نظرية المعرفة عند بعض فلاسفة المسلمين
(١) إخوان الصفا
إخوان الصفا جماعة سرية، اعتنقوا مذهبًا سياسيًّا خاصًّا، ويقال إنهم من الباطنية، وأرادوا تغليب مذهبهم السياسي والفلسفي. ألَّفوا رسائل بلغت خمسين أو إحدى وخمسين رسالةً طُبعت في مصر في أربعة أجزاء. ومذهبهم الفلسفي خليط من الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية والتعاليم الإسلامية.
ولن نبحث في فلسفتهم إلَّا من ناحية خاصة هي نظرية المعرفة، ولن نبحث في هذه النظرية إلَّا ناحيةً خاصةً منها، وهي أصل المعرفة أفطرية هي أم مكتسبة، أم فطرية ومكتسبة معًا؟
ولا تزال هذه المشكلة قائمةً منذ القديم حتى الآن؛ فأفلاطون من أنصار الفطرة، وأرسطو من أنصار الاكتساب. ثم نجد ديكارت في الفلسفة الحديثة من القائلين بالفطرة على نحو آخر يُخالف ما قال به أفلاطون، على حين أن المدرسة الإنجليزية تقول بالاكتساب، على الأخص لوك وهيوم.
والمقصود بالمعقولات الموجودةِ في أوائل العقول المعرفةُ البديهية، مثل الكل أعظم من الجزء، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. وكثيرون من الفلاسفة والمناطقة يعتبرون أن هذه البديهيات فطرية في النفس لا يكتسبها المرء.
وأصحاب رسائل إخوان الصفا مخطئون في فهم أفلاطون؛ لأن معنى جملته المشهورة «العلم تذكُّر والجهل نسيان» أن النفس كانت تعيش مع الآلهة في عالم المُثُل، فعندها معرفة بكل شيء. ولمَّا اتصلت النفس بالجسد نسيت، فإذا انكشف عنها ستار المعرفة، فإنها لا تكسب جديدًا، بل تتذكَّر ما كانت تعرفه في عالم المُثُل قبل اتصالها بالجسد. ومن أدلة أفلاطون على فطرة المعرفة أن الطفل يستطيع بالنظر إلى نفسه أن يكشف البراهين الهندسية، دون حاجة إلى معلِّم.
هذا المذهب شبيه بمذهب لوك الفيلسوف الإنجليزي الذي يعتبر أن أصل المعرفة الحواس، وأنه «لا شيء في العقل لم يكن قبل ذلك في الحس».
والخلاصة أن رأي إخوان الصفا في نظرية المعرفة واضح. فعندهم أن المعرفة كلها مكتسبة، ورتَّبوا بناءً على ذلك الوسائل المؤدِّية إلى تحصيلها، والتي تستقيم مع مذهبهم وتخدم غايتهم.
(٢) الغزالي
ذكرنا نظرية المعرفة عند إخوان الصفا، وهم فريق من الفلاسفة أرادوا أن يُقرِّبوا الفلسفة إلى أذهان الجمهور. وانتهينا من النظر في رسائلهم إلى أن الرأي عندهم أن المعرفة مكتسبة وليست فطرية. ثم ذكرنا طرقًا من الوسائل التي يرونها مُؤدِّيةً إلى كسب المعرفة.
ونذكر الآن رأي الغزالي في المعرفة. وقد وقع الاختيار على أبي حامد الغزالي دون غيره؛ لأنه يُمثِّل طائفة المتصوِّفة.
وحُجة الإسلام الغزالي من أعلام المسلمين وأئمة فقهائهم، تستطيع أن تعتبره فقيهًا، وله في أصول الفقه كتاب «المستصفى» يُعتبر عمدةً في هذا الباب. وتستطيع أن تعده من الأشاعرة وهم فريق من علماء الكلام. غير أن ما يجعلنا نضعه في قائمة المتصوِّفة أنه هو نفسه اعتبر نفسه متصوِّفًا؛ وذلك في كتابه «المنقذ من الضلال» الذي سجَّل فيه تاريخ حياته ذاكرًا أنه طاف بجميع المذاهب في علم الكلام والفلسفة، فلمَّا لم يجد فيها بغيته، انصرف عنها إلى التصوُّف.
والعلم الذي هو فرض عين على كل مسلم اعتقاد وفعل وترك؛ أي اعتقادٌ بالله، وفعل بما أمر الله، وترك لما نهى عنه.
فالغزالي يُقسِّم العلم إلى فرض عين وفرض كفاية، وهذا التقسيم لم يكن معروفًا عند الفقهاء في صدر الإسلام، ولا في المائة الثانية أو الثالثة، ولكنه أصبح تقسيمًا مقبولًا بعد القرن الخامس.
