مذهب السببية في فلسفة هيوم
وقد مرَّ بنا أن هيوم حين فشل كتابه «رسالة في الطبيعة الإنسانية» اختصر الآراء الأساسية وأودعها كتابه «بحث في الفهم الإنساني». وهذا الكتاب هو الذي ذاع في وسط الفلاسفة، وهو الذي قرأه «كانط» الفيلسوف فقال عنه: «لقد أيقظني هيوم من سُبات الاعتقادات.»
كان غرض هيوم كما نصَّ على ذلك أن يُزعزع أركان الفلسفة، ولقد طعنها منذ ذلك الوقت فأصابها في الصميم.
وإذا كان حقًّا أن كانط أفاق من سُبات الاعتقادات، إلَّا أنه عاد إلى نوم عميق، فصاغ فلسفته في أثواب «دجماطيقية» لا تحل المشكلات الفلسفية حلًّا معقولًا مقبولًا، ولا تُصلح المسلَّمات التي فرضها فرضًا، بقوله تارةً إنها موجودة بالفطرة أو قبل التجرِبة، كالقول بالزمان والمكان، وتارةً أخرى بأنها مسلَّمات لا غنى عنها لفهم الحياة العملية الخلقية؛ مثل فكرة الله والحرية وخلود النفس. لا تصلح هذه المسلَّمات إلَّا كما قال هيوم: «ستارًا للخطَل والخطأ.»
ونُحب قبل أن نعرض رأي هيوم في السببية أن نُمهِّد لذلك برأيه في الفلسفة وفي أصل الأفكار.
يذهب هيوم إلى أن الفلسفة على نوعَين، والفلاسفة على ضربَين؛ لكلٍّ منهما قيمتها وأثرها في ثقافة البشر.
نوع يَعُد الإنسان موجودًا للعمل، يتأثَّر في سلوكه بالذوق والعاطفة، ويختار هذا الشيء دون ذاك لما فيه من قيمة. ولمَّا كانت الفضيلة هي أثمن شيء في العالم، فإنك تجد هذه الفلسفة تُضفي عليها أبهى الألوان حتى تدفعنا في طريق الفضيلة، وهو الطريق إلى المجد والسعادة.
ونوع ينظر إلى الإنسان في ضوء الفكر لا السلوك، ويُحاول أن يصوغ عقله أكثر من تشكيل سلوكه. وهذا الضرب من الفلاسفة يجعلون الإنسان موضوعًا للتأمُّل، فيسعَون إلى كشف المبادئ العقلية التي يقوم عليها الفكر، وتدفع إلى استحسان أو استهجان ألوان العمل والسلوك.
ومن الثابت أن الفلسفة السهلة الواضحة أفضل من الدقيقة المستغلِقة، وهذه الفلسفة الواضحة أكثر متعة، وأعظم ثمرة.
فإذا رجع الفيلسوف إلى العقل السليم أمن شر الزلل، وسار في الطريق المستقيم، وابتعد عن مخاطر الأوهام. حتى إذا أضفى على فكره ألوانًا من الجمال؛ خلد على الزمان.
فهذا شيشرون ذائع الشهرة في الوقت الحاضر (أي في عصر هيوم)، على حين قد خبت شهرة أرسطو تمامًا. ولقد تخطَّت شهرة لابرويير ماء البحار، أمَّا «مالبرانش» فلا يتعدَّى مجدُه حدودَ وطنه أو جيله.
«كن فيلسوفًا، ولكن ابقَ في غمار فلسفتك إنسانًا.»
ويُذكِّرنا هذا الرأي بما كانت عليه صورة الفلسفة في اليونان، كما نجدها ممثَّلةً في سقراط. وقد ذهبتُ هذا المذهب في كتابي «معاني الفلسفة» وهو عندي الرأي الصحيح. وما دام المرجع هو العقل السليم، فلن يجد أي إنسان عُسرًا في أن يكون فيلسوفًا.
