السببية بين الغزالي وابن رشد
هذه قضية خطيرة حقًّا كان لها أعظم الأثر في حياة المسلمين، ومستقبل حضارتهم؛ إذ عليها تتوقَّف الأُسس التي تقوم عليها العلوم المختلفة، فيتسنَّى بذلك أن يرسم الطريق الذي يسلكه العلماء في بحوثهم المختلفة، ويمضون فيه، فيجدونه مفتوحًا أمامهم مُذَلَّلًا، مُؤديًا إلى أهدافٍ يمكن تحقيقها، أو ينصرفون عنه لأنه طريق وعر شائك مملوء بالعقبات التي تصدُّهم عن البحث، وتلويهم عن النظر إلى الظواهر الطبيعية التي تُؤلِّف بنيان العلم.
فإن سلَّمنا بوجود أُسس يقوم عليها أمكن التقدُّم العلمي، وإن أنكرنا هذه الأُسس وقف العلم عن التقدُّم.
ولقد أخذ المسلمون بالرأي الذي يُنكر على العلم أُسسه؛ فكان ذلك علة التأخُّر في ميدان العلوم، وأخذت أوروبا بالوجهة الأخرى من النظر؛ فسار العلم شوطًا بعيدًا في سبيل التقدُّم، ممَّا نلمس أثره الآن.
وكان على رأس المهاجمين للعلم أبو حامد الغزالي المتوفَّى ٥٠٥ هجرية، الذي ألَّف كتاب «تهافت الفلاسفة» يعترض فيه على الفلاسفة والمتكلِّمين، ويُبيِّن فساد آرائهم جملةً وتفصيلًا، ويُبطل قولهم بقدم العالم وأبديته، وأبدية الزمان والحركة، والقول بأن الله لا يعلم الجزئيات، والقول بضرورة الأسباب والمسببات، وغير ذلك من المسائل.
ولم يسكت الفلاسفة على هذه الدعاوى، فكتب ابن رشد فيلسوف قرطبة المتوفَّى ٥٩٥ هجرية كتاب «تهافت التهافت»، يقرع الحجة فيه بالحجة، والدليل بالدليل.
وكان الجمهور هو القاضي أو الحكم في هذه الخصومة الفلسفية، فانتصر للغزالي، وخلع عليه لقب حجة الإسلام. وغضب ابن رشد، واتُّهمَ بالكفر والزندقة، وحُرقت كتبه. ولسنا نتعرَّض لأسباب هذا الاضطهاد ففيه أقوال كثيرة مذكورة في التاريخ، ولكننا نُرجِّح أن ميول العامة كانت تُعارض الفلاسفة عمومًا، وتسخط على ابن رشد على وجه الخصوص.
وتُرجمت كتب ابن رشد إلى اللاتينية، وظلَّت آراؤه تُدرَّس في جامعات أوروبا حتى القرن السادس عشر الميلادي، بل أبعد من هذا.
لقد اصطَفت الحضارة الأوروبية آراء ابن رشد الفيلسوف في العلم، فنهضت نهضتها العلمية التي نشهد ثمرتها في العصر الحاضر، وسار المسلمون وراء الغزالي فتأخَّروا علميًّا ممَّا هو واقع أمام بصرنا.
وإذا كان المسلمون خاصتهم وعامتهم قد اقتنعوا بأدلة الغزالي، فلهم أعذار كثيرة؛ فالغزالي من أئمة الجدل دون نزاع، برع في المناظرة، ورسخت قدمه في المنطق، وملك عِنان الموضوع الذي يُجادل فيه الخصوم، وهو لا يُخاطب العقل وحده، بل يتجه إلى القلب فيلعب على أوتار العاطفة الدينية، وهي أقوى العواطف في ذلك العصر الذي كان الدين آخذًا فيه بالقلوب في كل ناحية من نواحي الحياة. وإلى جانب ذلك نجد أنه يُحسن عرض الموضوع ويضرب الأمثلة الكثيرة المنوَّعة، ويتخذ في الكتاب أسلوبًا بسيطًا يفهمه صاحب الثقافة اليسيرة.
