولم يشف ظمأه أن يرمي ساحة القرآن بالكذب، فجعل يضع غمزة في عقيدة أن النبي عليه الصلاة والسلام صفوة بني هاشم. وحرصه على بث هذه المغامز في كتابه — دون أن تكون لها صلة بالبحث العلمي — شاهد على أنه يكتب تحت تأثير عاطفة تريد الانتقام من الإسلام الذي قضى على العقيدة الخاسرة والشهوة الباغية وجعل مكان الغي رشدًا وبدل السفه أدبًا.
•••
تحدث المؤلف بأن القصاص يضيفون إلى أسرة النبي عليه الصلاة والسلام ما يرفع شأنهم ويثبت تفوقهم على قومهم وعلى العرب. وأن هذا القصص يستتبع الشعر، وأتى على أن التنافس كان يشتد بين بني أمية وبني هاشم وأن الخصومة بين قصاص هذين الحزبين كانت تشتد، وأن الروايات والأخبار والأشعار كانت تكثر، وذكر أن هذا الأمر لا يقتصر على بني أمية وبني هاشم بل تشاركهم فيه الأرستقراطية القرشية كلها، ثم قال في ص٧٣: «وإذن فالبطون القرشية على اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار وتغري القصاص وغير القصاص بانتحالها.»
يمر القارئ الملم بصناعة المنطق على هذه الجملة فيقع في ظنه أن المؤلف استخلصها كالنتيجة من مقدمات سابقة، فيرجع البصر فيما تقدمها من حديث فلا يظفر ولو بشاهد على أن البطون القرشية على اختلافها انتحلت الأخبار والأشعار وأغرت القصاص وغير القصاص بانتحالها.
هل عد المؤلف بطون قريش بطنًا فبطنًا، وضرب لكل بطن مثلًا يرينا كيف انتحل خبرًا أو شعرًا أو أغرى القصاص وغير القصاص بانتحاله؟ هل جاء المؤلف برواية تثبت أن بطون قريش على اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار وتغري القصاص وغير القصاص بانتحالها؟
لم يفعل المؤلف هذا ولا ذاك، إذن هذه العبارة الواسعة إنما هي دعوى أخرجها في صورة نتيجة، وما هي بنتيجة.
•••
ولما جاءه بها قال له أبو بكر: قل قالها ابن الزبعري، قال فهي الآن منسوبة في كتب الناس إلى ابن الزبعرى.
إذا عثر المؤلف على قصة مصوغة في مثال رغبته، نسي ديكارت، ولعن منهج ديكارت، وأخذ يحدثك بها حديث من شهدها بأذن تسمع، وقلب يفقه ويد تلمس، وانطلق يبني عليها ويستنبط منها حتى يرضى.
ما وقف المؤلف على قصة أبي بكر هذا ومن يسميه «عبد العزيز بن أبي نهشل» حتى اعتنقها باليمين والشمال، وضمها إلى أشباهها مطوية على تحريفها الذي وقعت فيه نسخة الأغاني، وكذلك يفعل من يحاول التطاول على أمة جعل الله منزلتها فوق السماكين.
هل وجد أستاذ الآداب بالجامعة في غير هذه النسخة من الأغاني أن في الشعراء من يسمى: «عبد العزيز بن أبي نهشل»؟ هو لا يعرف شيئًا عن هذا الذي يسميه «عبد العزيز بن أبي نهشل» سوى أن في نسخة الأغاني التي وقعت بين يديه أن صاحب هذا الاسم حكى قصة تحط من شأن أبي بكر بن عبد الرحمن وتشتمل على انتحال شعر، وعزوه إلى ابن الزبعري.
ورد في سند هذه القصة من كتاب الأغاني ما نصه: «عن عبد العزيز بن أبي ثابت عن محمد بن عبد العزيز بن أبي نهشل عن أبيه إلخ.» ففهم المؤلف أن محمد بن عبد العزيز روى عن أبيه عبد العزيز بن أبي نهشل أنه قال له أبو بكر بن عبد الرحمن: يا خال! هذه أربعة آلاف إلخ.
- أولهما: أن السند يدور على عبد العزيز بن عمران، وهو ابن أبي ثابت، وقد توارد
أهل العلم على الطعن في روايته. قال يحيى بن معين في شأنه: «ليس بثقة،
إنما كان صاحب شعر، ورأيته ببغداد كان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم،
ليس حديثه بشيء.» وقال الحافظ أبو يحيى الذهلي: «عليَّ بدنة إن حدثت
عنه حديثًا.» وضعفه جدًّا. وقال البخاري: «منكر الحديث لا يكتب حديثه.»
وقال ابن أبي حاتم: «امتنع أبو زرعة من قراءة حديثه وترك الرواية عنه.»
وقال ابن حبان: «يروي المناكير على المشاهير.»
فشهادة هؤلاء الأعلام بعدم الثقة بما يرويه عبد العزيز بن أبي ثابت من الحديث، تجعلنا في ريبة من هذه القصة التي تخالف ما في كتب الناس.
- ثانيهما: أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث كان من سادات النابغين وأحد الفقهاء السبعة المشار إليهم بالعلم والتقوى، وقد تضافرت كلمة أهل الحديث والمؤرخين على وصفه باستقامة السيرة ولم يمسه قلم أحد بسوء، وكان لكثرة صيامه وصلاته يسمى راهب قريش، وكان عبد الملك بن مروان يكرمه ويقول: إني لأهم بالسوء أفعله بأهل المدينة فأذكر أبا بكر فأستحي منه.
فشهرة أبي بكر بالعلم والاستقامة إلى هذه المنزلة تبعدنا من قبول قصة ترميه بمحاولة شاعر على أن يحدث عن رسول الله ﷺ كذبًا. بل المظنون في رجل كأبي بكر بن عبد الرحمن أن يترفع عن هذه السخافة البادية في القصة ويستغني عن فخر الجاهلية بما آتاه الله من علم وتقوى وحسب وجاه.
وإذا جاءت رواية على خلاف ما في كتب الناس، وكان الراوي غير ثقة، وكانت سيرة هذا الذي تحدث عنه الراوي المتهم بعيدة عن وصمة ما ينسب إليه، لم يبق لهذه الرواية الشاذة إلا أن تسقط غير مأسوف عليها.
