تمثيلية «السحب»
لم يُدوِّن سقراط شيئًا، مع أنه شيخ الفلاسفة، ومعلِّم أفلاطون، وصاحب المدارس الفلسفية في اليونان.
- المرجع الأول: محاورات أفلاطون التي أجرى فيها الكلام على لسان
سقراط. غير أن الصعوبة التي يُواجهها المؤرِّخ
صيغت في ثوب فتيِّ، ولم يكن الغرض منها تسجيل
فلسفة أفلاطون أو مذهب سقراط. أمَّا آراء أفلاطون
فكان يُلقيها دروسًا في الأكاديمية، وهذه لم
تُدوَّن.
مهما يكن من شيء فالإجماع بين المؤرِّخين المحدثين على أن محاورات أفلاطون هي أهم مصدر لمعرفة فلسفة سقراط.
- المرجع الثاني: مذكِّرات زينوفون، الذي كان قائدًا أو جنرالًا،
واتصل بسقراط، ولم يحضر محاكمته، ولكنه دوَّن هذه
المذكِّرات يُدافع فيها عن أستاذه، ويقص
أخباره.
ونحن نميل إلى اعتماد هذا المرجع، ولو أن بعض المؤرِّخين مثل برتراند رَسل يُهمله، ويحط من قدره، ويتهمه بمجافاة الروح الفلسفي، وتفاهة التفكير، ولذلك لا يرجع إليه.
- المرجع الثالث: مسرحية أرستوفان المعروفة باسم «السحب»، وهذه هي
موضوعنا الآن؛ ولذلك قدَّمنا بالتعريف بهذا الشاعر
وأثره، ومنزلة الملهاة في الحياة الإغريقية، حتى
نتبيَّن قيمة هذه التمثيلية كمصدر من مصادر فلسفة
سقراط؛ ولهذا السبب سوف نُلخِّص لك في إيجاز هذه
الملهاة.
وكان أفلاطون وزينوفون وأرستوفان معاصرين لسقراط.
- المرجع الرابع: ما ذكره أرسطو عن سقراط. غير أن أرسطو ولو أنه لم يكن معاصرًا لسقراط، إلَّا أن العهد لم يكن بعيدًا بينهما، وليس أرسطو ممن يُتهم في روايته؛ ولذلك يُعتمد عليه في روايته.
وأغلب المؤرِّخين يُغفلون أرستوفان، ولا يعدونه مصدرًا لفلسفة سقراط؛ لأنه يعده من السفسطائيين ولم يكن كذلك، ويجعله صاحب مدرسة ولم يُعرف أنه افتتح مدرسة، وأنه كان يتناول أجرًا على التعليم والمأثور امتناعه عن أخذ الأجر، وأنه كان يبحث في الأمور الطبيعية والمعروف أن سقراط انصرف عن الطبيعة إلى البحث في الإنسان، ولذا قيل: إنه أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض.
ولا ريب في أن الشاعر بحكم صناعته مضطر إلى تحوير الوقائع حتى تلبس الثوب الذي يُريده، إلَّا أن هذا التحوير لا يُعقل أن يكون تامًّا بحيث يُغيِّر من شخصيته، مثل محبة البحث، وروح الفكاهة، وغرابة الأطوار، والتصدي للتعليم، والسخرية من الآلهة اليونانية.
ومع هذا كله فتمثيلية «السحب» مصدر من مصادر سقراط، فهي على أقل تقدير تُبيِّن لنا السر في محاكمته بعد ذلك بتهمة إنكار الآلهة.
شخصيات هذه التمثيلية هم: ستربسيادس وهو مواطن غني، وفيديبياس ابنه، وخادم ستربسيادس، وسقراط، وبعض تلاميذ سقراط، وشخصيتان إحداهما تُمثِّل الحق، والأخرى تُمثِّل الباطل. وباسياس المرابي، وشاهد لباسياس، وأمنياس مُرابٍ آخر، ثم الكورس أو الجَوقة.
ونُلخِّص هذه التمثيلية بإيجاز في أن ستربسيادس وقع في الدَّين، وليس عنده المال الكافي لدفعه، فذهب ليتعلَّم عند السفسطائيين صناعة الكلام أو البيان، حتى يتخلَّص من هذا الدَّين أمام المحكمة. فذهب إلى مدرسة سقراط ودارت هناك أحاديث كثيرة حول هذا الموضوع. أمَّا الوالد فلا يمكن أن يتعلَّم، فيبعث بابنه فيتعلَّم الابن، وتكون نتيجة تعليمه أن يضرب والده ويُدافع لا عن التخلُّص عن الدَّين، بل عن وجوب دفعه. وهذا كله يفتح عين الناس المتمسِّكين بالقديم، فيهجمون على المدرسة، ويحرقونها. أو بمعنًى آخر هي صراع بين القديم والجديد.