ولم يكن هيوم أوَّل من وجَّه سهام النقد إلى أرسطو، ذلك الطود الشامخ الذي ظلَّ رمز الفلسفة قرونًا طويلةً من الزمان، سبقه إلى ذلك بيكون وديكارت، وأقاما صرح فلسفة جديدة ليس هنا مجال ذكرها.
إلَّا أن هيوم اختطَّ سبيلًا أخرى تختلف عن السبيل التي سلكها بيكون أو ديكارت؛ ذلك أنه أراد أن يعلم أولًا حدود العقل البشري، بأن نُحلِّل قواه تحليلًا دقيقًا لنرى هل في مقدوره أن يبحث هذه الموضوعات المستغلِقة البعيدة الغور. وكان هيوم بذلك صاحب المذهب النقدي في الفلسفة، والذي تبعه بعد ذلك كانط من بعده.
لهذا السبب بدأ هيوم يبحث قبل كل شيء في أصل الأفكار، ونشأتها؛ لأن العقل البشري ليس شيئًا آخر إلَّا مجموعةً من المعاني أو المعقولات، وما العقل إلَّا مضمونه.
وقد برزت هذه المشكلة في القرن السابع عشر، وتزعَّم القائلين بالأفكار الفطرية ديكارت في فرنسا. وذهب مستر لوك — كما يُسمِّيه هيوم — إلى شيء من ذلك، ولكن على نحو آخر.
أمَّا هيوم فقد كان جريئًا، أمينًا على الخطة الفلسفية التي استنَّها لنفسه في استهلال كتابه، ونعني بها التخلِّي عن الآراء السابقة المنحدرة إلى تراث الفلسفة من قديم الزمان، والرجوع إلى «العقل السليم» فحسب، فنظر إلى هذا الموضوع نظر إنسان يبدأ بألف باء التفكير.
ويبدو أن هيوم هو أول من أدخل لفظة «الانطباع» في اللغة الفلسفية، وتداولها الناس في العصر الحاضر، وهي أشيع الآن في الفرنسية. حدَّد هيوم مدلولها بقوله: «إنني أعني بلفظ «الانطباع» جميع مدركاتنا الحسية حين نسمع أو نرى، أو نشعر أو نحب أو نبغض، أو نرغب أو نُريد.»
هذا الإحساس المباشر أزهى وأبهى وأكثر حياةً من تذكُّره بعد ذلك بعد انعدام المصدر، «كالرجل الذي يُحس بألم من حرارة شديدة، ثم يسترجع الألم في ذاكرته أو يتخيَّله قبل وقوعه».
فالإحساس بالألم هو ما يُسمِّيه ﺑ «الانطباع»، واسترجاع الألم في الذهن هو الفكرة. والفرق بينهما في درجة الحياة والقوة والبهاء.
فلْنُسلِّم مع هيوم بهذه الاصطلاحات ولا نتوقف لنقدها في ضوء علم النفس، ثم لنمضِ معه إلى حيث يُريد أن يقودنا.
يقول بعد ذلك ما فحواه: أبعد الأشياء عن الطبيعة والواقع، وأكثرها انطلاقًا في غير حدود، هو التفكير الإنساني، الذي يحملنا على جناح الخيال في لحظة إلى أبعد مناطق الكون، بل إلى أبعد ما هو من الكون.
وقد يبدو أن الفكر يملك حريةً لا تُحد، إلَّا أن الفحص القريب يُبيِّن لنا أن قدرة العقل على الخلق والإبداع ليست شيئًا آخر إلَّا التركيب والتبديل، والزيادة أو النقصان، في المادة التي تُقدِّمها لنا الحواس والتجرِبة. حين نُفكِّر في جبل من ذهب، لا نفعل إلَّا الجمع بين فكرتَين قائمتَين؛ الذهب والجبل، إذ كنا على علم بهما من قبل. ونستطيع أن نتصوَّر حصانًا فاضلًا؛ إذ قد سبق في شعورنا تصوُّر الفضيلة التي يمكن أن نربطها بشكل الحصان وهيئته، وهو حيوان مألوف لنا. جملة القول: جميع مواد التفكير منتزعة من إحساسنا الخارجي أو الداخلي، أمَّا خلط هذه الإحساسات وتركيبها فهو من شأن العقل والإرادة وحدهما.
