جريمة جون بولنوي الغريبة
السيد كالهون كيد شابٌّ يافع جدًّا له وجه رجلٍ عجوز طاعنٍ في السن؛ وجه أَذوَاهُ الشغفُ محصورٌ بين شعر أسود مَشوبٍ بالزُّرقة، ورابطة عنقٍ فراشيةٍ سوداء. كان مُوفَد صحيفة أمريكية يومية كبيرة تُدعَى «ويسترن صَن» في إنجلترا — والتي يُقال لها أيضًا على سبيل الدُّعابة «رايزينج صَن سِت» وذلك في إشارةٍ لتصريحٍ صحفيٍّ مهم (منسوبٍ إلى السيد كيد نفسه) قال فيه إنه «يظن أن الشمس ربما تشرق من الغرب يومًا إنْ عمل المواطنون الأمريكيون بدأبٍ أكبر.» لكن أولئك الذين يسخرون من الصحافة الأمريكية من منظور التقاليد المُتحفِّظَة نوعًا ما يَنسَون مفارقةً تشفَع لها قليلًا. فبينما تسمح صحافة الولايات المتحدة باستخدام ألفاظٍ فجَّة مُبالَغ فيها تنافي جميعَ الأعراف الإنجليزية، فإنها تُبدي أيضًا اهتمامًا حقيقيًّا بالقضايا الفكرية الأكثر جديَّة والتي تغضُّ الصحف الإنجليزية الطرفَ عنها أو تعجز عن تناوُلها. كانت جريدة «ويسترن صَن» تتناول أمورًا بالغة الجدية بأسلوبٍ هَزليٍّ للغاية؛ فقد نشرت مقالاتٍ صحفية عن ويليام جيمس وكذلك المهرج ويري ويللي وتضمَّنت سلسلةُ مقالاتها الطويلة براجماتيين ومُلاكمين محترفين.
ولذا عندما كتبَ رجلٌ مغمورٌ للغاية درسَ في جامعة أكسفورد يُدعَى جون بولنوي في مجلةٍ مغمورةٍ غير رائجة اسمُها «نَتشيرال فيلوسفي كوارترلي» سلسلةَ مقالاتٍ يتناول فيها نقاطَ الضعفِ المزعومة في نظرية التطوُّر الداروينية، لم يهتز للصحف الإنجليزية طرفٌ؛ مع أن نظرية بولنوي (التي تقول إن الكون ساكنٌ نسبيًّا لكن تجتاحه من آنٍ لآخر نوباتٌ من التغيير) لاقت رواجًا قصيرًا في أكسفورد، حتى إنه أُطلِق عليها «الكوارثية»، لكن العديد من الصحفِ الأمريكية انتهزت هذا النقد واعتبرته حدثًا جَللًا؛ وامتلأت صفحاتُ «ويسترن صَن» بسيرة السيد بولنوي، ولكن نظرًا للمفارقة السالفة الذكر، كانت تلك المقالات التي تحمل قدرًا كبيرًا من الذكاء والحماسة تُنشَر تحت عناوين يبدو أن معتوهًا أميًّا هو مَن كتبها، عناوين مثل «داروين يستشيطُ غيظًا؛ الناقِدُ بولنوي يباغته بحقيقةٍ مُذهلة» أو «المُفكِّر بولنوي: كوارثيٌّ حتى النهاية». وكان السيد كالهون كيد، مُوفَد صحيفة «ويسترن صَن»، قد كُلِّفَ بأن يذهب برابطة عنقه الفراشية ومُحيَّاه الكئيب إلى البيت الصغير خارج مدينة أكسفورد حيث يسكن المُفكِّر بولنوي ناعمًا بجهله بذلك اللقب.
وافقَ الفيلسوف الذي قدِّرَ له أن يصير فيلسوفًا، بشيءٍ من الاستغراب، على استقبال الصحفي الذي سيجري معه حوارًا، وحدَّد لذلك موعدًا الساعة التاسعة مساءً من اليوم ذاته. كانت آثارُ غروب يومٍ صيفيٍّ لا تزال عالقةً في سماء بلدة كومنور والتلال المنخفضة التي تكسوها الأشجار؛ لم يكن الأمريكي الحالِم متأكدًا من طريقه وينتابه الفضولُ تجاه محيطه؛ ولذا عندما رأى بابَ نُزلٍ ريفي قديم على الطراز الإقطاعي الأصيل اسمُه «ذا تشامبيون آرمز» مفتوحًا، دخلَ ليستفسر.
دقَّ الجرسَ في ردهة حانته، واضطر أن ينتظر لبعض الوقت قبل أن يجيبه أحد. كان الشخصُ الوحيد الموجود سواه هو رجلٌ نحيل له شعرٌ أحمر قصير يرتدي ملابسَ واسعةً تبدو كملابس الفروسية، وكان يحتسي ويسكي من نوعٍ رديءٍ للغاية ويدخن سيجارًا من نوعٍ فاخر للغاية. كان الويسكي بالطبع من النوع الذي يقدِّمه نُزُل «ذا تشامبيون آرمز»، أما السيجارُ فعلى الأغلب أحضره معه من لندن. كان هناك تباينٌ تامٌّ بين استخفافِه التهكُّمي وحماسِ الشاب الأمريكي الصارم، لكن شيئًا ما في قلمه الرصاص ودفتر ملاحظاته المفتوح، وربما أيضًا في تعبيرات عينيه الزرقاوين المتيقظتَين، دفَعَ كيد لأن يخمِّن، وقد صحَّ تخمينه، أنه صحفيٌّ زميل.
سأله كيد بكياسة أبناءِ وطنه المعهودة: «هَلَّا أسديتَ لي معروفًا وأرشدتني إلى منزل جراي كوتيدج الذي يسكن به السيد بولنوي حسب علمي؟»
قال ذو الشعر الأحمر وهو يُخرِج السيجارَ من فمه: «إنه على بُعد بضع ياردات من هنا، سأمرُّ به بعد قليل، لكني ذاهبٌ إلى بندراجون بارك لأحاول أن أحظى بالقليل من المرح.»
سأل كالهون كيد: «وماذا يكون بندراجون بارك؟»
رفعَ الصحفيُّ الآخر عينيه وقال: «منزل السير كلود شامبيون. ألستَ هنا لأجله أيضًا؟ ألستَ صحفيًّا؟»
قال كيد: «لقد أتيتُ لزيارة السيد بولنوي.»
ردَّ الآخر: «أما أنا، فأتيتُ لزيارة السيدة بولنوي، لكني لن أدركها بالمنزل.» ثم ضحكَ ضحكةً مزعجة.
