أمواج الفكر الإسلامي
في القرن السابع الميلادي ظهرت في العالم المعروف في ذلك الزمان أمة غيَّرت معالم التاريخ، وساهمت في بناء الحضارة موجِّهةً إياها إلى أهدافٍ جديدة سياسية واقتصادية واجتماعية وعقلية؛ تلك هي أمة العرب، صاحبة الرسالة المحمدية والدين الجديد، وكتاب الله الذي نزل باللسان العربي المبين.
وتقوَّضت معالم الروم والفرس أمام جيوش المسلمين، وزالت دولة الفرس، وأسلم أهلها، وذهب كِيانها الأول، وقُصَّت أجنحة الدولة البيزنطية، فاستولى المسلمون على فلسطين والشام ومصر وشمال أفريقيا. ثم بلغ الإسلام الأندلس في الجنوب الغربي من أوروبا، وازدهرت الحضارة في قرطبة وغرناطة وطليطلة وغيرها من عواصم الأندلس، حتى أصبحت تُنافس دمشق وبغداد والقاهرة في الشرق. وهكذا حلَّت الإمبراطورية الإسلامية محل إمبراطوريتَي الفرس والروم، وهما أضخم دولتَين سياسيتَين تنازعتا المُلك والحضارة في العالم زمنًا طويلًا.
وقد صحبت هذه الفتوحات السياسية فتوحات عقلية، فتغلَّب الدين الإسلامي الناشئ، وساد بين أهل البلاد المغلوبة على أمرها، فاعتنق الناس الإسلام أفواجًا، وأصبحت اللغة الرسمية في أواخر الدولة الأموية هي اللغة العربية.
دين جديد، ولغة جديدة، وتقاليد جديدة، وفكر جديد؛ كل هذه مظاهر لم يكن للناس بها عهد قبل الإسلام.
وليس من اليسير أن يقبل الناس الدين الجديد في سهولة، وليس من اليسير أن يتخلَّوا عن آرائهم ومعتقداتهم القديمة الموروثة بين يوم وليلة، فكان موقف المغلوبين على أمرهم من الإسلام موقف العداء، وحاولوا جهدهم أن يصرعوا العقائد الإسلامية، محاولين أن يُسندوا إليها شيئًا من الضعف والتهافت.
واضطُر المسلمون إلى قَبول هذا الصراع العقلي، فقرعوا الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، واندسَّت كثير من المقرَّرات الفارسية والوثنية والمسيحية واليهودية إلى الفكر الإسلامي واندمجت به، وتكوَّن مع الزمن لون أو ألوان من الثقافة الإسلامية هي مزيج من هذا الفكر الأجنبي والآراء الإسلامية، وقد نجد لونًا من الثقافة إسلاميًّا بحتًا، وقد نجد لونًا آخر تغلُب عليه النزعة اليونانية، وقد نجد لونًا ثالثًا يظهر فيه الطابع الفارسي، وهكذا.
هذه الأمواج المختلفة من الفكر تتابعت على العصور الإسلامية بمقدار التأثير الذي بلغته الآراء الأجنبية في المسلمين، وبمقدار الاستعداد لقَبولها أو التصدي لدفعها، تخليصًا للعقائد الإسلامية من شوائب التأثيرات الأجنبية. هذا التأثير والتأثُّر تابعان بالضرورة للأحوال السياسية، من اتساع رقعة الإسلام ورُقي الدولة الإسلامية أو ضعفها، وحماية الملوك والأمراء لرجال الفكر، أو العمل على حريتهم ووقفهم عند حدهم. وهذا يقتضي منَّا الإيماء إلى الحياة السياسية لتكون مرجعًا في الزمان يُساعد على تحديد الآراء والأشخاص في سِجل التاريخ والأحداث؛ لأن الحياة كلٌّ لا يتجزَّأ في ذهن الإنسان، فهو يعيش متأثِّرًا بالسياسة والمظاهر الاجتماعية، كما يعيش متأثِّرًا بالتيارات العقلية والحاجات الأدبية والفنية. ومن جهة أخرى فإن الحياة العقلية لا تنفصل عن الأحوال السياسية، فكِلا الحياتَين تُؤثِّر إحداهما في الأخرى.
ولعلك تسأل: لماذا آثرنا أن يكون عنوان هذا البحث «الفكر الإسلامي» لا «الفلسفة الإسلامية»؟ فنقول: إن هذا الإيثار يرجع إلى أسباب أهمها أن الموضوعات التي سوف نتحدَّث عنها لا تُعَد في صميم الفلسفة بمعناها الخاص. ومع ذلك فالفلسفة لون من ألوان التفكير، ولو تقدَّمنا بالبحث في هذه الموجات التي سوف نعرضها، لتكلَّمنا عن الموجات الفلسفية، إلَّا أنها متأخِّرة.
ولنا رأي نشرناه في كتابنا «معاني الفلسفة»، ذهبنا فيه إلى اعتبار الفلسفة على معنًى واسع؛ ولذلك كان كل إنسان فيلسوفًا.
وإذا حملنا الفلسفة على المعنى الضيِّق؛ فالعارفون بالفلسفة عدد قليل والفلاسفة أقل. وإذا انصرفنا بالمعنى إلى دائرة واسعة؛ فكل إنسان فيلسوف؛ لأنه يتساءل هذه الأسئلة التي وضعها الإنسان منذ بدأ يُفكِّر والتي لا يزال يفكر فيها حتى الآن. وأكبر الظن أنه لن يصل إلى نتيجة حاسمة في هذا التفكير كما اهتدى في سائر العلوم الوضعية المحسوسة، ونُثبت بعض هذه الأسئلة؛ لأنها تدور في أذهاننا في القرن العشرين، كما دارت في أذهان المسلمين منذ القرن السابع حتى الآن.
ما الوجود؟ وما أصل الوجود؟ وما نهاية العالم؟ وما غاية الإنسان من الحياة؟ وما الخير وما الشر؟ وما الله؟ وما صفاته؟ وكيف خلق العالم؟ وما قيمة العقل البشري؟ وما حدوده؟ وما حقيقة النبوة والوحي والرسالة؟ وما الحياة الآخرة؟ وما صفة الجنة والنار؟ … إلخ إلخ. لا شك أن كل فرد يُحس بهذه المشاكل ويتلمَّس لها الحلول؛ ليصل إلى قبس من نور يهدي نفسه إلى الاطمئنان بعد الاضطراب، والاستقرار بعد الشك والارتياب.
وقد اختلفت إجابات المفكِّرين والفلاسفة عن هذه المسائل، ولا يزالون مختلفين. وسنعرض الآراء المختلفة للمسلمين عن هذه المسائل، في أمواجها المتلاحقة على شاطئ الزمان ومحيط المكان.
والجديد الذي أرمي إليه هو أن كل جيل من الأجيال كانت تسوده فكرة تشغل الأذهان وتدفع الناس إلى البحث فيها، والاشتراك في جدلٍ صاخب حولها؛ مثال ذلك الموجة الفكرية التي سادت في عصر المأمون وعُرفت ﺑ «خلق القرآن»، وهي التي استمرَّت فترةً من الزمن الشغل الشاغل لجميع العلماء، بل اشترك في ذلك الصراع الفكري كثير من العامة أيضًا.