•••
ذكر المؤلف أن من تأثير الدين في انتحال الشعر ما يضيفه الرواة إلى أخبار الأمم القديمة كعاد وثمود وقال: إن ابن سلام قد كفاه نقده حين أثبت أن هذا وما يشبهه مما يضاف إلى تبع وحمير موضوع منتحل، ثم قال في ص٧٦: «وابن إسحاق ومن إليه من أصحاب القصص لا يكتفون بالشعر يضيفونه إلى عاد وثمود وتبع وحمير، وإنما هم يضيفون الشعر إلى آدم نفسه، فهم يزعمون أنه رثى هابيل حين قتله أخوه قابيل. ونظن من الإطالة والإملال أن نقف عند هذا النحو من السخف.»
هذا الشعر الذي ينسب إلى آدم عليه السلام قد أنكره كثير من أهل العلم. فهذا صاحب الكشاف يقول في شأنه: «هو كذب بحت وما الشعر إلا منحول ملحون.» وقال الرازي: «ولقد صدق صاحب الكشاف فيما قاله فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق إلا بالحمقى.» وأورد هذا الشعر سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان وقال: «هذا ما ذكره الثعلبي وهو شعر ركيك مزخرف، وقد أنكر ابن عباس هذا الشعر، وقال: من قال إن آدم قال شعرًا فقد كذب على الله ورسوله.» وإذا كان علماء الأدب والتفسير قد نبهوا على أن الشعر المضاف إلى آدم وعاد وثمود وتبع وحمير منحول مصطنع فلا مزية للمؤلف في حديثه هذا إلا أنه ساق الكلام في صورة تضع في نفس القارئ أن شعر آدم لم يتعرض لإنكاره أحد قبله.
•••
عاد المؤلف إلى الحديث عن الشعر الذي يستشهد به الرواة والمفسرون على ألفاظ القرآن ومعانيه حتى قال: «فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلى الشك في عربيتها.»
وقال في ص٧٧: «وإنما نعيد شيئًا واحدًا وهو أننا نعتقد أنه إذا كان هناك نص عربي لا تقبل لغته شكًّا ولا ريبًا، وهو لذلك أوثق مصدر للغة العربية، فهو القرآن: وبنصوص القرآن وألفاظه يجب أن يستشهد على صحة ما يسمونه الشعر الجاهلي بدل أن نستشهد بهذا الشعر على نصوص القرآن. ولست أفهم كيف يتسرب الشك إلى عالم جاد في عربية القرآن واستقامة ألفاظه وأساليبه ونظمه على ما عرف العرب أيام النبي من لفظ ونظم وأسلوب.»
لم يستشهد العلماء على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب فإن أغلب كلامه ظاهر لا يحتاج في تقرير معناه أو وجه إعرابه إلى شاهد، وقد سبقت لنا كلمة في هذا الصدد، ونقلنا لكم ما قال الرازي وابن حزم فيما أنكراه على بعض النحاة من الاستشهاد على القرآن بالشعر أو توقفهم في الاستشهاد بالقرآن، وإنما نعيد شيئًا واحدًا وهو أن إنكار الاحتجاج بالشعر على القرآن رأي قديم، وزعم المؤلف أنه الصانع له تغييرٌ في تاريخ أدب اللغة العربية، وما كان لأستاذ الآداب أن يغير تاريخها إلى حد أن يأخذ الرأي الذي نشأ في المائة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ويجعله ابن المائة الرابعة عشر. وليس التصرف في تاريخ الآراء بأقل جناية من أن يدَّعي لطلابه أن الرازي أو ابن حزم أو أبا بكر بن الأنباري من علماء هذا العصر وأنهم لا زالوا أحياء يرزقون.
وإن شئت حديثًا يزيدك ثقة بما قال أبو بكر بن الأنباري في جواب جماعة لا علم لهم، فإليك الحديث:
في القرآن كلمات ذات معان مفردة يعرفها الجمهور من الناس، وهذه الكلمات لا يحتاج مفسر الآية إلى الاستشهاد عليها بشيء من الشعر أو النثر.
وفي القرآن كلمات ذات معان متعددة، ومن هذه المعاني ما هو معروف متداول في الاستعمال، ومنها ما ليس كذلك، فإذا اقتضت البلاغة في نظر المفسر أن يحمل مثل هذه الكلمات على معنى غير المعنى المعروف لدى الجمهور احتاج إلى الاستشهاد بمنظوم أو منثور تكون دلالته على هذا المعنى واضحة، حتى لا يتردد في قبول التفسير من لم يقف على أن هذه الكلمة قد تستعمل عربية في غير ما هو مألوف لدى الجمهور.
وفي القرآن كلمات غريبة يحتاج المفسر عند بيان معناها إلى الاستشهاد بشيء من كلام العرب حتى يعلم طالب العلم أن التفسير لم يخرج عن حدود اللسان العربي فيطمئن إلى صحة التفسير لا إلى أن القرآن عربي، فإن هذا لا يشك فيه أحد مطلق الرجلين يطوف أنى شاء ويلتقي بمن شاء.
وفي القرآن آيات تحتمل أوجهًا من الإعراب، ومن الواضح أن معنى الآية يختلف باختلاف وجه إعرابها، فقد يختار المفسر من الإعراب وجهًا يراه أليق بالبلاغة أو أثبت بحكمة المعنى، ويكون هذا الوجه من الإعراب يستند إلى حكم عربي غير معهود لبعض أهل العلم، فيخشى إنكارهم لأن يكون هذا الوجه صحيحًا عربية فيعمد إلى دفع هذا الإنكار بإقامة شاهد من لسان العرب على صحة ما ذهب إليه من الإعراب.
فالاستشهاد بالشعر على القرآن قائم على دواع معقولة، أما أن المستشهد يخطئ أو يصيب، يأتي بالمثل الصادق أو ينتحله، فذلك بحث آخر سنفصله لك في مقالة أخرى.
•••
قال المؤلف في ص٧٧: «وإنما هناك مسألة أخرى وهي أن العلماء وأصحاب التأويل من الموالي بنوع خاص لم يتفقوا في كثير من الأحيان على فهم القرآن وتأويل نصوصه، فكانت بينهم خصومات في التأويل والتفسير. وعن هذه الخصومات نشأت خصومات أخرى بين الفقهاء وأصحاب التشريع.»