وموضوع النزاع هو الأسباب والمسبَّبات؛ هل بينهما صلة ضرورية حتى إذا ما وُجد السبب نشأ عنه المسبَّب بالضرورة، أم أن هذه الصلة غير ضرورية؟ ويرى الغزالي أن هذه الصلة غير ضرورية، وفي ذلك يقول: «فليس من ضرورةِ وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل: الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهِّل، وهلم جرَّا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف.»
فأنت ترى أنه ينفي مبدأ السببية، ويسوق لذلك مثالًا بعد مثال من المشاهدات العامة ليُؤكِّد المسألة تأكيدًا لا يقبل الشك. ولكن هذا النفي الحاسم لا يضطرب له جَنان ابن رشد الذي يُبادر فيقول: «أمَّا إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تُشاهد في المحسوسات فقول سفسطائي، والمتكلِّم بذلك إمَّا جاحد بلسانه لما في جَنانه، وإمَّا منقاد لشبهة سفسطائية.»
فالغزالي وابن رشد على طرفَي نقيض؛ الأول يُنكر مبدأ العلية، ويُنكر أن المسبَّبات مستمدَّة من الأسباب، والثاني يُقرِّر هذا المبدأ أو يُثبته.
(١) سخرية الفلاسفة ورد الغزالي
ولمَّا رأى الفلاسفة إنكار الخصوم للمشاهدات المحسوسة، ردُّوا عليهم ساخرين؛ إذ متى انعدمت الصلة الطبيعية الضرورية بين الأشياء، لم تثبت على حال، وجاز أن يقع كل شيء. ومن وضع كتابًا في بيته فمن الجائز أن يكون قد انقلب غلامًا، أو ترك غلامًا في بيته فليُجوِّز انقلابه كلبًا، أو ترك الرماد فليُجوِّز انقلابه مِسكًا، وانقلاب الحجر ذهبًا والذهب حجرًا. وإذا سُئل أحد عن شيء من هذا فينبغي أن يقول لا أدري ما في البيت الآن؟ وإنما القدر الذي أعلمه أني تركت في البيت كتابًا ولعله الآن فرس، أو أني تركت في البيت جرةً من الماء ولعلَّها انقلبت شجرة تفاح.
فماذا كان رد الغزالي على هذه السخرية؟
قال: لم ندَّعِ أن هذه الأمور واجبة، بل هي ممكنة، يجوز أن تقع، ويجوز ألَّا تقع. واستمرار العادة بها مرةً بعد أخرى ترسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية ترسُّخًا لا تنفك عنه.
وأجاب ابن رشد: ما أدري ما يُريدون باسم العادة، هل يُريدون أنها عادة الفاعل، أو عادة الموجودات، أو عادتنا عند الحكم على هذه الموجودات؟ ومحال أن يكون لله تعالى عادة؛ فإن العادة: ملكة يكتسبها الفاعل تُوجب تكرار الفعل منه على الأكثر. والله تعالى يقول: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (الفتح: ٢٣). وإن أرادوا أنها عادة الموجودات، فالعادة لا تكون إلَّا لذي نفس. وإن كانت في غير ذي نفس فهي في الحقيقة طبيعية … وأمَّا أن يكون عادةً لنا في الحكم على الموجودات فإن هذه العادة ليست شيئًا أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلًا.
(٢) الله هو الفاعل
ثم اختار الغزالي مثال النار والاحتراق وناقشه قائلًا: إن الخصم يدَّعي أن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار، فلا يُمكنه الكف عمَّا هو طبعه. ولكن هذا غير صحيح؛ إذ إن فاعل الاحتراق هو الله تعالى بواسطة الملائكة أو بغير واسطة، وأمَّا النار فهي جماد لا فعل لها. وليس للفلاسفة من دليل على قولهم إلَّا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به.
وهو رأي جميع الذين يردُّون كل شيء إلى الله، لا رأي الغزالي و«مالبرانش» وحدهما.
