القصص وانتحال الشعر
شغل المؤلف هذا الفصل بالحديث عن القصص فذكر أنه وجدت طائفة تقوم بالقصص، وتعرض للفرق بين القصص الإسلامي والقصص اليوناني، وتكلم عن مصادر القصص، ثم انتقل إلى أن القصص لا يزدان إلا بالشعر، وأن القصاص وضعوا شعرًا كثيرًا، وأنهم كانوا يستعينون بأفراد ينظمون لهم القصائد وينسقونها، ثم خرج إلى زعم أن الناس يعتقدون أن كل عربي شاعر بفطرته، ورجع يعيد حديث ابن إسحاق وعاد وثمود وحمير وتبع. وذكر أن العلماء الذين فطنوا لأثر القصص في انتحال الشعر قد خدعوا أيضًا، وأورد أبياتًا وأمثالًا وأخبارًا على أنها مصنوعة، وختم الفصل بكليات تكاد تأتي على كل ما روي عن العرب قبل الإسلام.
عقد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتاب تاريخ آداب العرب فصلًا بحث فيه عن القصص وأطواره بحثًا شيقًّا، ولأمر ما عرج المؤلف في أوائل هذا الفصل على ما كتب الأستاذ الرافعي فذكر في ص٩٠ أن الذين درسوا تاريخ الأدب لم يقدروا القصص قدره وقال: «لا أكاد أستثني منهم إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه تاريخ آداب العرب.» ولكن الأستاذ الرافعي أبى إلا أن ينقد كتاب في الشعر الجاهلي ويكف بأسه، ومن لا يدري ما الإيمان ولا الإخلاص، قد يجيء على باله أن يشتري سكوت المؤمنين المخلصين بكلمة مديح وإطراء.
والمؤلف كان ينظر في فصله هذا إلى فصل الأستاذ الرافعي وإلى ما كتبه جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية وفي كتاب العرب قبل الإسلام، وسنريكم بعض ما مد إليه عينه كما أريناكم مواقع نظره من كتب أخرى.
•••
قال المؤلف في ص٩١: «نقول: إن هذا الفن قد تناول الحياة العربية الإسلامية من ناحية خيالية خالصة. ونعتقد أن الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي لو أنهم عنوا بدرس هذا الفن عناية علمية صحيحة لوصلوا إلى نتائج قيمة ولغيروا رأيهم في تاريخ الأدب.»
ما يدخل في تاريخ الأدب من منثور أو منظوم، قد يورده منشئه أو راويه على أنه قصص خيالي كالمقامات والحكايات المصنوعة على لسان حيوان أو جماد، وقد يورده على أنه أمر واقع، وهذا ما كان علماء الأدب يبحثونه ليميزوا صحيحه من مصنوعه، ولهم بعد البحث ثلاثة أحوال. فإما أن يطمئنوا إلى صحته ويضعوه بمكان العلم، وإما أن يصلوا إلى أنه مصنوع ويطرحوه إلى جانب الخيال، وقد يتوعر أمامهم الطريق لمعرفة أن هذا المنثور أو المنظوم حقيقة أو مصطنع، وإذا لم يتضح لهم وجه الحكم عليه بالانتحال يروونه نظرًا لما يحتويه من عبرة أو أدب وإن لم يكونوا على ثقة من صحته. وهذا النوع هو الذي يمكن تغيره من احتمال الصحة إلى اعتقاد أنه منتحل، وبالنظر إلى هذا النوع يمكن تغيير الرأي في تاريخ الأدب.
من الجائز أن تكون العناية بدرس فن القصص تساعد على العلم باصطناع الأخبار التي كانت محتملة للصحة في نظر القدماء، ولكن المؤلف ممن يتظاهر بمعرفة فن القصص، ونراه حين يحكم بانتحال شعر شاعر أو عصر، أو بأخبار شخص أو جيل، لا يزيد على الإنكار المجرد، وإذا تجاوزه فإلى شبه قد تخطر على بال من لم يعن بدرس فن القصص عناية علمية صحيحة. فسلوك المؤلف في نقد الأشعار والقصص هذه الطريقة الساذجة يجعلنا في ريبة من أن العناية بدرس فن القصص تغير الرأي في تاريخ الأدب إلى أصوب مما كان عليه.
