ثورة في المنطق
مضى على كشف المنطق أكثر من عشرين قرنًا من الزمان؛ إذ يُنسب إلى أرسطو؛ ولهذا سُمِّيَ بالمعلِّم الأول. قال ابن قيِّم الجوزية في كتابه «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» يطعن على أرسطو ما يأتي: «ويُسمُّونه المعلِّم الأول؛ لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية، كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عروض الشِّعر. وزعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني، كما أن العروض ميزان الشِّعر. وقد بيَّن نُظَّار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه، وتعويجه للعقول وتخبيطه للأذهان، وصنَّفوا في ردِّه وتهافته كثيرًا …»
غير أن منطق أرسطو ظل راسخًا كالطود لم تُزعزع قوائمه هجمات رجال الدين في العصر الوسيط، إسلاميين كانوا أو مسيحيين. وعلى العكس من ذلك تناول الشُّرَّاح كتبه بالترتيب والتبويب والتهذيب، حتى أصبح أشد رسوخًا وأقوى دعامة.
والفضل الأول للرواقيين؛ إذ جعلوا المنطق آلةً لا تُفهم الفلسفة بغيرها. ومن تشبيهاتهم المأثورة: إن الفلسفة كالبستان، المنطق سوره، والطبيعة شجرُه، والأخلاق ثمرُه.
وأغلب فلاسفة المسلمين يجعلون المنطق آلة العلوم، ولا يعدونه جزءًا منها. وفي ذلك يقول الشيخ ابن سينا في أرجوزته المنطقية:
وظلَّ العرب أُمناء على هذا الاتجاه حتى العصور المتأخِّرة، وتعريف صاحب الشمسية مشهور، لا يزال طلبة الأزهر يتداولونه حتى اليوم، وهو: «المنطق: آلة قانونية تعصم مراعاتُها الذهنَ من الزلَل.»
غير أن فلاسفة العصر الوسيط نحَوا صوريًّا نحوًا صوريًّا شكليًّا، فأصبح لفظيًّا بحتًا، وصار جدبًا لا يُفيد نتائج جديدة، ولا يزيد في ثروة الفكر، ولا يقترب من الواقع.
•••
ولكن ديكارت وبيكون لم يتخلَّصا تخلُّصًا تامًّا من سلطان أرسطو. وظهرت في القرن الماضي مباحث ستيوارت مِلْ، ولاشلييه، ورابييه، وهوسرل، وشللر، وغيرهم، واتجهوا بالمنطق وجهات جديدةً مختلفةً فيما بينها. ولكنهم جميعًا ظلُّوا عبيدًا لخطأ جوهري وقع فيه أرسطو وتبعه سائر الفلاسفة؛ ذلك هو التوحيد بين الفكر واللغة.
فالمنطق من النطق، وهم يُعرِّفون الإنسان بأنه حيوان ناطق، ويقصدون بذلك أنه مفكر. قال صاحب البصائر النصيرية: «إن فكر الإنسان في تركيب المعاني قلَّما ينفك عن تخيُّل ألفاظها معها، حتى كأن الإنسان يُناجي نفسه بألفاظٍ متخيَّلة إذا أخذ في التروِّي والتفكُّر.»
ولا نُنكر مع القدماء أن اللغة ضرورية، وأننا نستعين بها في تفكيرنا، كما هو الواقع في الغالب، ولكن اللغة تقوم على الألفاظ، والألفاظ «رموز» واصطلاحات نكسو بها المعاني لتتعلَّق بها؛ ولذلك نبَّه أرسطو إلى أن البحث في الألفاظ لا يُهم المشتغل بالمنطق إلَّا عرضًا، وأن ما يُهمُّنا هو اختيار الألفاظ المحدودة المعاني، حتى لا يقع المفكِّر في اللبس والغموض.
غير أن لغة الكلام التي نتداولها فيها كثير من العيوب؛ فهي لا تفي بالأغراض الدقيقة التي يُحتاج إليها في التعبير العلمي الحديث. وإن كنتَ في ريبٍ من ذلك، فانظر إلى لغة الرياضيين في الحساب والجبر والرسوم البيانية، تَجِد أن التعبيرات الرياضية أدق وأوفى. فإن قلت: ولكن اللغة غنية بالألفاظ والاصطلاحات، قلنا: إن فائدتها لا تُنكَر في الأدب والبلاغة، ولكن جدواها في العلم قليلة. والأصل في اللغة أنها وسيلة التفاهم بين الناس في صِلاتهم اليومية، ولم يكن القصد منها التعبير عن العلوم.