والدليل على ذلك فكرة الله، الدالة على كمال الحكمة، وغاية الخير، وتمام العلم، فإنها من أنفسنا، ومن تأمُّل عقولنا، فنبسط صفات الخير والحكمة التي نُحسها بحيث تُصبح لا حدَّ لها. ولو نظرنا إلى أي فكرة من الأفكار لوجدنا أنها صورة من الانطباعات.
ولا يجب أن يغيب عن بالنا أن فاقد حاسة من الحواس يجهل ما تُدركه هذه الحاسة، كالأعمى الذي لا يعرف ما الألوان. وكذلك من يجهل تجربة المشاعر، فإنه لا يعرفها كما يقول الشاعر العربي:
ومن الواضح أن الأفكار حين ترتبط في الذهن بعضها بالبعض الآخر إنما تخضع لقاعدة ونظام. يقول هيوم: «ولو أن ارتباط الأفكار أمر يُعَد من الوضوح بمكان شديد، إلَّا أنني لا أجد أي فيلسوف قد حاول أن يعد أو يُصنف مبادئ الارتباط. وعندي أن الروابط بين الأفكار ثلاثة؛ التشابه، والتلازم في المكان والزمان، والسببية.» وقد نسيَ أن أرسطو قد سبقه بعشرين قرنًا من الزمان فاهتدى إلى قوانين الترابط بين الأفكار وقال إنها التشابه، والتضاد، والتلازم.
على أن الذي يعنينا في فلسفة هيوم قوله بهذا النوع من الارتباط بين الأفكار، وهو صلة السبب بالمسبَّب، وهو ما أطلقنا عليه «السببية». ويُعَد بحث هيوم في السببية من أهم البحوث وأعظمها خطرًا في تاريخ الفلسفة؛ لأنه يُريد أن يهدم ما اصطلح عليه الناس أجيالًا متعاقبة، وأن يُزعزع قواعد الحضارة التي تستند إلى اعتقاد الناس في خروج المسبَّبات عن الأسباب.
أمَّا الأشياء الواقعة فإن إثبات صحتها أقل وثوقًا من تلك العلوم الرياضية؛ ذلك أن نقيض أي شيء ممكن الوقوع، ولا يمنع العقل التناقض في الأشياء الواقعة. فلنا أن نتصوَّر أن الشمس ستطلع في الغد أو لا تطلع، وكلا الأمرَين ممكن، مع أنهما على طرفَي نقيض، ومن العبث كما يقول هيوم أن نُبيِّن فساد إحدى هاتَين القضيتَين.
ويبدو أن أغلب أدلتنا التي تتعلَّق بالأمور الواقعة تقوم على علاقة الأسباب بالمسبَّبات.
والسببية هي المرحلة التي تجيء بعد الحواس والذاكرة.
سَلْ رجلًا لماذا يحكم على الغائب كأن يقول: إن صديقه في الريف أو في فرنسا، وسوف يُعطيك سببًا لذلك قد يكون هذا السبب حقيقةً واقعةً أخرى؛ كأن يكون قد تلقَّى منه رسالةً أو علم منه عزمه السابق. وإذا عثر شخص على ساعة أو آلة أخرى في جزيرة مهجورة، فإنه يستنتج من ذلك أن إنسانًا كان على ظهر هذه الجزيرة. وعلى هذا النحو يجري تفكيرنا فيما يختص بالأمور الواقعة. ويقال إن بين الشيء الموجود، والسبب الذي نعزوه إليه، علاقة دائمة. وإن هذه العلاقة ترتبط فيما بينهما، ولولا هذه الرابطة أو العلاقة التي تصل بينهما، ما تيسَّر لنا أن نستنتج.
يذهب هيوم إلى أن فكرة السببية تنشأ عن التجرِبة، وذلك من مشاهدة الأشياء الجزئية مرتبطة بعضها ببعض على الدوام.