من يحق له أن يفسر القرآن طائفتان: طائفة لم تبلغ درجة الاجتهاد في الأحكام الشرعية كسيبويه والزجاج والزمخشري. وطائفة بلغت درجة الاجتهاد كالأئمة الأربعة، ومن المأخوذ في شروط المجتهد أن يكون بمكانة راسخة في علوم اللسان بحيث يتفقه في معنى الآية بنفسه، ويفصل الحكم على مقتضى علمه، ومتى وجد اختلافًا في حكم لغوي جرد نظره لاستطلاع الحقيقة، ولا يقف وقفة الحائر أو يستند إلى أحد الآراء على غير بينة.
وإدراك الفقيه منزلة الاجتهاد في علم اللسان العربي لا يستدعي زمانًا واسعًا جدًّا حتى يقال: إن اشتراطه إقامةٌ لعقبة كئود في سبيل الاجتهاد في الأحكام، فإن الذي يقتضي بحثًا متواصلًا وزمانًا قد يأتي على معظم العمر هو التوغل في هذه العلوم وتقصي آثارها ثم التوسع في بسط أدلتها وتفصيل أحكامها، وهذا أمر زائد على إحراز ملكة قوية وبصيرة نافذة يرجع إليها عند الحاجة إلى تحقيق بحث أو تفصيل خلاف.
فلا يصح أن تكون خصومات المجتهدين الذين سماهم المؤلف أصحاب التشريع ناشئة عن خصومات أصحاب التأويل من الموالي أو غير الموالي، فإن المجتهد لا يثق بتأويل غيره، وإنما يبني الحكم على ما يفهمه من الآية بنظر مستقل.
•••
يقول ابن قتيبة في التأويل: «وفسروا القرآن بأعجب تفسير، يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم في قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أي علمه، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يُعرف، وهو قول الشاعر: «ولا بكرسيء علم الله مخلوق.»
وقال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتاب تاريخ آداب اللغة العربية: «وهنا ضرب ثالث من الشواهد نشأ في القرن الثالث، وهو ما يولده بعض المعتزلة والمتكلمين للاستشهاد به على مذاهبهم، وكانت رواية الشعر فيهم يومئذ عامة.» وساق على هذا الكلام ابن قتيبة الملقى إليك آنفًا، وأضاف إليه مثالًا آخر من كتاب الحيوان للجاحظ.
لا نريد أن نقول: إن هذا مما نقده أهل العلم قبل المؤلف، ولا نريد أن نبحث في أن المؤلف يعرف لهذا الغرض مثالًا غير هذا الذي ذكره الأستاذ الرافعي، أم لا يعرف، وإنما أريد أن أقول: إن المؤلف يدعي أن المعتزلة يعتمدون على آراء الجاهليين، ثم يسوق الشاهد ويصف قائله بأنه «المجهول طبعًا» كما قال ابن قتيبة: «بشاهد لا يعرف.» وإذا لم يذكروا القائل باسمه، وكانت عادتهم الاستشهاد بالشعر العربي جاهليًّا كان أو إسلاميًّا، فمن أين علم المؤلف أنهم نسبوا هذا الشاهد إلى الجاهليين؟
•••
تحدث المؤلف بأن كذب أصحاب العلم على الجاهليين كثير ثم قال في ص٧٩: «لأمر ما كان البدع في العصر العباسي عند فريق من الناس أن يرد كل شيء إلى العرب حتى الأشياء التي استحدثت أو جاء بها المغلوبون من الفرس والروم وغيرهم. وإذا كان الأمر كذلك فليس لانتحال الشعر على الجاهليين حد. وأنت إذا نظرت في كتاب الحيوان للجاحظ رأيت من هذا الانتحال ما يقنعك ويرضيك.»
لم يكن أهل العلم يأخذون الشعر على أنه جاهلي من كل من يكتبه في كتاب أو ينشده في مجلس، بل كانوا يفرقون بين هذا الذي يرويه الثقات أو تتعدد مآخذه كالمفضليات والمعلقات وبين ما يرويه أناس نقدوهم فلم يجدوهم على ثقة، ومن هذا النوع ما ينفرد بروايته الجاحظ، فإنهم كانوا يعدون أحاديثه وأدبه مما يستعان به على السمر، قال أبو منصور الأزهري في مقدمة تهذيبه يصف الجاحظ: «وكان أوتي بسطة في لسانه، وبيانًا عذبًا في خطابه، ومجالًا واسعًا في فنونه، غير أن أهل المعرفة بلغات العرب ذموه، وعن الصدق دفعوه، وأخبر أبو عمرو الزاهد أنه جرى ذكره في مجلس أحمد بن يحيى فقال: «اعزبوا عن ذكر الجاحظ فإنه غير ثقة ولا مأمون.» وينبئك بأن من هذه الأشعار العربية ما لا يثقون بروايته ويعدونه فيما يسمر به عند الملوك ونحوهم قول ابن سلام بعد أن ساق بيتين ينسبان إلى لبيد: «ولا اختلاف في هذا أنه مصنوع تكثر به الأحاديث ويستعان بها على السمر عند الملوك، والملوك لا تستقصي».
فما يرويه الجاحظ في نحو كتاب الحيوان من الشعر وينفرد بروايته لا يثق به أهل العلم ولا يبنون عليه تاريخًا، ولا يعولون عليه في تقرير حكم أو قاعدة لغوية وإنما يقرأونه من حيث إنه أدب، وهو من أدب اللسان وإن كان معزوًّا إلى غير قائله.
•••
ذكر المؤلف أن لتأثير العواطف الدينية في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين فنونًا، وأن ما تحدث به من قبل فنونها الهينة، ويريد الآن أن يتحدث عن أعظم هذه الفنون كلها وهو هذا النوع الذي ظهر عندما استؤنف الجدال في الدين بين المسلمين وأصحاب الملل الأخرى، ولا سيما اليهود والنصارى. ثم قال في ص٨٠: «وذهب المجادلون في هذا النوع من الخصومة مذاهب لا تخلو من غرابة نحب أن نشير إلى بعضها في شيء من الإيجاز. أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل. فليس غريبًا أن نجد قبل الإسلام قومًا يدينون بالإسلام أخذوه من هذه الكتب السماوية التي أوحيت قبل القرآن.»
يصرح القرآن بأن إبراهيم عليه السلام بنى البيت الحرام، وأن العرب النازلين حول مكة من ذريته، وأن لهذا الرسول شريعة، وأن شريعته وشريعة الإسلام تتحدان في التوحيد الخالص وبعض الأحكام والآداب، ولاتحاد الملتين في العقائد والآداب نطقت الآيات بأن دين الإسلام هو ملة إبراهيم عليه السلام، فقال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وقال: قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وقال: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا.