سقراط: هو الموضوع، ومائت: هو المحمول، أو الصفة التي نصف بها سقراط. والرابطة يُصرَّح بها في اللغات الأجنبية، ونعني بها فعل الكينونة، ولكنها تُطوى أو تُضمر في اللغة العربية؛ لأن طبيعة اللسان العربي كذلك، وقد يُصرِّح بها المناطقة نقلًا عن اليونانية بقولهم: «سقراط هو مائت.»
والمقصود أن الصفة التي نحملها على الموضوع، تُوضِّحه وتُلقي عليه الضوء؛ لأننا إذا قلنا: سقراط، وسكتنا؛ لم نفهم شيئًا.
ولو استمرَّت نهضة الحضارة الإسلامية، ولم تعمل عوامل التوقُّف والتأخُّر عملها؛ لكان خليقًا أن يصل فلاسفة العرب إلى ما وصل إليه علماء أوروبا اليوم في المنطق الحديث.
ولقد أصبح المنطق الرياضي في أيدي العلماء أداةً دقيقةً ثمينةً يعز استبدال غيرها بها. وفطن الفلاسفة كذلك إلى أهمية المنطق الرمزي، ولكنهم أحلُّوه في المرتبة الثانية، وعدُّوه فرعًا لا غنى عنه من المنطق العام. أمَّا منطق أرسطو الذي درجنا على درسه واستخدامه فهو ذو فائدة عملية في الحياة اليومية، وهو إلى جانب ذلك رياضة عقلية. أمَّا المنطق الرمزي فإنه يُوضِّح الفكر الغامض؛ حين يُلغي التعبيرات الملتبسة، ويُبعد عن الذهن آثار الغموض، وهو أكثر ضررًا من الخطأ. وهو إلى جانب ذلك لا يوقع المرء في مزالق الأخطاء الناشئة عن الهوى والعواطف، والألفاظ الرنانة الخلَّابة التي تُعبِّر عن المثُل العليا في المجتمعات الإنسانية.
أي إن المنطق الرمزي هو الذي يرد العقل حقًّا إلى الصواب، أو كما قال القدماء: إنه هو الذي يعصم الذهن من الزلَل.
فإذا أردنا أن نصيد مقدارًا من السمك، فعلينا أن نستعمل شباكًا من نوع خاص. أمَّا معارضة المنطق الرمزي فإنها تُشبه المعارضة التي ظهرت عند استعمال الآلات البخارية، تنشأ من الميل إلى المحافظة والبعد عن التغيير.
والمنطق الرياضي ينظر في الألفاظ، ثم في العلاقة بين رمز وآخر، ثم في العلاقة بين هذه المجموعات، ولذلك سُمِّيَ المنطق الحديث منطق العلاقات.
والألفاظ، أو الرموز التي نُريد أن نضعها، هي بطاقات نضعها على الأشياء الخارجية، تدل عليها دلالةً ذهنية؛ مثل الباب، والشباك، والماء، والشمس، وهذا البيت … إلخ.
فنحن نُشاهد في الواقع أشياء محسوسةً لها طول وعرض وعمق، وتتصف بلون، ولها شكل. وهذه الأشياء تتغيَّر ويتصل بعضها ببعضها الآخر، أو بينها علاقات يُضاف أحدها إلى صاحبه. تقول: الباب أمام الشباك، والشمس فوقنا في السماء، وهكذا … كل شيء من هذه الأشياء، كُلٌّ لا يتجزَّأ، له شخصية مستقلة.
وكان المنطق القديم ينظر إلى الأشخاص أو إلى الأفراد، ثم يجمعها في النوع، ويرفع الجنس فوق النوع. النوع «إنسان» يشمل سقراط وزيد وعمرو … وهكذا. ثم تقول بعد ذلك: سقراط إنسان، ثم تقول الإنسان حيوان، باعتبار أن الجنس «حيوان» يشمل أنواعًا منها الإنسان والطيور والزواحف … إلى آخر أنواع الحيوان.
هذه النظرة غير دقيقة، وغير صحيحة؛ لأن الإنسان ليس مجموع سقراط وزيد وزيد وفلان وفلان؛ إذ الواقع أن «الإنسان» لا يتركَّب من زيد وعمرو، وليس هذا الشخص وذاك وذاك أجزاء من النوع.