والمهم عندنا أن نتبيَّن رأي الغزالي في تحصيل العلوم، ومنه نستخلص رأيه في نظرية المعرفة. والطريق إلى تحصيل العلوم على وجهين:
-
(١)
التعليم الإنساني: وهو التحصيل بالتعليم من خارج.
-
(٢)
التعليم الرباني: وهو الاشتغال بالتفكُّر من داخل.
وهذا المذهب في اكتساب المعرفة عن طريق الحس أولًا، ثم بالفكر والقياس والحدس، هو مذهب ابن سينا كما هو موجود في الشفاء والنجاة وغيرهما من الكتب.
أمَّا التعليم الرباني فعلى وجهَين؛ إلقاء الوحي بأن يُقْبِلَ الله تعالى على تلك النفس إقبالًا كليًّا، وينظر إليها نظرًا إلهيًّا، ويصير العقل الكلي كالمعلِّم، والنفس القدسية كالمتعلِّم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس من غير تعلُّم وتفكُّر.
ويحصل العلم اللدني باتباع الطرق الآتية:
-
(١)
تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر منها.
-
(٢)
الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة.
-
(٣)
التفكُّر، فإن النفس إذا تعلَّمت وارتاضت بالعلم، ثم تفكَّرت في معلوماتها بشروط التفكُّر؛ ينفتح عليها باب الغيب.٢٤
والغزالي قد لجأ إلى القول بالعلم اللدني لتفسير نظرية النبوة. وللفلاسفة طريقة أخرى في تفسير النبوة ليس هنا مجال ذكرها. ولا يكتفي الغزالي بالإيمان بالنبوة واتصالها بالله، ولكنه يُضيف إلى ذلك الإيمان بالولاية وهي درجة أقل من النبوة. ولا نشك في أنه آمن بهذه النظرية، إلَّا لأنه هو نفسه كان يعتقد في نفسه الولاية.
فالمعرفة عند الغزالي فطرية في النفس، ولا بد في تحصيلها من التعلُّم أولًا، ثم التفكر ثانيًا.
(٣) ابن سينا
وُلد الشيخ الرئيس ابن سينا عام ٣٧٠ﻫ، وتُوفي عام ٤٢٨ﻫ بهمذان وقيل بأصبهان. وكتب سيرة حياته بقلمه كما فعل الغزالي في «المنقذ من الضلال». هذه السيرة المكتوبة بأقلام أصحابها تُعتبر مرجعًا هامًّا في التاريخ خصوصًا من الناحية النفسية.
ونُريد أن نعرض لناحية من نواحي فلسفته، هي نظرية المعرفة، تتمةً للبحث الذي بدأناه. فقد رأينا أن إخوان الصفا يذهبون إلى أن المعرفة كلها مكتسبة، وأمَّا «المعقولات التي هي في أوائل العقول فليست شيئًا سوى رسوم المحسوسات الجزئيات الملتقطة بطريق الحواس».
ونظَم ابن سينا الرأي الذي نحن بصدده في القصيدة المزدوجة في المنطق حيث قال:
هذه المعقولات الموجودة في أوائل العقول بالفطرة دون حاجة إلى تعلُّم، يختص بها عقلان من العقول الأربعة التي يُقسِّم ابن سينا العقل إليها، وهي: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد.
فالعقل الهيولاني: تشبيه له بالهيولى الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور المستعدة لقَبولها، وهي حاصلة لجميع أشخاص النوع في مبادئ فطرتهم.
والعقل بالملكة: يُسمَّى كذلك عندما تحصل المعقولات الأولى بالفعل، وبذلك يكون العقل الهيولاني قوة، والعقل بالملكة فعلًا.
والعقل بالفعل هو الاستعداد لتحصيل المعقولات الثانية التي هي العلوم المكتسبة، ويكون ذلك بالفكر والحدس.
- (١)
قوله إن النفس تنتزع المعقولات المجرَّدة بواسطة العقل الهيولاني؛ إذ إن رأي ابن سينا أن العقل الهيولاني هو الاستعداد لقَبول الصور العقلية، ولا يتم هذا الانتزاع إلَّا بالعقل المستفاد، وله سبيل آخر نذكره فيما بعد.