سأل الأمريكيُّ المُتعجِّب: «هل أنتَ مهتمٌّ بالكوارثية؟»
ردَّ رفيقُه بنبرة تشاؤم: «أنا مهتمٌّ بالكوارث؛ ومن المُرتقَب أن يقع بعضها. مهنتي تلك مهنةٌ وضيعة، ولا أدَّعي أبدًا عكسَ ذلك.»
ثم بَصقَ على الأرض، لكن حتى رغم تلك اللحظة وذلك الفِعل، يمكن للمرءِ بطريقةٍ ما أن يستشفَّ أنه نشأ نشأة رجلٍ مُهذب.
تطلَّع إليه الصحفيُّ الأمريكي باهتمامٍ أكبر. كان وجهُه شاحبًا ومشتَّتًا، يَنمُّ عن شغفٍ هائل لم يُطلَق له العنانُ بعد، لكنه كان وجهًا نبيهًا ومُرهَفًا. وكانت ملابسُه رثَّةً ومُهمَلة، لكنه كان يرتدي في إحدى أصابعه الطويلة النحيلة خاتمًا فاخرًا يحمل شعارًا. كان اسمُه، الذي ذُكِر في مَعرضِ حديثهما، جيمسَ دالروي؛ وهو ابنُ مالِك أراضٍ أيرلندي مُفلِس، ويعمل في صحيفةٍ نسائية يَبغضها تمام البُغض تُدعَى «سمارت سوسَايتي» بصفته مراسِلًا، أقرب إلى جاسوسٍ في بعض الأحيان.
يُؤسفني أن أقول إن «سمارت سوسَايتي» كانت لا تعبأ على الإطلاق بآراء بولنوي حول داروين التي كانت بمثابة العقل والقلب لجريدة «ويسترن صَن» ومصدرَ فخرٍ كبيرًا لها. على ما يبدو، جاء دالروي ليقتفي أثرَ فضيحةٍ ستنتهي إلى محكمة الطلاق على الأرجح، لكنها حاليًّا تحوم بين جراي كوتيدج وبندراجون بارك.
كان السير كلود شامبيون معروفًا لقُرَّاء «ويسترن صَن» مثله مثل السيد بولنوي. وكذلك كان البابا وديربي وينار؛ لكنَّ فكرة أنهما يعرفان أحدهما الآخر معرفةً وطيدة كانت ستبدو غريبةً في نظر كيد. كان قد سمع عن السير كلود شامبيون (وكتبَ عنه، بل وادَّعى كَذِبًا معرفته) باعتباره «أحدَ ألمعَ وأغنى عشرة أرستقراطيين في إنجلترا»، وكذلك باعتباره رياضيًّا عظيمًا يشاركُ في سباقات اليخوت حول العالم، ورحَّالةً عظيمًا ألَّف كُتبًا عن جبال الهِمَالايا، وسياسيًّا اكتسحَ دوائر التأييد الانتخابية بضربٍ مُبهِر من الديمقراطية المُحافِظة، وهاويًا عظيمًا للموسيقى والأدب، وفوق ذلك كله للتمثيل. كان السير كلود رجلًا مُبهِرًا للغاية في نظر الجميع عدا الأمريكيين. كان يشبه في ثقافته الواسعة وشعبيته التي لا تخبو أميرًا من عصر النهضة — لم يكن هاويًا عظيمًا فحسب، بل كان هاويًا يملؤه الحماس والشغف أيضًا. لم يكن به شيءٌ من الاستخفاف المعهود الذي يتبادر إلى أذهاننا عندما نسمع كلمة «هاوٍ للفنون».
كان وجهُه، ذو الملامح الحادة والعينَين الإيطاليتَين السوداوَين المائلتَين للأرجواني، الذي لا تشوبه شائبة، والذي يظهر كثيرًا في الصور المأخوذة لصالح كلٍّ من «سمارت سوسَايتي» و«ويسترن صَن» يُوحي بأنه رجلٌ يأكله الطموحُ كما تأكل النارُ الحَطَبَ، أو كما يأكلُ المرضُ المريضَ، لكن مع أنَّ كيد كان يعرفُ الكثيرَ عن السير كلود — في الواقع كان يعرف أكثر بكثير مما هو متاحٌ معرفته — لم يُخيَّل له حتى في أقصى أحلامه غرابةً أنَّ صداقةً وطيدة تربط بين ذلك الأرستقراطي المُحبِّ للظهور، ومؤسِّس حركة الكوارثية الذي لم يُعرَف إلا مؤخَّرًا. ومع ذلك، كانت صداقتهما تلك واقعًا وَفق رواية دالروي؛ فقد كانا يصطادان معًا في المدرسة وفي الجامعة، ومع أن مصير كلٍّ منهما الاجتماعي كان مختلفًا تمامًا (فقد كان شامبيون مالِكَ أراضٍ كبيرًا يكاد يكون مليونيرًا، بينما كان بولنوي مجرد باحثٍ فقير ظلَّ مغمورًا حتى وقتٍ قريب)، حافظ كلٌّ منهما على صلته الوطيدة بالآخر. وبالفعل كان منزل بولنوي الصغير يقع خارج بوابة بندراجون بارك مباشرةً.
لكن السؤال المُحيِّر والمزعج الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن أن يظل الرجلان صديقَين لأكثر من ذلك؟ فمنذُ بضعةِ أعوامٍ، تزوَّج بولنوي من ممثلةٍ جميلةٍ وناجحةٍ، كان مُتيَّمًا بها بطريقته الخجولة المُضجرة؛ لكن قُرب بيته من منزل شامبيون أتاح الفرصة لتلك الممثلة المشهورة الطائشة لأن تتصرف بطريقةٍ لن تتسبب إلا في فضيحة مُؤلِمةٍ ووضيعةٍ للغاية. كان السير كلود يتقنُ فنون الشُّهرة حَدَّ الكمال، ويبدو أنه كان أيضًا مستمتعًا للغاية بشيوع خبر تورطه في علاقة غرامية سرية لن تجلب له أيَّ صيتٍ حَسَنٍ. كان خدمٌ من بندراجون يأتون باستمرار ليتركوا باقات زهورٍ للسيدة بولنوي، وكانت العربات والسيارات تأتي إلى منزل بولنوي باستمرار لتُقلَّ السيدة بولنوي، وكانت الحفلاتُ الراقصة والحفلاتُ التنكرية تقام باستمرار في الأراضي التي يستعرضُ فيها البارونيت السيدةَ بولنوي وكأنها تُوِّجَت ملكة الحُبِّ والجمال لفارسٍ فازَ في مبارزة. في ذلك المساء الذي حدَّده السيد كيد لشرح الكوارثية، كان السير كلود شامبيون قد حدَّد إقامة عرض لمسرحية «روميو وجولييت» في الهواء الطَّلق، يلعب فيها هو دور روميو، ولا حاجةَ لأن أقول مَن تلعب دور جولييت.