•••
جعل المؤلف يفرق بين القصص الإسلامي والقصص اليوناني حتى قال في ص٩١: «وإن الأول لم يجد من عناية المسلمين مثلما وجد الثاني من عناية اليونان؟ فبينما كان اليونان يقدسون: «الإلياذة» و«والأوديسا» ويعنون بجمعهما وترتيبهما وإذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن، كان المسلمون مشغولين بالقرآن وعلومه عن قصصهم هذا.»
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، يهدي إلى الحرية الصادقة، إلى العدالة الناصعة، إلى المساواة الخالصة، فيه آداب نفسية وسنن اجتماعية وقوانين قضائية ونظم سياسية، وقد نهض بالمسلمين يوم كانوا يقرأونه بتدبر، حتى بلغ بهم من العزة ما رفعهم فوق من يقدسون: «الإلياذة» و«الأوديسا» وغيرهم من الأمم درجات.
إن القرآن لا يمنع أحدًا من أن يتمتع في هذه الحياة بلذائذ لا تأخذ من شهامته ولا يعتدي بها على حق، ولا يحجر على أحد أن يرسل نفسه في أنس طاهر أو يلهو في غير باطل، وإنما يريد الصعود بهذه الأمم إلى أجلى مظاهر السعادة وأرقى طور في هذه الحياة.
جاء القرآن في هذه الحكمة وفي هذه الهداية، وقام المؤلف يعمل على شاكلة رجل تستوي في نظره فحمة الليل وغرة الصباح، فلا يكاد يأخذ في حديث إلا خرج منه إلى العبث حول القرآن.
•••
قال المؤلف في ص٩٢: «وفي الحق أن الأدب العربي لم يدرس في العصور الإسلامية الأولى لنفسه، وإنما درس من حيث هو وسيلة إلى تفسير القرآن وتأويله واستنباط الأحكام منه.»
والحق أن علماء العربية وإن نظروا إلى الأدب كوسيلة من وسائل فهم القرآن والحديث، كانوا يبحثون فيه على طريقة أوسع مما يستدعيه غرض التوسل به إلى فهم الكتاب والسنة، ويكاد الناظر في العلوم الأدبية يحسب أن القائمين عليها إنما يرمون إلى غاية أوسع، وهي الاحتفاظ بأصول هذه اللغة الراقية وآدابها.
فعلماء العربية كانوا يرون أن الاحتفاظ بمعاني التنزيل ومقاصد الشريعة في الاحتفاظ بعلوم اللغة وآدابها، وكانوا مع هذا يطلقون أعنتهم في البحث إلى ما يسعه الإمكان، وكان درسهم لآداب اللغة ناظرين إلى أنها وسيلة من وسائل فهم الكتاب الحكيم لا يقل فائدة عن درسهم لها من حيث إنها آداب لغة راقية.
أما عدم احتفال أصحاب الجد من المسلمين بالقصص فلعلهم كانوا يرون أن في القرآن والحديث وآثار الذين أوتوا الحكمة الصادقة ما لو تناوله خطيب أو محاضر يعرف مزاج من يخاطب، ويدري أين يضع بيانه، لرأى الناس أمة يمكنها أن تزن بالواحد منها مائة من هؤلاء الذين يقرأون القصص صباحًا ويشهدون مجامعها عشيًّا.
•••
- أولها: القرآن وما يتصل به من الأحاديث والروايات.
- ثانيها: ما كان يأخذه القصاص عن أهل الكتاب.
- ثالثها: ما كانوا يستقونه من الفرس.
- رابعها: ما يمثل نفسية الأنباط والسريان ومن إليهم من الأخلاط.
مزية علماء الإسلام في نقد رواة الحديث أوضح من نار على يفاع، ولم يكتفوا في قبول الحديث بتحقق عدالة الراوي وذهب بهم الاحتياط إلى قواعد أحكموها ليزنوا بها الحديث نفسه ويستضيئوا بها في تمييز الصحيح من المصنوع.
وضع بعض الزنادقة أحاديث ليذهبوا ببهاء حكمة الإسلام، ووضع بعض الأغبياء أحاديث ليزيدوه خيرًا وشاهد كمال فيما يزعمون، وبفضل ما عُني به العلماء من نقد الرواة والاحتياط لقبول الأحاديث بقيت الشريعة محفوظة مما يصنع الماكرون ومفصولة مما يضيفه إليها أصدقاؤها الجاهلون.