- (٢)
والخطأ الثاني قوله: «تنظمها بحسب ما في العقل بالملكة من المعقولات الأولى»، وهذا التنظيم لم يقُل به ابن سينا. ثم لم يُبيِّن لنا الدكتور صليبا هل المعقولات الأولى مكتسبة أم فطرية؟
- (٣) والخطأ الثالث قوله: «ولكن العقل الذي تُشرق عليه المعقولات هو العقل المستفاد»؛ ذلك أن ابن سينا يرى أن الإشراق يكون في العقول الأربعة، ولكن منه إشراق بعيد، ومنه إشراق قريب. وفي ذلك ينص الرازي في اللباب: «القوة على هذا الاتصال منها بعيدة، وهو العقل الهيولاني، ومنها قوة كاسبة، وهي العقل بالملكة. ومنها قوة تامة الاستعداد لها أن تقبل بالنفس إلى جهة الإشراق متى شاءت بملكة متمكِّنة وهي المسمَّاة بالعقل بالفعل. وأمَّا الاتصال التام فهو العقل المستفاد.»٣٣
فابن سينا وقف في إشارته عند الكلام على الاتصال عند العقل بالفعل، على حين يرى الرازي أن الاتصال التام يكون بالعقل المستفاد.
ونعود إلى تحقيق البحث الذي نحن بصدده وهو: أيكتسب الإنسان المعقولات الأولى عن المحسوسات، أم هي موجودة بالفطرة؟ وإذا كانت فطريةً فمن أين جاءت؟
ومن أدلة ابن سينا على وجود المعاني الكلية وجودًا حقيقيًّا خارجًا عنا، تكتسبها النفس بالاتصال، أن الصور العقلية تُنسى بعد إدراكها، فأين تذهب؟ فإن قيل إن هناك شيئًا كالخزانة تُحفظ فيه الصور العقلية بعد نسيانها، فهذا محال؛ «لأن النفس جوهر مجرَّد، فلا يمكن أن ينقسم إلى قسمَين يكون أحدهما مدركًا والثاني خزانة؛ فلم يبقَ إلَّا أن يُقال إن ها هنا شيئًا خارجًا عن جوهرنا فيه الصور المعقولة بالذات، فإذا وقع بين نفوسنا وبينه اتصال؛ ارتسم منه فينا الصور العقلية الخاصة بذلك الاستعداد».
هذا الاتصال يكون بالعقل الفعَّال.
(٤) نظرية المعرفة عند الفارابي
أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي، نسبةً إلى مدينة فاراب، وهي إحدى مدن الترك فيما وراء النهر. فيلسوف المسلمين، والمعلِّم الثاني، فهو إلى فلاسفة الإسلام كما كان أرسطو — المعلِّم الأول — إلى فلاسفة اليونان. سُئل الفارابي: من أعلم أنت أم أرسطو؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامِذته.
يقصُّ علينا ابن سينا أنه حفظ كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو عن ظهر قلب دون أن يفهمه، إلى أن وقع إليه كتاب الفارابي «تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة»، فانفتحت له مغاليق فلسفة أرسطو. فهذه شهادة ابن سينا — وهو الفيلسوف صاحب الصدارة في الفلسفة — للمعلِّم الثاني الفارابي.
تُوفِّيَ عام ٣٣٩ﻫ في دمشق في صُحبة سيف الدولة الحمْداني الذي أكرمه، وعرف موضعه في العلم، ومنزلته من الفهم.
وله تآليف كثيرة منها؛ «مقالة في معاني العقل»، نستخلص منها رأيه في المعرفة.
وقد تأثَّر الفارابي خُطا أستاذه أرسطو في هذا الصدد، مع بعض التغيُّر كما يجري عليه أغلب المفسِّرين. وسنُعنى في هذا الصدد ببيان أوجه الخلاف بين المعلِّمَين.
وقد أحسن الفارابي صنعًا بالتنبيه على معنى العقل الشائع على ألسنة الجمهور الذين «يَعنون بالعاقل من كان فاضلًا جيِّد الروِية في استنباط ما ينبغي أن يُؤثر من خير، أو يُجتنب من شر».
وكذلك أحسن صنعًا بتعريف معنى العقل عند المتكلِّمين حتى ينفي اللبس عن هذا اللفظ، وما يدل عليه من معادن مختلفة حين يُستعمل في الفلسفة. والمتكلِّمون «إنما يعنون به المشهور في بادي الرأي عند الجميع؛ فإن بادي الرأي المشترك عند الجميع أو الأكثر يُسمُّونه العقل».
ولا يخلو هذا التنبيه الذي لجأ إليه الفارابي من سبب؛ ذلك أن المتكلِّمين — كما يقول الفارابي — «يظنون بالعقل الذي يُردِّدونه فيما بينهم أنه هو العقل الذي ذكره أرسطو في كتاب البرهان، ولكنك إذا استقريت ما يستعملونه من المقدِّمات الأُول تجِدها كلَّها مقدِّمات مأخوذةً من بادي الرأي المشترك».