فمعنى أن للإسلام أولية في بلاد العرب ثابت بنص القرآن لا أن المسلمين يريدون إثباته.
والقرآن أيضًا يقول: إن الدين الإسلامي هو الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل فقد رأيتموه كيف يسمي دين الإسلام ملة إبراهيم عليه السلام، ورأيتموه يقول لمحمد صلوات الله عليه: أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.
ثم هو يسوق قصص الأنبياء من قبل، ويأتي في بيان ما يدعون إليه على ما يدعو إليه الإسلام من التوحيد الخالص، واختصاص الخالق بالعبادة، واعتقاد أن غير الله لا يملك ضرًّا ولا نفعًا، إلى ما يشاكل هذا من آداب رفيعة وأخلاق فاضلة.
فهذا الذي يعزوه المؤلف لإرادة المسلمين إنما يقوله القرآن، والمؤلف يريد نفيه وليس له على هذا النفي من حجة غير ما تعلمه من قدماء الجاحدين من نحو التهكم والإنكار الذي يأتيك عاريًا من كل حجة وشبهة تشبه أن تكون حجة.
•••
قال المؤلف في ص٨٠: «والقرآن يحدثنا عن هذه الكتب، فهو يذكر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى: وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئًا آخر هو صحف إبراهيم، هو هذه الحنيفية التي لم نستطع إلى الآن أن نتبين معناها الصحيح.»
اتفقت الأديان الثلاثة على نبوة إبراهيم عليه السلام، ودل القرآن بما يحكيه من محاجته لقومه وما يأتي عليه من آداب شريعته أنه كان يدعو إلى التوحيد ومكارم الأخلاق، ولهذا المعنى سمي حنيفًا، أي مستقيمًا، وكذلك سميت ملته الحنيفية، نسبة إلى الحنيف وهو المستقيم، وكل نبي حنيف، وكل شريعة سماوية حنيفية، وإنما سمي إبراهيم عليه السلام حنيفًا وملته حنيفية تنبيهًا على خطأ من يدعون أنهم على ملة إبراهيم وهم يعملون على شاكلة غير مستقيمة، ولذلك نرى القرآن يصفه بقوله: حَنِيفًا ويتبع هذا الوصف بقوله: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
فإن أراد المؤلف أنه لم يستطع أن يتبين معنى الحنيفية من القرآن، فالقرآن ينادي على هذا المعنى ويعبر عنه بأفصح بيان، وإن أراد أنه لم يستطع أن يتبينه من ناحية غير ناحية القرآن، فليدعه إلى ما لا يستطيع أن يتبينه كالعلوم الرياضية والطبيعية.
•••
قال المؤلف في ص٨٠: «فقد أخذ المسلمون يردون الإسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم هذا الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى.»
القرآن هو الذي يرد الإسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم عليه السلام، والأديان السماوية تشترك في الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وهي من هذه الجهة متماثلة لا يفضل فيها دين على آخر، ولا يقال: إن دينًا أنقى من دين إلا حيث ينظر إلى خلوصه من تحريف يطمس الطريق إلى معرفة حقائقه، وإنما تتفاضل الأديان بكثرة ما فيها من حكمة وموعظة، وبسعة ما ينطوي تحت أصولها الاجتماعية من مصالح الأمم، وتتفاوت بما يدل على صدق المبعوث بها من آيات خالدة.
•••
قال المؤلف في ص٨١: «وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم. ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور، ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت إلى عبادة الأوثان.»
القرآن هو الذي ينبئنا بأن الإسلام يهدي إلى الدين الحق الذي كان عليه إبراهيم وغيره من الأنبياء، وإذا ذكر إبراهيم عليه السلام فلأنه أقدم الرسل الذين لم يزل في الأمم من ينتمي إلى شريعتهم، أو لأن نبوته يعترف بها اليهود والنصارى والوثنيون من العرب جميعًا، أو لأن الإسلام يوافق آداب شريعته أكثر مما يوافق التوراة والإنجيل.
فدعوى المؤلف أن تجديد الإسلام لدين إبراهيم عليه السلام فكرة شاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام، إنما هي نزعة من لا يرعى للتاريخ حقًّا، ولا يرى للدين حرمة، وكذلك يفعل من يحس أن خلفه أو بين يديه طائفة تلذ هذه النغمة وإن كانوا من قوم لا يعلمون.
ذكر المؤلف ما جاءت به الرواية من أن أفرادًا من العرب قبل البعثة تحدثوا بما يشبه الإسلام وقال في ص٨١: «وتأويل ذلك يسير، فهم أتباع إبراهيم، ودين إبراهيم هو الإسلام. وتفسير هذا من الوجهة العلمية يسير أيضًا، فأحاديث هؤلاء الناس قد وضعت لهم وحملت عليهم حملًا بعد الإسلام، لا لشيء إلا ليثبت أن للإسلام في بلاد العرب قدمة وسابقة.»
شأن الباحث بجد ألا يكتفي في إنكار رواية أو روايات بدعوى أنها وضعت وضعًا وحملت حملًا، ثم يسمي هذه الدعوى تفسيرًا لها من الوجهة العلمية. والمؤلف يفعل هذا؛ لأن العلم في نظر هذه الطائفة القليلة التي تدق له الهواء بالتصدية إنما هو أن يقول فيتهكم، والتهكم في نظر هؤلاء السذج خير من العلم؛ وأشد وقعًا على أذواقهم من سبعين برهانًا.
إنكار المؤلف لأن يبقى أثر لدين إبراهيم عليه السلام في بلاد العرب، مبني على إنكار وجود إبراهيم أو هجرته وهجرة إسماعيل إلى مكة، وقد عرفت أن هذا الإنكار لم يقم على بحث واستدلال، وإنما هو وليد نزعة لست أعلم بنشأتها وصابغ قلب المؤلف بعصفرها من هؤلاء القراء.
أما الذين يريدون أن يكونوا في البحث على بينة فإنهم يضعون هذه الأشعار وما يتصل بها من الأخبار موضع النقد، فما وجدوا في رواته أو في ألفاظه أو معانيه ما يدل على وضعه أو يجر إلى ريبة اطَّرحوه أو ارتابوا في أمره، وما وجدوه سليمًا من كل جانب قبلوه وتناقلوه.
•••
قال المؤلف في ص٨٠: «وعلى هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الجاهليين، والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن من الحديث شبه قوي أو ضعيف.»