وإذا بقي من تلك الأحاديث ما يخطر على ألسنة العامة وأشباه العامة من الخطباء، فذلك خلل التعليم وعيب السكوت في موضع النهي عن المنكر، وما إصلاح ذلك الخلل وعلاج هذا العيب من حماة العلم وأنصار الحق ببعيد.
•••
أعاد المؤلف ما تحدث به ابن سلام عن أبي إسحاق ثم قال في ص٩٥: «أليس من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب، وإنما كان كل واحد منهم يشرف على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النظام والمنسقين، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم وأذاعوه بين الناس؟»
انساب المؤلف يتحدث عن القصص حتى سرت إليه العدوى من القصاص ومسه طائف من الخيال، فجعل يفرض أن هناك شركة مؤلفة باسم القصاص، ولهذه الشركة مصانع لعمل الأخبار والأشعار، وكل واحد من أعضائها يقوم على مصنع من هذه المصانع، حتى إذا تهيأ مقدار في مصنع التلفيق بعث به إلى مصنع التنسيق، وبعد أن ينسق في هيئة قصة أو شعر يأتي أعضاء الشركة القصصية ويطبعونه بطابعهم وينفخون فيه من روحهم ثم يأذنون بإصداره، فيحمل كل عضو ما استطاع أو ما طاب له ويذيعه بين الناس.
يسمي المؤلف هذا الحديث الملفق المنسق فرضًا ويزعم أن لديه نصًّا يجيز له هذا الافتراض وهو قول ابن إسحاق: «لا علم لي بالشعر إنما أوتى به فأحمله.»
توجد هذه الشركة، ويبقى أمرها سرًّا مكتومًا إلى أن يجيء المؤلف بعد ألف سنة فيجد رمزها في قول ابن إسحاق: «وإنما أوتى به فأحمله.»
عبارة ابن إسحاق خاصة بالشعر، وقد جاءت الرواية بأنه هو الذي كان يقترح على بعض الشعراء أن يضعوا له أشعارًا تناسب بعض أخبار السيرة.
روى الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال أن أبا عمرو الشيباني يقول: رأيت أبا إسحاق يعطي الشعراء الأحاديث يقولون عليها الشعر، ونقل عن أبي بكر الخطيب أن أبا إسحاق كان يرفع إلى شعراء وقته أخبار المغازي ويسألهم أن يقولوا فيها الأشعار ليلحقها بها.
ذلك شأن ابن إسحاق وقد عرف به بين علماء عصره، ودعوى أن هناك شركة ذات أعضاء وطابع ولها مصانع للتلفيق وأخرى للتنسيق تحتاج إلى أمارة أوضح دلالة من كلمة قالها ابن إسحاق ليبعد عن نفسه تبعة اصطناع الشعر.
فالمؤلف يتخيل أشياء ويطمئن لها ويشغلك بالحديث عنها، ولا عجب أن يطمئن لما يتخيل فقد حكى أبو عثمان الجاحظ أنه رأى حجامًا بالكوفة يحجم بنسيئة إلى الرجعة لشدة إيمانه بها.
وإذا كان المؤلف يستخرج من كلمة ابن إسحاق أن هناك شركة قصصية ويتحدث عنها بما سمعتم فماذا يكون حالنا حين نرى هذه الكتب التي تؤلف والمقالات التي تنشر والمحاضرات التي تلقى والمجالس التي تعقد، وكلها تنطق بلسان المتهالك في الحقد على الإسلام، «أفليس من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء» الملحدين المائقين «لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب، وإنما كان كل واحد منهم يشرف على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين والنظام والمنسقين، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم وأذاعوه بين الناس»؟!
•••
قال المؤلف في ص٩٦: «وأنت تدهش إذا رأيت هذه الكثرة الشعرية التي تنبث فيما بقي لنا من آثار القصاص. فلديك في سيرة ابن هشام وحدها دواوين من الشعر.»
للمؤلف أن يسمي ما احتوته سيرة ابن هشام من الشعر دواوين، ولنا أن نسميها نصف ديوان، فإن كل ما في السيرة من شعر لا يتجاوز نصف ديوان ابن الرومي أو نصف ديوان مهيار.
•••
قال المؤلف في ص٩٦: «وكثرة هذا الشعر الذي صدر عن المصانع الشعرية في الأمصار المختلفة أيام بني أمية وبني العباس كانت سببًا في نشأة رأي يظهر أن القدماء كانوا مقتنعين به، وأن الكثرة المطلقة من المحدثين ليست أقل به اقتناعًا وهو أن الأمة العربية كلها شاعرة، وأن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته، يكفي أن يصرف همه إلى القول فإذا هو ينساق إليه انسياقًا.»