وعند الفارابي أن العقل الذي يذكره أرسطو في كتاب البرهان «إنما يعني به قوة النفس التي بها يحصل للإنسان اليقين بالمقدِّمات الكلية الصادقة الضرورية لا عن قياس أصلًا، ولا عن فكر، بل بالفطرة والطبع، أو من صباه، ومن حيث لا يشعر من أين حصلت، وكيف حصلت».
ومن الواضع هنا أن الفارابي يعتقد بأن المقدِّمات الكلية الضرورية موجودة في العقل بالفطرة. ولكن الوجه الثاني للمسألة، وهو ما ذكره من أنها تحدث في الصبا من حيث لا يشعر المرء من أين أو كيف حصلت، يُبيِّن لنا أن الفارابي لا يجزم بفطرة الأوليات والبديهيات، بل يُجوِّز حدوثها بالكسب دون أن يعرف حلًّا صحيحًا لهذه المسألة. وهذا الموقف يختلف عن موقف غيره من الفلاسفة مثل ابن سينا. وقد رأينا في البحث السابق كيف يجزم بذلك بما لا يحتمل الشك في أكثر كتبه.
غير أننا إذا تصفَّحنا ما كتبه الفارابي في مواضع أخرى من مؤلَّفاته وجدنا أنه يميل إلى تأييد المذهب الثاني، ويلتمس له الأدلة، ونعني حصول المعرفة البديهية عن كسب، لا عن فطرة.
وهكذا يمضي بنا الفارابي في هذا التحليل البديع مؤيِّدًا نظريته، حتى ينتهي إلى تعليل رأي أفلاطون المشهور: «العلم تذكُّر، والجهل نسيان»، بأنه تذكُّر ما كان في نفسه قديمًا؛ أي ما اكتسبه منذ الصبا.
كيف ومن أين حصلت العلوم الأُوَل؟
ونعود إلى الكلام عن أنواع العقول الأخرى التي ذكرها الفارابي في شيء من الإيجاز:
العقل الذي ذكره أرسطو في كتاب الأخلاق، فالمقصود منه العقل العملي الذي يحصل بالمواظبة على اعتياد شيء، وعلى طول تجرِبة شيء. وهذا العقل يتزيَّد مع الإنسان طول عمره … ويتفاضل الناس في هذا الجزء من النفس الذي سمَّاه عقلًا تفاضلًا متفاوتًا.
أمَّا العقل الذي يذكره أرسطو في كتاب النفس فإنه جعله على أربعة أنحاء؛ عقل بالقوة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعَّال.
والعقل بالقوة هو الاستعداد لانتزاع «ماهيَّات الموجودات كلها وصورها، دون موادِّها فتجعله كلها صورةً لها».
والعقل بالفعل هو حصول صور الموجودات، فإذا حصلت فيه المعقولات التي انتزعها عن المواد؛ صارت تلك المعقولات معقولاتٍ بالفعل، وقد كانت قبل أن تُنتزع عن موادها معقولات بالقوة».
«والعقل بالفعل متى عقل المعقولات التي هي صور له من حيث هي معقولة بالفعل؛ صار العقل الذي كنا نقوله أولًا إنه العقل بالفعل، هو الآن العقل المستفاد».
ثم أفرد الفارابي فقرةً خاصةً بالعقل الفعَّال قائلًا: «إنه صورة مفارقة لم تكن في مادة ولا تكون أصلًا … وهو الذي جعل المعقولات التي كانت معقولات بالقوة، معقولات بالفعل. ونسبة العقل الفعَّال إلى العقل الذي بالقوة كنسبة الشمس إلى العين التي هي بصر بالقوة ما دامت في الظلمة.»
هذا ما أثبته الفارابي نسبةً لأرسطو، وأخْذًا عنه، فإلى أيِّ حدٍّ فهم الفارابي أرسطو؟
وهذه الآراء أهي حقًّا آراء أرسطو، أم آراء المفسِّرين الذين جاءوا بعد أرسطو؟
وهذا يقتضي منا الرجوع إلى التاريخ.
ومن الفائدة أن نتتبَّع هذا التاريخ لنلمح خلاله تطوُّر الرأي منذ عهد اليونان إلى عصر المسلمين. ولا يفوتنا في هذه المناسبة أن نذكر أن الفارابي يُعتبر أول من فهم أرسطو فهمًا جيدًا، وأول من بسط فلسفته عند المسلمين؛ ولهذا السبب سُمِّيَ بالمعلِّم الثاني. قال ابن قيم الجوزية: «والمقصود أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلِّم الأول، حتى انتهت توبتهم إلى معلِّمهم الثاني أبي نصر الفارابي.» وذكر ابن خَلِّكان أن الفارابي «تناول جميع كتب أرسطو وتمهَّر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها. ويُقال إنه وجد كتاب النفس لأرسطو وعليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: «إني قرأت هذا الكتاب مائة مرة.»