ونعود إلى الجدل بين الغزالي وابن رشد. فقد أنكر الفلاسفة وقوع سيدنا إبراهيم — عليه السلام — في النار مع عدم الاحتراق وبقاء النار نارًا، وزعموا أن ذلك لا يمكن إلَّا بسلب الحرارة منا لنار، أو بانقلاب ذات إبراهيم وبدنه حجرًا، أو شيئًا لا تُؤثِّر فيه النار. ويرد الغزالي عليهم بأن صفة الإحراق في النار غير ضرورية بل ممكنة، كما أن في مقدورات الله تعالى غرائب وعجائب، ونحن لم نُشاهد جميعها، فلا ينبغي أن نُنكر إمكانها، ونحكم باستحالتها.
ويبدو أن التعرُّض للإلهيات كان مثارًا لخوف شديد من جانب الفلاسفة؛ إذ تكفي تهمة الزندقة، أو إنكار ما جاء في الشرع، كي توقع بصاحبها شرًّا عظيمًا. لهذا السبب بادر ابن رشد بنفي هذه التهمة بما يُفصح عن الخوف الكامن في نفسه من نسبة الكفر إليه، وهذا ما يُرجِّح عندنا أن محنته كانت لهذا السبب دون غيره، فقال يرد على الغزالي: «أمَّا ما نسبه من الاعتراض على معجزة إبراهيم — عليه السلام — فشيء لم يقله إلَّا الزنادقة من أهل الإسلام، فإن الحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلُّم ولا الجدل في مبادئ الشرع. وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد.»
(٣) معجزة النبي
ولعل الغزالي كان مضطرًّا إلى فسح المجال للممكنات، ونفي ضرورة الظواهر الطبيعية؛ ليتسنَّى له تفسير معجزات الأنبياء تفسيرًا يتلاءم مع المذهب الذي يتصوَّره. وحاصل هذا المذهب أن الظواهر الطبيعية ليست ثابتةً بحيث يمكن القول بوجود الأسباب والمسبَّبات، بل هي ممكنة، وقد تتغيَّر، والله تعالى هو الذي يُغيِّرها، وفي مقدورات الله أن يُدبِّر المادة بما ليس معهودًا لنا. ولمَّا كانت نفس النبي من الصفاء والاتصال بحيث يطَّلع على الممكن من الغيب، ووقعت المعجزة، مثل جواز نزول الأمطار، والصواعق، وتزلزل الأرض، بقوة نفس النبي.
بل أكثر من ذلك، فإن في مبادئ الاستعدادات غرائب وعجائب لم نشهدها ولم نعرفها، ولهذا توصَّل أرباب الطلسمات، بمعونة الطوالع ومزج القوى السماوية بالخواص المعدِنية؛ أي يمزج علم خواص الجواهر المعدِنية وعلم النجوم، إلى إحداث أمور غريبة في العلم، «فربما دفعوا الحية والعقرب عن بلد إلى غير ذلك». ومن استقرأ عجائب العلوم لم يستبعد من قدرة الله ما يُحكى من معجزات الأنبياء بحال من الأحوال.
وأظنك في غير حاجة إلى معرفة الجوانب الذي سوف يُدلي به ابن رشد عن هذه المسألة الجديدة، فقد سبق أن أجاب عنها حين تعرَّض لمعجزة إبراهيم، وهو أن الكلام في المعجزات ليس فيه للحكماء من الفلاسفة قول. غير أن ابن رشد بعد سَوق هذه المقدمة التي يُدافع فيها عن نفسه وعن الفلاسفة، ما عدا ابن سينا الذي يُثبت له الكلام في المعجزات على النحو الذي يحكيه الغزالي، عاد إلى تعليل المعجزة بأنها مستحيلة على سائر الناس، ممكنة للنبي؛ لأنه يأتي بالخوارق. ومعنى ذلك أن الأشياء الطبيعية متصلة اتصالًا ضروريًّا مع استثناء الخوارق للعادات، وعلينا تصديقها بالتسليم. ومع ذلك فمعجزة المعجزات، وهو كتاب الله العزيز، ليس معجزًا وخارقًا من طريق السماع، كانقلاب العصا حية، بل ثبت كونه معجزًا بطريق الحس والاعتبار لكل إنسان وُجد ويوجد إلى يوم القيامة؛ وبهذا فاقت هذه المعجزة سائر المعجزات.