نُريد أن ندرس «الفكر الإسلامي» ناظرين إلى هذه الأمواج التي برزت في كل جيل وكانت هي الظاهرة للعيان. وهذا الأسلوب من الدراسة يبث الحياة في الحركات العقلية، فلا تُصبح جامدةً منعزلةً تقرؤها على صفحات الكتب فلا ترى فيها إلَّا ألفاظًا مرصوصةً تخلو من الروح لأنها تخلو من الحياة.
لهذا سمَّينا هذا البحث «أمواج الفكر الإسلامي».
تناول «الفكر الإسلامي» هذه المسائل بالبحث، كما بحث في العلوم المختلفة طبيعية ورياضية. وقد انصبَّ تفكير المسلمين على المسائل الفلسفية كما انصرف إلى المسائل العلمية. ولم يُميِّز الأقدمون بين العلم والفلسفة، فمن الحق علينا أن نجمع بينهما حين نقصُّ تاريخهم؛ لهذا كان البحث في «الفكر الإسلامي» أَوْلى من الاقتصار على «الفلسفة الإسلامية»، إلَّا إذا تقيَّدنا بالفلسفة على المعنى الضيق، فلا نذكر غير الفلاسفة الحقيقين بهذا الاسم، بل لا نذكر من تاريخهم إلَّا الجانب الفلسفي.
و«الفكر الإسلامي» آراء أشخاص، وكل فكر فهو بطبيعة الحال مِلك لصاحبه الذي صدر عنه وقال به، واهتدى إليه، ودافع عنه بالحجة والبرهان، وسطَّره بالبيان، وأذاعه في الناس، وسجَّله على صفحات الأوراق.
إننا ندرس في تاريخ الفكر حياة الأشخاص وجدَل الآراء.
ولا يستوي السوقة والدهماء مع قادة الفكر والأعلام العلماء، ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. قادة الفكر وأصحاب الرأي قليل عددهم في كل زمان، والناس لهم مُتَّبعون أو مُقلِّدون، وجدير بنا إجلالًا لهؤلاء المفكرين أن ندرسهم، وأن ننظر في حياتهم؛ لأن آراءهم ظلٌّ لشخصياتهم، فنستفيد بذلك فائدتَين؛ جلاء السر في القول بالآراء، واتخاذ سيرتهم مثلًا في الاقتداء. قيل عن ابن رشد فيلسوف قرطبة إنه سوَّد فيما كتب وألَّف عشرة آلاف ورقة، ولم ينقطع عن الكتابة والتأليف طول حياته إلَّا مرتَين؛ ليلة زواجه، وليلة وفاة أبيه.
الآراء التي صدرت عن المفكرين سجَّلها أصحابها في كتب كانت مخطوطةً إلى عهد ظهور الطباعة. على أن قيمة الكتاب في تداوله بين القُرَّاء، ولو بقي مِلكًا لصاحبه فقط وحبسًا عليه؛ لاستوى عندنا صدور الكتاب وعدم صدوره.
وكان من يُهمه الاطلاع على الكتب في الزمن الماضي إمَّا أن ينسخها بنفسه إذا كان فقيرًا، أو يستخدم ناسخًا بالأجر ينقلها له كما يفعل الملوك والسلاطين والأمراء؛ وبذلك زخرت خزائنهم بالمخطوطات في شتَّى أنواع الفكر لمختلِف المؤلِّفين. ومنهم من كان يهب خزانة كتبه للمدارس والمساجد ليطلع عليها من يُريد البحث والاطلاع. وفي بعض العصور كان الأمراء يُوقفون هذه المخطوطات كما تُوقَفُ الدُّور والأرض الزراعية؛ لتُحبس على العلم ونفع المشتغلين به.
مهما يكن من شيء فعمادنا في البحث هو هذه الكتب لأنها المصادر التي نرجع إليها.
أين هذه المخطوطات الآن؟
لقد اندثر أكثرها في عصور التأخُّر للمسلمين؛ فمن هذه المحن التي أصابت كنوز الفكر أن هولاكو قائد التتار الذي غزا بغداد ودكَّ عرش الخلافة العباسية، رمى بالكتب في نهر دجلة حتى تخضَّب ماؤه بالسواد، وقيل إن عددها بلغ مليونَي كتاب.
ولا يعنينا أن نذكر الأسباب التي أدَّت إلى ضياع أغلب المؤلَّفات الإسلامية، وإنما يُهمُّنا أن نذكر أين يوجد ما بقي منها حتى الآن، وما سبيل الوصول إليها والاطلاع على ما جاء فيها.
بعض هذه الكتب مطبوع، إمَّا في مصر، أو الشام، أو فارس، أو الهند، أو أوروبا. وللمستشرقين فضل كبير في تحقيق بعض المخطوطات الهامة وحسن طبعها، مع العناية بالتبويب والترتيب وذكر الهوامش المختلفة، بحيث يستفيد القارئ منها الفائدة المطلوبة.
ولكن أغلب المراجع لا تزال مخطوطةً في دُور الكتب في عواصم الدول المتحضِّرة؛ ففي لندن وباريس وبرلين وليدن ومدريد وإسطنبول والقاهرة وحيدر آباد وغيرها آلاف من المخطوطات بعيدة عن متناول الجمهور. وكثير من أصحاب المكتبات الخاصة في الشرق والغرب يقتنون مخطوطاتٍ نادرةً لا توجد في المكتبات العامة. وكثيرًا ما يرجع الباحثون إلى ترجمات لاتينية ويهودية لبعض الكتب الفلسفية المفقودة في اللغة العربية، والموجودة في هذه التراجم الأجنبية منذ كان الغرب ينقُل عن الشرق في العصور الوسطى.
ولن تتيسَّر الدراسة الكاملة ﻟ «الفكر الإسلامي» إلَّا إذا تمَّ إخراج جميع هذه المخطوطات إلى عالم الطباعة حتى يُسَد النقص الذي يشعر به كل من يدرس تاريخ الفكر في الإسلام.
لهذا كله كانت أغلب الدراسات في العصر الحاضر ﻟ «الفكر الإسلامي»، دراسات تشق الطريق لمن يُريد زيادة البحث، لا دراسات تحقيق تُقنع العقل وتشفي الغليل.
ومن جهة أخرى لا يتيسَّر دراسة بواكير الحياة العقلية عند المسلمين إلَّا بعد النظر إلى الثقافات المختلفة التي سادت في الجاهلية، أو التيارات الفكرية التي انتشرت في بيئة الجزيرة العربية.
(١) الثقافات المختلفة قبل الإسلام
جاء الإسلام فقضى على ديانة العرب في الجاهلية وهي عبادة الأوثان، فقطع بذلك الصلة بين حاضر العرب وماضيهم في الحياة العقلية. ومن الإسراف في القول أن نُعلن أن الصلة انقطعت تمام الانقطاع، أو نتصوَّر أن المسلمين بعد جاهليتهم نسوا ماضيهم وتنكَّروا لحضارتهم السابقة. ومن الأشياء التي امتدَّت من الجاهلية إلى الإسلام طابع الشِّعر العربي، فكان شعراء المسلمين يترسمون خطا الجاهليين في أخيلتهم وطريقة قريضهم. أمَّا النظر العقلي فأساسه القرآن والسنة النبوية المبيِّنة له.