ويُروى عنه أنه سُئل: من أعلم الناس بهذا الشأن أنت أم أرسطو؟ فقال: «لو أدركته لكنت أكبر تلامذته.» وقال القاضي صاعد في طبقاته: إن الفارابي «بَزَّ جميع أهل السلام، وأربى عليهم في التحقيق فيها (أي صناعة المنطق)، وشرح غامضها، وقرَّب تناولها في كتب صحيحة العبارة، لطيفة الإشارة، منبِّهًا على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم.»
ونظرية العقل التي ذكرها الفارابي هي نفس النظرية التي ذكرها أرسطو في الجزء الثالث من كتاب النفس مع تعديلات رآها، وأخذها عن المفسِّرين الذين فسَّروا أرسطو.
ويحسن أن نبدأ بترجمة نص ما ذكره أرسطو بعنوان: «العقل الفعال في كتاب النفس»؛ ليكون مرجعًا إلينا فيما نكتب. قال: «ولكن حيث إنه في جميع الأمور الطبيعية نُميِّز أولًا شيئًا يكون مادةً لكل جنس (وهذا هو ما بالقوة جميع أفراد الجنس)، ثم بعد ذلك شيئًا آخر يكون عِلةً وفاعلًا لأنه يُحدثهما جميعًا، والمثال في ذلك هو الفن بالنسبة للهيولى. فمن الضروري كذلك وجود هذا التمييز في النفس؛ ذلك أننا نُميِّز في النفس العقل الشبيه بالهيولى من جهة؛ لأنه يُصبح جميع المعقولات. ومن جهة أخرى العقل الشبيه بالعلة الفاعلة؛ لأنه يُحدث جميع الأشياء؛ إذ إنه نوع من الوجود شبيه بالضوء؛ لأن الضوء يُحوِّل الألوان بالقوة إلى ألوان بالفعل.
وهذا العقل هو العقل المفارق اللامنفعل، الذي لا يشوبه شيء؛ لأنه في جوهره فعل؛ ذلك أن الفاعل أسمى دائمًا من المنفعل، والمبدأ أسمى من الهيولى. والعلم بالفعل متحد بموضوعه، وعلى العكس فإن العلم بالقوة متقدِّم في الفرد … فإذا فارق العقل أصبح بالضرورة خلاف ما كان، والعقل المفارق وحده هو الخالد الأولي (ومع ذلك فإننا لا نتذكَّر؛ لأن العقل الفعَّال لا منفعل، على حين أن العقل المنفعل فاسد)، ومن دون العقل الفعَّال لا شيء يُعقل.»
وهناك خلاف كبير بين المترجمين المحدثين على نص أرسطو؛ ومرجع هذا الخلاف إلى صعوبة النص واختصاره وتركيزه، ثم إلى اختلاف المفسِّرين القدماء مثل؛ الإسكندر، وثامسطيوس، وثاوفراسطس، وغيرهم. فإذا كان الأمر كذلك، فليس من الغريب أن ينحو الفارابي نحوًا خاصًّا في فهم نظرية العقل عند أرسطو، وليس من الغريب أن يفهمها غيره من الفلاسفة الإسلاميين على غير هذا النحو.
- (١)
انقسام العقل إلى عقلَين؛ المنفعل والفعَّال.
- (٢)
خلود العقل الفعَّال وفساد العقل المنفعل.
- (٣)
مفارقة العقل الفعَّال.
- (٤)
وحدة العقل الفعَّال.
- (٥)
اتصال العقل الفعَّال بالعقول الإنسانية.
ونتكلَّم الآن عن النقطة الأولى وهي أقسام العقل.
ومن الواضح في ترجمة النص السابق أن أرسطو يجعل العقل عقلَين؛ المنفعل والفعَّال. بينما الفارابي ومن جاء بعده مثل ابن سينا وابن رشد وغيرهما، يجعلون العقل على أربعة أنحاء، أو أربعة عقول.
وعند الفارابي أنها عقل بالقوة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعَّال. أمَّا ترتيب العقول وأسماؤها عند ابن سينا فهي مختلفة عنها عند الفارابي؛ فهي: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد.