(٤) الطبيعة والعقل والله
يتصوَّر ابن رشد أن الأشياء الطبيعية متصلة بعضها ببعض اتصالًا ضروريًّا بأسباب محسوسة مشاهدة، وأن الأسباب فاعلة، والمسبَّبات منفعلة. والدليل على ذلك أن لكل موجود فعلًا يخصه؛ لأن له طبيعةً تخصه. ومعرفتها بهذه الطبيعة وهذا الفعل هو الذي يسمح لنا أن نُطلق على كل شيء اسمًا واحدًا يخصه. ولو لم يكن لكل شيء اسم يخصُّه لكانت الأشياء كلها شيئًا واحدًا، أو لا شيء. وإذن فإطلاق الأسماء على الأشياء إنما نشأ من وجود طبيعة واحدة ثابتة تخصها، ولكل طبيعة فعل خاص. فما دام اسم النار باقيًا لها وحدها، فليس ما يوجب أن نسلبها صفة الإحراق، وإلَّا فلْنطلق عليها اسمًا آخر.
والعقل هو الذي يُدرك أسباب الموجودات الطبيعية، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل. وإذا رُفِعَ العقل، ورُفعت الأسباب والمسبَّبات؛ فقد بطل العلم؛ إذ لن يكون هناك شيء معلوم علمًا حقيقيًّا، بل ظني فقط.
هل يُريد ابن رشد أن يقول إن الفاعل الحقيقي، والسبب في إحداث الأشياء، العقل أم الأشياء الطبيعية؟
أعتقد أنني لا أعدو الصواب حين أُقر أن رأي ابن رشد هو العقل لا الطبيعة؛ فقد ناقش هذه المسألة بصدد ما يقولونه عن جريان الأشياء بالعادة، وأنكر أن تكون عادة الله؛ لأن العادة ملكة مكتسبة، وأنكر أن يكون للطبيعة عادة لأنها لا تكون إلَّا لذي نفس، بقي أن تكون هذه العادة عادتنا في الحكم على الموجودات، وليست هي «شيئًا آخر أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلًا».
ويذكر ابن رشد أنه يتفق مع سائر الحكماء في أن الموجودات المحسوسة، ولو أنها فاعلة بعضها في بعض، إلَّا أنها ليست مكتفيةً بأنفسها في هذا الفاعل، بل تحتاج إلى فاعل عنها، فِعله شرطٌ في فعلها. وقد اتفق الحكماء كما يقول ابن رشد على أن الفاعل الأول بريء عن المادة، وأن فعله شرط في وجود الموجودات وفي وجود أفعالها. وظاهر أن ابن رشد يُريد أن يقول: إن هذا الفاعل الخارج عن المادة هو العقل.
والله هو واهب العقل، وعنده علم أزلي بطبائع الأشياء، فيستطيع أن يعلم منذ الأزل بما سوف يقع؛ لأن للموجودات طبائع ثابتة.
وطبيعة الموجودات تابعة للعلم الأزلي. وعلم الخالق هو السبب في حصول تلك الطبيعة للمخلوق، وليس الوقوف على الغيب شيئًا أكثر من الاطلاع على هذه الطبيعة.
