تقدير الجمال
أسئلة تخطر على البال، وليس من العسير الجواب عنها، مع أنها تدور في أذهاننا كلما شاهدنا الأشياء الجميلة والآثار الفنية البديعة. ماذا نعني بالجمال؟ وهل يوجد ميزان أو موازين نرجع إليها في تقدير الأشياء الجميلة؟ وما الدور الذي يلعبه العقل أو الذوق في تقدير الجمال؟ وهل الجمال تعبير عن مكنونات النفوس، أو صفة من صفات الأذهان والعقول، أو أثر من آثار الخلق والإبداع؟
ولْندع هذه الأسئلة التي تضرب في الفلسفة إلى الصميم، لنقف موقفًا بسيطًا يقفه كل إنسان عندما يُعجَب بقصيدة من الشِّعر، أو يطرب من نغمة موسيقية، أو يتذوَّق أثرًا من هذه الآثار الفنية في الرسم والتصوير والنحت وما إلى ذلك. إنه يقول هذا جميل، فما سر الجمال؟ وما موضع الإعجاب؟ إن قلت: الجمال لذة الحواس كالبصر والسمع، فليس الأمر كذلك؛ لأن الجمال متعة تُضاف إلى الحواس، لا لذة تُستمد منها. فأنت تجد لذةً في الطعام ومتعةً في النظر إلى المائدة الجميلة، وقد نُضِّدت بالزهور.
والفرق بين هذا وذاك هو الفرق بين الحيوانية والإنسانية. وفي ذلك يقول الفارابي في الفصوص: «العمل الحيواني جذْب النافع ويقتضيه الشهوة، ودفع الضار ويستدعيه الخوف، ويتولَّاه الغضب. والعمل الإنساني اختيار الجميل.»
ولقد ذهب المحدثون من الفلاسفة ابتداءً من كانط وهيجل، إلى لالو وكروتشي وجيو، مذاهب شتَّى في تفسير الجمال، وتعليل الإعجاب به، وبسط الموازين لتقديره، غير أن ديلاكروا لا يرضى عن أي مذهب من هذه المذاهب، ويَعُد كل واحد منها ناقصًا من وجه، صحيحًا من وجه آخر. ثم يختم كلامه بأن الفن ليس: «إحساسًا أو صورة، أو ائتلافًا في الأرواح أو حقيقة، أو البصر بالمثل، ولكنه كل ذلك، حيث كان فيضًا لقوة مبدعة مؤلفة.»
ويبدو أن مذهب أفلاطون قد أُهمل في زوايا النسيان، أو أُدرج في ذيل المذاهب، مع أنه الفيلسوف على التحقيق، وعنه أُخذت الفلسفة الألمانية المثالية، والعلم الحديث يأخذ بتفسيره الرياضي للكون، بعد أن ظلَّت الحضارة الإنسانية ترسف في أغلال مادة أرسطو وصورته حول عشرين قرنًا من الزمان فلم تتقدَّم.
ولعلنا إذا رجعنا إلى مذهب أفلاطون في الجمال، ثم أضفنا إليه شيئًا من التعديل، أن نكون أدنى إلى التفسير الصحيح.
يصف أفلاطون في محاورة المأدبة رحلة النفس الإنسانية في طلب الجمال، وهنا نجد الكاهنة ديوتيما تدل سقراط على السبُل التي ينبغي على الذين ينشدون معرفة «مُثُل الجمال» اتباعها. فالسبيل الوحيد أن يُقدِّر المرء أولًا جمال شيء واحد جميل، ثم يتدرَّج إلى مرحلة ثانية يُقدِّر فيها جمال عدة أشياء ويلحظ ما بينها من مشاركة. والمرحلة الثالثة تقدير الجمال المعنوي، الذي يخلو من علائق المادة، كالجمال في الأنظمة والنواميس.
وهذا كله لا يكفي في بلوغ المثال، أو على حد تعبير أفلاطون في «البصر بالمثال»؛ إذ لا بد من دراسة عميقة لفرع من فروع المعرفة اليقينية، هي الرياضة بأقسامها؛ الحساب والهندسة والفلك. ولم يبلغ الفنان المثال بالذات إلَّا إذا امتلك ناصية العلم الرياضي. ومن المأثور عن أفلاطون أنه كتب على باب مدرسته: «من لم يكن مهندسًا فلا يدخل علينا.» ويرى الفارابي في كتاب تحصيل السعادة أن أول أجناس الموجودات التي ينظر فيها الإنسان علم الحساب والهندسة وما يلحق الأعداد والأعظام والأشكال من «خاصة التقدير، وجودة الترتيب، وإتقان التأليف، وحسن النظام».
