الأكاديمية
الغريب أننا لا نعرف شيئًا كثيرًا عن حياة أفلاطون في أثينا، على الرغم من أننا نعرف كثيرًا من حياته خارجها؛ ولذلك كان من الصعب علينا تحديد الكلام عن الأكاديمية وما كان يجري فيها. وأكبر الظن أن المحاورات الأولى التي ألَّفها عقب موت سقراط رفعته إلى أسمى الأوساط الأدبية في أثينا وغيرها من مدن اليونان. وكان أفلاطون يشغل وقته بتأليف هذه المحاورات، ما عدا الأوقات التي كان يرحل فيها، غير أن ما سمعه عن سقراط نفد بعد أن دوَّنه، أو قل إن المحاورات السقراطية أصبحت تضيق بآراء سقراط العالية، ولا يستطيع التعبير عنها في هذا الثوب من التأليف. وأكبر الظن أن أفلاطون بلغ مرتبةً من التفكير جعلته يعتقد أنه يجمل به أن يعلم بنفسه لا على لسان سقراط؛ ولذلك انصرف عن المحاورات وأسَّس الأكاديمية.
وهي أشهر من أن تُعَّرف؛ فقد بقيت مفتوحة الأبواب تسعمائة عام، ولا تزال جامعات اليوم تُسمِّي نفسها بهذا الاسم إحياءً لذكرى مؤسِّسها، وهم يعنون بها مدرسة التعليم العالي.
ومن الطبيعي أن تبدأ مدرسة أفلاطون صغيرة، ولم تكن فِكرتها قد اكتملت في ذهنه، وأكبر الظن أنه رسم المنهج الذي يسير عليه، ثم نمَت بعد ذلك. وكان هذا المنهج يبدأ بالرياضة وبخاصة الهندسة، ولذلك كان يكتب على باب مدرسته «من لم يكن مهندسًا، فلا يدخل علينا.» ثم الفلك فالموسيقى فالمنطق فالسياسة، لا على المعنى العملي، بل معرفة قوانين العالم ونظمه، وأخلاق الإنسان. ثم علم الحقيقة وهو الذي سمَّاه أرسطو فيما بعدُ علم الفلسفة الأولى، أو ما بعد الطبيعة، أو الميتافيزيقا. فإذا نظرنا إلى هذا المنهج وجدنا أنه يُغفل درس اللغات؛ إمَّا لأن درس اللغات كان يُعلَّم في سن مبكرة فلا شأن له به، وإمَّا لأن أفلاطون لم يكن يحفل بالعلم المدوَّن أو المكتوب، فكان تعليمه شفاهًا أو سماعًا أو حوارًا، لا كتابة، وله في ذلك حكمة وأسباب. ونحن ندهش من أن أفلاطون لم يُدوِّن لنا فلسفته مع أنه كان كاتبًا ممتازًا كما يظهر ذلك من محاوراته؛ وسبب ذلك أنه كان يَعُد العلم المأخوذ من الكتب لا يُفيد، وليس طريقةً حسنةً للتعليم. وقد حدَّثنا عن ذلك في محاوراته، فقال في محاورة بروتاجوراس: «إن الخطباء هم الذين لا يعجزون عن الإجابة عن أي سؤال.» وقال في محاورة فيدر: «إن الكلام المكتوب مضر بالذاكرة.» وقال في محاورة فيدر وهبياس: «إن الحوار الشفوي أنبل من تسجيل الآراء الخاصة.» ذلك لأن الآراء المكتوبة لا تقوى على الجدل، ولا تُعلِّم الحق، أمَّا السبيل الصحيح فهو التعليم الشفهي على لسان المعلِّم الذي تكمن الألفاظ في نفسه، ثم تخرج عنه، فتستقر في النفوس، كأنها حديث القلب إلى القلب.
نحن إذن نستطيع أن نتصوَّر أن الأكاديمية كانت مكانًا للبحث والمحاورة، أو كما يُقال اليوم قاعات البحث. ولم تكن هناك محاضرات عامة منظَّمة يُلقيها أفلاطون، والمأثور عنه أنه في الشيخوخة كان يُلقي درسًا عامًّا، وكان موضوع هذه المحاضرة «الحقيقة»، وكان الناس يتهافتون على سماعها، وكانت مثار الاهتمام الشديد، وكان بعض الحاضرين يُقيِّدونها ومنهم أرسطو، وقد عرفنا آراء أفلاطون ممَّا ردَّ عليه أرسطو في كتبه، وأغلب الظن أن هذه الموضوعات كانت عاليةً على الأفهام. فإذا كُنَّا نعرف أفلاطون من محاوراته، فنحن لا نعرفه من دروسه.