وقد وردت في القرآن مسائل قبلها المسلمون الأولون ولم ينعموا النظر فيها، إنما آمنوا بها إيمانًا. فلمَّا نظر المسلمون نظرًا عقليًّا هادئًا ظهرت لهم بعض المتناقضات التي تحتاج إلى بيان، وبرزت مسائل لا بد من زيادة شرحها والتعمُّق في تفصيلها، بعض هذه المسائل يتصل بصميم العقيدة الإسلامية، مثل صفات الله؛ فقد جاء في القرآن إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (لقمان: ٢٨)، هل نفهم هذا القول على ظاهره وقد قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى: ١١)، فنجعل لله عينًا تبصر وأذنًا تسمع، أم نُنَزِّه الله على النحو الذي أراده تعالى؟ إذن لا مناص لنا من تأويل الآيات التي تتناقض بظاهرها للتنزيه الخالص.
هذه مسائل إسلامية خالصة يرجع التفكير فيها إلى القرآن نفسه وليس لها صلة بالفكر الأجنبي، ولو أنه من العسير التمييز بين ما للمسلمين من فِكر وبين ما لغيرهم.
نقول من العسير؛ لأن الإنسانية وحْدة لا تتجزَّأ، والعوامل التي تُؤدِّي إلى يقظة العقل، وبعثه على التفكير، وإمداده بالموضوعات المختلفة التي يَنصَبُّ عليها الفكر، هي من العوامل التي شاعت بين الناس في العصر الذي ظهر فيه الإسلام، كما تشيع هذه العوامل بين الناس في كل عصر، فتشغل الأذهان، وتنتقل من مكان إلى مكان.
وموضوعات الفكر التي شغلت العقول في ذلك الزمان سادت الشرق والغرب على السواء، أمَّا الخلاف ففي طريقة معالجتها، وهو على الجملة خِلاف يرجع إلى تباين الأفراد والجماعات، أمَّا المسائل العامة فقد شاعت بينهم جميعًا، وتلمَّسوا لها شتَّى الحلول.
والموضوع الذي شغل الفكر هو الإنسان، وصلة الناس بعضهم ببعض، والغاية التي يرمي إليها الإنسان من الحياة، ثم الشر الذي يصدر عنه، وما علته وما سبيل دفعه للوصول إلى الخير، ومن خالق الإنسان وخالق أعماله.
هذا الموضوع الذي يتناول الإنسان من جوانب مختلفة متعدِّدة، صرفَ الأذهان عن النظر إلى الطبيعة والبحث فيها، والعالم كما تعرف هو الطبيعة والإنسان، أو الإنسان والطبيعة، أو الإنسان الذي يعيش في عالم الطبيعة إذا شئت الجمع بين العالمَين.
المسيحية
وفي الوقت الذي ظهر فيه الإسلام كانت الإمبراطورية الرومانية في شيخوختها المتهدِّمة.
ثم سقطت هذه الإمبراطورية، وقيل في أسباب سقوطها الشيء الكثير، ولكن أغلب المؤرِّخين يُجمعون على أن الانهماك في الترف من أهم هذه الأسباب.
ولمَّا ظهرت المسيحية وجدت نفوسًا مستعدَّة لقَبول ما فيها من زهد وتسامٍ عن المادة.
ولكن المسيحية لقيت معارضةً قويةً من الأباطرة، وهم أصحاب السلطان الرسمي، ومن الفلسفة اليونانية التي شاعت بين الناس وارتفعت منزلتها إلى مرتبة الأديان.
فكانت مُهمَّة المسيحية شاقة، وهي الدفاع عن الدين، ثم شرح العقيدة المسيحية للتغلُّب على الحضارتَين اليونانية والرومانية. وليست المسيحية عقائد فحسب، إنما هي عقائد وعبادات، ويقوم رجال الكهنوت بمُهمة الدفاع عن العقيدة وشرحها وتعليمها للناس بالوعظ والإرشاد.
فالقسيس قدوة لغيره، ومثل حيٌّ للفضيلة؛ ولهذا تطلَّبوا من رجال الدين أن يعيشوا معيشةً خاصةً خالصةً في الأديرة، وأن يتزَيُّوا بزي خاص؛ لتنطبع فيهم السجايا المطلوبة على أشد ما تكون.
فانتشرت الأديرة في أنطاكية ورأس العين والرها وحران وغيرها من مدن الشام وفلسطين ومصر، وانقطع الرهبان إلى العلم والعبادة، فدرسوا الفلسفة اليونانية للرد عليها، وترجموا كتب أرسطو وأفلاطون وأفلوطين والفيثاغوريين وغيرهم إلى السريانية.
ومن أشهر المترجمين الذين نقلوا الفلسفة من اليونانية إلى السريانية بروبوس، وهو قسيس عاش بأنطاكية في القرن الخامس الميلادي، وشرح كتب أرسطو المنطقية. ومنهم سرجيس الرأس عيني، كان راهبًا وطبيبًا، فصَّل علم الإسكندرية وترجم الإلهيات والأخلاق والتصوُّف والطب والطبيعة والفلسفة. ومنهم يعقوب الرهاوي المُتوفَّى سنة ٧٠٨م، الذي ترجم الإلهيات.
ولمَّا انتصرت المسيحية في صراعها العنيف مع الوثنية، وأصبحت الديانة الرسمية للدولة الرومانية، كان العهد قد بَعُد بينها وبين العصر الأول للمسيح، واختلف النصارى فيما بينهم على أصول العقائد، وانقسموا فرقًا، وتشيَّعوا نِحلًا، حتى أمر الإمبراطور قسطنطين بعقد مجمع نيقية عام ٣٢٥م، فأصدر المجتمِعون قرارًا أعلنوا فيه ألوهية المسيح، وأنه من جوهر الله، وأنه قديم بقدم. ثم تقرَّر في المجمع القسطنطيني الأول عام ٣٨١م أن روح القدس ثلاثة أقانيم، وثلاثة وجوه، وثلاثة خواص؛ وحدانية في تثليث، وتثليث في وحدانية.
ثم افترقوا إلى ثلاث فرق كبيرة؛ النسطورية، والملكانية، واليعقوبية. النسطورية نسبة إلى نسطور بطريرك القسطنطينية الذي ذهب إلى أن يسوع المسيح لم يكن إلهًا، بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة؛ ففصل بذلك في المسيح وهو على الأرض بين الطبيعتَين الناسوتية واللاهوتية. ولم تُعجِب هذه المقالة بطارقة روما والإسكندرية، وفرَّ نسطور إلى الشرق، وشاعت النسطورية في نصيبين والعراق والمَوصل والفرات والجزيرة.
وأصبحت الملكانية هي المذهب الرسمي للدولة، بعد أن تقرَّر في مجمع خلقيدونية ٤٥١ أن المسيح فيه طبيعتان لا طبيعة واحدة، التقتا في المسيح؛ وهما اللاهوت والناسوت. وقالوا إن مريم العذراء ولدت إلهًا ربنا يسوع المسيح، الذي هو مع أبيه في الطبيعة الإلهية، ومع الناس في الطبيعة الإنسانية.
أمَّا المذهب اليعقوبي — وعليه مسيحو مصر والحبشة والأرمن والسريان الأرثوذكس — فإنهم يُوحِّدون بين الطبيعتَين ولا يفصلون بينهما، ويعتقدون أن «الله ذات واحدة مثلَّثة الأقانيم؛ أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الروح القدس. وأن أقنوم الابن تجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، فصيَّر هذا الجسد معه واحدًا وحدةً ذاتيةً جوهرية، منزَّهةً عن الاختلاط والامتزاج والاستحالة، بريئةً من الانفصال؛ وبهذا صار الابن المتجسِّد طبيعةً واحدةً من طبيعتَين ومشيئة واحدة».
