طيماوس وخلْق العالم
كيف وُجد هذا العالم؟
- الأول: فيه تلخيص للكتب الخمسة الأولى في الجمهورية، وبخاصة عن العدالة.
- والثاني: قصير أيضًا يُصوِّر فيه أسطورة أطلانطس Atlantis، وهي جزيرة يُصوِّرونها فيما وراء أعمدة هرقل (جبل طارق)، وسُمِّيَ بالمحيط الأطلسي نسبةً إليها. ويُصوِّرون هذه الجزيرة أنها أكبر من ليبيا وآسيا الصغرى مجتمعَين.
- والثالث: وهو الجزء الأكبر المهم هو الذي يحكيه طيماوس، وهو عالم فلكي فيثاغوري، يبدأ فيه بعرض تاريخ العالم وخلق الكائنات.
ومهما يكن من شيء فالمحاورة أسلوبها أسطوري شِعري، لا نستطيع أن نُميِّز رأي أفلاطون من الأساطير القديمة التي يحكيها ولا يُوافق عليها.
يقول أفلاطون إن المدركات على نوعين؛ ثابتة تُدرَك بالعقل، ومدركات متغيِّرة تُدرَك بالحس أو الظن. والعالم المشاهَد من النوع الثاني فهو مُتغيِّر، وليس ثابتًا أو أزليًّا. وينتهي من هذا بأن العالم المحسوس مُتغيِّر وليس أزليًّا؛ فهو مخلوق لله، والله خيرٌ مطلق خلَق العالم على مثال الأزل ومثال الخير، ولا يمكن أن يكون المثال المخلوق مُطابقًا تمام المطابقة للأصل.
ولأن الله يخلو من الحسد والعواطف الدنيئة، فقد خلق العالم على مثاله، وأراد أن تكون جميع الأشياء خيرًا لا شرًّا، «ثم وجد أن العالم المحسوس أو هذه الكرة المحسوسة لا تستقر، بل تتحرَّك في غير نظام، ولم يُعجبه ذلك فأخرج النظام من الفوضى، وبثَّ النظام في العالم.» ويدلنا هذا النص من محاورة طيماوس على أن الله ليس خالقَ العالم، ولكنه في مواضعَ كثيرةٍ يقول إن الله خالق العالم. مهما يكن من شيء، فلا نستطيع أن نجزم برأيٍ حاسم واضح فيما يختص بفكرة أفلاطون عن الله، هل خلق العالم، أم أنه نظَّمه فقط؟ وبعد أن بثَّ الله النظام في العالم، وضع العقل في النفس، ثم بثَّ النفس في البدن؛ وبذلك جعل العالم كُلًّا واحدًا، وكائنًا حيًّا، أو حيوانًا، فيه نفس وعقل. والواقع فإن الفلاسفة اليونانيين كانوا يعتقدون أن عالم السماء حي. ويختلف أفلاطون مع الفلاسفة الطبيعيين الذين زعموا أن العالم كثير، بل يعتقد على العكس أن العالم واحد؛ وسبب ذلك أنه خُلق على مثال الواحد.
والرأي عند أفلاطون وأرسطو من بعده هو أن العالم كله «كائن حي»، أو باصطلاح الفلاسفة «حيوان» محسوس يشمل جميع الكائنات الحية؛ فالعالم كله كرة؛ وسبب ذلك أن الكرة تتشابه أجزاؤها، والشبيه أفضل وأكمل من اللاشبيه، وهذه الكرة تدور حول نفسها لأن الحركة الدائرية أكمل الحركات.
ولكن ما موضع العناصر الأربعة في هذا العالم؛ الماء والهواء والتراب والنار؟ بين هذه العناصر تناسبٌ دائم ينتهي إلى الانسجام فيما بينها. وتُرتَّب العناصر كما يأتي؛ النار ثم الهواء ثم الماء ثم التراب، بحسب الثِّقَل. ثم بين هذه العناصر وبين بعضها الآخر تناسب؛ فالنار للهواء، كالهواء للماء، كالماء للتراب. وسِرُّ تناسبها هو ما فيها من روحِ الصداقة والوئام. ولا انفصال لهذه العناصر إلَّا إذا شاء الله. أمَّا النفس فهي على خلاف البدن الذي يتركَّب من العناصر الأربعة. وقد خلق الله النفس أولًا كما ذكرنا، وهي مزيج من الجوهر الثابت اللامنقسم (الإلهي)، والجوهر المتغيِّر المنقسم (العناصر الأربعة) فيه إذن جوهر ثالث متوسِّط.