هذه المجموعات تختلف عن «النوع» في المنطق القديم. وما يُهمُّنا منها هو الدلالة الأخيرة؛ أي المجموعة التي تضم الأفراد لما بينها من علاقات.
والرموز الثابتة والمتغيِّرة مستمدَّة من الرياضة. مثال ذلك: العدد واحد «ثابت»؛ إذ له معنًى لا يتغيَّر مع الاستعمال في العمليات الحسابية. أمَّا الرموز «س»، وما إلى ذلك فهي متغيِّرة؛ لأنها لا تحمل معنًى مستقلًّا بذاتها. فلو قلنا: هل الواحد عدد صحيح؟ كان الجواب بالنفي أو الإثبات، ولكنه على أي حال جواب يدل على معنًى، سواء أكان صادقًا أم كاذبًا. أمَّا إن قلنا: هل «س» عدد صحيح؟ فلن يكون للجواب معنًى مفهوم. الخلاصة أن «س» عدد متغيِّر لا يمكن أن يكون له معنًى حتى نُحدِّده.
ونعود بعد ذلك إلى الألفاظ واللغة التي درجنا على استعمالها. الواقع أن دراسة تطوُّر الإنسان من الطفولة إلى الشباب تُبيِّن لنا أن المنطق أسبق من التفكير؛ لأن الطفل يتعلَّم لفظ الكلمات قبل أن يتعلَّم الحكم على مدلولاتها، وكثيرًا ما يحفظ الناس ألفاظًا لا يعرفون مغزاها. على أن وصول الذهن إلى مدلولات الألفاظ لا يتم إلَّا بإضافة الأشياء إلى غيرها، وتحديد ما بينها من علاقات. وقد تكلَّم قدماء المناطقة في الدلالات فقالوا: إنها على ثلاثة أنواع؛ دلالة المطابقة، والتضمُّن، والالتزام؛ وذلك بالنظر إلى الشيء الذي يدل عليه اللفظ. ولكن المنطق الحديث ينظر إلى الدلالة والألفاظ على المعنى من جهات ثلاث؛ (١) الشيء أو الموضوع. (٢) ما يُشير إليه الشيء أو ما يوصف به. (٣) الشخص الذي يشعر بهذا الشيء ويُدركه. وهناك علاقة وثيقة بين هذه الجهات الثلاث؛ مثال ذلك «الورد أحمر»، يفهم منها العالم معنًى، والشاعر معنًى ثانيًا، والرسَّام معنًى ثالثًا. ولا نقصد من ذلك أن نخلط بين النسبية والذاتية؛ فهذه المعاني المختلفة نشأت من النسبة بين المدرِك لها وبين لون الورد. ومهما يكن من شيء، فإن اتجاه المنطق الحديث هو أن يجعل التعبير موضوعيًّا؛ وبذلك يدنو من العلم الصحيح.
نحن نقول «الذهب أصفر»، ونعد هذه القضية صحيحةً ذات دلالة تامة، وأنها قضية صادقة لأنها تنطبق على الواقع. ومع ذلك تعالَ نمتحن هذه القضية البسيطة في ظاهرها، وسوف نجد أن الذهب ولونه الأصفر جزآن من العالم الزاخر بالأشياء والصفات، وهو عالم شديد التعقيد، وليس لنا أن نحكم بصدق هذه القضية أو كذبها إلَّا إذا نظرنا في جملة الظروف المحيطة بها؛ فالذهب أصفر في ضوء خاص، فإذا تغيَّر الضوء تغيَّر اللون. وأظن أنه أصبح من الواضح أن أصحاب المنطق الرياضي على صوابٍ في نظرهم إلى الحدود، واعتبار أن بعضها ثابت وبعضها متغيِّر؛ فقد رأينا في «أصفر» ليس حدًّا ثابتًا، بل متغير، وذلك حسب الظروف المحيطة به.
ليس غرضنا أن نكتب بالتفصيل في هذا المنطق الحديث؛ فقد أُلِّفَتْ فيه المطوَّلات والمتون، وإنما ضربنا المثل بشيء ممَّا يُقال في باب الألفاظ ومدلولاتها، واستبدال الرموز بها. وجملة القول: إن المنطق الرمزي أصبح أداة علماء الرياضة والطبيعة، ولا يزال المنطق الأرسطوطاليسي أداة اللغة المستعملة بين الناس في معاملاتهم.