كيف ينتقل الإنسان من مشاهدة الأشياء الجميلة، ودراسة الحساب والهندسة إلى البصر بالمثال؟ هنا نجد أفلاطون يلبس مسوح المتصوِّفة فيُحدِّثنا بأن اشتغال النفس بالدرس والطلب يُؤدِّي إلى مكافأتها بإشراق نور المثال، كما يندلع اللهب من النار. فالتحصيل شرط، والبصر بالمثال إلهام.
وإذا رجعنا إلى نظريات المحدثين من علماء النفس وما حقَّقوه في كلامهم عن الإبداع في الفنون، وجدنا بينهم وبين مذهب أفلاطون شبهًا كبيرًا.
وجملة ما يذكرونه أن الأثر الفني، إبداعًا كان أو تقديرًا، تجسيدًا كان أو تفكيرًا، يمر في أربع مراحل؛ الإعداد، والحضانة، والإشراق، والتنفيذ أو التحقيق. والإعداد يُشبه مرحلة الدرس والتحصيل عند أفلاطون.
ويعزو علماء النفس إلى فترة الحضانة أهميةً خاصة؛ إذ إن الفكرة تنحدر من الشعور إلى اللاشعور، وتظل كامنة، ولكن العقل يصرفها ويُقلِّبها دون وعي من صاحبها؛ ولهذا كانت أعظم أعمال العباقرة ما جاءت بعد فترة من الكسل أو الراحة بعد الكد والتعب. ثم تبرز الفكرة الجديدة، أو الصورة أو العمل الفني أو هذا المثال الذي يحكي عنه أفلاطون، وكأنه كما يقول ألفريد دي موسيه: «مجهول يهمس في آذاننا.» وهكذا يحصل إلهام الفنان، ووحي الشاعر، واختراع العالم.
ويُشبِّهون هذا الإلهام أو الوحي بطفرة ينتقل فيها العقل بعد الإعداد والدرس إلى الكشف، وهي طفرة تستند إلى العلم السابق، ولكنه لا يقتضيها بالضرورة؛ ولهذا يلجأ العلماء إلى التحقيق حتى يتثبَّتوا من هذا الكشف.
والخلاصة عند أفلاطون أن الجمال، ابتكارًا كان أو تقديرًا، فهو نوع من الكشف عن مثال الجمال، نَصِل إليه بالمعرفة، ونهتدي إليه بطول الخبرة والممارسة. وبعدُ فإن تقدير الجمال لا يرجع إلى الذوق والوجدان، بل إلى «المعرفة». فالجمال على ذلك موضوعي لا شخصي.
أي إن الميزان في تقدير الأشياء الجميلة ميزان خارجي مستمَدٌّ من طبيعة الأشياء نفسها، فلا يقوم على هوى الشخص أو مزاجه.
فإذا كنت تُريد أن تحكم بين أبي تمَّام والبُحتري، أو بين شوقي وحافظ، أيهما أعلى شِعرًا وأصدق فنًّا، فلا بد أن تكون على عِلم وثيق بالشِّعر وموازينه. ثم لا يكفي أن تحفظ علم العروض، بل ينبغي أن تُمارس النظم حتى يصير الشِّعر عندك ملكةً أو عادة؛ وعندئذٍ فقط تهتدي إلى «مثال الجمال» في الشِّعر، حتى إذا نظرت في قصائد الشعراء، ووجدت أنها تُطابق هذا المثال الموجود في ذهنك كانت جميلة، وإذا وجدتها تبعد عن هذا المثال كانت قبيحة.
وفحوى هذا المذهب أنك لا تصلح حكمًا بين الشعراء إلَّا إذا كنت شاعرًا، ولا ناقدًا لصورة زيتية إلَّا إذا كنت رسَّامًا، ولا بصيرًا بالألحان إلَّا إذا كنت موسيقيًّا؛ ولهذا السبب يختصم الناس إلى النقاد والفنانين والخبراء.
ومع ذلك فقلما نجد اتفاقًا بين النقاد على جمال شيء يحكمون فيه، لا لأن المثال يُعْوزهم؛ بل لأنهم قد يرجعون إلى الذوق والعاطفة.