قال الشاب ذو الشعر الأحمر وهو ينهض ويعدِّل من هِندامه: «لا أعتقدُ أن ذلك الأمر سيمرُّ دون صِدام؛ فبولنوي العجوز إما أنه لا يمانعُ الأمر، وإما أنه رجلٌ محافظ، لكنه إن كان محافظًا، فسيكون بليدَ الذهن، بل إني قد أقولُ غبيًّا. لكني لا أظن ذلك مُحتمَلًا.»
قال كيد بصوتٍ خفيض: «هو رجلٌ يتمتع بمَلكاتٍ فكريةٍ كبيرة.»
أجابه دالروي: «أجل، لكن حتى رجل يتمتع بملكاتٍ فكرية كبيرة لا يمكن أن يكون مُغفلًا لتلك الدرجة. هل يجب أن تذهب الآن؟ سأتبعك خلال دقيقة أو اثنتين.»
لكن كالهوم كيد كان قد أنهى مشروب الحليب الممزوج بالصودا، فتوجَّه بخطواتٍ واثقة إلى منزل جراي كوتيدج القريب، تاركًا خلفه مُخبره السري المُتهكِّم يشرب الويسكي ويدخن سيجاره. كانت بقايا ضوء النهار قد ذهبت؛ فكسا السماءَ لونٌ رماديٌّ داكن يميل للخضرة كلَونِ الأردواز، وتناثرت فيها نجومٌ متباعدة؛ لكن الجانب الأيسر منها كان أفتح، يُبشِّر بسطوع القمر.
كان جراي كوتيدج، الذي كان على ما يبدو مُحصَّنًا بسياجٍ مُربَّعٍ مرتفع من الشجيرات اليابسة الشائكة، قريبًا للغاية من أشجار الصنوبر ببندراجون بارك وسياجه المصنوع من الأوتاد حتى إن كيد حَسِبه بيت حارسه في بادئ الأمر، لكن بعد أن رأى الاسم مكتوبًا على بوابته الخشبية، ونظر إلى ساعة يده فوجد أنَّ الساعة التي حدَّدها «المُفكِّر» لمقابلته قد حانت، دَلَفَ إليه وطَرَقَ بابه الأمامي. داخل سياج الحديقة، رأى أن المنزل، مع أنه كان بسيطًا للغاية، كان أكبر وأكثر ترفًا مما بدا له في بادئ الأمر، وكان لا يشبه بيت الحارس في شيء. خارجه كان هناك بيتُ كلبٍ وخليةُ نحلٍ، وقفَا كرمزَين لحياة الريف الإنجليزي القديمة؛ وكان القمرُ يسطع خلف مزرعة أشجار كُمَّثْرى مُثمِرة، وكان الكلبُ الذي خرجَ من بيته يبدو وقورًا وتردَّد في النباح؛ وكان رئيسُ الخَدَم العجوز البسيط الذي فتح له الباب مقتضبًا في ردوده لكنه محترم.
قال: «لقد طلبَ مني السيدُ بولنوي أن أبلغَك أسفَه يا سيدي، فقد اضطره أمرٌ للخروج فجأةً.»
قال المحاور وقد بدأ صوتُه يرتفع: «لكنه أعطاني موعدًا. هل تعرف أين ذهب؟»
قال الخادم بأسًى وهو يهمُّ بغلق الباب: «إلى بندراجون بارك يا سيدي.»
تفاجأ كيد بعضَ الشيء.
سأل بشرود: «هل ذهبَ برفقة السيدة … أقصد برفقة باقي المدعوين؟»
قال الرجلُ باقتضابٍ: «كلَّا يا سيدي، لقد تخلَّفَ عنهم ثم ذهبَ وحده.» ثم أغلق البابَ بحِدَّة لكن بشعور مَن لم يؤدِّ واجبه.
شعر الأمريكيُّ، الذي كان يحمل بداخله مزيجًا من الوقاحة ورهافة الحِسِّ، بالحَنق. كانت لديه رغبةٌ مُلِحَّة لأن يوبِّخهم جميعًا قليلًا ويُلقِّنهم آدابَ العمل؛ الكلبَ العجوزَ الأشيب، ورئيسَ الخَدم العجوز ذا الوجه الكئيب والحُلَّة العتيقة الطراز، والقمرَ العجوز الناعِس، وأولُهم الفيلسوفُ المشتَّت الذهن الذي لا يستطيع الالتزام بموعد.
قال السيد كالهون كيد: «إن كان يتصرف بهذه الطريقة، فهو يستحق خسارة إخلاص زوجته واكتفائها التام به مهما كان قويًّا، لكن ربما ذهبَ ليفتعل شجارًا. في تلك الحالة إذن سيكون رجلٌ من صحيفة «ويسترن صَن» حاضرًا.»
ثم سلك المُنعطَف بجوار بوابة المنزل المفتوحة، وانطلقَ يمشي متثاقِلًا في الزقاق الذي تحدُّه أشجار الصنوبر السوداء والذي يؤدي بمنظورٍ منحدر إلى الحدائق الداخلية لبندراجون بارك. كانت الأشجار سوداءَ ومُصطَفةً كالريشات التي تُزيِّن رءوسَ الأحصنة في المواكب الجنائزية، ولم يكن هناك سوى القليل من النجوم. كان رجلًا قدرته على تكوين روابط أدبية تفوق قدرته على تكوين روابط طبيعية مباشرة؛ وظلت كلمة «رافنزوود» تتردد في ذهنه مرارًا وتكرارًا. لم يرجع ذلك إلى لون أشجار الصنوبر الذي يشبه لون الغِربان السوداء فحسب، بل أيضًا إلى الأجواء التي يعجز عنها الوصف والتي وصفتها رواية والتر سكوت التراجيدية العظيمة؛ رائحة شيءٍ مات منذ القرن الثامن عشر؛ رائحة الحدائق العَطِنَة، وجرَّات حِفظ الرُّفات المكسورة، وأخطاء لم يعد من الممكن إصلاحها الآن؛ وحزن لا أملَ في زواله لأنه زائفٌ على نحوٍ غير معهود.