من شاء أن ينظر إلى قاعدة تمتد إلى غير نهاية، ولا تتصل بما يمسكها أن تزول إلا إرادة هذا المؤلف، فلينظر إلى هذه الفقرة التي تمثل قلمًا يشتهي أن يكتب فينتكس ويرمي بالحديث في غير قياس.
كل شعر أو خبر أو حديث يضاف إلى الجاهليين ويكون بينه وبين آية من القرآن شبه قوي أو ضعيف فهو مصنوع!
أليس من الجائز أن ينطق العرب بحكمة فيأتي القرآن بهذه الحكمة على وجه أبلغ وأرقى؟!
أمن الحق أن ننكر أن العرب قالوا مثلًا: «القتل أنفى للقتل.» لمجرد شبهه يقول القرآن: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ؟! أومن الحق أن ننكر أن زهيرًا قال:
لأن له شبهًا قويًّا أو ضعيفًا بقول القرآن: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ.
فإن أراد المؤلف من الشبه المعاني الدينية، قلنا: هو إذًا يحدثنا برأي مرغليوث كأنه يأبى أن يبقى له في ذلك المقال باقية.
أورد مرغليوث شبهة خلو الأشعار المعزوة إلى الجاهليين من الصبغة الدينية، وقد سقناها إليكم مع ما يدفعها، ثم قال: نعم نجد شعراء الجاهليين يقسمون كثيرًا في أشعارهم، ولكن كل إيمانهم الواردة في دواوينهم هي بالله، وذكر أن كثيرًا من هذه الأشعار تشتمل على عقيدة التوحيد التي تنسب التصرف إلى الله، وعلى أشياء إنما يذكرها القرآن، وأورد شواهد شتى.
ولعلك تزداد خبرة بأن المؤلف يملأ حوصلته من كتب المستشرقين ويرفع بها رأسه متطاولًا على الشرقيين تطاول من لا يبالي عاقبة الافتضاح.
وسنتعرض لهذا البحث تارة أخرى فإن المؤلف أعاده فيما تحدث به عن شعر عبيد.
•••
طعن المؤلف في القرآن بملء فمه وعلى قدر ما يُرضِي شركاءه، وتذكر — والشيء بالشيء يذكر — أن المستشرق (كليمان هوار) كان قد زعم في فصل نشرته له المجلة الآسيوية أنه استكشف مصدرًا جديدًا للقرآن وهو شعر أمية بن أبي الصلت.
أسهب المؤلف في حديث ذلك المقال ونفخ فيه من روح تلك الدعاية المبيتة، وإنما خالفه في وثوقه بصحة هذا الشعر المنسوب إلى أمية بن أبي الصلت. ومن رغبت إليه نفسه في أن يريها باطلين يتباريان في الهجوم على حق، فلينظر إلى حديث (هوار) والمؤلف عن شعر أمية بن أبي الصلت.
يثق هوار بصحة ما يعزى إلى أمية بن أبي الصلت من الشعر، ويزعم أنه من المصادر التي استمد منها النبي عليه الصلاة والسلام القرآن. ورأى المؤلف أن الاعتراف بصحة الشعر المعزو إلى أمية يضر بنظرية إنكار الشعر الجاهلي، وهو له في تقرير هذه النظرية مآرب ترجح على مأرب القول بأن من مصادر القرآن شعر أمية بن أبي الصلت، ولا سيما بعد أن حدثك بلسان المستشرقين «أن القرآن تأثر باليهودية والنصرانية ومذاهب أخرى بين بين كانت شائعة في البلاد العربية وما جاورها».
فالمؤلف لم يخالف (هوار) في زعم أن شعر أمية من مصادر القرآن إلا بعد أن أراك أنه في غنى عن شعر أمية بما قصه عليك من تأثر القرآن باليهودية والنصرانية ومذاهب أخرى بين بين.
ولا ندري كيف غاب عن المؤلف أن يوافق (هوار) في صحة شعر أمية حتى يستفيد شبهة على القرآن، ثم ينكره جمعًا لشمل نظرية الشك في الشعر الجاهلي، وما عليه إلا أن يقول لتلك الطائفة القليلة المستنيرة: اعتقدوا أن هذا شعر أمية بقلوبكم حتى تتنكر للقرآن، وأنكروه بعقولكم حتى ينتظم شمل نظرية الشك في الشعر الجاهلي! وإذا وجد في أبناء الأربعين من تقبل منه مثل هذا الهذيان، وتحدث به في مجلس ينبغي ألا تسمع فيه لاغية، أفلا يقبله الأطفال الذين يخرج لهم المنكر من طريق الحق فيضربون أيمانهم على شمائلهم ويرجون له الهواء بالتصدية رجًّا!
ما يقوله المستشرقون ويحكيه عنهم المؤلف من أن للقرآن مصادر، هي اليهودية والنصرانية ومذاهب بين بين، ليس بشبهة جديدة، ولا هو «من النتائج العلمية القيمة» التي انتهوا إليها على مناهج النظر الصحيح.
لا نزدري الغربيين وعلومهم الغزيرة وإجادتهم النظر في الماديات وما تنتظم به مرافق الحياة ووسائل العمران الذي نشهده بأبصارنا ونلمسه بأيدينا، ولكنهم لم يبلغوا أن يمتازوا بالثقافة في كل علم حتى المباحث التي لا يتوقف إدراك حقائقها إلا على ذكاء الباحث وصفاء بصيرته.
فإن كان المؤلف يضع قلبه بين أصابع المستشرقين، ويملأ جرابه من حقائب المستشرقين، ويستهوي تلك الطائفة باسم المستشرقين، فإن للناس بصائر تأبى لهم أن يقلدوهم في الفرق بين الحق والباطل، والفصل في أسباب السعادة والشقاء، ولا سيما بعد أن رأوا فيهم صفوًا وكدرًا، ونظامًا وخللًا، وأدبًا وسفهًا، وذكاء وبلهًا، وسلاسة وتعسفًا.
من درس حال الثقات من علماء الحديث والآثار لا يمتري في أنهم يروون الأحاديث والآثار بأمانة، ولا يخطر على بالهم أن يكتموا من السيرة النبوية صغيرًا أو كبيرًا. دخل في الرواية الوضع لأسباب بسطناها في مقدمة المغني عن الحفظ، أما أن يعمد الرواة إلى أن يحذفوا من السيرة النبوية ما وقع إلى أسماعهم فذلك ما لا يتصوره العارف بحقيقة الرواية.