أمَّا الجانب الآخر في مذاهب الجمال، فهو الذي يعتمد في التقدير على الشخص. وعلى رأس المتطرِّفين في المذهب الشخصي تولستوي، وله كتاب مشهور عنوانه «ما الفن؟» انتهى فيه إلى أن قيمة الأثر الفني، شِعرًا كان أو تصويرًا، لحنًا أو تمثالًا، إنما يعتمد اعتمادًا تامًّا على تأثيره في أشخاص الناظرين إليه.
الفن في رأي تولستوي هو نقل الانفعالات التي أحسُّوا بها، ونقلها عن طريق هذه الآثار الفنية إلى الناس، وهذا هو الفن: تأثُّر، ثم تعبير، ثم تأثير. ومَيزة الفنان أنه أقدر من غيره على التعبير. سُئِلَ أحدهم: لماذا كان المتنبي أعظم الشعراء؟ فأجاب: «لأنه يحكي عن خواطر الناس.»
وينبغي أن يرمي الأثر الفني إلى الجمال، والجمال فقط، فإذا جمع بين الجمال واللذة لم يكن فنًّا ساميًا. فإذا أخذنا بمذهب تولستوي وأردنا أن ننصب الميزان للحكم على لحن أو قصيدة أو صورة، فعلينا أن نعرضها على الناس، ثم نَعُد كم شخصًا أُعجِبوا بها، واهتزوا، وتأثَّروا؛ ذلك لأن الجمال ليس موضوعيًّا أو مستمدًّا من طبيعة الآثار الفنية، بل الجمال صفة للتأثير الحادث في نفوس الذين يُشاهدون الآثار الفنية. فالجمال تجربة شخصية، ووظيفة الفنان أن يُبرز الإحساس بالجمال في أعين الناظرين.
وهذه مثالية حادة تُشبه ما يقوله أنصارها من أن الحرارة ليست صفةً في النار، بل هي التأثير الحادث من النار في الحواس.
ولعمري إن هذا المذهب يجعل من الفن شيوعية، ويرد أحكام الجمال إلى العامة والجمهور، فينزل بقدره، ويهبط بمستواه، ثم يرد التقدير إلى الكم والعدد، لا إلى الكيف والقيم.
والمذاهب الشخصية هي التي تسود حضارة اليوم؛ ففي الفلسفة تجد الوجودية، وفي الأخلاق النفعية، وفي الفن الإحساس الشخصي. وقد عدَل بعضهم عن هذه الذاتية الصارخة، وجمع بين وجدان المشاهد وموضوع الأثر الفني. ويقولون في ذلك إن ما نُسمِّيه الجمال هو راحة الانفعال؛ فنحن عندما نحكم على شيء بأنه جميل، إنما نعني أن بعض النوازع النفسية قد برزت عند مشاهدة هذا الشيء إلى حالة من التوازن أو الانسجام الوجداني. فإذا حدث هذا الانسجام ارتاحت النفس، وسلَّمت بوجود الجمال فيما تُشاهده. وحاصل هذا المذهب «أنك تخلع نفسك وإحساسك على العالم الخارجي».
ويقوم هذا المذهب في الواقع على أساس من علم النفس؛ فالإنسان مُركَّب من دوافع بعضها فطري وبعضها مكتسب. وهذه الدوافع تكون عادةً متنافرة، وفي صراع دائم، ومن الخير تنظيمها وتأليفها، بحيث يتسنَّى لكل دافع نفساني أن ينطلق في حرية دون أن يتنازع مع غيره من الدوافع.
فإذا حدث التنظيم التام للدوافع؛ أحسسنا بالجمال في الأشياء.
على أن المذاهب الشخصية لا تستطيع أن تثبُت طويلًا أمام النقد؛ ففي الأشياء عناصر موضوعية لا غنى عنه، ولا يمكن إغفالها بحالٍ من الأحوال.
هل تستطيع أن تقرض شِعرًا غير موزون؟ إن البيت المكسور ليُفسد القصيدة، واللحن يُسيء إلى الكاتب، والجهل بتشريح الجسم يجعل المثال عاجزًا.
ويبدو أن الذين يأخذون بالمذاهب الشخصية يخلطون في تقدير الجمال بين الوجود والمعرفة. إنهم يُنكرون وجود الشيء الجميل وتأثيره في النفس، ولا يعترفون إلَّا بانفعالاتهم وعواطفهم، وتوافق هذه الانفعالات وانسجامها. فإن قالوا: نحن لا نُنكر وجود الأشياء الجميلة، قلنا: إن لها في ذاتها خصائصَ تجعلها جميلة. والخلاف بيننا وبينهم في «معرفة» هذه الخصائص، فالخروج على قواعد الموسيقى يجعل اللحن متنافرًا تمُجُّه الأسماع.