بينما كان يسير في ذلك الطريق المُعتِم الذي ينذر بخديعةٍ مأساوية، توقَّف أكثر من مرة مُجفلًا؛ ظنًّا منه أنه سمعَ وقْعَ خطواتٍ تسير أمامه. لم يرَ أمامه سوى سياجَي أشجار الصنوبر المُعتِمين وتبدَّت خلالهما رُقعةٌ كالوتد من السماء المُرصَّعة بالنجوم والتي تمتد فوقهما. ظنَّ في بادئ الأمر أنه ربما توهَّم سماعَها أو انخدع بصدى وَقْع خطواته هو، لكن عندما تابَعَ سيره، ازداد ميله لأن يستقر بما تبقَّى لديه من منطقٍ إلى استنتاج أنَّ ما يسمعه هو وقع خطواتٍ حقيقية تسير في الطريق. راح ذهنه المشوَّش يفكرُ في الأشباح؛ فاندهشَ من سهولة استحضاره لصورة شبحٍ مناسب من السكان المحليين، شبحٍ له وجهٌ كوجهِ مُهرجٍ لكنَّ به رُقعًا سوداء. كان رأسُ المثلث الظاهر من السماء التي اكتست باللون الأزرق الداكن يزداد سطوعًا وزُرقة، لكنه لم يكن يدرك بعد أنَّ سببَ ذلك هو اقترابه من أضواء المنزل الكبير وحديقته. بل شعر فحسب أن التوجس المُضني بدأ يزدادُ في الأجواء، وأنَّ الحزنَ المُخيِّم كان يُخبِّئ وراءَه المزيدَ من العنف والغموض؛ المزيدَ من — تردد في اختيار الكلمة ثم ما لبث أن نطقها وسطَ ضحكة مجلجلة — الكوارثية.
مرَّ بالعديد من أشجار الصنوبر وقطعَ مسافةً في الممر، ثم تسمَّر فجأةً في مكانه وكأنَّما أُلقيت عليه تعويذةٌ سحرية. من العبث أن تقول إنه شعر وكأنه داخل حُلم، لكن تلك المرة كان متأكدًا أنه داخل كتاب. فنحن البشر معتادون على التناقضات والمفارقات؛ فقد ألِفنَا صخبَ الغرائب من الأمور؛ إذ صارت بالنسبة إلينا مقطوعةً موسيقية يمكننا النوم على ألحانها. وإنْ حدث أمرٌ واحدٌ ليس من قبيل المفارقة، فإنه يُوقظنا من نومنا كنغمةٍ شاذة. ما حدث لا يحدث إلا في مكانٍ كهذا داخل قصة مَنسيَّة.
من فوق أشجار الصنوبر الداكنة سقط سيفٌ مسلولٌ يلمع في ضوء القمر؛ كان سيف مبارزة ذا نَصلٍ طويلٍ حادٍّ لامعٍ كالسيوف التي ربما خيضت بها العديد من المبارزات غير المتكافئة على أرض ذلك المكان القديم. سقط على مسافةٍ أمامه في الممر واستقر مكانه يلمعُ مثل إبرةٍ كبيرة. ركضَ بسرعةٍ نحوه وانحنى لينظر إليه. عندما رآهُ عن قربٍ وجدَ أنَّ مظهره استعراضيٌّ؛ فقد بدت الجواهر الحمراء الضخمة المُرصَّعُ بها مِقبضُه وواقيه مُزيَّفةً نوعًا ما، لكن القطرات الحمراء التي رآها على نصله لم تكن مُزيَّفة.
تلفَّتَ حوله بحدَّةٍ في الاتجاه الذي أتت منه تلك القذيفة البرَّاقة، فرأى أنَّ ثمة طريقًا صغيرًا وراء واجهة أشجار التنوب والصنوبر الداكنة يتقاطع معها بزاوية مستقيمة في تلك البُقعة، والذي عندما دخل إليه رأى بوضوح المنزل المرتفع المُضاء وأمامه بحيرةٌ وعِدةُ نوافير. لكنه لم ينظر إليه، فقد كان لديه أمرٌ أكثر إثارة ليتطلع إليه.
فوقه، على رأس الضفة الخضراء المنحدِرة للحديقة ذات المصاطب المُدرَّجة، وجدَ إحدى المفاجآت الصغيرة البديعة التي شاعت قديمًا في بستنة الحدائق ذات المناظر الطبيعية الخلَّابة؛ كانت شيئًا يشبه تلًّا صغيرًا مستديرًا أو قبةً من العُشب، ككومة رُكامٍ خلَّفها خُلْدٌ حَفَرَ جُحرًا، تحيط بها وتطوِّقها ثلاثُ حلقاتٍ متتالية من الورود، وتتوِّج منتصفَ قمتِها ساعةٌ شمسية. رأى كيد مؤشر الساعة الشمسية البارز لأعلى تجاه السماء مثل زعنفة ظهرية لسمكة قرشٍ، وضوءَ القمر المختال يتشبث بتلك الساعة المُعطَّلة، لكنه للحظةٍ جامحة رأى شيئًا آخر يتشبَّث بها؛ شيئًا له هيئةُ رجل.
مع أنه لم يلمحه لأكثر من لحظة، ومع أنه كان يبدو عجيبًا وغير مألوفٍ في زيِّه المسرحي، فقد كان يرتدي من رقبته وحتى أخمص قدميه حُلَّة قرمزية ضيقة تزيِّنها بعضُ الحُليِّ الذهبية، لكن لمحةً واحدة تحت ضوء القمر كانت كافية لأن يعرف مَنْ هو. ذلك الوجهُ الأبيض المتطلِّع للسماء الحليقُ الذقن الذي يبدو يافعًا على نحو غير عادي، ذو الأنف الروماني كأنفِ بايرون الذي بدأ الشيب يغزو خصلات شعره السوداء — لقد رأى آلافَ الصور الشخصية للسير كلود شامبيون. ترنَّح شبحُ الرجل الأحمر الجامح لحظة لقاء الساعةِ الشمسية؛ ثم في اللحظة التي تليها سقطَ متدحرجًا على الضفة الشديدة الانحدار حتى استقرَّ عند قدمَي الأمريكي، يحرِّك إحدى ذراعيه بوَهنٍ. فجأةً ذكَّرَتْ كيد حِليةٌ ذهبيةٌ مُبهرَجة فاقعةُ اللون على ذراعه بروميو وجولييت؛ بالطبع الحُلَّة القرمزية الضيقة كانت جزءًا من المسرحية، لكن كان هناك بقعة دماءٍ ممتدة حتى أسفل المنحدر الذي تدحرج عليه الرجل — وتلك لم تكن جزءًا من المسرحية. كان قد تلقى طعنةً في جسده.