وقد بلغ التعصُّب بأهل هذه المذاهب مبلغًا عظيمًا وصل حد التعذيب والإيذاء. وقد لقي اليعاقبة في مصر اضطهادًا شديدًا من الملكانيين أصحاب مذهب القسطنطينية؛ ممَّا دعا الأقباط في مصر إلى الترحيب بالعرب تخلُّصًا من الاضطهاد، وطلبًا للحرية في العقيدة.
هذا ما كان من شأن التيارات الفكرية المتعلِّقة بالدين التي ذاعت في آسيا الصغرى والشام والعراق وفلسطين ومصر.
المجوسية
أمَّا ديانة الفرس القديمة فهي الثِّنوية. أثبتوا أصلَين اثنَين مدبِّرَين قديمَين يقتسمان الخير والشر، والنفع والضر، والصلاح والفساد في العالم. يُسمون أحدهما النور، والثاني الظلمة.
فهم يجعلون للعالم إلهَين؛ إله الخير، وإله الشر.
ثم اختلف المجوس إلى مذاهب تدور حول الأصل في امتزاج الخير بالشر، والصراع بينهما، وكيف ينتصر الخير؛ فجعلوا الامتزاج مبدأ، والخلاص معادًا.
وزعم بعضهم أن الأصلَين قديمان أزليان، وزعم البعض الآخر أن النور هو الأزلي والظلمة محدثة، واختلفوا في سبب حدوثها. ثم ظهرت المانوية وهم أصحاب ماني بن فاتك الذي اتخذ دينًا وسطًا بين المجوسية والنصرانية، وزعم أن العالم مركَّب من أصلَين قديمَين؛ نور وظلمة. وقال بعض المانوية إن النور والظلمة امتزجا بالخبط والاتفاق، لا بالقصد والاختيار.
ثم ظهرت المزدكية نسبةً إلى مزدك في عصر كسرى أنوشروان، الذي أمر بقتله لأنه أحلَّ النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شَرِكةً فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ؛ ولأنها السبب فيما يقع بين الناس من بُغض ومخالفة وقتال.
الصابئة
وانتشر القول بالصابئة، وهم عبَدة الكواكب، في شمال العراق. ومذهب هؤلاء في أول أمرهم أن للعالم صانعًا فاطرًا حكيمًا مقدَّسًا عن سمات الحدثان. والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يُتقَرَّب إليه بالمتوسِّطات المقرَّبين لديه، وهم الروحانيون المقدَّسون جوهرًا وفعلًا وحالة.
أمَّا الجوهر فهم المقدَّسون عن المواد الجسمانية، فُطروا على التقديس والتسبيح، لا يعصون الله ما أمرهم، فنحن نتقرَّب إليهم، ونتوكَّل عليهم، فهم أربابنا وآلهتنا ووسائلنا ونفعاؤنا عند الله، وهو رب الأرباب وإله الآلهة.
أمَّا عن الفعل فقالوا: إن الروحانيات هم الأسباب المتوسِّطون في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حالٍ إلى حال، وتوجيه المخلوقات من مبدأ إلى كمال. يستمدُّون القوة من الحضرة الإلهية القدسية، ويُفيضون الفيض على الموجودات السُّفْلية، فمنها مدبِّرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها، وهي هياكلها.
ولكل روحاني هيكل فلك. ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختُص به نسبة الروح إلى الجسد؛ فهو ربه ومدبِّره، وكانوا يُسمُّون الهياكل أربابًا.
ففعل الروحانيات تحريك الهياكل والأفلاك على قدر مخصوص، ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات.
ثم قد تكون التأثيرات كليةً صادرةً عن روحاني كلي، وقد تكون جزئيةً صادرةً عن روحاني جزئي؛ فمع جنس المطر ملَك، ومع كل قطرة ملَك.
فكانوا يتقرَّبون إلى الهياكل تقرُّبًا إلى الروحانيات، ويتقرَّبون إلى الروحانيات تقرُّبًا إلى البارئ تعالى لاعتقادهم أن الهياكل أبدان الروحانيات.
ثم استخرجوا من عجائب الحِيَل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يُقضى منه العجب. وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتنجيم والتعزيم والخواتيم والصور كلها من علومهم.
يتقرَّبون إلى الروحانيات بهياكلها، وهذه لها طلوع وأفول، وظهور بالليل وخفاء بالنهار، فنصبوا صورًا وتماثيل يعكفون عليها، ويتوسَّلون بها إلى الهياكل فتُقرِّبهم إلى الروحانيات، فاتخذوا أصنامًا أشخاصًا على مثال الهياكل السبعة، كل شخص في مقابله هيكل.
(٢) أثر هذه الآراء في المسلمين
الخلاصة أن العرب قبل الإسلام كانوا على الوثنية، وهذه العبادة قضى الإسلام عليها تمامًا، وكان بعضهم يدين بالمسيحية أو المجوسية أو الصابئة، وتفرَّقت المسيحية على وجه الخصوص إلى مذاهب مختلفة.
ولا ريب في أن الفكر الإسلامي قد تأثَّر إلى حدٍّ كبير بهذه الآراء التي كانت شائعةً معروفة، كما أن كثيرًا من الفُرس تحوَّلوا بعد الفتح إلى الإسلام، فحملوا معهم عقائدهم وآرائهم وطريقة تفكيرهم ونظرهم إلى الحياة. وكذلك الحال في النصارى الذين دخلوا الإسلام.
لهذا كان من الواجب أن نضع تحت بصرنا هذه الألوان المختلفة من الثقافات، أو هذه التيارات الفكرية المتباينة؛ لأنها تفاعلت مع الدين الجديد، واندمجت بعضُ عناصرها في كتابات المفكِّرين، سواء عن قصد أم عن غير قصد. ولهذا قيل إن تفسير القرآن قد دُس فيه كثير من الإسرائيليات.
ثم إن الفرس لم ينسَوا مجدهم البائد، وظلُّوا يعملون سرًّا على استعادة سيادتهم، فتوسَّلوا إلى ذلك بالتشيُّع إلى فريق من المسلمين، هم أهل البيت، ومزجوا الدعوة السياسية بأفكار إسلامية صاغوها على هواهم لتخدم أغراضهم، ممَّا يجعل الفصل بين الحياة العقلية وبين الحياة السياسية أمرًا عسيرًا.
الموجة الأولى: الكفر والإيمان
والخلاف الثاني في موضعِ دفنه، قال قوم: إنه يُدفن بمكة لأنها مولده، وبها قِبلته، وبها مشاعر الحجر، وبها نزل الوحي، وبها قبر جده إسماعيل عليه السلام. وقال آخرون: إنه يُنقل إلى بيت المقدس؛ فإن به تربة الأنبياء ومشاهدهم. وقال أهل المدينة: إنه يُدفن في المدينة لأنها موضع هجرته، وأهلها أهل نصرته.
والثالث اختلافهم في الإمامة؛ فقالت الأنصار: منا إمام ومنكم إمام، وانتهى بخلافة أبي بكر.
والمفهوم من كلام الإسفراييني أنه يجعل مبدأ التفرُّق منذ مقتل عثمان؛ لأن «الخلاف لا يكون خطرًا إلَّا إذا كان في أصول الدين، ولم يكن اختلاف بينهم في ذلك، بل كان اختلاف من يختلف في فروع الدين مثل الفرائض، فلم يقع خلاف يُوجب التفسيق والتبري.