تبدأ التمثيلية في حُجرة النوم؛ ستربسيادس على سرير، وفيديبياس على سرير آخر. ويتحدَّث ستربسيادس عن ديونه، وهمومه، وعن الحرب اللعينة، يُشير في ذلك إلى حرب بلوبونيز التي دارت من ٤٣٠ق.م. إلى ٤٠٠ق.م.، والتي جعلت العبيد أو الرقيق لا يأتمرون بأمر الأسياد. ويتحدَّث عن الليل وطوله وكثرة النفقات، وبخاصة النفقات على الخيل والعربات، وهي السبب في أصل هذه الديون، ثم يُوقد المصباح ويحسب ما عليه من ديون وفوائد، بعضها يجب أن يدفعها لباسياس، والأخرى لأمنياس. وينطق فيديبياس وهو يحلم بالسباق والخيل فيغضب والده، إلى أن يستيقظ فيديبياس، ويجري بينهما حديث يسخط فيه الوالد على الزواج الذي أنجب هذا الابن.
ثم يأتي الخادم ويُعلن انتهاء الزيت من المصباح فيُحاول أن يضرب الخادم لأنه يستعمل ذؤابةً ضخمةً تستخدم الزيت وتستهلكه. وينتهي الحديث بين الوالد وابنه بأن أمام الدار دار أخرى، هي مدرسة للحكمة، فإذا دفعوا أجرًا مناسبًا؛ تعلَّموا المرافعة في القضايا، فيكسب القضية سواء أكانت عادلةً أم غير عادلة. ويسأل فيديبياس: وما اسم هؤلاء القوم؟ فيُجيب الوالد: إنهم يُفكِّرون. فيقول الابن: لعلك تعني هؤلاء الحُفاة الدجَّالين مثل سقراط المسكين؟ فكأنه يُصوِّره في زي بائس. ثم يسأل الابن: وماذا نتعلَّم عندهم؟ فيُجيب الوالد: نتعلَّم صناعة المغالطة حتى لا ندفع الدَّين. فيأبى فيديبياس.
ويذهب ستربسيادس فيدق الباب ويفتح له أحد التلاميذ، فيجد بعض تلاميذ ينظرون في الأرض، وآخرون ينظرون في السماء، ويجد كرةً أرضيةً وخريطة؛ الكرة لدراسة الفلك، والخريطة لدراسة الهندسة ومساحة الأرض. ثم يجد سلةً معلَّقةً في السقف فيها شخص، فيسأله من هو؟ فيُجيب أنه سقراط يسبح في الهواء ويتأمَّل الشمس. فيقول له ستربسيادس: ومن هذه السلة تستطيع أن تحكم على الآلهة؟ فيجيب سقراط بأنه يمزج نفسه بالهواء، هذه المادة اللطيفة، حتى يستطيع أن ينفذ إلى حقائق الأمور السماوية. وعندئذٍ يقول ستربسيادس: جئت أطلب درسًا. فيسأله: أي درس تطلب؟ فيقول: أُريد أن أتعلَّم الكلام لمواجهة الدائنين. ويسأله لماذا وقع في الدَّين؟ فيُجيب إنه الغرام بالخيل هو السبب.
عَلِّمني يا سقراط وسوف أدفع لك الأجر بحق الآلهة! قال سقراط: ليست الآلهة عملةً مقبولةً لدينا. فقال ستربسيادس: إذن بماذا أُقسم؟ فقال له سقراط: هل تُريد أن تعلم شيئًا عن الأمور السماوية، وأن تخاطب «السحب»؟ واتضح أن سقراط يُقسم بالهواء الذي تتعلَّق به الأرض، وﺑ «السحب» وهي آلهة تحمل البرق والرعد. ودار بينهما حديث عن «السحب» انتهى إلى أن هذه «السحب» فيها أشكال كثيرة كأشكال الحيوان؛ مثل الذئب والثور وما إلى ذلك، وأن الآلهة اليونانية إن هي إلَّا أساطير؛ فزيوس ليس له وجود، وزيوس عند الإغريق هو الذي يدفع «السحب» إلى الإمطار، وهو الذي يُحرِّكها، وهو الذي يبعث الرعد، وأنكر سقراط كل ذلك، وأثبت أن «السحب» تضرب بعضها ببعض. أمَّا السبب في تسيير «السحب» فهي الرياح. وهذا الجزء من التمثيلية في غاية الأهمية؛ لأنه يُصوِّر سقراط في صورة الشخص الذي يُنكر آلهة اليونانيين، ولعل هذه الناحية هي التي كانت سببًا من الأسباب في توجيه التهمة لسقراط فيما بعد.
وانتقلوا بعد ذلك إلى الموضوع نفسه. قال ستربسيادس إنه لم يأتِ ليطلب تعلُّم البلاغة، بل يطلب طريقةً يرد بها الدائنين. وتقول الجَوقة: إذن فلتُلقِ بنفسك في أيدي السفسطائيين.