فمن توجه قصده إلى شيء يتصل بالسيرة النبوية فليبحث عنه في كتب الآثار وتاريخ عهد النبوة، فإنه يجد فيها بعد الموثوق بروايته ما أمكن للجاهلين والمنافقين إلصاقه بأكمل الخليقة، ويرى قواعد أهل الحديث كيف تعمل في الروايات فتدفع هذه الرواية إلى اليمين والأخرى إلى الشمال.
ليس في الروايات صحيحها وأساطيرها أثر يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام بارح مكة قبل البعثة وغاب عن قومه إلا ما روي من خروجه مع عمه أبي طالب إلى الشام خطرة، وسفره في تجارة لخديجة بنت خويلد خطرة أخرى. فلا يستقيم لأحد ادعاء أنه تعلم القراءة ودرس التوراة والإنجيل مدة مغيبه عن مكة وقومه لا يشعرون، فإن لسفر التجارة أيامًا معدودة لا تكفي لدرس ديانة أو ديانتين لا سيما بعد أن تطرح منها أوقات الاشتغال بشأن التجارة، وما حال المسافرين للتجارة منا ببعيد.
ولا يصح لأحد أن يدعي أنه عليه الصلاة والسلام تعلم كتب اليهود والنصارى ومذاهب بين بين في مكة وعلى مرأى من قومه؛ إذ لو وقع شيء من هذا لم يجئ في القرآن آيات تصفه بعدم القراءة والتلقي من البشر، ولو جاءت هذه الآيات وكان قد تعلم من يهودي أو نصراني لم يجد من قومه وعشيرته الذين رأوه يقرأ ويتعلم أنصارًا إلى الله يؤمنون به ويجلسون بين يديه كأنما على رؤوسهم الطير.
ولا يصح أن يكون عليه الصلاة والسلام قد تعلم كتب اليهود والنصارى ومذاهب بين بين في خلوة وعلى حين غفلة من قومه، فإن تلقي بعض الكتب في خفاء قد يمكن للرجل الغريب في مدينة لا يعرفه فيها إلا بضعة أشخاص يلاقونه في الشهر أو في الأسبوع أو في اليوم مرة أو مرتين، أما رجل ذو عشيرة وذو مزايا تلفت له الأنظار وتجذب له القلوب كمحمد بن عبد الله ﷺ ينشأ في بلدة لها طرق محدودة وبيوت معدودة كمكة، فليس من المقبول أن يتمكن من التردد على موطن يختلي فيه بيهودي أو نصراني دون أن يشعر به أحد من قومه أو عشيرته الأقربين.
وليس من المعقول أن يقال: قد وقعت إلى يده نسخة من التوراة وأخرى من الإنجيل؛ لأنهما لم يخرجا إلى لسان العرب بعد، ولا يقرؤهما إلا من درس اللغة العبرية، ولو درس النبي عليه الصلاة والسلام تلك اللغة وعرف كيف يقرأ حروفها الهجائية لما عرج القرآن على وصفه بالأمية ولما ظل النبي — صلوات الله عليه — يتلو آياتها والناس يشهدون ويؤمنون. إن رجلًا له أولو قرى يجاورونه وطائفة من غيرهم يعرفونه أو يصادقونه لا يمكنه أن يتعلم علمًا أو لسانًا دون أن يشعر به أحد منهم ولو اجتهد في أن يكتم أمره ويسد في وجوههم كل سبيل.
هذا شأنه قبل البعثة، أما زعمُ تعلمه لما في التوراة والإنجيل ومذاهب بين بين بعد قيامه بالدعوة، فبطلانه أشد بداهة؛ إذ لا يلائم حكمه القائم بتلك الدعوة المؤزرة بكل جد وحزم أن يجادل اليهود والنصارى ويشتد بينه وبينهم الخصام، ثم يطلب لديهم علم التوراة والإنجيل، ولو طلب لديهم ذلك لأقام في سبيل دعوته عقبة كؤودًا، فقد أصبح بعد ظهوره بالدعوة مرموقًا بكل لحظ مشارًا إليه بكل بنان، ولا سيما بعد أن استجاب له طائفة يجلسون إليه بالعشي والإبكار.
ومن الباطل على البداهة أن يأخذ علوم هذه الأديان عمن أسلم من أهلها ثم يجيء بها في القرآن على أنها وحي يوحى، ولو جرى شيء من هذا لكان سببًا لارتداد الطائفة التي أخذ عنها أو الطائفة التي سمعته يحاورها، ولو وقع ارتداد على هذا الوجه لوجدنا له في الرواية أثرًا.
قص علينا القرآن قول بعض الذين أشركوا: إنه ساحر، وقول آخرين: إنه مجنون، وقول طائفة ثالثة: إنه شاعر، وأضاف إلى هذا قول بعضهم: «إنما يعلمه بشر.» وأورد هذه المزاعم استخفافًا بأقوال يعلم العارفون بنشأة النبي عليه الصلاة والسلام وأطوار حياته أنها إفك مفترى، كما يعلم الذين أوتوا الحكمة والروية أن صاحب هذه الآيات الباهرات والسيرة التي لم تتمخض الأيام بما يشبهها، بريء من أن يقول على شيء: هو من عند الله، وما هو من عند الله. ولو كان المقام للبحث عن دلائل النبوة لأتيناك بالحق الذي تتسلل من ساحته هذه المطاعن والمغامز لِواذًا.
ولو سلمنا أن ما جاء في القرآن من الأحكام والأنباء المتصلة بالتوراة والإنجيل قد يكفي فيه لقاء الصدفة أو الاستماع إلى من يتحدث به على قارعة الطريق، لكان في دلائل النبوة ما يصدع بأن تلقِّي النبي عليه الصلاة والسلام بعض هذا القرآن من لدن بشر، غير واقع وغير محتمل لأن يكون.
قد يجيء القرآن على وجه التذكرة والموعظة بنبأ يعلمه الناس من قبل، ولكنه لا يقول إلا حقًّا، ولا يحكي إلا واقعًا، ومن زعم أنه يعظ بالقصص الباطلة فإنما هو الطعن بمكيدة، والله لا يهدي كيد الخائنين.