وأول من تكلَّم من المفسِّرين في نظرية العقل وتوسَّع فيها هو الإسكندر الأفروديسي. وعنده أن العقل المنفعل، ويُسمَّى العقل المادي أو الهيولاني كما يُسمِّيه العرب، ليس فيه شيء بالفعل، بل كله بالقوة؛ وسبب ذلك أنه ليس شيئًا قبل أن يعقل، فإذا عقل اتحد بالموضوع. فالعقل الهيولاني ليس إلَّا الاستعداد لقَبول المعاني أو المعقولات، كالشمع الخالي من كل نقش.
هذا هو رأي الإسكندر الأفروديسي في كتاب النفس. والراجح، إن لم يكن من المؤكَّد، أن الفارابي أخذ عن الإسكندر لا عن أرسطو؛ لما بين كليهما من تشابه شديد.
فهذا التشبيه بالشمعة، مع التنبيه إلى ما بين الشمعة والعقل من فوارق، هو بذاته ما نصَّ عليه ونبَّه إليه الإسكندر كما رأينا.
وأخذ الفارابي هذا الرأي وسار معه إلى نهايته المنطقية، فجعل العقل بالقوة هو العقل قبل أن يحصل فيه شيء من المعقولات، أمَّا بعد انتزاع المعقولات فإنه يُصبح عقلًا بالفعل.
ذكرنا الخلاف بين الفارابي والمعلِّم الأول على تقسيم العقل؛ ذلك أن أرسطو يقول بعقلَين؛ المنفعل والفعال، بينما الفارابي يجعل العقول أربعة؛ العقل بالقوة، والعقل بالفعل، والعقل الفعَّال، والعقل المستفاد. ولا يتقيَّد الفارابي بهذه الأسماء إذ يقول في بعض مؤلَّفاته عن العقل بالقوة إنه الهيولاني، وعن العقل بالفعل إنه بالملكة. وحينئذٍ نرى أن تسمية ابن سينا للعقول ليست جديدة، بل مأخوذة من المعلِّم الثاني.
وننتقل الآن إلى الكلام على النقطة الثانية من موضوعنا وهي فساد العقل المنفعل، وخلود العقل الفعَّال في رأي أرسطو، ثم نرى رأي الفارابي في هذه المسألة.
ويحسن أن ننقُل إليك ما ذكره الفارابي عن هذا الشأن. قال: «ولهذا العقل مراتب؛ يكون مرةً عقلًا هيولانيًّا، ومرةً عقلًا بالملكة، ومرةً عقلًا مستفادًا. وهذه القوى التي تدرك المعقولات جوهر بسيط وليس بجسم، ولا يخرج من القوة إلى الفعل، ولا يصير عقلًا تامًّا إلَّا بسبب عقل مفارق وهو العقل الفعَّال الذي يُخرجه إلى الفعل … وهو مفارق للمادة يبقى بعد موت البدن، وليس فيه قَبول الفساد. وهو جوهر أحدي. وهو الإنسان على الحقيقة، وله قوًى تنبعث منه في الأعضاء. وظهوره من واهب الصور.»
ورأي الفارابي في هذه الفقرة السابقة التي نقلناها عن عيون المسائل، أوضح من رأيه في مقالة العقل. قال: «وأمَّا العقل الفعَّال الذي ذكره أرسطوطاليس في المقالة الثالثة من كتاب النفس، فهو صورة مفارقة لم تكن في مادة، ولا تكون أصلًا. وهو بنوع ما عقل بالفعل، قريب الشبه من العقل المستفاد.»
والفارابي في مقالة العقل أقرب إلى روح أرسطو، بينما رأيه في عيون المسائل ينقل عن الإسكندر الأفروديسي وغيره من المفسِّرين.
وعندما ذكرنا ترجمة نص كلام أرسطو في كتاب النفس وجدنا أنه يجعل العقل المنفعل فاسدًا، والفعَّال خالدًا.
ولا يفوتنا أن نذكر أن الفارابي يُسمِّي العقل بالقوة أو الهيولاني عقلًا منفعلًا كما سمَّاه أرسطو، وفي ذلك يقول في كتاب «آراء المدينة الفاضلة»: «ويُسمَّى العقلُ الهيولاني العقلَ المنفعل.»
ولا نستطيع أن نستخلص رأي الفارابي عن العقل الهيولاني أهو فاسد أم خالد؟ أمَّا رأيه في العقل الفعَّال فهو صريح إذ يقول: «وليس فيه قوة قَبول الفساد»، كما نص في عيون المسائل، غير أن قوله: «وهذه القوى التي تدرك المعقولات جوهر بسيط وليس بجسم»، يجعلنا نشعر أنه يعتقد بأن العقل الهيولاني أو المنفعل غير فاسد أيضًا.