لا أرى أحدًا يعتقد أن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته، وإنما هي أسباب نظم الشعر تهيأت لهم، وسيَّرته بألسنتهم، حتى صاغوه في كثير من المعاني المبذولة، والمخاطبات المعتادة.
ومن هذه الأسباب ما يرجع إلى سعة اللغة من كثرة الترادفات وإضراب المجاز والكنايات، ومنها ما يرجع إلى سعة الخيال وحرية الفكر المكتسبتين من حياتهم في أوطان لا تعلوها سلطة قاهرة أو قوانين مرهقة.
ويضاف إلى هذا ما ثبت بطرق لا تحوم عليها ريبة من أن العرب يكبرون الشعر ويرفعون الشاعر إلى أسمى منزلة، وإحراز الشعر لهذه الحظوة مما يدفع الأذكياء منهم إلى التنافس في إجادة صنعه، ويدعو العامة إلى الاقتداء بهؤلاء ولو على وجه التشبه بهم في إلقاء الكلام مقيدًا بالوزن والقافية.
فليس كل العرب ولا أكثرهم يقول الشعر الذي يغوص على حكمة أو يأخذ في الخيال مذهبًا، وليس ببعيد أن يكون أكثرهم على استعداد لإيراد الكلام في صور النظم المنتهي بقافية، ولا سيما حيث تكون معرفة الطبقات بمفردات اللغة وأصول تأليفها متقاربة.
وكيف يقتنع القدماء وأكثر المحدثين بأن الأمة العربية كلها شاعرة، وهذا ابن سلام يقول عن إسحاق: «فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط»؟
ويروون عن العجاج أنه قال: لقد قلت أرجوزتي التي أولها:
وأنا بالرمل فانثالت عليَّ قوافيها انثيالًا، وإني لأريد اليوم دونها في الأيام الكثيرة فما أقدر عليه. وقال الفرزدق: أنا عند الناس أشعر الناس وربما مرت عليَّ ساعة ونزع ضرسي أهون عليَّ من أن أقول شعرًا.
إذا كان القدماء هم الذين رووا لنا هذه الآثار الدالة على أن من العرب من لم يقل الشعر قط، وأن منهم من ينظم القصيدة في شهر، أفيسوغ اتهامهم بأنهم يعتقدون أن الأمة العربية كلها شاعرة؟
ونحن ندفع هذا بأنه كلام الجاحظ، وليس الجاحظ إلا واحدًا من القدماء، وإن سلمنا أن الجاحظ هو كل القدماء فهو إنما يرد على الشعوبية، فكأن مقاله بمنزلة خطبة أو قصيدة أنشأت للمديح والفخر، وهم يجيزون في فن المديح من المبالغة ما لا يجيزون مثله للكاتب الذي يبحث في التاريخ.
•••
قال المؤلف في ص٩٧: «ولدينا نصوص قديمة تدلنا على أن العرب لم يكونوا جميعًا شعراء فكثيرًا ما حاول العربي قول الشعر فلم يوفق إلى شيء. وقد طلب إلى النبي في بعض المواقف التي احتاج المسلمون فيها إلى الشعر أن يأذن لعلي في أن يقول شعرًا يرد به على شعراء قريش، فأبى النبي أن يأذن له؛ لأنه لم يكن من ذلك في شيء، وأذن لحسان.»
يحكم المؤلف بخطأ القدماء — علمائهم وعامتهم — في رأي، ويستشهد على تخطئتهم بنصوص قديمة لا يمكنه تناولها إلا من أيديهم!
وما استشهد به من قصة علي — رضي الله عنه — لا يجديه في الموضوع نقيرًا؛ إذ متى وجد الاعتقاد بأن كل عربي شاعر فمعناه أن كل عربي يستطيع الإتيان بالكلام منظومًا، وهذا لا يستلزم القدرة على التصرف في المعاني وقوة الخيال في مناظرة الشعراء البارعين ومفاخرتهم، ثم إن الشعراء الممتازين يتفاوتون في قوة العارضة وحكمة الأسلوب والتلاعب بالمعاني. فمن الجائز أن يكون عدول النبي ﷺ عن علي بن أبي طالب إلى حسان بن ثابت؛ لأن عليًّا لم تكن منزلته في الشعر بالتي تؤهله لأن يقف أمام الشعراء الذين هاموا في كل واد وذهبوا في صناعة الشعر كل مذهب. وهذا ما نفهمه من مساق القصة نفسها فإن طلب الناس إلى النبي ﷺ أن يأذن لعلي في أن يقول شعرًا، يومئ بطرف غير خفي إلى أن له في نظم الشعر سابقة.