ولا بأس بأن يكون القرآن موافقًا للتوراة والإنجيل في بعض الشرائع أو الأنباء، بل تكون هذه الموافقة حجة على صدق الدعوة، وعلى أن هذه الأحكام أو القصص من بقايا الوحي الذي نزل على موسى وعيسى عليهما السلام، وإنما يخل بصحة الكتاب أن يشرع أحكامًا وسننًا لا ترضى العقول الراجحة عن حكمتها، أو يأتي بقصة تردها الطرق العلمية من حس أو عقل أو رواية قاطعة والقرآن بريء من مخالفة الطرق العلمية ومن كل وجه يخل بالحكمة إلا في نظر من يرى أن السعادة في الخلاعة، وأن راحة الضمائر في الجحود بمبدع الخليقة.
ذكر المؤلف أنه يقف من شعر أمية وقفته من شعر الجاهليين جميعًا، وأنه يشك في صحة شعره كما شك في صحة شعر امرئ القيس والأعشى وزهير، ولم يكن لهم من النبي موقف أمية، ثم قال في صحيفة ٨٤: «ثم إن هذا الموقف يحملني على أن أرتاب في شعر أمية بن أبي الصلت، فقد وقف أمية من النبي موقف الخصومة: هجا أصحابه وأيد مخالفيه ورثى أهل بدر من المشركين. وإن كان هذا وحده يكفي لينهى عن رواية شعره وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هُجي فيه النبي وأصحابه.»
•••
قال المؤلف في ص٨٦: «ونحن نعتقد أن هذا الشعر الذي يضاف إلى أمية ابن أبي الصلت وإلى غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبي أو جاءوا قبله إنما انتحل انتحالًا. انتحله المسلمون ليثبتوا — كما قدمنا — أن للإسلام قدمة وسابقة في البلاد العربية.»
جاءت الرواية الصحيحة بأن أمية كان يصوغ شعره في شيء من التوحيد، وفي رواية الإمام مسلم لحديث عمرو بن الشريد المسوقة آنفًا أن النبي ﷺ قال حين سمع شعر أمية: «كاد ابن أبي الصلت أن يسلم.» فما يروى من شعر يعزى إلى أمية وفيه تحنف، محتمل لأن يكون ثابتًا عنه، وليس من أدب البحث التسرع إلى الحكم بانتحاله لمجرد ما فيه من التحنف، وإنما ينظر فيه كشعر خال من هذا المعنى، فإن لم نصل إلى الطعن في نسبته إلى أمية من طريق اللفظ أو المعنى أو الرواية جاز لنا أن نكتبه في ديوان أمية، ونقول عند إنشاده: هذا الشعر لأمية.
تحدث المؤلف عن حال اليهود واستعمارهم جزءًا من البلاد العربية، ثم تحدث عن النصارى وكيف انتشرت ديانتهم في بعض بلاد العرب، ثم قال في ص٨٧: «ويظهر أن قبائل من العرب البادين تنصرت قبل الإسلام بأزمان تختلف طولًا وقصرًا. فنحن نعلم مثلًا أن تغلب كانت نصرانية وأنها أثارت مسألة من مسائل الفقه. فالقاعدة أنه لا يقبل من العربي إلا الإسلام أو السيف، فأما الجزية فتقبل من غير العرب. ولكن تغلب قبلت منها الجزية، قبلها عمر فيما يقول الفقهاء.»
يتحدث المؤلف في مسائل دينية ليظهر للقراء أنه درس الشريعة حتى يطمئنوا لما يقوله عن الإسلام في غير إخلاص. يقول المؤلف: القاعدة أنه لا يقبل من العربي إلا الإسلام أو السيف. يقف القارئ في هذه الفقرة وقفة متردد ولا يدري هل هذا المؤلف يتكلم في الدين مجتهدًا لنفسه أو مقلدًا لذوي الاجتهاد أو كأجنبي يحكي قاعدة في الإسلام وليس له به صلة اجتهاد أو تقليد؟
نحن نعلم أن ليس للمؤلف من صلة اجتهاد أو تقليد بالإسلام؛ لأن كلًّا من الاجتهاد والتقليد لا يقوم إلا على الإيمان بالقرآن، وشرط هذا الإيمان أن يدخل من ناحية العقل، لا أن يذهب من اليد أو الأذن إلى القلب رأسًا، وقد رأيتم المؤلف كيف يعبث حول القرآن، والقرآن قول فصل وما هو بالهزل، إذًا ليس هو بذي اجتهاد ولا ذي تقليد.
ومتى كان بنو تغلب نصارى فقبول الجزية منهم وارد على القاعدة وهي قبولها من أهل الكتاب عربًا كانوا أم عجمًا.
•••
قال المؤلف في ص٨٧: «تغلغلت النصرانية إذن كما تغلغلت اليهودية في بلاد العرب، وأكبر الظن أن الإسلام لو لم يظهر لانتهى الأمر بالعرب إلى اعتناق إحدى هاتين الديانتين، ولكن الأمة العربية كان لها مزاجها الخاص الذي لم يستقم لهذين الدينين، والذي استتبع دينًا جديدًا أقل ما يوصف به أنه ملائم ملاءمة تامة لطبيعة الأمة العربية.»
سبر المؤلف مزاج الأمة العربية فوجده لا يستقيم ليهودية ولا لنصرانية، وظن ظنًّا أكبر أن هذه الأمة ذات المزاج الخاص، لولا الإسلام لانتهى بها الأمر إلى إحدى هاتين الديانتين، فمزاج الأمة العربية لم يستقم لليهودية ولا النصرانية، ولو لم يظهر الإسلام لصار مزاجها مستقيمًا لإحداهما!
لا يكتفي المؤلف بأن يضع فلسفته في الواقعات ويذهب في تأويلها إلى غير ممكن، فجعل يفرض انتفاء الواقع ويخبرك ماذا يكون عند انتفائه! لندعه يتخيل أن الإسلام لم يظهر، ويلهى بالحديث عن مستقبل الأمة العربية، ثم يهبها إلى أي دين شاء، فالإسلام ظهر والأمة العربية اعتنقته، وسواء عليها أيرضى المؤلف عنها أم لا يرضى.