ظلَّ السيد كالهون كيد يصرخ ويصرخ. ومرةً أخرى خُيِّل له أنه سمع وقع خطواتٍ وهمية من نسجِ خياله، ثم أجفلَ عندما رأى شخصًا آخر يقف بجواره بالفعل. كان يعرفه، لكنه مع ذلك شعرَ بالهلع. كان الشابُّ المُشتَّتُ المدعو دالروي يبدو هادئًا للغاية. وإن كان بولنوي لا يلتزم بمواعيد أعطاها، فدالروي كان يملك حِسَّ الحفاظ على مواعيد لم يُعطِها. كان ضوءُ القمر يجعل كل شيء يبدو باهتًا، وكان وجه دالروي الشاحب لا يبدو أبيضَ مقارنةً بشعره الأحمر بقدر ما يبدو أخضرَ باهتًا.
لا بدَّ أن كلَّ تلك الانطباعات الخبيثة مجتمعة هي التي دفعت بكيد لأن يصيح بحِدَّة وبما يُنافي المنطق قائلًا: «أتلك فِعلتُكَ أيُّها الخبيثُ؟»
ابتسم جيمس دالروي ابتسامته المزعجة، لكن قبل أن يتسنَّى له أن ينطق ببنت شفة، حرَّك الرجلُ الساقطُ ذراعَه مرةً أخرى، مُلوِّحًا بشكلٍ غامض إلى حيث سقطَ السيف، ثم تأوَّه، وأخيرًا استطاع أن يتكلم.
قال: «بولنوي … أقول إنه بولنوي … بولنوي هو مَنْ فعلها … بسبب غيرته مني … لقد كان يغار مني …»
مالَ كيد برأسه نحوه كي يسمعَ أكثر، وبالكاد التقطت أذناه الكلمات:
«بولنوي … وبسيفي … لقد ألقاه …»
ومرةً أخرى أشارت ذراعه الواهنة تجاه السيف، ثم سقطت هامِدةً لادمة الأرض. تفجَّر في أعماق كيد حِسُّ الدعابة اللاذع الذي كان بمثابة النكهة التي تُضفي مذاقًا مستساغًا على جديَّة بَني عِرقه.
قال بحِدَّةٍ وبنبرةٍ آمِرة: «اسمع، استدعِ طبيبًا. لقد فارقَ الرجلُ الحياة.»
قال دالروي بنبرةٍ غامضة: «وقَسًّا أيضًا؛ فجميعُ أبناءِ عائلة شامبيون يعتنقون الكاثوليكية.»
جثا الأمريكي على ركبتيه بجوار الجثة، وتحسَّسَ نبضَها، ورفعَ رأسَها وبذلَ بضعَ محاولاتٍ أخيرة لإنعاشها، لكن قبل أن يظهر الصحفيُّ الآخر مجددًا يتبعه طبيبٌ وقَسٌّ، كان قد تهيَّأ لأن يؤكِّد لهم أنهم تأخروا جدًّا.
سأله الطبيبُ، الذي كان يبدو رجلًا ثريًّا صارمًا، له شاربٌ تقليدي وسالفان تقليديان، لكنَّ عينيه كانتا مُفعمتَيْن بالحيوية رمقَ كيد بهما بريبة قائلًا: «وهل تأخرتَ أنت أيضًا كثيرًا؟»
قال موفَدُ صحيفة «ويسترن صَن» بتأنٍّ: «نوعًا ما. لقد تأخرتُ كثيرًا فلم أستطع إنقاذَ الرجل، لكني أظن أني أتيت في الوقت المناسب لسماع أمرٍ مهم. لقد سمِعتُ الرجلَ المُتوفَّى يُسمِّي قاتله.»
سأل الطبيبُ عاقدًا حاجبيه: «ومَنْ يكون القاتل؟»
قال كالهون كيد: «بولنوي.» ثم صفَّر صفيرًا خافتًا.
حدَّقَ فيه الطبيبُ بوجومٍ وقد احتقنَ وجهُه، لكنه لم يعارِضه. حينها قال القسُّ، الرجلُ الأقصر طولًا الذي كان يقف في الخلفية، بهدوءٍ: «حسب علمي، لم يكن السيد بولنوي ينوي الحضورَ إلى بندراجون بارك ذلك المساء.»
قال الأمريكيُّ بأسًى: «ها نحن ذا مجددًا، ربما بإمكاني أن أخبر البلدَ القديم ببضع حقائق. أجل يا سيدي، كان جون بولنوي ينوي قضاءَ تلك الأمسية في منزله؛ فقد حدَّد لي موعدًا فعليًّا لألقاه هناك، لكنه بدَّل رأيه؛ فقد غادرَ منزله فجأةً وأتى إلى ذلك المنزل اللعين منذ حوالي ساعة. هذا ما أخبرني به خادمه. أعتقدُ أننا نمسك بيدينا ما يُطلق عليه رجالُ الشرطة الحُصفاء دليلًا. هل استدعيتموهم؟»
قال الطبيبُ: «أجل، لكننا لم نُخطر أيَّ شخصٍ آخر بعد.»
سأل جيمس دالروي: «هل تعلم السيدة بولنوي؟» ومرةً أخرى، شعر كيد برغبةٍ رعناء في أن يَلكمه على فمه الملتوي.
قال الطبيبُ بتأفُّفٍ: «لم أخبرها بعد، لكن ها قد جاءت الشرطة.»
كان القَسُّ القصير قد خرجَ إلى الزقاق الرئيسي، ثم عاد حاملًا السيف الساقط، الذي بدا كبيرًا ومصطنعًا على نحو يبعث على الضحك بجوار هيئته القصيرة الممتلئة، التي كانت تبدو كهنوتية وعادية في آنٍ واحد. قال بنبرةٍ تأسفية: «قبل أن تصل الشرطة، هل مع أحدكم كشَّاف؟»
أخرج الصحفيُّ الأمريكي كشَّافًا يدويًّا من جيبه، فقَرَّبه القَسُّ إلى الجزء الأوسط من نَصل السيف، وفحصه بعنايةٍ شديدة. ثم ناوَلَ السلاحَ الطويل إلى الطبيب دون أن ينظر إلى طرفه أو رمانته.
قال بتنهيدةٍ قصيرة: «أخشى أنكم لستم بحاجةٍ إليَّ هنا. عمتم مساءً أيُّها السادة.» ثم سار مبتعدًا في الزقاق المظلم ناحية المنزل، عاقدًا يديه وراء ظهره ومميلًا رأسه الكبير للأمام مستغرقًا في التفكير.