وقال المبرد في الكامل: ومن شعر علي الذي لا اختلاف فيه:
وهذا النظم وإن كان من الرجز قريب المأخذ، يدل على أن صوغه الكلام في غير الرجز من الأوزان ليس ببعيد.
•••
قال المصنف في ص٩٧: «فإذا أضفت إلى ما قدمنا أنك تجد كثيرًا من الشعر يضاف إلى قائل غير معروف بل غير مسمى فتراهم يقولون مرة قال الشاعر، وأخرى قال الأول، وثالثة قال الآخر، ورابعة قال رجل من بني فلان، وخامسة قال أعرابي وهلم جرًّا — نقول: إذا لاحظت هذا كله عذرت القدماء والمحدثين إذا اعتقدوا أن العرب كلهم شعراء.» ثم قال: «وإن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى غير قائل، أو إلى قائل مجهول، إنما هو شعر مصنوع موضوع انتحل انتحالًا لسبب من هذه الأسباب التي نحن بإزائها ومنها القصص.»
قد يضاف الشعر المصنوع إلى قائل غير معروف أو غير مسمى، وقد يظن الذي يقرأ شيئًا من كتب الأدب ترويحًا للخاطر وتسلية للنفس أن هذا الشعر غير مصنوع. أما أهل العلم فإنهم لا يثقون بما يمر على أسماعهم من شعر ينسب إلى قائل غير معروف أو غير مسمى، وإنك لتجدهم يأخذون في شرط الاحتجاج بالشعر أن يكون قائله معروفًا بأنه عربي فصيح، فهذا ابن الأنباري يقول في كتاب الإنصاف: «لا يجوز الاحتجاج بشعر أو نثر لا يعرف قائله مخافة أن يكون ذلك الكلام مصنوعًا أو لمولد أو لمن لا يوثق بكلامه.» وأورد ابن النحاس في تعليقه بيتًا استشهد به الكوفيون على جواز إظهار أن بعد كي، وقال في رده: إن هذا البيت لا يُعرف قائله. وأورد شطر بيت استشهد به الكوفيون أيضًا على جواز دخول اللام في خبر لكن، وقال في رده: إن هذا البيت لا يُعرف قائله ولا أوله ولم يذكر منه إلا هذا، ولم ينشده أحد ممن وثق في اللغة ولا عُزي إلى مشهور بالضبط والإتقان. وأورد الفراء شاهدًا على خفض ياء المتكلم في نحو كاتبيَّ، فرده الزجاج وقال: ليس يُعرف قائل هذا الشعر من العرب ولا هو مما يحتج به في كتاب الله تعالى. وكثيرًا ما يهمل المؤلفون اسم قائل البيت المستشهد به، إما لشهرته أو لأنه مروي لشاعرين أو لنسيانه وقت التأليف مع الوثوق بأنه مسموع من العرب، وكتاب سيبويه مملوء بالشواهد التي لم تُضف إلى قائل باسمه، وكان أكثرها معروفًا لعلماء العربية في عصره.
قال الجرمي: «نظرت كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا، فأما الألف فقد عرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها.»
والتحقيق أن الشعر الذي يعرف قائله يحتجون به في اللغة ويعتدون به في التاريخ، وما لا يعرف قائله ويسمع من عربي مطبوع يحتجون به في اللغة ولا شأن له في التاريخ حيث ينظر فيه من جهة أدبية عامة، وما لا يعرف قائله ويرويه غير الفصيح بفطرته يطرحونه جانبًا ولا يعولون عليه في لغة ولا تاريخ إلا أن ينشد في سمر أو مجلس أنس؛ لأنه أدب، وكذلك كانوا يفعلون.
فقول المؤلف: إن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى غير قائل أو إلى قائل مجهول، مصنوع موضوع انتحل انتحالًا، إن أراد الشعر المسوق في الكتب على أنه من أدب اللسان فما يدعيه محتمل، والناس يقرأون هذا النوع من الشعر ولا يأخذون أنفسهم بشرط الثقة من صحته. وإن أراد ما تحتويه كتب اللغة أو النحو من الشواهد فهذا أكثره معزو في الواقع إلى قائله، وبعض ما لم يسمَّ قائله قد سمعه الثقات من العرب الذين يحتج بمنطوقهم، فلا يضره ألا يعرف قائله، بل لا يقدح في الاستشهاد به أن لو كان هذا العربي الناطق به انتحله انتحالًا.