وكان له طُلَّاب يُعاونونه، بل نستطيع أن نقول إنهم كلهم طلبة ومنهم أفلاطون، فهو نظام من الأخوة شبيه بذلك النظام الذي كان سائدًا في مدرسة فيثاغورس. وكان بعض الطلبة يقومون بالتدريس كنظام العرفاء في الكتاتيب، والمعيدين في الجامعات. وقد ظلَّ أرسطو في الأكاديمية عشرين عامًا، فكان ساعد أفلاطون الأيمن، ولولا ظروف خاصة لخلفه في رئاسة الأكاديمية.
وظلَّت الأكاديمية تتلقَّى الطلاب، ويُلقى فيها العلم تسعمائة عام في نفس المكان، إلى أن أغلقها الإمبراطور جستنيان سنة ٥٢٩م، وكانت لا تزال في مكانها بجوار ذلك البستان. ومع أن الطلبة اختلفوا على المدرسة جيلًا بعد جيل، إلَّا أن روح أفلاطون كانت تُرفرف عليها، وتُسيطر على التعليم فيها.
ولا نستطيع أن نقول إن الأكاديمية قُضِيَ عليها حين أغلقها جستنيان، بل ظلَّت باقيةً حيَّة، ولكن في ثوبٍ آخر؛ في ثوب المسيحية التي تدين لفلسفة أفلاطون بالشيء الكثير. ولم تأخذ بفلسفة أرسطو إلَّا في القرن الثالث عشر على يد القديس توماس الأكويني. وظلَّت الأكاديمية حيةً في ثوبٍ آخر هو أسماء هذه الجامعات التي تتخذ من الأكاديمية عنوانًا. وقد عادت الأفلاطونية إلى الحياة مرةً أخرى في الجيل الحاضر؛ إذ أخذ العلماء بتفسير أفلاطون الرياضي للكون بدلًا من تفسير أرسطو الطبيعي لها.
وكانت الأكاديمية ذائعة الصِّيت في عهد أفلاطون نفسه، وكان يَفِد إليها الطلاب من كل جهة. غير أن قَبول الطلبة لم يكن يسيرًا؛ إذ لا بد أن يكونوا على مستوًى خاصٍّ من الاستعداد والعلم والذكاء، وكان العمل على مقياس ذلك. والواقع فإن المدرسة كانت مخصوصةً بالفلسفة فقط، أو ما نقول عليه اليوم الميتافيزيقا، ولم يكن لها علاقة بالأخلاق والسياسة، وإن كانت موضوعات للبحث.
ونحن لا نجد ذكرًا لطلبة الأكاديمية في الحياة العامة، ولم يبرز منهم أحد، وهنا نرى الخلاف بين سقراط وأفلاطون واضحًا؛ فكان تلامذة سقراط منغمسين في الحياة العامة، بل منهم من ساءت سمعته مثل كرتياس وألقبيادس. أمَّا أفلاطون فلا يُعاب من هذه الناحية، على حين أن بعض المؤرِّخين يعيبون على سقراط فساد بعض تلاميذه.
وكان يَفِد إلى أثينا كثيرٌ من الزائرين البارزين يشهدون أكاديمية أفلاطون بأنفسهم، وكانت لهذه الزيارات أثر كبير في التعليم؛ إذ تُصبح مثارًا لمناقشات تدور بين الطلبة، وتُعرِّفهم بعقلية جديدة، وقد صوَّر لنا أفلاطون في افتتاح محاورة بروتاجوراس كيف استقبل هذا السفسطائي في منزلي كالياس، وكيف كان يجوس خلال الدار وحوله المستمعون، ونجد فيها كيف أثار مَقدم بروتاجوراس شغف سقراط ولم يسمح له بالدخول، وأكبر الظن أن هذه المشاهد كانت تتكرَّر في الأكاديمية.
وإذا ألقينا النظر في المحاورات لوجدنا أن تفكير أفلاطون كان ينضج مع تقدُّمه في السن، فإذا لاحظنا أن تعاليم الأكاديمية أعلى منها، فلا شك أن بعض الطلاب كان يعجز عن فهمها؛ ولذلك ينصرفون عنها.
ولم يكن الطلبة يدفعون أجرًا على التعليم، ولكن أغلبهم من الأغنياء، فكان أهلهم يُقدِّمون هِباتٍ للمدرسة أشبه شيء بما كان يوقفه الأمراء على التعليم. ولم يكن في هذه الهِبات ما يُعوِّض التلاميذ عن انقطاعهم للفلسفة والعُزلة الفكرية، ويقال إن ديونيسوس الثاني وهب المدرسة نصف مليون جنيه، ممَّا يُبيِّن صبر أفلاطون على ذلك الملك الجاهل.
وكان للطلبة أزياء خاصة، وقلنسوات خاصة، وعباءات تُميِّزهم عن غيرهم. والتقليد الذي يُؤخذ به اليوم من لبس زي خاص في الجامعات هو إحياءٌ لما كان موجودًا في الأكاديمية. وكان شعراء أثينا الهزْليون يسخرون من طلبة الأكاديمية لرِقَّة سلوكهم وجميل ثيابهم. وكان للنساء حق الالتحاق بالأكاديمية طبقًا لمذهب أفلاطون.