(٥) نقد هيوم وكانط
وقد يبدو لك أن هذه المناقشات الطويلة بين الغزالي وابن رشد عقيمة، ما كان ينبغي أن يصرف فيها العقلاء وقتهم دون جدوى. غير أن هيوم في القرن الثامن عشر الميلادي؛ أي بعد وفاة ابن رشد بستة قرون، تناول هذا الموضوع نفسه، وأفاض فيه، بما لا يخرج عمَّا كتبه الغزالي وابن رشد ولكن بشكل آخر. ذلك أن هيوم ينظر إلى المسألة محلِّلًا العناصر التي يتألَّف منها عقلنا خاصًّا بمبدأ السببية؛ أي إنه ينقد العقل البشري، على حين أن الغزالي نظر إليها من وجهة نظر الدين، وابن رشد من وجهة نظر الفلسفة.
وقد كان لنقد هيوم الموجَّه إلى الدين والفلسفة جميعًا أعظم الأثر في حياة فيلسوف من أعظم فلاسفة القرن الثامن عشر خطرًا، قيل إنه أحدث انقلابًا في الفلسفة شبيهًا بالانقلاب الذي أحدثه كوبرنيق في علم الفلك، ونعني به كانط الذي قال: «لقد أيقظني هيوم من سُبات الاعتقادات.»
ويرى هيوم أن الحواس مصدر فكرة السببية وجميع الأفكار الأخرى؛ فالتجرِبة الحسية هي التي تُعلِّمنا أن كرة البلياردو حين تصطدم بِكرة أخرى تُحرِّكها وتدفعها إلى اتجاه مُعيَّن، ونحن لا نعرف بالفطرة أنها تتحرَّك، ولا نعرف اتجاه حركتها. وليس بين ما نُسمِّيه علة، وما نُسمِّيه معلولًا، أيُّ صِلة ضرورية توجد بالفطرة. كل ما نعرفه هو أن الأشياء تتتابع على نسق مُعيَّن؛ فنحن نرى الحرارة تُصاحب اللهب، ولكننا لا نعلم ما العلاقة بينهما. هل هذه العلاقة مستمدَّة من الأشياء الخارجية، أم مستمدة من التأمُّل الباطني لعمليات النفس؟ الواقع لا هذا ولا ذاك، بل معنى السببية لا يدل على شيء؛ فهو من الألفاظ الفلسفية التي اخترعناها وجرينا وراءها. وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن السببية عادة نشأت بتوالي النظر إلى شيئَين بينهما علاقة تتابُع دائمة.
ونظر كانط إلى المسألة من زاوية أخرى؛ إذ بدأ يُحلِّل العقل نفسه وما فيه من أحكام، والأحكام أساس التفكير. نقول: الحرارة تُمدِّد الأجسام، وهو حكم علمي؛ لأنه ضروري ينطبق على الماضي والحاضر والمستقبل.
بأي حق نُثبت أن هذه القضية ضرورية عامة صادقة في جميع الأحوال؟ هل هي التجرِبة التي تُعلمنا ذلك؟ ليست التجرِبة؛ لأنه من الجائز أن الحالات التي لم نُشاهدها تختلف عمَّا شاهدناه. فالتجرِبة وحدها لا تكفي في بناء العلم أو المعرفة العلمية.
ولكن تكون الأحكام ضرورية؛ أي علمية، يجب أن تستند إلى مبادئ عقلية أصولها موجودة في العقل كما هي موجودة في الحس بالمشاهدة. فالحواس تُقدِّم مادة الأحكام، والعقل يقوم بربطها، ويطبعها بطابعه، ويُضفي عليها من صورته.
في العقل عناصر يُضيفها إلى المعرفة الحسية التي يستقبلها من الخارج، فتكون كعصارة المعدة التي تختلط بالطعام لتهضمه.
هذه العناصر الفطرية التي يُنكرها الحِسيون، والتي يُحاول كانط في نقده للعقل الخالص أن يُبيِّن وجودها هي: المكان صورة الإحساسات الخارجية، والزمان صورة الإحساسات الداخلية.
وإذن فالحواس تُقدِّم لنا الأشياء في قالَبَين هما الزمان والمكان؛ ولذلك لا نعرف الأشياء في ذاتها، بل كما تبدو لنا خلال هذَين المنظارَين، وإليها يرجع مبدأ السببية العلمي.