والدليل على ذلك أنك إذا قدَّمت شيئًا جديدًا كل الجدة لرجل كامل العقل حاد الذكاء، فإنه لن يستطيع أن يكشف عن أسبابها ونتائجها. وكذلك آدم، وقد كان فيما يُقال على أتمِّ عقل وأحدِّ ذهن، لم يكن ليستطيع أن يستنتج من رؤية النار، وما هي عليه من ضوء وحرارة، أنها تحرق.
الخلاصة أننا نكشف الأسباب والمسبَّبات لا بالعقل بل بالتجرِبة.
ولو أننا هبطنا فجأةً إلى هذا العالم، ثم نظرنا إلى لاعب «البلياردو»، فلا يمكن أن نستنتج عقلًا أن ضرب الكرة الأولى يُسبِّب حركة الكرة الثانية؛ ذلك أن حركة الكرة الثانية مستقلة تمام الاستقلال، ومتميِّزة تمام التميُّز عن حركة الأولى.
ألقِ حجرًا في الهواء، وسوف تجد أنه يسقط على الأرض. فإذا نظرت بالعقل وحده، فليس هناك ما يمنع أن يصعد الحجر إلى أعلى بدلًا من أن يهبط إلى أسفل.
وهذا هو السبب في أن الفلاسفة مهما أوتوا من نفاذ العقل، لم يستطع أحدهم أن يهتدي إلى السبب الأقصى في أي عمل من أعمال الطبيعة. وقد اهتدى الإنسان حقًّا إلى اختزال المبادئ الطبيعية بحيث تكون أكثر بساطة، ووصل إلى بعض الأسباب العامة التي أقامها على الملاحظة والتجرِبة. أمَّا علة هذه العلل فمن العبث أن نصل إلى كشفها؛ ذلك أن هذه المبادئ مغلقة، فلا يستطيع العقل البشري إليها نفاذًا.
لقد باعدت الطبيعة بيننا وبين أسرارها، ولم تكشِف لنا إلَّا عن المعرفة الظاهرة للأبصار. ثم إن حواسنا تُخبرنا عن صفات الأشياء، فهي تدلنا على لون الخبز وثقله وقوامه. ولكن الحس لا يستطيع، ولا العقل كذلك، أن يُخبرنا عن هذه الصفات التي تجعل الخبز صالحًا لتغذية البشر. وعلى الرغم من جهلنا بالقوى الطبيعية فإننا نستبق الحوادث، ونتوقَّع نتائج مماثلة لما سبق أن شاهدناه. فلو قُدِّم إلينا شيء يُشبه الرغيف ويُماثله في صفاته، لتوقعنا منه نفس الغذاء.
نحن إذن نُقيم الأسباب والمسبَّبات على أساس التجارِب السابقة، ولكن بأي حكم نحكم على المستقبل بما شاهدناه في الماضي؟ فالخبز الذي أكلته كان مغذيًا، فهل إذا أكلت خبزًا مرةً أخرى يُغذِّي؟ ولماذا؟ وهل هذه النتيجة ضرورية محتومة؟
الواقع أن الحكم على المستقبل حكم عقلي. ونستطيع في هذه المسألة أو القضية أن نُميِّز قضيتَين مختلفتَين؛ القضية الأولى: لقد ثبت بالتجرِبة أن هذا الشيء تعقبه هذه النتيجة، والقضية الثانية: أني أتوقَّع نتائج مماثلة لهذه الأشياء.
وليس التماثل دليلًا موجبًا لاستنباط النتائج. والتمثيل في المنطق أضعف درجات البراهين. وليس التماثل بين الأشياء الموجودة في الطبيعة تامًّا؛ فالبعض متفق في مظهره وصفاته الخارجية، ولكنك تجد تفاوتًا في طعمه. ويُذكِّرنا هذا المثال الذي يضربه هيوم بما قاله ليبنتز: «من أنه لا توجد ورقتان في شجرة واحدة، في غابة واحدة، متماثلتَين تمام التماثل.»