ويزيد في اعتقادنا هذا أن الفارابي يفصل فصلًا تامًّا وتمييزًا واضحًا بين المحسوس والمعقول، أو المادة والروح. ولمَّا كانت المادة فاسدةً والروح خالدة، وليس العقل ماديًّا؛ فهو إذن خالد في شطرَيه المنفعل والفعَّال.
وإليك نصَّ ما ذكره بشأن الفصل بين المحسوس والمعقول:
«ليس من شأن المحسوس من حيث هو محسوس أن يعقل، ولا من شأن المعقول من حيث هو معقول أن يُحِس. ولن يستقيم الإحساس إلَّا بآلة جسمانية فيها تتشبَّح صور المحسوس تشبُّحًا مستصحبًا للواحق الغريبة. ولن يستقيم الإدراك العقلي بآلة جسمانية؛ فإن المتصوِّر فيها مخصوص، والعام المشترك فيه لا يتقرَّر في منقسم، بل الروح الإنسانية هي التي تتلقَّى المعقولات بقَبول جوهر غير جسماني، وليس بمتميُّز ولا بمتمكِّن، بل غير داخل في وهم، ولا يدرك بالحس؛ لأنه من حيز الأمر.»
غير أن للمسألة وجهًا آخر؛ ذلك أن العقل الهيولاني متصل بالفرد وليس مفارقًا، فهو يظهر بظهوره ويموت بموته، وفي هذه الحالة يكون العقل الهيولاني فاسدًا.
وندع هذه المسألة جانبًا وهي فساد العقل الهيولاني؛ لأن رأي الفارابي عنها غير صريح كما قدَّمنا، وننتقل إلى الكلام عن العقل المفارق وهو الفعَّال.
ومن الواضح أن الفارابي لم يأخذ في هذه المسألة برأي أرسطو، بل برأي المفسِّرين كما سنُبيِّن لك.
ذلك أن أرسطو لم يبسط رأيه بسطًا وافيًا شافيًا، أو واضحًا لا يقبل التأويل. يقول أرسطو: «لا يكون العقل عقلًا صحيحًا إلَّا حينما يُفارق.»
وقد اعتمد المفسِّرون على هذا الرأي الغامض المختصر، فوصلوا به إلى نهايته المنطقية المحتومة، فقالوا إنه لا يُفارق حينًا ويُفارق حينًا آخر، بل يُفارق في جميع الأحيان. وقالوا إنه يُفارقنا بمعنى أنه مِنا ثم يُفارقنا، بل هو جوهر ليس منا يفيض علينا من الخارج، فهو جوهر إلهي. وهذا العقل هو الذي يهدي الإنسان ويُضيء له المعقولات.
هذا هو تفسير الإسكندر وثامسطيوس وفيلوبون وسائر المفسِّرين اليونان، وجميع فلاسفة العرب دون استثناء.
فإن قيل: إن هذا المذهب لا يتلاءم مع مذهب المشَّائين وفلسفة أرسطو، قلنا: إن أرسطو لم يتحرَّج أن يأخذ من أصحاب الفلسفة السابقين عليه بعض الآراء وضمَّنها مذهبه العام. ونخص بالذكر بصدد العقل ما أثبته لأنكساجوراس، دون أن يعني أرسطو بالالتفات إلى مناقضة رأي أنكساجوراس للمذهب العام الأرسطوطاليسي.
فهذه الثغرة التي فتحها أرسطو في فلسفته، يُضاف إليها نزعة المفسِّرين الدينية، هي التي أوحت إليهم أن يأخذوا من أرسطو ما قاله عن مفارقة العقل، ثم يُؤلِّفوا نظريةً تتلاءم مع رأيهم في الدين.
أمَّا قول الفارابي: إن العقل الفعَّال «جوهر أحَديٌّ وهو الإنسان على الحقيقة، وظهوره من واهب الصور»، فمأخوذ عن المفسِّرين لا عن أرسطو.
وكذلك قوله في «فصوص الحكم»: «الروح الإنسانية هي التي تتمكَّن من تصوُّر المعنى بحَدِّه وحقيقته … وذلك بقوة لها تُسمَّى العقل النظري. وهذه الروح كمرآة، وهذا العقل النظري كصقالها. وهذه المعقولات ترتسم فيها من الفيض الإلهي، كما ترتسم الأشباح في المرايا الصقلية إذا لم يُفسِد صقالها طبع.»
وقال في موضع آخر: «الحس تصرُّفه فيما هو من عالم الخلق، والعقل تصرُّفه فيما هو من عالم الأمر، وما هو فوق الخلق والأمر فهو محتجب عن الحس والعقل، ليس حجابه غير انكشافه.»