ونُحب أن نقف قليلًا عند هذا الكلام الذي يُثبته أبو المظفر، ففيه نظر؛ ذلك أنه يعد الخلاف على الفرائض من فروع الدين، بينما رأى أبو بكر وجوب حرب المرتدين الذين حاولوا تعديل الفرائض. وعندنا أن التفرقة بين أصول الدين وفروعه تفرقة اعتبارية لم تظهر إلَّا بعد استقرار الفقه في القرن الثاني. ونحن الآن في القرن الأول من الهجرة، لا نعرف شيئًا من هذه الاصطلاحات الفقهية والأصولية، وإنما الذي يعنينا أن نُسجِّله هو المُشاهد الملموس من أن الإسلام دينٌ حديث، كان همُّه الأكبر محاربة الوثنية وأهل الشرك، وقد نجح في ذلك نجاحًا عظيمًا حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا. ولكنَّ فريقًا من العرب بعد موت النبي حاولوا تعديل بعض أركان الإسلام، فسمَّاهم أبو بكر المرتدِّين، وأوجب حربهم لأنه عَدَّهم كُفَّارًا، حتى قضى على تلك الفتنة، وعاد العرب إلى حظيرة الإسلام.
وشاع بعد ذلك القول في المؤمن والكافر، وقد كان ذلك البحث جِدًّا يأخذ على الناس تفكيرهم وقلوبهم وعقائدهم، ممَّا يدفع بهم إلى الحرب والجهاد في سبيل ما يعتقدون.
وأول مقالة في هذا الصدد بعد الرِّدَّة تكفير عثمان؛ لأنهم أخذوا عليه مسائل دعَت في نظرهم إلى الثورة والخروج عليه وقتله. والمقالة الثانية هي الخروج على عليٍّ ومعاوية، ويصطلح التاريخ على تسمية أصحابها بالخوارج.
والخلاصة أنه بعد موت النبي ظهرت موجتان قويتان؛ تهتم الأولى بالكفر والإيمان، والثانية تتجه نحو الإمامة. ونشأت عن الموجة الأولى فرق الخوارج، وعن الثانية فرق الشيعة.
وكثير من كتب الفِرق الإسلامية يُقدِّمون القول في الشيعة على الخوارج.
ونحن نرى غير رأيهم لأسباب؛ منها أن القول بالإمامة الأغلب فيه السياسة، والآراء العقلية التي يقول بها الشيعة تخدم القول بالإمامة، وهو قول سياسي قطعًا. ومنها أن القول بالكفر والإيمان كان أسبق في الزمان من القول بالإمامة، والقرآن زاخر بالآيات التي تصف الكُفَّار والمنافقين والمؤمنين. وفي صدر سورة البقرة تفصيل لذلك الوصف. هذا إلى أن الشيعة لهم رأي في الكفر والإيمان لا ينفصل عن رأيهم في الإمامة.
وأول فرق الخوارج «المُحكِّمة الأولى». سُمُّوا كذلك لأنهم رفضوا التحكيم بين علي ومعاوية وقالوا «لا حكم إلَّا الله». وقد استمع جماعة ممن كانوا مع علي إلى هذا الكلام، واستقرَّت في قلوبهم تلك الشبهة، وخرجوا إلى حَرُوراء، وكانوا اثنَي عشر ألف رجل من المقاتِلة، فتوجَّه علي إليهم في جيش وقال لهم: يا قوم، ماذا نقمتم مني حتى فارقتموني لأجله؟ قالوا: قاتلنا بين يدَيك يوم الجمل، وهزمنا أصحاب الجمل، فأبحت لنا أموالهم، ولم تُبح لنا نساءهم وذراريهم، وكيف تُحل مال قوم وتُحرِّم نساءهم وذراريهم، وقد كان ينبغي أن تُحرِّم الأمرَين أو تبيحهما لنا؟ فاعتذر عليٌّ بأن قال: أمَّا أموالهم فقد أبحتها لكم بدلًا عمَّا أغاروا عليه من مال بيت المال الذي كان بالبصرة قبل أن وصلت إليهم، ولم يكن لنسائهم وذراريهم ذنب؛ فإنهم لم يقاتلونا، وكان حكمهم حكم المسلمين، ومن لم يُحكم عليه بالكفر من النساء والولدان؛ لم يجُز سَبْيهم واسترقاقهم. وبَعْد لو أبحت لكم نساءهم؛ من كان منكم يأخذ عائشة في قسمة نفسه؟ ثم حاجُّوه في أمور أخرى فاقتنع منهم فريق، وأصرَّ فريق على القتال، ونشبت الحرب بينهما.
وقد غلب الأزارقة على بلاد الأهواز وفارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير، فأرسل عامله بالبصرة لقتالهم، فقتلهم الخوارج، ثم جعل قتالهم إلى المهلَّب بن أبي صفرة. واستمرَّت فتنتهم إلى زمان عبد الملك بن مروان، إلى أن طهَّر جُند الحَجَّاج جميع الأزارقة.
الموجة الثانية: التشبيه والتجسيم
قلنا إن الموجة الأولى التي ظهرت في الإسلام هي الكفر والإيمان. وإن هذه الموجة ترجع إلى موت النبي؛ فظهرت في المرتدِّين، ثم نامت إلى أن ظهرت في عهد عثمان، وقتلته كانوا يعدونه في نظرهم كافرًا. ثم تجدَّدت في خلافة علي، فظهر الخوارج يُكفِّرون عليًّا، وظهر الشيعة يُكفِّرون كل من لا يقول بإمامة علي.
وظهرت في خلافة عليِّ مقالة قوم في غاية الشناعة، كانت طعنةً موجَّهةً إلى صميم العقائد الإسلامية. وقد ظهر كثير من هذه الموجات في أثواب مختلفة في شتَّى العصور الإسلامية. وكان الشغل الشاغل لأهل السنة من المسلمين أن يدفعوا عن الإسلام ما يُوجَّه إليه من سهام، ويُبيِّنوا صحة عقائده، ويُفنِّدوا مزاعم هؤلاء الأدعياء في الإسلام، ويُزيِّفوا أباطيلهم.
ومن الطبيعي أن يظهر قوم بل أقوام يطعنون على الإسلام باعتبار أنه دين جديد؛ فسبق أن رأينا أن العرب ارتدُّوا عن الإسلام، وظهر فيهم من يدعي النبوة كمسيلِمة الكذَّاب. والسر الأول في الردة كما قلنا، هو أن الإسلام كان حديث عهد لم يتمكَّن من النفوس، ولم تنطبع عليه القلوب، وفي النفس حنين فطري إلى ما تعوَّدته ونشأت عليه الأجيال المتعاقبة؛ لهذا لم يكن من الغريب أن تحدث الردة، وهي التي قضى عليها أبو بكر بحزمه وشدته؛ فعاد العرب إلى حظيرة الإسلام، ونسوا عبادة الأصنام.
ولكن حرية البحث في الإسلام وإباحة الاجتهاد في الدين أتاحت لبعض أهل العقول الضعيفة أن يتكلَّموا في العقائد ويتأوَّلوا النصوص المحكمة؛ إمَّا لتتفق وما كانوا عليه من مذاهب عزَّ عليهم تركها، وإمَّا لتُؤدِّي إلى إفساد المعتقدات الإسلامية كي يضمحل الإسلام، وتدول دولته التي أذلَّتهم؛ فنشأت مقالات الزنادقة، والغلاة، والإباحيين، ممَّا سيمر بك سُخفها.