على أننا حين نتوقَّع النتائج على الأشياء المماثلة، نزعم بأن هناك قوًى خفيةً هي العلة في إحداث هذه النتائج، وهي التي تصل بين الأسباب والمسبَّبات، فهل لنا الحق إذا رأينا عددًا من التجارِب المتشابهة أن نستنتج علاقةً بين الأشياء المحسوسة وبين القوى الخفية؟ وعلى أي أساس نبني هذا الاستنتاج؟ وما هو الحد الأوسط الذي ينقُلنا من المشاهدات المحسوسة إلى القوى الخفية؟
إننا نفترض أن المستقبل سوف يقع على نسق الماضي، ولكن ما الحال لو تغيَّر الكون واختلف نظام الطبيعة؟ عندئذٍ لا يصلح الماضي أن يكون قاعدةً للحاضر أو المستقبل.
ولْنفرض أن شخصًا هبط على ظهر هذه الأرض، فإنه ولا ريب سوف يلحظ تعاقب الحوادث، ولكنه لن يصل إلى فكرة الأسباب والمسبَّبات؛ لأن السببية من المعاني التي لا تُدرَك بالحس، وليس من المنطق أن يُستنتج من تعاقُب حادثتَين أن إحداهما علة، والأخرى معلول.
بسطنا من قبلُ رأي فيلسوف إسلامي ذهب هذا المذهب هو أبو حامد الغزالي في «تهافت الفلاسفة». والفرق بين الغزالي وهيوم أن حجة الإسلام يُريد أن ينفي الأسباب حتى لا يكون إلى جانب الله علة مؤثِّرة في الكون. فالله هو مسبِّب الأسباب جميعًا، وهو علة العِلل.
يذهب هيوم إذن إلى أن اتصال الظواهر بعضها بالبعض الآخر هو «عادة». وهو لا يزعم أنه يُفسِّر بذلك قوانين الطبيعة، ولكنه يُشير إلى مبدأ تختص به الطبيعة البشرية، وهو من المبادئ التي يعترف بها سائرُ الناس ويعلمون أثرها.
فالعادة وحدها هي التي تجعل تجارِبنا مثمرة، وتُبيح لنا أن نتوقَّع في المستقبل ما سبق أن شاهدناه في الماضي.
الخلاصة أننا ألِفنا أن نرى الحرارة تصحب اللهب، والبرودة تصحب الثلج، فإذا شاهدنا بالحواس اللهب أو الثلج توقَّع العقل بحكم العادة أن يجد الحرارة والبرودة، وأن يعتقد في وجودهما. وهذا الحكم عمل من أعمال العقل لا من طبيعة الأشياء الخارجية.
ويبدو أن السبب في اختلاط الأمر على الفلاسفة، هو عدم تحديد المصطلحات التي تجري في قاموس الفلسفة، ثم يترتَّب على ذلك اللبس والغموض. ومن هذه المصطلحات «القوة»، «والارتباط الضروري»؛ أي ارتباط الأسباب بالمسبَّبات. ومن الطبيعي أن يُحلِّل هيوم هذَين الاصطلاحَين في ضوء التقسيم الذي ذهب إليه من أن المعاني انطباعات وأفكار، وأن الأفكار تقوم على الانطباعات. فنحن نرى كرة «البلياردو» تضرب الكرة الثانية فتُحرِّكها، ولكننا لا نرى في الكرة الأولى هذه «القوة» المؤثِّرة في الثانية بحيث تكون سببًا لتحرُّكها؛ أي إننا لا نرى بالحواس أسبابًا ولا قوًى، وإنما نرى ظواهر متعاقبة.
ولعل فكرة القوة المستمدَّة من أنفسنا، أو هي صورة لما فينا من انطباعات باطنة، فنحن نشعر في كل لحظة بهذه القوة الباطنة، ذلك حين نُريد فنصدر أمرًا إلى أعضاء الجسم أن تتحرَّك، فشعورنا بأفعالنا الإرادية هو مصدر فكرة القوة في الطبيعة.