الجمال إذن تناسب وتوافق في الأشياء ذاتها. ونحن لا نُحس الجمال إلَّا عندما نُدرك هذا التناسب ونُميِّزه ويكون حاضرًا في الذهن كالمقياس أو الميزان، وهذا هو المذهب الذي نُؤثره. في كل شيء جميل مادة وصورة كما يذهب أرسطو: «مادة الشِّعر المعاني والألفاظ، وصورته الأوزان. ومادة التصوير الألوان، وصورته التأليف في انسجام. ومادة الموسيقى الأصوات والأنغام، وصورتها الزمان.» هذا الجانب الصوري لا غنى عنه وعن معرفته والخضوع له، وهو الذي نُسمِّيه مقال أفلاطون. فالترتيب، والتتابع، والانتظام، وحُسن التأليف، وضبط الإيقاع، ولطف التداخل بين الأجزاء، ووحدة الشيء في وضوح وانسجام؛ هذا كله مصدر الجمال.
والمرجع فيما ذكرنا إلى الإحساس بالزمن وإدراك قيمته، ولا يعنينا أن ندخل في قضية الزمان أنفساني هو أم طبيعي، وإنما الذي يعنينا أن نُقرِّره هو أن إدراك الزمن المنقسم، والإيقاع المنتظم، والتوقيت المؤتلف، هو السر في الجمال. في حفيف أوراق الأشجار اهتزازات لا تختلط في تنافر، بل تتناسب في انسجام. فأنت تجد الجمال في مِشية المرأة؛ لأنها تخطر وكأنها ترقص، والرقص مِشية تجري مع الزمن المنتظم.
وكلما أردنا أن نُعبِّر عن إعجابنا بشيء جميل قلنا: لقد جعَلنا نهتز طربًا، أو نرقص طربًا. فلا عجب إذن أن يكون مرجع تقدير الجمال إلى الإحساس بالزمان، وإدراك ما ينطوي عليه من تناسب وانسجام.
فإذا سلَّمتَ معي بهذه المقدِّمات، كان من العسير بعد ذلك أن تُؤمن مع الفلاسفة القائلين بأن «الفن حرية»؛ إذ كيف يصح أن تجري الفنون الجميلة طبقًا لأوضاعٍ ونظم، أكثر الناس التزامًا لها هم الفنانون أنفسهم حين يُبدعون الأشياء الجميلة، أو النقاد الذين يحكمون على هذه الآثار، ثم يُقال بعد ذلك إن «الفن حرية»؟! إن كنت تقصد أنها حرية كحرية العصفور السجين في القفص ينتقل بين جدرانه من جانب إلى آخر، فلك أن تُسمِّي هذه الحركة حرية.
ولك أن تقول إن من يسعى إلى إدراك الجمال، إنما يسير حرًّا حتى يعثر على هذا النظام البديع، فيدركه، سواء أكان من إبداع الطبيعة أم من خلق الإنسان. ثم يجد لذةً في الاستمتاع بهذا النظام وما فيه من جمال.
وهنا نجد الفلاسفة يقولون إن عين الجمال أصدق نافذةٍ نُطل منها سِرَّ الكون ومكنونات الطبيعية. ومن أقوال هيجل: «إن آثار الفنون ليست مظاهر بسيطة. وإنها لتنطوي على الحقيقة أكثر ممَّا تنطوي عليه مظاهر الموجودات في هذا الكون؛ ذلك أن العقل يجد مشقةً في النفاذ إلى باطن الطبيعة، ولا يشق عليه النفاذ إلى صميم الآثار الفنية.» والسر في ذلك أن صاحب الذوق الجميل يُبصر صور الأشياء، وعلاقة بعضها ببعض، ويُميِّز حقيقتها الباطنة، ثم يُعَرِّيها من علائق المادة التي تشوبها، ويُعبِّر بعد ذلك عن هذه الصورة المجرَّدة التي أبصرها في الأشياء الطبيعية والمجتمع الإنساني؛ في تمثال، أو صورة زيتية، أو قصيدة من الشعر، أو قصة أدبية. ومن هنا صحَّ لنا أن نقول إن الفنون الجميلة نوافذ نُطل منها على الحقيقة.