يزعم المؤلف أن الدين الجديد (يعني الإسلام) استتبعه مزاج الأمة العربية، وإنما الإسلام إصلاح لكل مزاج منحرف، وحقائق يألفها كل ذي بصيرة، وقد اعتنقته أمم غير العرب ولم يكن تقويمه لأمزجتها بأقل من تقويم مزاج الأمة العربية، وما كانت ملاءمته لمداركها السامية بأضعف من ملاءمته لمدارك الأمة العربية، ولم يكن انتشاره بينها بأدنى سرعة من انتشاره بين الأمة العربية، ولم يكن هذا الانتشار معزوًّا إلى كلمة السيف؛ لأن سيف الإسلام لا يكره الناس على الإيمان، وإنما يُشهر لحماية الدعوة وبسط العزة، ولا عزة إلا بسلطان، أما الدين فإنما كان يلج في القلوب من طريق القرآن والدعوة بالحكمة، ومن سيرة الذين يمثلون هدايته تمثيلًا صحيحًا.
•••
قال المؤلف في ص٨٨: «فالأمر كذلك في اليهود والنصارى تعصبوا لأسلافهم من الجاهليين وأبوا إلا أن يكون لهم شعر كشعر غيرهم من الوثنيين وأبوا إلا أن يكون لهم مجد وسؤدد كما كان لغيرهم مجد وسؤدد أيضًا، فانتحلوا كما انتحل غيرهم، ونظموا شعرًا أضافوه إلى السموأل بن عادياء وإلى عدي بن زيد وغيرهما من شعراء اليهود والنصارى.»
قسم المؤلف الشعر الجاهلي كما يشاء، فالشعر المعزو إلى الوثنيين انتحله المسلمون، والشعر المعزو إلى من كان على دين اليهودية انتحله اليهود، والشعر المعزو إلى من كانوا يتقلدون النصرانية انتحله النصارى! يقول هذا في هيئة من كان حاضرًا مع اليهود أو مع النصارى حين انتحلوا لشعرائهم، وجاءك توًّا يحدثك بما صنعوا! ومن العجب أن داعية مذهب الشك يتيقن حيث لا يجد الناس إلى اليقين منفذًا!
هل ذكر المؤلف الطريق الذي عرف به أن اليهود هم الذين وضعوا الشعر المعزو إلى السموأل وغيره من اليهود، وأن النصارى هم الذين وضعوا الشعر المعزو إلى عدي بن زيد وغيره من النصارى؟ وهل لديه من دليل على ما يقول سوى أن أولئك وهؤلاء يشتركون في اليهودية أو النصرانية؟
وإذا كان المسلمون نحلوا الشعر للوثنيين عصبية للقبيلة، فلماذا لم يكن الناحل لمن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا أحد ذريته أو أبناء قبيلته من المسلمين؟ ولعل المؤلف ألقى شعر السموأل على اليهود، وشعر عدي على النصارى، مخافة أن يغضبوا إذا هو لم يضرب لهم في هذا الانتحال بسهم.
•••
قال المؤلف في ص٨٨: «ورواة القدماء أنفسهم يحسون شيئًا من هذا، فهم يجدون فيما ينسب إلى عدي بن زيد من الشعر سهولة ولينًا لا يلائمان العصر الجاهلي، فيحاولون تعليل ذلك بالإقليم والاتصال بالفرس واصطناع الحياة الحضرية التي كان يصطنعها أهل الحيرة.»
نظر القدماء في شعر عدي بن زيد ووجدوا فيه سهولة وعللوا هذه السهولة بوجه معقول، ونقدوه من حيث نسبته إلى عدي فعرفوا أن فيه مصنوعًا كثيرًا ونبهوا في كتبهم على هذا كله، قال ابن سلام في طبقات الشعراء: «وعدي بن زيد كان يسكن الحيرة ومراكز الريف فلان لسانه وسهل منطقه، فحمل عليه بشيء كثير، وتخليصه شديد، واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر، وله أربع قصائد روائع، وله بعدهن شعر حسن.» وذكروا في مميزات شعره أن فيه ألفاظًا ليست بنجدية، قال المرزباني في كتاب الموشح: «إن الذي قعد بعدي بن زيد عن شأو الشعراء ألفاظه الحيرية وأنها ليست بنجدية. وعن المفضل؛ قال: كانت الوفود تفد على الملوك بالحيرة فكان عدي بن زيد يسمع لغاتهم فيدخلها في شعره.» وروى صاحب الموشح عن الأصمعي أنه قال: «عدي بن زيد وأبو دؤاد الإيادي لا تروي العرب أشعارهما؛ لأن ألفاظهما ليست بنجدية.» وقال صاحب الأغاني: لا تروي الرواة شعرهما لمخالفتهما مذاهب الشعراء.
فالقدماء نقدوا شعر عدي بن زيد من هذه الوجوه التي رأيتم، وإنما انفرد عنهم المؤلف بشيء لم يصلوا إليه على الرغم من كونهم أقرب إلى عهد الانتحال منه، وهو أنه نسب ما حمل على عدي من الشعر إلى النصارى، وليس له من شاهد سوى الرغبة في أن يضرب للشعر المنحول تحت تأثير عاطفة الدين مثلًا.
•••
قال المؤلف في ص٨٩: «ويحدثنا صاحب الأغاني بأن ولد السموأل انتحلوا قصيدة قافية أضافوها إلى امرئ القيس، وزعموا أنه مدح بها السموأل حين أودعه سلاحه في طريقه إلى قسطنطينية. ونرجح نحن أن ولد السموأل هم الذين انتحلوا هذه القصيدة التي تضاف للأعشى والتي يقال: إنه مدح بها شرحبيل بن السموأل في قصته المشهورة مع الكلبي.»
وهي قصيدة طويلة وأظنها منحولة؛ لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس، والتوليد فيها بين وما دونها في ديوانه أحد من الثقات. وأحسبها مما صنعه دارم؛ لأنه من ولد السموأل ومما صنعه من روي عنه من ذلك، فلم تكتب هنا.»
فأبو الفرج يقول: «أظن.» و«أحسب.» ثم يذكر لك مستندات ظنه أن القصيدة منتحلة، وهي عدم مشاكلتها لكلام امرئ القيس، وظهور التوليد فيها وأنه لم يدونها أحد من الثقات في ديوانه.
والمؤلف يقول لك: ونرجح نحن أن ولد السموأل هم الذين انتحلوا هذه القصيدة الرائية التي تضاف للأعشى. يخبرك بما ترجح عنده من انتحال دون أن يكلف نفسه ذكر الوجه الذي يستند له في هذا الترجيح، كأن قلوب القراء طوع بنانه، يرجح الشيء فتعتقده راجحًا، وينكره فتعده منكرًا.
ولعلك تزداد خبرة بقيمة حديثه عن القدماء وقوله: «ولكن مناهجهم في البحث أضعف من مناهجنا.»