•••
قال المؤلف في ص٩٨: «كثرة هذا الشعر الذي احتاج إليه القصاص لتزدان به قصصهم من ناحية وليسيغها القراء والسامعون من ناحية أخرى خدعت فريقًا من العلماء فقبلوها على أنها صدرت عن العرب حقًّا.»
•••
ذكر المؤلف أن بعض العلماء فطنوا لما في هذا الشعر من تكلف أو سخف وإسفاف، وفطنوا إلى أن بعضه يستحيل أن يكون قد صدر عمن ينسب إليهم، وعد في سلك هؤلاء العلماء محمد بن سلام، وقال في ص٩٨: «وآخرون غير ابن سلام أنكروا ما روى ابن إسحاق وأصحابه القصاصون، نذكر منهم ابن هشام الذي يروي لنا في السيرة ما كان يرويه ابن إسحاق حتى إذا فرغ من رواية القصيدة قال: وأكثر أهل العلم بالشعراء وبعض أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة أو ينكرها لمن تضاف إليه.»
•••
قال المؤلف في ص٩٩: «ولكن هؤلاء العلماء الذين فطنوا لأثر القصص في انتحال الشعر خدعوا أيضًا؛ فلم يكن صناع الشعر جميعًا ضعافًا ولا محمقين، بل كان منهم ذو البصيرة النافذة والفؤاد الذكي والطبع اللطيف، فكان يجيد الشعر ويحسن انتحاله وتكلفه، وكان فطنًا يجتهد في إخفاء صنعته ويوفَّق من ذلك إلى الشيء الكثير.»
يعرف الناس أن في العلوم قطعيات، وفيها ظنيات تتفاوت. ومن الظن ما يقوى حتى يقرب من اليقين، ومنه ما يضعف فيكاد يتصل بالشك. ويعلمون أن من أصول العلم ما لا يعتد به إلا إذا قام على يقين، ومنها ما يكفي فيه الظن القريب من العلم، ومنها ما يكفي فيه احتمال الثبوت ولو لم يرجح على الشك إلا بمثقال ذرة، والعلوم الأدبية لا تأبى أن يكون في مسائلها شيء من هذا القبيل.
فإذا قبل بعض أهل العلم شعرًا يضاف إلى العرب فليس معنى هذا القبول أنهم تيقنوا أو ظنوا ظنًّا قريبًا من العلم أن هذه الإضافة صحيحة، بل لأنهم نقدوه فلم يتراء لهم دليل على وضعه وأصبح احتمال الوضع إزاء احتمال الصحة أخف وزنًا. وإذا خطر على بالهم أن يكون الراوي ماهرًا في التظاهر بالاستقامة وبارعًا في تقليد الشعر العربي إلى حيث يخفى على الناقد النحرير، أعرضوا عن هذا الخاطر؛ لأنه يفضي إلى رفض كل أثر أدبي لم يجئ من طرق متعددة.
يعلم كثير الملاحظة لما يؤثر عنهم في نقد الشعر أنهم كانوا يرددون أنظارهم في الأشعار القديمة والحديثة حتى يتربى لطائفة منهم أذواق تفرق بين شعر هذا العصر وذاك العصر، وتميز بين نسج النابغة — مثلًا — ونسج حسان بن ثابت، وتدرك أن هذا أرسلته القريحة بفطرتها، وهذا عمدت إلى أن تحاكي به طريقة شاعر بعينه.
•••
قال المؤلف في ص١٠١: «وقل مثل هذا في هذا الشعر الذي يضاف إلى جذيمة الأبرش، وفي كل ما يتصل بجذيمة وصاحبته الزباء وابن أخته عمرو بن عدي ووزيره قصير. فليس لهذا كله إلا أصل واحد، وهو تفسير طائفة من الأمثال ذكرت فيها أسماء هؤلاء الناس كلهم أو بعضهم.»
قال المؤلف هذا ثم ساق الأمثال الواردة في القصة متجاهلًا أن الناس نقدوها من قبله، وقد طرحها بعضهم إلى القصص الملفقة أو المشوهة.