وبعد ذلك يتحدَّث أحد الفيثاغوريين عن أصل الزمان والكواكب فيقول ما يأتي:
عندما رأى الخالق العالم الذي خلقه يتحرَّك ويحيا، أراد أن يجعله أكثر شبَهًا به فبثَّ فيه النظام، وجعل حركته حسابيةً عددية، وهذه الصورة الزمان، لم يكن قبل ذلك ليل أو نهار، ثم ظهر الزمان والسنوات في وقت واحد. خلق الله الشمس ليعرف الناس عدد السنين والحساب، ومن دون الشمس فلا ليل ولا نهار ولا حساب. وبالليل والنهار والشهور والسنين عرف الناس الحساب والزمان؛ فعرف الناس الفلسفة، والفضل في ذلك للبصر؛ إذ بالمشاهدة المحسوسة أدركنا كل ذلك.
ونظر أفلاطون إلى الكائنات الموجودة في العالم فقسَّمها إلى أربعة أقسام:
-
(١)
الآلهة: وهذا أثرٌ من آثار الأساطير اليونانية؛ فهو يرى أن هناك إلهًا واحدًا لهذا العالم. فما موضع الآلهة بجانب هذا الإله الواحد؟ نستطيع أن نُشبِّه ما يقوله في فلسفته بما يقوله أصحاب الأديان بوجود الملائكة بين الله وبين سائر المخلوقات.
-
(٢)
الطيور: وهي المخلوقات التي تعيش في الهواء.
-
(٣)
والأسماك: وهي المخلوقات التي تعيش في الماء.
-
(٤)
ثم الحيوانات البرية: التي تعيش على الأرض.
ثم بعد أن خلق الله الآلهة، قال لهم إنه قادر على الخسف بهم، ولكنه لم يفعل وطلب إليهم أن يخلقوا العالم المثالي بعد أن خلق الله العالم الأولي الإلهي. والمفهوم من هذا أن كلام أفلاطون إن هو إلَّا شِعرٌ وأساطير. ثم جعل الله لكل نجم نفسًا، والأنفس فيها الإحساس والحب والبغض والغضب، فإذا تغلَّبت الأنفس على هذه الأهواء عاشت سعيدة، فإذا عاش الإنسان في هذه الدنيا على الحق والخير؛ ذهب في الأخرة إلى نجمه السعيد. وإذا كان شريرًا فسوف ينقلب حيوانًا أو شيئًا آخر، بطريق التناسخ، إلى أن يصير صالحًا.
والخلاصة: أن الله وزَّع الأنفس فجعل بعضها على الأرض وبعضها الآخر على القمر، وبعضها الثالث على الكواكب الأخرى، وترك للآلهة أن تضعها في الأبدان.
والعِلل على نوعَين؛ عِلل عاقلة، وأسباب غير عاقلة تابعة لها، ومستمدَّة منها. هذه الأسباب غير العاقلة تنقسم بدورها قسمَين؛ قسم يخضع للضرورة أو النظام، وقسم لا يخضع للضرورة، بل للاتفاق والمصادفة. والكلام في العِلل يدخل في نظام العالم بأسره، وهو في صميم الفلسفة.
هي يُسيِّر هذا العالمَ ويُحدِث ما فيه من أحداثٍ قوةٌ عاقلة، أم ضرورة حتمية تصل الأسباب بالمسببات، ولا شأن للعقل بهذه الضرورة، أم أن الأمر مصادفة لا ضرورة فيها ولا عقل؟ والواقع أننا إذا رجعنا إلى الفلاسفة قبل أفلاطون، لوجدنا أن بعضهم يقول بالعقل المُسيِّر لنظام العالم مثل أنكساجوراس، وبعضهم الآخر يقول بالمصادفة البحتة؛ فديموقريطس يقول إن الأصل في اجتماع الذرات بحيث تُكوِّن الأشياء والموجودات، إنما كان محض مصادفة. إلَّا أن أفلاطون يجمع بين هذه الأصول، فيرى أن العالم فيه عقل من بعض النواحي؛ بمعنى أنه ليس كل ما في الكون يخضع للقوة العاقلة، إنما الذي يخضع للقوة العاقلة عالم الكواكب وعالم الإنسان، أمَّا سائر الكائنات فإن بعضها يخضع للضرورة، وبعضها الآخر يخضع للاتفاق.