أسرع الرجال الباقون ناحية بوابة المنزل؛ حيث كان مُحقِّقٌ وشُرطيَّان يستطلعون الأمر بالفعل مع حارس البوابة، لكن القَسَّ القصير ظلَّ يسير بخطواتٍ متباطئة في الرواق المُعتِم الذي تحدُّه أشجار الصنوبر، ثم فجأةً وقف مُتسمِّرًا على أعتاب المنزل. كانت تلك طريقته الصامتة في استقبال شخصٍ صامتٍ يقترب منه؛ فقد كان يسير نحوه شبحٌ قد يرقى إلى معايير كالهون كيد الخاصة بشبحٍ أرستقراطيٍّ لطيف. كانت امرأة شابة في رداء من الساتان الفضي على طراز عصر النهضة؛ وكان لها شعرٌ ذهبي يتدلَّى في جديلتين لامعتين طويلتين على جانبَي وجهها الشاحب للغاية، فبَدَتْ وكأنها تمثالٌ إغريقي مصنوعٌ من العاج والذهب، لكن عينيها كانتا براقتين للغاية، وصوتها على انخفاضه كان مُفعمًا بالثقة.
قالت: «الأب براون؟»
ردَّ بنبرةٍ جِديَّة: «سيدة بولنوي؟» ثم نظر إليها وقال على الفور: «أرى أنكِ علمتِ بما حدث للسير كلود.»
قالت بحزم: «وكيف عرفتَ أني علمتُ بذلك؟»
لم يُجِبْ عن سؤالها، بل طرح عليها سؤالًا آخر: «هل رأيتِ زوجَكِ؟»
قالت: «زوجي بالمنزل. لا دخلَ له بذلك الأمر.»
مرةً أخرى، لم يُجِبها؛ فدَنتْ منه وعلى وجهها انفعالٌ بالغ.
قالت: «ألا أخبرك بشيءٍ آخر؟ لا أظن أنه الفاعِل، وذلك ظنك أنت أيضًا.» بادلها الأبُ براون نظرةً طويلة جديَّة، ثم أومأ برأسه بجديَّة أكبر.
قالت السيدة: «أيُّها الأب براون، سأخبرك بما أعرفه، لكني أريدك أن تُسدي لي معروفًا أولًا. هَلَّا أخبرتني لمَ لمْ تقفز إلى استنتاج أنَّ جون المسكين مُذنِب، كما فعل الآخرون؟ لن أمانع أيَّ شيءٍ تقوله، أنا، أنا أعرفُ الأقاويل وظواهر الأمور التي تُشاع ضدي.»
بدا الإحراج بحقٍّ على الأب براون، ومسحَ جبينه براحة يده، ثم قال: «لأمرين بسيطين؛ أحدهما على الأقل تافهٌ جدًّا؛ والآخر مُبهَم جدًّا، لكنهما على كلِّ حالٍ يتنافيان مع فرضية أنَّ السيد بولنوي هو القاتل.»
ثم رفعَ وجهه المستدير الخالي من التعابير إلى النجوم وتابَعَ حديثه بذهنٍ شارد: «لنبدأ بالفكرة المُبهَمة أولًا؛ فالأفكار المُبهَمة تحظى بأهميةٍ كبيرة لديَّ. كلُّ تلك الأمور التي «لا تُعدُّ أدلةً» هي التي تُقنعني. فأنا أعتقدُ أنَّ المستحيل الأخلاقي هو أكبر المستحيلات. أنا لا أعرفُ عن زوجك سوى القليل، لكني أظن أن جريمته تلك كما يعتبرها الجميع، تشبه إلى حدٍّ كبير أحد المستحيلات الأخلاقية. أرجوكِ لا تظني أني أعني أن بولنوي لا يمكن أن يكون شريرًا إلى تلك الدرجة؛ فأيُّ شخصٍ يمكن أن يكون شريرًا، بقدر ما يختار. نحن نملك توجيه إرادتنا الأخلاقية، لكننا لا نستطيع تغيير ميولنا وأساليبنا الغريزية. بولنوي قادرٌ على ارتكاب جريمة قتل، لكن ليست تلك الجريمة. لن يختار أن يَسْتَلَّ سيفَ روميو من غمده الرومانسي؛ أو يغرسه في خصمه أمام الساعة الشمسية وكأنه مذبحٌ؛ أو يترك جثته بين الأزهار، أو يقذف السيف بعيدًا بين أشجار الصنوبر. إنْ قرَّر بولنوي قتل أحدٍ، فسيفعل ذلك بهدوءٍ وبتثاقل، كما كان سيفعل أيَّ شيءٍ من المُستبعَد أن يفعله؛ كأن يحتسي كأسًا عاشرة من النبيذ الأحمر أو يقرأ لشاعر إغريقي منحل. لا، ذلك المشهدُ الرومانسي لا يتفق مع أسلوب بولنوي، بل هو أقربُ إلى أسلوب شامبيون.»
قالت وهي تتطلع إليه بعينين تبرقان كالألماس: «أوه!»
«أما الأمرُ التافه فهو أن ثمة بصمات أصابع على السيف؛ بصمات الأصابع يمكن اكتشافها حتى بعد مرور فترة طويلة على بعض الأسطح المصقولة كالزجاج أو الفولاذ. وتلك البصمات تُرِكت على سطح مصقول؛ فقد وجدتها في منتصف نَصل السيف. ليس لديَّ أدنى فكرة بصمات مَنْ هي؛ لكن لِمَ قد يمسك أحدهم بسيفٍ من منتصف نَصله؟ السيفُ طويلٌ، وطولُه يُعدُّ ميزةً عند مهاجمة الخصوم. على الأقل معظم الخصوم. كلُّ الخصوم عدا واحدٍ!»
كرَّرتْ: «عدا واحدٍ.»
قال الأب بروان: «خصمٌ واحدٌ فقط سيكون قتله بالخنجر أسهلَ من قتله بالسيف.»
قالت المرأة: «أعلم. المرءُ نفسه.»
سادَ الصمتُ لفترةٍ، ثم قال القسُّ فجأةً بهدوء: «أنا مُحقٌّ إذن؟ هل قتلَ السير كلود نفسَه؟»
قالت بوجهٍ جامِد: «أجل. رأيتُه وهو يفعل ذلك.»
قال الأب براون: «مات حُبًّا لكِ؟»
ارتسم على وجهها تعبيرٌ غريب، تعبيرٌ لا يشبه الشفقة أو الخجل أو الندم، أو أيَّ تعبير توقعه القسُّ، وقالت فجأةً بصوتٍ جهوريٍّ عميق: «لا أظن أنه كان يهتم لأمري ولو مثقال ذرةٍ. بل كان يكره زوجي.»
سألَ القسُّ وقد خفضَ رأسَه الذي كان صوبَ السماء لينظر إلى السيدة: «لِمَ؟»
«كان يكره زوجي لأن … السببُ غريبٌ للغاية حتى إني أجد صعوبةً في صياغته … كَرِهَه لأن …»
قال الأب بروان برفقٍ: «لأن؟»
«لأنَّ زوجي لم يشأ أن يكرهه.»