فالقصة تناولها كتاب الغرب والشرق، والمؤلف يحدثك بها في هيئة نحو من البحث جديد.
•••
قال المؤلف في ص١٠٣: «والرواة أشد انخداعًا حين يتصل الأمر بالبادية اتصالًا شديدًا، وذلك في هذه الأخبار التي يسمونها أيام العرب أو أيام الناس فهم سمعوا بعض هذه الأخبار من الأعراب، ثم رأوها تقص مفصلة مطولة فقبلوا ما كان يروى منها على أنه جد من الأمر.»
كذلك قال جرجي زيدان في كتاب تاريخ آداب اللغة العربية: «إذا أمعنا النظر فيما خلفه العرب من أخبارهم وآدابهم وجدناه لا يخلو من التمثيل بأعم معانيه … وقد وصل إلينا في قالب القصص والحقائق التاريخية، لكن أكثره في نظرنا موضوع أو كان له أصل فوسعوه وطولوه ونمقوه ليكون عبرة أو قدوة في الموقف المطلوب.»
لا أحسب أولئك الذين كانوا يتوهمون أن المؤلف باحث جديد إلا قومًا يستمعون إليه وهم عن كتب الأدب القديم والحديث غافلون.
•••
ذكر جرجي زيدان في كتاب تاريخ آداب اللغة العربية مجموعة عمر بن شبه التي سماها الجمهرة وقال: «هي تشتمل على حوادث عديدة أكثرها وقع بين ربيعة وغيرهم، لكن المطالع يتبين من مواقف كثيرة أن هذه الأخبار متوسطة بين التاريخ والقصة.» ثم ذكر أن من تلك المجموعة حرب البسوس وقال: «وهي قصة قائمة بنفسها استغرقت مائة صفحة كبيرة يتخللها حوادث عنترية وحماسات ومبارات ومناشدات وغير ذلك.» ثم قال: «ومن هذا القبيل، كتاب بكر وتغلب ابني وائل وفيه خبر كليب وجساس، والقصة أقرب إلى التاريخ منها إلى الرواية؛ لأنها تشتمل على وقائع لها ذكر في التاريخ، وقد زاد فيها المؤلف قصائد وتفاصيل نظنها خيالية.»
وهل يبقى بعد هذا لقول المؤلف: «إن استقامت نظريتنا.» من قيمة؟!
•••
كتب المؤلف في القصص ولم يأت بجديد، وإنما مد يده إلى ما تحدث به الكُتاب من قبله وسماه نظرية له، ثم انهال علينا بكليات عرضها ما بين اليمامة وحضرموت، فقال في ص١٠٤: «كل ما يروى عن عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق موضوع لا أصل له.»
المقدار الذي قصه القرآن في هذا السبيل كخبر عاد وثمود، قد جاء محمولًا على سواعد الحجج الناطقة بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وما يتقبل من ناحية هذه الحجج إنما يأخذ من النفوس مأخذ المقطوع بصحته، ولا يستطيع العلم والمنطق لمخالفته طلبًا. أما ما جاء من طريق الرواية فذلك منتهى ما وصلت إليه أيدي الرواة، فما لاحت فيه أمارة الوضع طرحوه، وما لم يروا في نقده وجهًا يقتضي إنكاره دونوه وتناقلوه. وللمؤلف أن يبحث فيما سكتوا عنه، وينقده بطريق علمي غير هذه الآراء التي جمع شملها بعد شتات، وغير هذه الكليات المرمية عن غير بحث واستقراء.
•••
قال المؤلف في ص١٠٤: «وكل ما يروى عن تبع وحمير وشعراء اليمن في العصور القديمة، وأخبار الكهان، وما يتصل بسيل العرم وتفرق العرب بعده موضوع لا أصل له.»
هذا كلام القدماء والمحدثين في تبع وحمير، وقد فضلهم المؤلف بصوغ العبارة في قالب الكلية، كأنه كان على مسمع ومرأى من تلك العصور القديمة ثم بعث اليوم من مرقده وعرف أن كل ما يروى عن تبع وحمير لا يوافق شيئًا مما كان يسمع ويرى!
ولو اعتاد المؤلف البحث عن الحقائق بإخلاص لتحامى أن يحكم عن تاريخ أمة بأن جميعه موضوع لا أصل له، وأنت إذا نثلت كنانته لم تجد عنده شبهة سوى ظهور الوضع في بعضه أو في كثير منه.