وذهب عبد القاهر بن طاهر أبو منصور البغدادي إلى أن عليًّا — رضي الله عنه — خاف اختلاف أصحابه عليه، يُريد عبد الله بن سبأ، ورأى المصلحة في نفي من نفى منهم. فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن. فلمَّا قُتِلَ علي، زعم ابن سبأ أن المقتول لم يكن عليًّا، وإنما كان شيطانًا تصوَّر للناس في صورة علي، وأن عليًّا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى ابن مريم عليه السلام.
أمَّا صاحب مقالات الإسلاميين فيجعل السبئية ضمن «الغالية» أو الغلاة، وهم الذين غلَوا في علي غُلوًّا عظيمًا.
على أن الدسيسة التي دسَّها عبد الله بن سبأ على الإسلام من قوله بأن عليًّا لم يُقتل بل رُفع إلى السماء، وما ذكره بعض أتباعه من أن عليًّا هو الإله، استمرَّت بعد مقتل علي، وظلَّت قائمةً طوال دولة بني أمية، وظهرت فرق من الروافض لها قول في التشبيه والتجسيم، لا يقبله عقل سليم.
وزعموا أنه نور ساطع كالسبيكة الصافية تتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها. ذو لون وطعم، ورائحة ومجسة، لونه هو طعمه، وطعمه هو رائحته، ورائحته هي مجسته، وهو نفسه لون. ولم يُعيِّنوا لونًا ولا طعمًا غيره. وزعموا أنه هو اللون وهو الطعم. وأنه كان في لا مكان، ثم حدث المكان بأن تحرَّك البارئ فحدث المكان بحركته فكان فيه. وزعموا أن المكان هو العرش.
وذكر هشام أنه قال في ربه في عام واحدة خمسة أقاويل؛ زعم مرةً أنه كالبلورة، وزعم مرةً أنه كالسبيكة، وزعم مرةً أنه غير صورة، وزعم مرةً أنه بشبر نفسه سبعة أشبار. ثم رجع عن ذلك وقال هو جسم لا كالأجسام.
والفرقة الثانية من الروافض يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام، وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود، ولا يُثبتون البارئ ذا أجزاءٍ مؤتلفة وأبعاض متلاصقة. ويزعمون أن الله على العرش مستوٍ بلا مماسَّة ولا كيف.
والفرقة الثالثة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، ويمنعون أن يكون جسمًا.
ويزعم أصحاب هشام بن سالم الجواليقي أن ربهم على صورة الإنسان، ويُنكرون أن يكون لحمًا ودمًا. ويقولون هو نور ساطع يتلألأ بياضًا، وإنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان؛ له يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم.
ويزعم أصحاب الفرقة الخامسة أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت، وهو كالمصباح الذي من حيثما جئته يلقاك بأمر واحد.
فهذه المقالات الخطيرة في التشبيه دفعت فريقًا من المسلمين هم المعتزلة إلى أن ينهضوا للدفاع عن العقيدة الإسلامية وتنزيه البارئ عن الجسمية والتشبيه. حتى لقد اتهم المعتزلة شيوخَ أهل السنة بأنهم من المشبِّهة.
قال الرازي يُدافع عن أهل السنة: «اعلم أن جماعةً من المعتزلة ينسبون التشبيه إلى الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين. وهذا خطأ؛ فإنهم مُنزَّهون في اعتقادهم عن التشبيه والتعطيل، لكنهم لا يتكلَّمون في المتشابهات، بل كانوا يقولون: آمنا وصدقنا، مع أنهم كانوا يجزمون بأن الله تعالى لا شبيه له وليس كمثله شيء.» ومعلوم أن هذا الاعتقاد بعيدًا جدًّا عن التشبيه.
الموجة الثالثة: التشيُّع
قلنا إن الموجة الأولى هي موجة الكفر والإيمان؛ لأنها أول هذه الموجات وأقواها، وإن ما تبعها من مقالات فهو كالروافد لذلك التيار القوي الذي يُسيطر على العقول، ممَّا جعل المسلمين يُكفِّر بعضهم بعضًا. على أن الجمهور اتبع سبيل الاعتدال وآثر عدم الخوض في تلك المقالات الخطيرة، وهؤلاء هم أهل السنة، على حين كانت الفرق المختلفة تُمثِّل طوائف المتطرِّفين وأهل اليسار بلغة أهل السياسة.
ولم يذكر الفخر الرازي في كتاب اعتقادات فرق المسلمين والمشركين فرقة الشيعة، ولكنه تكلَّم على الروافض، ثم الغلاة، ثم الكيسانية، ثم فرق المشبِّهة.
ونحن لا نميل إلى جمع هذه الفرق تحت اسم الشيعة كما فعل الأشعري والشهرستاني، وكما تابعهم الأستاذ الكوثري، بل نتفق مع الرازي وأبي المظفر الإسفراييني في تسمية كل فرقة باسمها دون أن نجمعهم كلهم تحت لفظ الشيعة.
وهذا يقودنا إلى البحث في أصل هذه التسمية، ومتى أُطلقت.
قال ابن خلدون في المقدِّمة: «الشيعة لغةً هم الصحب والأتباع. ويُطلق في عرف الفقهاء من الخلف والسلف على أتباع عليه وبنيه رضي الله عنهم.» قال: «ومذهبهم المتفق عليه عندهم أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تُفوَّض إلى نظر الأمة، بل يجب تعيين الإمام، وأن عليًّا هو الذي عيَّنه النبي ﷺ.»
ذلك أن الراجح أن النبي لم ينُصَّ على خلافة علي بن أبي طالب، وبُويع أبو بكر وعمر وعثمان، على ما هو معروف في التاريخ. ثم أصبح علي رابع الخلفاء الراشدين، ونازعه معاوية، وقتل الخوارجُ عليًّا، وبايع الناس الحسن، ثم تنازل عن الخلافة لمعاوية، ولمَّا مات معاوية وتولَّى ابن يزيد خرج عليه الحسين في المدينة، وعبد الله بن الزبير في مكة، ثم توجَّه الحسين إلى العراق بعد أن راسله أهلها، ولكنه قُتل في كربلاء.
والمؤكَّد أنه لم تكن هناك شيعة لعلي في أيام أبي بكر وعمر وعثمان. ويشك المؤرِّخون فيما نُسب إلى عبد الله بن سبأ في زمن علي. وتنازل الحسن برضاه، وقَبِل المسلمون ذلك، وتخلَّى أهل العراق عن الحسين، ولم تكن لهم مقالة في الإمامة وما يتبعها.
ونحن نعتقد أن أول تشيُّع صحيح من جهة المذهب، وأساسه القول بإمامة أهل البيت، إنما جاء بعد مقتل الحسين؛ لشعور أهل العراق بالندم لما فعلوه، وتأييد العناصر غير العربية، على الأخص الفرس، للقائلين بالتشيُّع رغبةً منهم في هدم الدولة الأموية، والوصول إلى السلطان.
قال الشهرستاني: «الكيسانية: أصحاب كيسان مولى أمير المؤمنين علي — رضي الله عنه — وقيل تلميذ للسيد محمد ابن الحنفية، يعتقدون فيه اعتقادًا بالغًا، من إحاطته بالعلوم كلها، واقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها من علم التأويل الباطن، وعلم الآفاق والأنفس.»
والراجح أن المختار هو كيسان، وأن الكيسانية اسم الفرقة التي ساقت الإمامة إلى محمد ابن الحنفية، وأول من دعا إلى ذلك المختار، وذهب بعده آخرون.