ويسأله سقراط: أي نوع من العلم عندهم؟ وهل عندهم ذاكرة؟ فيُجيب ستربسيادس: هذه مسألة تتوقَّف على الموضوع؛ إن كنت دائنًا تذكَّرت، وإن كنت مدينًا نسيت.
ويسأله سقراط هل عنده موهبة طبيعية للكلام أو للبيان؟ فيُجيب موهبة الكلام لا توجد عنده، ولكن عنده موهبة الخداع. ثم تُلقي الجَوقة شِعرًا أو أنشودة تُنكر فيها أيضًا الآلهة. ويطلب سقراط من ستربسيادس إذا كان يُريد أن يتعلَّم النَّظْم والقافية والوزن. ويرد ستربسيادس بأنه لا بأس أن يتعلَّم موازين المال. فيقول سقراط إنه يتحدَّث عن الشِّعر وموازينه، لا في المال. فيقول ستربسيادس: وهل النظم يُقيم الأود ويمد بالطعام؟ فيتهمه سقراط بضيق العقل والغباء. ويطلب ستربسيادس أن يتعلَّم المغالطة، فينقله سقراط إلى مبحثٍ في اللغة، فيسأله: ما هي ذكور الحيوان؟ فيقول ستربسيادس: إنه الكلب والحمام والثور … إلخ. فيقول سقراط: الحمام إذن واحد للمذكَّر والمؤنث. وأخيرًا يُبيِّن له أن هناك ألفاظًا تُطلق على المذكَّر وأخرى تُطلق على المؤنث.
وأخيرًا ينتقلون إلى موضوع جديد؛ ستربسيادس يقترح عدة طُرق يتخلَّص بها من دفع دينه؛ منها طريقة أن يستعين بساحرة تُؤخِّر ظهور القمر؛ لأن ميعاد الدفع هو أول الشهر عند ظهور القمر. وفكرة أخرى أن يستحضر مرآةً تعكس الشمس فتنبعث حرارة شديدة تُذيب الكتابة عندما يكتب المسجِّل. أو ينتحر. فيسأله سقراط: كيف يكون الانتحار طريقةً للتخلُّص من الدَّين؟ فكان ردُّه أنه بموته لن يدفع الدَّين. فأراد سقراط أن يُعطيه درسًا، فيستعطفه ستربسيادس، ثم يُقسم بالآلهة، فيثور سقراط لبَلادة التلميذ ونسيانه ما تعلَّمه. وتنصحه الكورس بأن يذهب ويبعث ابنه ليتعلَّم بدلًا منه.
ويُعيد ستربسيادس على مسامع فيديبيدس ما جرى له في المدرسة، فيسخر منه الابن، ويتضح أن ستربسيادس ضعيف الذاكرة حقًّا لأنه نسي معطفه وحذاءه، ويرضخ فيديبيدس ويذهب إلى المدرسة بصحبة والده، ويُناول الوالدُ سقراط كيسًا من الدقيق أجرًا لتعليم ابنه.
- (١)
أن سقراط كان صاحب مدرسة ثابتة.
- (٢)
أنه يُعَد من السفسطائيين.
- (٣)
أنه يتناول أجرًا على التعليم.
- (٤)
أنه يُنكر آلهة اليونان القديمة.
- (٥)
أن تعاليمه أفسدت هذا الشاب إلى درجة أنه أساء فيما بعدُ في حق والده.
أمَّا مكانة هذه التمثيلية من تاريخ الفلسفة، ومن سقراط بوجه خاص، فلا ينبغي أن نأخذ ما جاء فيها على أنه الحق كل الحق. ولكن لا ريب في أن هناك شيئًا من الحقيقة اعتمد عليها أرستوفان في وضع هذه التمثيلية، ثم أخرج الحقائق أو أضاف إليها شيئًا من الخيال والفكاهة؛ لتلائم هذا اللون من التمثيل الذي اعتمد عليه أرستوفان. ونستطيع أن نستخلص هذه الحقائق؛ فهي أولًا: شهرة سقراط في أثينا، فلا ريب أن اختيار أرستوفان لهذه الشخصية دليل على أنها عنوان الفلسفة. والحقيقة الثانية: أن سقراط كان يعلم صناعة الكلام كالسفسطائيين، غير أن أرستوفان يُصوِّره أنه يميل إلى جانب الباطل، والحقيقة أنه كان يميل إلى جانب الحق، أو يطلب الحق. وفي الوقت نفسه طريقة سقراط واضحة في هذه التمثيلية وهي طريقة الحوار، والسؤال والجوب. أمَّا ما نُخالف أرستوفان فيه ولا نستطيع أن نُوافقه عليه، فهو أن سقراط كان يتناول أجرًا، وأنه كان يلزم مدرسةً مُعيَّنة.