أومأ الأب براون برأسه، وظلَّ مُصغيًا؛ كان يختلف عن معظم المُحققين الذين قد يصادفهم المرءُ في الواقع أو في الخيال في أمرٍ بسيط، وهو أنه لا يتظاهر أبدًا بعدم فهم أمرٍ يفهمه جيدًا.
دنت منه السيدة بولنوي أكثر وعلى وجهها بريقُ الثقة المكتوم وقالت: «زوجي رجلٌ عظيم. السير كلود شامبيون لم يكن رجلًا عظيمًا، بل كان رجلًا مشهورًا وناجحًا. زوجي لم يحظَ يومًا بالشهرة أو النجاح، وأقسمُ لكَ أنه لم يحلم يومًا بأن يحظى بهما؛ فهو لا يتوقع أن تمنحه أفكاره شهرةً أكبر من تلك التي قد يمنحها تدخينُ السيجار. وهو بجانب ذلك مُبتلًى بقدرٍ كبير من الغباء. لم ينضج يومًا. لا يزال يحب شامبيون كما كان يحبه عندما كانا تلميذَين في المدرسة، وكان إعجابه به يشبه إعجابه بخدعةٍ سحرية قدَّمها شخصٌ ما على طاولة عشاءٍ، لكن شامبيون لم يستطع أن يحمله على أن يحسده، وكان شامبيون يريد أن يحسده الناس. ومن أجل ذلك جُنَّ وقَتلَ نفسه.»
قال الأب براون: «أجل، أظن أنَّ الصورة بدأت تتضح لي.»
صاحت قائلةً: «أوه، ألا ترى؟ لقد أُعِدَّ المشهدُ كلُّه لذلك الغرض، المكانُ كله مُعدٌّ لذلك الغرض. أسكنَ شامبيون جون في منزلٍ صغير على أبواب منزله، مثل التابِع؛ كي يُشعِره بالفشل، لكنه لم يشعر قطُّ بذلك؛ فتلك الأمورُ لا تشغل باله أكثر مما تشغل بال أسدٍ ساهٍ. كان شامبيون يقتحم المنزل عندما يكون جون في أردأ حالاته أو في أثناء تناول أبسط الوجبات حامِلًا هديةً مُذهلة أو إعلانًا أو خبرَ بعثةٍ مُذهلًا وكأنه هارون الرشيد يزورنا، وكان جون إما أن يقبل عرضَه أو يرفضه بلطفٍ وهو شارد الذهن؛ كتلميذٍ كسولٍ يتفق أو يختلف مع زميله إنْ جاز التعبير. ظلَّ على ذلك الحال خمسَ سنوات، دون أن يهتز طرفٌ لجون؛ وقد كان السير كلود مهووسًا بأمرٍ واحد.»
قال الأب براون: «وعدَّدَ لهم هَامَان كلَّ ما عظَّمه الملك به؛ وقال: «وكلُّ هذا لا يساوي عندي شيئًا كلما أرى مردخاي اليهودي جالسًا في باب الملك».»
تابعت السيدة بولنوي قائلةً: «حدثت الأزمة عندما أقنعتُ جون بأن يسمح لي بتدوين بعض أفكاره وإرسالها إلى إحدى المجلات. بدأت أفكاره تجذب الانتباه، لا سيَّما في أمريكا، وأرادت إحدى الصحف إجراءَ حوار معه. عندما بلغَ شامبيون (الذي كانت تُجرى معه حواراتٌ كلَّ يومٍ تقريبًا) أن غريمَه الغافِل قد نال أخيرًا نصيبًا من فُتَات النجاح، انكسرت آخرُ حلقةٍ في قيد حقده الشيطاني. بعد ذلك بدأ يحيط حبي وشرفي بشِباكه القوية وقد صار ذلك حديثَ المقاطعة. ستسألني لِمَ قبلت لفتات اهتمامه البغيضة. أُجيبكَ أني لم أكن لأستطيع رفضَها دون تفسير الأمر لزوجي، وهناك أمورٌ لا تستطيعها الروحُ، كما لا يستطيع الجسدُ الطيران. لم يكن أحدٌ ليستطيع تفسير الأمر لزوجي، ولا أحدَ يستطيع ذلك الآن. إنْ قُلت له بشتى الطرق: «شامبيون يسرقُ زوجتَك.» فسيرى أنَّ تلك مزحةٌ بها شيءٌ من الفظاظة، لكن فكرة أنها ليست بمزحة … لم تجد تلك الفكرة سبيلًا للنفاذ إلى عقله الفَذ. كان من المفترض أن يأتي جون ويشاهِد مسرحيتنا تلك الأمسية، لكن عندما كنا على وشك البدء قال إنه لن يأتي؛ فقد كان يقرأ كتابًا مثيرًا للاهتمام ويُدخِّن سيجارًا. قلت ذلك للسير كلود، فكان بمثابة طعنةٍ في صدره. فجأةً، استحوذ اليأس على ذلك المهووس. فطعنَ نفسه، وهو يصرخ كالمجنون أن بولنوي يقتله؛ وها هو يرقد ميتًا في تلك الحديقة صريعَ غيرته كي يثير الغيرة، بينما يجلس جون في غرفة الطعام يُطالِع كتابًا.»
سادَ الصمتُ لفترةٍ، ثم قال القسُّ القصير: «هناك ثغرةٌ واحدة تشوب تلك الصورة الزاهية التي رسمتها لي. زوجُكِ لا يجلس الآن في غرفة الطعام يطالِع كتابًا؛ فقد أخبرني ذلك المراسِل الصحفي الأمريكي أنه ذهب إلى منزلكما، فأخبره رئيسُ الخدم أن السيد بولنوي ذهبَ إلى بندراجون بارك في النهاية.»
اتسعت عيناها البرَّاقتان فيما يشبه مصباحًا كهربائيًّا متوهجًا، لكنَّ نظرتها لم تحمل ارتباكًا أو خوفًا بقدر ما حملت ذهولًا، وصاحت: «ويحَكَ، ماذا تعني؟ جميعُ الخدم كانوا خارج المنزل يشاهدون المسرحية. وليس لدينا كبيرُ خدم، حَمدًا للرَّب!»
أجفلَ الأب براون ودار حول نفسه كنحلةٍ دوَّارة غريبة. صاحَ وكأنَّما أعادته صدمة كهربية إلى الحياة: «ماذا، ماذا؟ اسمعي، هل يمكن أن يستمع إليَّ زوجك إنْ ذهبتُ إلى المنزل؟»
قالت مجيلةً الأمر في ذهنها: «سيكون الخدم قد عادوا.»