قال الإسفراييني: «وأمَّا الكيسانية فهم أتباع محمد بن أبي عبيدة الثقفي الذي قام يطلب ثأر الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يقتل من يظفر به ممن كان قاتِلَه بكربلاء. وهؤلاء الكيسانية فرق يجمعهم القول بنوعَين من البدعة؛ أحدهما: تجويز البداء على الله تعالى؛ أي إنه قد يرى رأيًا ثم يبدو له غيره فيرجع عن الرأي الأول. الثاني: قولهم بإمامة محمد ابن الحنفية.»
«ولمَّا وقف محمد ابن الحنفية على دعوة المختار تبرَّأ منه حين وصل إليه أنه من دعاته ورجاله، وتبرَّأ من الضلالات التي ابتدعها المختار من التأويلات الفاسدة والمخاريق المموِّهة. فمن مخاريقه أنه كان عنده كرسي قديم قد غشاه الديباج، وزيَّنه بأنواع الزينة وقال: هذا من ذخائر أمير المؤمنين علي — رضي الله عنه — وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل. فكان إذا حارب خصومه يضعه في براح الصف ويقول: قاتلوا ولكم الظفر والنصرة، وهذا التابوت محله فيكم محل تابوت بني إسرائيل، وفيه السكينة والتقية، والملائكة من فوقكم ينزلون مددًا لكم. وإنما حمله على الانتساب إلى محمد ابن الحنفية حسن اعتقاد الناس فيه، وامتلاء القلوب بحبه … وكان السيد الحميري، وكُثير الشاعر من شيعته. قال كُثير فيه:
وهذا هو مذهب الكربية أصحاب أبي كرب الضرير كما جاء في كتب المقالات:
ولمَّا تمَّ للمختار الظفر في حروب كثيرة اغترَّ بنفسه، فأخذ يتكلَّم بأسجاع كأسجاع الكهنة. فلمَّا بلغ خبرُ كهانته إلى محمد ابن الحنفية خاف أن يقع بسببه فتنةٌ في الدين، وهمَّ ليقبض عليه، فلمَّا علم به المختار وخاف على نفسه منه، اختار قتله بحيلة فقال لقومه: المهدي محمد ابن الحنفية وأنا على ولايته. غير أن للمهدي علامةً وهي أن يُضرب عليه بالسيف فلا يحيك فيه. وخاف محمد ابن الحنفية فتوقَّف حيث كان.
قال الشهرستاني: «وفي مذهب المختار أنه يجوز البداء على الله تعالى. والبداء له معانٍ: البداء في العلم، وهو أن يظهر خلاف ما علم. ولا أظن عاقلًا يعتقد هذا الاعتقاد. والبداء في الإرادة: وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم. والبداء في الأمر: وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بعده بخلاف ذلك. وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال؛ إمَّا بوحي يوحى إليه، وإمَّا برسالة من قِبَل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله؛ جعله دليلًا على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال: قد بدا لربكم. وكان لا يُفرِّق بين النسخ والبداء قال: إذا جاز النسخ في الأحكام، جاز البداء في الأخبار.»
هذه مُجمل الروايات عن المختار ودعوته الكيسانية أو المختارية، ويتضح من تضاربها أن الشك يتطرَّق إلى صحتها، وأن كثيرًا منها موضع للتشنيع عليه. ولكن ممَّا لا شك فيه أن ظهور المختار كان صحيحًا، وأنه قام يأخذ بثأر الحسين، وأنه انتسب لمحمد ابن الحنفية وأخذ يدعو له.
وبعد، فسُنة الناس أن يختلفوا في مذاهبهم الدينية والسياسية. وقد أوصى الإسلام باحترام الآراء، فالمسلم الحق يتبع منها ما يقوم له الدليل على صحته، ويُوسع صدره لاحترام كل ما يخالف مذهبه، مع اطراح ما يختلقه بعض غلاتها على بعض، لتتحقَّق الوحدة الإسلامية، وخاصةً في هذا العهد الذي يجب أن تتجلَّى فيه هذه الوحدة بأكمل معانيها، وأروع مظاهرها.
الموجة الرابعة: القدرية
قلنا إن الموجة الأولى الكفر والإيمان، فبقي جمهور السلف على الإيمان الصحيح، وغالى الخوارج في تكفير طائفة من المسلمين. وإن الموجة الثانية التشبيه، ونهض جمهور أهل السنة لدفعها، وظهرت هذه الموجة في صور مختلفة خلال العصور المتعاقبة. والموجة الثالثة التشيُّع، رجَّحنا ظهورها بعد مقتل الحسين في كربلاء، وعماد الشيعة القول بإمامة أهل البيت، ثم غلا فيها بعضهم غلوًّا كبيرًا.
الموجة الرابعة: القدرية، وهي شديدة الصلة بالكفر والإيمان. وقد تأخَّر ظهورها شيئًا لانشغال الأفكار بالسياسة والنزاع بين علي ومعاوية.
والقول بالقدر أسبق من الاعتزال الذي قد نتحدَّث عنه فيما بعد، ولو أنهم اتبعوا القول به.
قال الشهرستاني عند الكلام على واصل بن عطاء رأس المعتزلة:
من هذا يتضح أن فتنة القدرية أسبق من فتنة المعتزلة، وأن واصل بن عطاء مع قوله بالاعتزال كان قدريًّا، وأنه أخذ هذا المذهب عن معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وهذان بدورهما تأثَّرا بما يذهب إليه أهل الملل الأخرى. قال اللالكائي في شرح السنة: عن الأوزاعي: «أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يُقال له سوسن كان نصرانيًّا فأسلم، ثم تنصَّر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد.»
فأنت تلمح خلال هذا الجدل الذي دار بين عليٍّ وبين من يُحاوره البحث عن مسألة القدر من جهة، ومحاولة عدم إرادة الخوض فيها من جهة أخرى.
وفي القرآن إشارات كثيرة إلى مسائل سُئل النبي عنها فلم يُجِب، وترك أمرها إلى الله، مثل: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (الزخرف: ٢٠).
وأكبر الظن أن اشتغال العرب الأوائل بالإقبال على الإسلام وهدم الوثنية، ثم انصرافهم إلى حرب المرتدِّين، والقيام بالفتوحات المختلفة؛ صرفهم عن الخوض في هذه المسائل الدقيقة، فلمَّا استقرَّت الفتوحات وهدأ بال المسلمين، نظروا في هذه المسائل وأشباهها.
وليس بعيدًا أن معبد الجهني وغيلان الدمشقي أخذا القدرية عن واحد من بعض الملل؛ فمن المعروف أن المذاهب النسطورية كانت منتشرةً في البصرة وما جاورها.
ويُؤيِّد دي بور ما نذهب إليه، فقال: «أول مسألة قام حولها الجدَل بين علماء المسلمين هي مسألة الاختيار، وكان المسيحيون الشرقيون يكادون جميعًا يقولون بالاختيار. ولعل مسألة الإرادة لم تُبحث من كل وجوهها في زمن من الأزمان، ولا في بلد من البلاد، مثل ما بحثها المسيحيون في الشرق أيام الفتح الإسلامي. وكان هذا البحث متصلًا بالمسيح أولًا، وبالإنسان بعد ذلك.»
فأنت ترى أن غيلان كان نصرانيًّا، وأن معبد الجهني أخذ القول بالقدر من سوسن النصراني كما ذكرنا سابقًا.