قال رينان في كتابه عن ابن رشد وفلسفته: «إن الإسكندر الأفروديسي هو أول وأعظم المفسِّرين لنظرية العقل التي وردت في الجزء الثالث من كتاب النفس لأرسطو. ويتضح من كلام ثامسطيوس أن جدلًا طويلًا شاع في بدء القرون الوسطى حول هذه النظرية. وعندهما أن العقل المفارق خارج عن الإنسان، وأنه واحد في أصله؛ أي الله، وأنه كثير بكثرة الأفراد الذين يشتركون فيه، كالأشعة الكثيرة التي تفيض عن الشمس.»
فهذا كله يُؤيد ما ذكرناه من أن الفارابي أخذ عن المفسِّرين في مفارقة العقل ووحدته. ونذكر بعد ذلك رأيه في الاتصال.
إذا كان الفارابي أمينًا إلى حدٍّ ما في نقْل ما ذكره المعلِّم الأول عن انقسام العقل إلى منفعل وفعَّال، ثم الكلام عن خلود العقل الفعَّال وفساد المنفعل، ومفارقة العقل، فإن الفارابي لم يكن متفقًا مع أرسطو في الرأي عن وحدة العقل والاتصال، شأنه في ذلك شأن سائر المفسِّرين لزعيم المشَّائين.
واتصال عقولنا بالعقل الفعَّال يفرض حتمًا وجود العقل الفعَّال خارج العقول الإنسانية من جهة، ثم سعي العقول الإنسانية للاتصال به من جهة أخرى. ومجموع هذَين الرأيَين منقول عن الأفلاطونية الحديثة، وعن الإسكندر الأفروديسي؛ لأن الرأي القائل بالفيض والاتصال، كلاهما بعيد عن فلسفة المشَّائين، وعن نصوص أرسطو.
والقول بالاتصال يتلاءم كل الملاءمة مع الفلسفة العامة للفارابي، التي لا بد من فهمها أولًا؛ لفهم المسائل الجزئية التي تُعرض بعد ذلك. ولكل فيلسوف مذهب عام، كامل البناء، تترتَّب فيه مسائل الوجود في انسجام. وإذا أردت أن تشهد البناء الكامل لمذهب الفارابي في الفلسفة، فعليك أن تقرأ كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة»، التي بدأها بالقول في الله وصفاته، وأنه سبب الموجودات، ثم انتقل إلى الكلام عن الملائكة، وضرورة الاعتقاد فيها، والأجرام السماوية وتدبير الأفلاك، ثم انتقل إلى الأجسام الهيولانية، والمادة والصورة، وفي ترتيب الموجودات الأرضية، حتى يصل إلى الإنسان وهو أشرفها وأرقاها. ثم يتحدَّث عن قوى النفس والعقل والتخيُّل، والرؤيا الصادقة والوحي. ويختم كلامه برأيه في المجتمع والمدينة الفاضلة وشروطها.
هذا التصوير السريع لمذهب الفارابي ضروري لسببَين؛ الأول: لأن العقل يصدر عن الله، «وهو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها». والثاني: أن الله هو الغاية التي يجب أن يتطلَّع كل إنسان لمعرفته، ومعرفتنا له تعالى لا تتم بالمادة ووسائلها، بل بالروح أو العقل. وكلما ابتعد الإنسان عن علائق المادة اقترب من الله. وهذا هو أول طريق للاتصال؛ «إذ كلما قربت جواهرنا منه؛ كانت تصوُّراتنا له أتمَّ وأيقن وأصدق. وذلك أنا كلما كنا أقرب إلى مفارقة المادة؛ كان تصوُّرنا له أتم. وإنما نصير أقرب إليه بأن نصير عقلًا بالفعل. وإذا فارقنا المادة على التمام؛ يصير المعقول منه في أذهاننا أكمل ما يكون.»
هذا الكلام السابق شديد الشبه بالصوفية وكلامهم، والفارابي صوفي حقًّا في كثير من مواضع كتبه، خصوصًا في «فصوص الحكم» وعيون المسائل، حيث يستعمل اصطلاحات المتصوِّفة ولغتهم، وطريقتهم في الأداء والتفكير. وقد مرَّ بنا عند ذكر حياته أنه لمَّا ذهب إلى سيف الدولة أقام عنده بزي التصوُّف.
على أي نحو يكون هذا الضرب من الاتصال؟ لا نستطيع أن نجد عند الفارابي جوابًا شافيًا. ولكن لعلنا نلتمس من ذلك شيئًا فيما ذكره عن الرؤيا والوحي.