قال القَسُّ بحماسٍ مُبتهجًا: «صحيح، صحيح!» ثم انطلق مهرولًا في الزقاق تجاه بوابة بندراجون بارك. التفتَ إليها مرةً أخيرة وقال: «حريٌّ بكِ أن تجدي ذلك الأمريكيَّ وإلا فسيطالِع الجميعُ خبرًا مكتوبًا عنوانه بالخط العريض «جريمة جون بولنوي».»
قالت السيدة بولنوي: «أنتَ لا تفهم. هو لن يبالي بذلك. لا أظن أنه يتخيَّل أن أمريكا موجودة حقًّا.»
عندما بلغ الأب براون المنزل القابع خارجه ذلك الكلبُ الناعِس وخليةُ النحل، أدخَلته خادمةٌ مُهندَمة ضئيلة الجسم إلى غرفة الطعام، حيث كان بولنوي جالسًا يقرأ كتابًا بجوار مصباح مظلل، تمامًا كما قالت زوجته. كان بجواره قارورة نبيذٍ أحمر وكأسٌ؛ وفي اللحظة التي دخل فيها القسُّ لاحظَ أنَّ الجزء المحترق من سيجاره لا يزال يبرز متماسكًا من طرفه.
قال الأب براون في نفسه: «إنه يجلس هنا منذ نصف ساعةٍ على أقل تقدير.» في الواقع، كان يبدو عليه أنه يجلس هنا منذ أن رُفعَت مائدة العشاء.
قال القسُّ بأسلوبه اللطيف العادي: «رجاءً لا تنهض يا سيد بولنوي، لن آخذ من وقتك طويلًا. أخشى أني أقاطع إحدى دراساتك العلمية.»
قال بولنوي: «كلَّا، لقد كنت أقرأ قصة «الإبهام الدامي».» قال ذلك دون أن يُظهر على وجهه عبوسًا أو ابتسامة، فاستشعر زائره فيه لا مبالاةً عميقة ومتأصِّلة أسمتَها زوجته عَظَمَة. ووضعَ جانبًا الكتابَ الأصفر «المثير» الدامي دون أن يشعر حتى بالحاجة لأن يعلق على ذلك بسخرية كونه يتنافى مع الوضع. كان جون بولنوي رجلًا ضخمًا ثقيلَ الحركة، له رأسٌ كبير يكسو الشيبُ نصفَه والصَّلعُ نصفَه الآخر، وملامحه ضخمة مُتبلِّدة. كان يرتدى حُلَّة سهرة رثَّة عتيقة الطراز لها فتحةٌ أمامية مثلثية ضيقة؛ ارتداها ذلك المساءَ عندما كان يعتزمُ في الأساس الذهابَ لمشاهدة زوجته وهي تؤدي دور جولييت.
قال الأب براون مُبتسمًا: «لن أعطِّلك عن قراءة «الإبهام الدامي» أو أيِّ كتبٍ كارثية أخرى؛ فقد جئتُ فحسب لأسألكَ عن الجريمة التي ارتكبتَها ذلك المساء.»
نظر إليه بولنوي بثباتٍ، لكنَّ جبينه بدأ يتخضَّب بالحُمرة، وبدا كأنه يجرِّبُ الشعور بالارتباك للمرة الأولى.
قال براون مؤكِّدًا بصوتٍ منخفض: «أعلمُ أنها جريمةٌ غريبة. ربما أغرب حتى من القتل — بالنسبة إليك. أحيانًا يكون الاعترافُ بالخطايا الصغيرة أصعبَ من الاعتراف بالخطايا الكبيرة، لكن لهذا السبب من المهم للغاية الاعترافُ بها. جريمتُك تلك ترتكبها كلُّ مضيفة راقية ستَّ مراتٍ في الأسبوع، ومع ذلك تجد أنت صعوبةً في الاعتراف بها وكأنها إثمٌ فاحشٌ أسوأ من أن يُوصَف.»
قال الفيلسوف ببطءٍ: «إنَّها تجعل المرءَ يشعر أنه أحمق بغيض.»
قال الآخر مُوافِقًا: «أعلمُ ذلك. لكنَّ كثيرًا ما يضطرُّ المرءُ لأن يختارَ بين أن يشعر أنه أحمق بغيض وأن يكون شخصًا ذا كينونة.»
تابع بولنوي قائلًا: «أنا لا أستطيع تحليلَ ما يدور في نفسي جيدًا، لكن جلوسي هنا في ذلك الكرسي وبيدي تلك القصة يجعلني سعيدًا سعادة تلميذ بعُطلة نصف يوم. كان يمنحني شعورًا بالأمان والديمومة، لا أستطيعُ التعبير عنه؛ السجائرُ في متناول يدي … وأعوادُ الثقاب في متناول يدي، وكان صاحبُ الإبهام الدامي سيظهر أربع مرات أخرى كي … ثم سمعت جرس الباب، وللحظةٍ طويلة مريعة خُيِّل لي أني لا أستطيعُ النهوضَ من ذلك الكرسي؛ أعني لا أستطيعُ النهوضَ منه حرفيًّا، لا يقوى جسدي وعضلاتي على النهوض منه. ثم نهضتُ منه وكأنما أحمل العالَم على عاتقي؛ لأني أعلم أن الخدم ليسوا بالمنزل. فتحتُ البابَ الأمامي، فوجدت أمامي رجلًا ضئيلَ الجسد فمه مفتوحٌ استعدادًا للحديث ودفتر ملاحظاته مفتوحٌ استعدادًا للكتابة فيه. فتذكَّرت الصحفيَّ الأمريكي الذي كنت قد نسيت أمره. كان شعره مفروقًا من المنتصف، وصَدِّقْنِي إن جريمة القتل …»
قال الأب بروان: «أتفهَّم ذلك. لقد رأيتُه.»
تابَع صاحبُ نظرية الكوارثية بهدوءٍ: «أنا لم أرتكب جريمة قتلٍ، بل كذبت فحسب. قلت إني ذهبتُ إلى بندراجون بارك ثم صفدت الباب في وجهه. تلك هي جريمتي أيُّها الأب براون، ولا أعلم ما الكفَّارة التي ستفرضها عليَّ تكفيرًا عنها.»
قال القسُّ وهو يحمل قبعته الثقيلة ومظلته بابتهاجٍ: «لن أفرضَ عليك أيَّ كفَّارة، بل على العكس. لقد أتيت إلى هنا تحديدًا كي أعفيك من الكفَّارة البسيطة التي كانت ستُفرَض عليك نتيجةً لخطيئتك البسيطة.»
سأل بولنوي مُبتسِمًا: «وما تلك الكفَّارة البسيطة التي حالفني الحَظُّ وأُعفيتُ منها؟»
قال الأب براون: «الإعدامُ شنقًا.»