ومع ذلك فهناك اعتراضات كثيرة نسوقها على صحة الاعتقاد بهذه القوة النفسانية، وأنها علة حركة الأعضاء وعمل الوظائف العقلية. فالأمر في الظواهر النفسية فيما يخص بالأسباب والمسبَّبات هو كالأمر في الظواهر الطبيعية.
- وأول اعتراض: هو أن اتصال النفس بالجسم من المسائل الشديدة الغموض؛ إذ يُقال إن هناك جوهرًا روحانيًّا يُؤثِّر في الجسم المادي، وهذا الجوهر الروحاني أو النفساني يحتاج قبل كل شيء إلى الإيضاح.
- والاعتراض الثاني: لماذا لا نستطيع تحريك بعض أعضاء الجسم، ونعجز عن تحريك بعضها الآخر؟ فنحن نُحرِّك اللسان والأصابع، ونعجز عن تحريك القلب أو الكبد.
- والاعتراض الثالث: أنه ثبت من علم التشريح أن الحركة الإرادية لا تنصب مباشرةً على العضو الذي يتحرَّك، بل على عضلات وأعصاب تتصل بهذا العضو.
والخلاصة أن فكرة القوة النفسانية هي كمثيلتها الطبيعية، ليست شيئًا آخر إلَّا حكم العادة.
الواقع أن أغلب الناس لا يجدون صعوبةً في تعليل الظواهر المألوفة في الطبيعة مثل سقوط الأجسام، ونمو النبات، وتناسل الحيوان. وهم لطول عهدهم برؤية هذه الظواهر المألوفة لا يتوقَّعون غيرها، ولا تستطيع عقولهم أن تتصوَّر حدوث ظواهر مخالفة عن الأسباب المزعومة، حتى إذا صدمتهم الطبيعة بما فيها من شذوذ كالزلازل والبراكين وسائر الخوارق؛ عجزت العقول عن التعليل، والتمسوا الأسباب في قوًى غير منظورة، أو قالوا: إنها من عند الله. ويُشير هيوم بقوله إنها من عند الله إلى ديكارت تارة، وإلى «مالبرانش» تارةً أخرى. ولا يعنينا أن نبسط ردوده عليهما، فليس هذا هو المجال. وإنما نُحب أن نقول إن نقد هيوم في السببية، وبحثه في العقل البشري، هو الذي هيَّأ لكانط أن يُقيم فلسفته المثالية. كما نُحب أن نذكر أن العلم الحديث قد أخذ بوجهة نظر هيوم فآثر الابتعاد عن القول بالسببية، وبالأسباب كأنها قوًى مؤثِّرة في المسبَّبات.
قدَّم هيوم لهذه الطبعة بقوله: «أغلب المبادئ والاستدلالات الموجودة في هذا الكتاب سبق نشرها في كتابٍ من ثلاثة أجزاء يُسمَّى «رسالة في الطبيعة الإنسانية»، وهو كتاب تصوَّره المؤلِّف «يكتب عن نفسه بصيغة الغائب كما هي عادة الإنجليز (قبل مبارحة الكلية)، ثم دوَّنه ونشره بعد ذلك بقليل. فلمَّا لم يلقَ نجاحًا، أدرك خطأه في الإسراع إلى المطبعة، فأعاد الكتاب بأسره من جديد في هذه الفصول، التي يأمل أن تكون قد صحَّحت بعض ما جاء من إهمال في التفكير أو التعبير. ومع ذلك فإن كثيرًا من الكُتَّاب الذين شرَّفوا فلسفة المؤلِّف بالرد، وجَّهوا سهام النقد لذلك الكتاب الذي ألَّفه في صباه، وهو كتاب يبرأ منه المؤلِّف؛ فنالوا بذلك نصرًا، وهذه طريقة تُخالف جميع قواعد النبل والعدالة؛ لذلك يرغب المؤلِّف أن تُعَد هذه الفصول هي المعبِّرة وحدها عن مبادئه الفلسفية واعتقاداته».