ومن هذا كله يتضح أن القدرية ظهروا في العصر الأُموي قبل عصر هشام بن عبد الملك؛ لأن أول من قال بالقدر هو معبد الجهني الذي قتله الحجاج بعد سنة ثمانين، وقتل هشامُ غيلانَ وأمر بقطع يدَيه ورجلَيه.
وإن ظهورهما كان أسبق من المعتزلة وعلى رأسهم واصل بن عطاء، الذي أخذ عنهما القدرية، وأضاف إلى ذلك القول بالمنزلة بين المنزلتَين.
وقد توسَّع المعتزلة بعد ذلك في هذه المسألة، وفرَّعوا عليها كثيرًا من الأبحاث، وقام أهل السنة يردون عليهم بما لا يتسع له هذا المجال.
الموجة الخامسة: الإرجاء
كانت الموجة الأولى التي سادت المجتمع الإسلامي هي موجة الكفر والإيمان؛ وذلك لطبيعة ظهور الدين الجديد، الذي كان ظاهرةً لم يعهدها الناس من قبل. وما زالت العقول والقلوب تتجه نحو هذا الهدف؛ بعض الناس يُسرف في الإيمان ويعتقد أن من يُخالفه كافر. وظهر الخوارج يُكفِّرون طائفةً من أطهر القوم قلبًا وأصحهم إسلامًا ودينًا. وقال الشيعة إن عليًّا هو الإمام وكفَّروا غيره.
وظهرت طائفة القدرية الذين يقولون بأن للإنسان قدرة، وهو بحث في العمل يتصل من قريب أو بعيد بالكفر والإيمان.
وفي غمار هذه الآراء المتباينة اتجه قوم إلى القول بأن الإيمان القلبي شيء، والعمل الظاهر شيء آخر؛ وبذلك فصلوا الإيمان عن العمل وأخَّروه عنه، أو أرجئوه، فسُمُّوا المرجئة.
ويرى جولدزيهر في كتاب «مذاهب الإسلام» أن هذه الفرقة نشأت على أثر الحملات التي قام بها الشيعة والخوارج ضد بني أمية، فبثت دعوةً خلاصتها وجوب الخضوع لسلطة الأمويين، وتأجيل الحكم عليهم بالشرك والتكفير إلى يوم الدين. فالإرجاء هو التأجيل.
ومن الجائز أن بني أمية نهضوا للدفاع عن أنفسهم، وتخلَّصوا من تهمة تكفيرهم بهذه المقالة، وهي الإرجاء.
غير أننا لا نميل كثيرًا إلى الأخذ بهذا التفسير السياسي، ولو أن عليه مسحةً من الصواب؛ لأن بعض المؤرِّخين ينسبون الإرجاء إلى محمد ابن الحنفية، فكيف يكون الأمويون هم أصحاب هذه المقالة بدعوى الدفاع عن أنفسهم من هجمات الشيعة والخوارج، ومحمد ابن الحنفية — كما تعلم — من الشيعة؟!
وأغرب من ذلك أن فريقًا من المرجئة وافقوا القدرية في القول بالقدر، ممَّا ينقض كلام الشهرستاني السابق من أن المعتزلة كانوا يُلقِّبون كل من خالفهم في القدر مرجئًا، وهؤلاء مثل «غيلان الدمشقي، وأبي شمر المرجئ، ومحمد بن شبيب المصري. وهؤلاء داخلون في قول النبي ﷺ: «إن القدرية والمرجئة لُعنتا على لسان سبعين نبيًّا.» فيستحقون اللعن من جهتَين؛ من جهة القول بالإرجاء، ومن جهة القول بالقدر».
فنحن نرى أن المرجئة انحازوا إلى كل فرقة موجودة؛ إلى أهل السنة، وإلى الشيعة، وإلى القدرية الذين تحوَّلوا فيما بعدُ إلى المعتزلة.
ومن الطبيعي أن يُخالفهم الخوارج، لأن مقالتَيهم متعارضتان؛ فالخوارج يُغالون في تكفير من يرتكب أي معصية، بل لقد ذهب الخوارج إلى أن أهل السنة من المرجئة، وأول من سمَّى أهل الجماعة بالمرجئة هو نافع بن الأزرق الخارجي في بعض الروايات. وما حكاه الشهرستاني من نسبة الإرجاء إلى أبي حنيفة يدل على صحة هذا الاتهام.
وهذا يقتضي منا بيان حقيقة الإرجاء.
الإرجاء في اللغة التأخير، أرجأه أي أمهله وأخَّره.
وقال الشهرستاني: إن للإرجاء معنًى ثانيًا هو إعطاء الرجاء. ثم قال: «أمَّا إطلاق المرجئة على الجماعة (يُريد فرقة المرجئة) بالمعنى الأول فصحيح، لأنهم كانوا يُؤخِّرون العمل عن النية والقصد.»
وقال صاحب المصباح المنير: «المرجئة طائفة يُرجئون الأعمال، أي يُؤخِّرونها، فلا يُرتِّبون عليها ثوابًا ولا عقابًا، بل يقولون: المؤمن يستحق الجنة بالإيمان دون بقية الطاعات، والكافر يستحق النار بالكفر دون بقية المعاصي.»
وقال الشهرستاني: «وأمَّا بالمعنى الثاني (أي إعطاء الرجاء) فظاهر، فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.»
«وقيل الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يُقضى عليه بحكمٍ ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار. فعلى هذا المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان.»
«وقيل: الإرجاء تأخير عليٍّ — رضي الله عنه — عن الدرجة الأولى إلى الرابعة. فعلى هذا المرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان.»
«والمرجئة أصناف أربعة؛ مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة.»
فلم يذكر الرسعني في المختصر مرجئة الخوارج.
وأكبر الظن أن الخوارج لم يكونوا من المرجئة على ما سبق أن ذكرناه.
ولم تذكر كتب المقالات إلَّا فرق المرجئة الخالصة، ما عدا الشهرستاني الذي ذكر طرفًا منهم. وهم جميعًا متفقون على أنها خمس:
-
(١)
أتباع يونس بن عون، وهم يقولون: إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان.
-
(٢)
أتباع غسان المرجئ، وهم يقولون: إن الإيمان غير قابل للزيادة والنقصان. وكل قسم من الإيمان فهو إيمان.
-
(٣)
أصحاب أبي معاذ التومني، وهم يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان معصية ما، وأن الله تعالى لا يُعذِّب الفاسقين من هذه الأمة.
- (٤)
-
(٥)
أصحاب بشر المريسي، ومرجئة بغداد من أتباعه، وكان يقول: الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان.
فلا شك أن المرجئة أسبق من المعتزلة، وقد وقفوا من مسألة الإيمان والكفر موقفًا فريدًا؛ فهم يحكمون على التصديق دون العمل، ويقولون بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
وهذا يُخالف رأي أهل السنة، قال البخاري في كتاب الإيمان: «وهو قول وفعل، ويزيد وينقص، قال تعالى:لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ (الفتح: ٤).»
قال الكرماني في شرحه على البخاري: «قالوا الإيمان يزيد وينقص ولم يقولوا الإسلام يزيد وينقص. قال: وقال سفيان بن عيينة: الإيمان قول وفعل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم: لا تقل ينقص. فغضب وقال: اسكت يا صبي! بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء!»
قال الرازي في اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: «وأمَّا مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب فهو أنَّا نقطع بأن الله تعالى سيعفو عن بعض الفُسَّاق، لكنا لا نقطع على شخص مُعيَّن من الفُسَّاق بأن الله لا بد وأن يعفو عنه.»