وأظن أن أرسطو ولو أن نظرته إلى العلل تُخالف نظرة أفلاطون، إلَّا أنها شديدة الشبَه بما ذكره أستاذه. كل ما في الأمر أنه أكثر تحديدًا للمشكلة؛ فهو يُقسِّم العِلل أو الأسباب إلى أربع؛ المادية والصورية والفاعلية والغائية، وأن العِلة الغائية في الإنسان تخضع للعقل؛ ولذلك كان الإنسان حُرًّا، وكان مسئولًا عن أعماله الخلقية، وأن العِلل في غير الإنسان تخضع للضرورة لأنها قديمة. وليست العلة الصورية إلَّا ما يُعرف بالنوع؛ فالصورة في الشيء هي نوعه، ومن هنا كانت الصورة واحدةً بالنسبة لجميع الأفراد، وليست صورة أرسطو إلَّا مثال أفلاطون، إلَّا أن أفلاطون فصَل المثال وجعله في عالم السماء بعيدًا عن المادة، على حين أن أرسطو حقَّق المثال الأفلاطوني في المادة، ولم يفصل بينهما.
ثم نجد عند أرسطو كلامًا في الاتفاق؛ أي في حدوث الأشياء بغير عِلة، ويضرب لذلك مثلًا؛ بعضها في الأعمال الإنسانية، وبعضها في الأعمال الطبيعية. فممَّا قاله في المصادفة الخاصة بالأعمال الإنسانية — وهو يعني بالمصادفة خروج الفعل عن الغاية التي قصدها — ما وقع لأفلاطون من أنه كان يركب السفينة يقصد أثينا فوقع في الأسر. فوقوع أفلاطون في الأسر انحراف عن العِلة الغائية، والعِلة هنا جاءت مصادفة. ومثال آخر؛ فلَّاح يضرب الفأس في الأرض يحرثها بقصد الزراعة، فإذا به يقع على كنز. فوقوع الفلَّاح على الكنز انحراف عن غايته وعن قصده جاء مصادفة. وممَّا يقوله في المسائل الطبيعية تولُّد الديدان والذباب من غير عِلة. ويُعلِّل أرسطو وقوع الأشياء بالمصادفة تعليلًا خاصًّا لا يعنينا الآن. إنما نُريد أن نقول إن مشكلة العِلل والأسباب لا تزال قائمةً حتى اليوم، لم يفصل فيها العلم الحديث؛ فهل هذا العالم منظَّم؟ وهل هو نظام ثابت أم يتغيَّر؟ وإذا أمكن أن يتغيَّر ذهب القول بالضرورة.
وليست العناصر الأربعة التي نُسمِّيها العناصر الأولى مبادئ الأشياء، وإنما هي نتيجة لجوهر أول، هو المثال المعقول، فهل هذه الجواهر المعقولة لها حقيقة في ذاتها أم هي مُجرَّد أسماء أو ألفاظ؟! مهما يكن من شيء، فالمشكلة الأساسية عند أفلاطون هي في التمييز بين عالم المعقول، وبين عالم المحسوس. ثم جعل أفلاطون بين العالم المعقول والعالم المحسوس شيئًا ثالثًا يتوسَّط بينهما هو المكان؛ ولذلك قسَّم الموجودات على ثلاثة أنواع؛ الأول: المعقولات وهي متشابهة فيما بينها. وهذ المعقولات ليست مخلوقة، ولا يعتريها الفساد، ولا تتغيَّر ولا تُشاهَد بالحس، بل بالعقل فقط. والنوع الثاني: موجودات تُشبه المعقولات في الاسم فقط، وتُدرَك بالحواس، ومخلوقة، وفي حركة دائمة، وتتغير؛ أي إنها تنتقل في المكان، وتختفي من المكان، وتُدرَك بالحس والظن. والنوع الثالث: المكان، وهو أزلي لا يعتريه الفساد، وهو الذي يُهيِّئ موضعًا للمخلوقات المختلفة، ولا يُدرَك المكان بالحواس، وإنما بعقل أسمى من المرتبة الحسية.
وكُنَّا نَوَدُّ أن نُلخِّص جميع أجزاء هذه المحاورة الهامة، وبخاصة ما جاء فيها عن النفس الإنسانية، إلَّا أن ذلك يدفعنا إلى الإطناب.
ونُحب أن نختم الكلام بما اختتم به أفلاطون محاورته، حيث يقول على لسان طيماوس:
«نستطيع الآن القول بأن حديثنا عن طبيعة العالم قد بلغ النهاية؛ ذلك أن العالم قد تلقَّى الحيوانات، الفانية والخالدة، وهو مملوء بها. وأصبح العالم حيوانًا مرئيًّا يحتوي المرئي، على مثال الله الصانع العظيم الخير الجميل الكامل.»