خسوف المعنى
إن الثلج ليس تعبيرًا أو رمزًا. وهو ليس مجازًا للتعبير عن حقيقة أن السماء حزينة، حسبما نستطيع القول؛ إنه ليس محاولة لقول أي شيء، مثلما تخيل فيليب لاركن عن الربيع:
غير أن قول: «انظري هناك، إن الثلج يتساقط» يتضمن بعض المعاني بالفعل. فالثلج «ذو معنى» في إطار كونه جزءًا من عالم ملموس وواضح، عالم تؤسسه لغتنا وتفتح آفاقه. إنه ليس مجرد نوع من الألغاز العجيبة. ولن يكون غريبًا تمامًا أن يتساءل شخص ما لم يسبق له أن رأى الثلج: «ما معنى هذا؟» وعلى الرغم من أن الثلج ليس رمزًا لأي شيء، فقد يمكن اعتباره لفظًا دالًّا؛ فقد يدل على قدوم الشتاء. وبذا فهو ينتمي إلى منظومة جوية تديرها قوانين نستطيع فهمها. وقد نلاحظ أن هذا النوع من المعنى «متأصل» وليس «منسوبًا»؛ فالثلج يعني أن الشتاء قادم بغض النظر عن اعتقادنا بشأن ما يعنيه ذلك. كذلك يمكن «استخدام» حقيقة تساقط الثلوج كدال، والواقع أن هذا هو بالضبط ما يفعله توزنباخ، إذ يشير إلى الثلج (بشكل ساخر بما يكفي) كدلالة على انعدام المعنى. أو قد يتعجب شخص ما قائلًا: «انظر إلى الثلج؛ الشتاء قادم! من الأفضل لنا أن نتجه إلى موسكو»، مما يجعل الثلج ذا دلالة ضمن مشروع إنساني، وأساسًا لرسالة بين الأفراد. وفي جميع هذه الدلالات، لا يؤخذ تساقط الثلج على أنه مجرد انهمار للثلوج.
لعل توزنباخ يحاول الإيحاء بأن العالم سخيف ولا معقول. ولكن «اللامعقولية» تعد معنى كذلك؛ فالصياح: «ولكن هذا لا معقول»، يستثير احتمالية ما للفهم وإضفاء معنى متماسك. فاللامعقولية تصبح معقولة فقط في حالة مقارنتها بمثل هذه العملية من إضفاء المعنى، مثلما يصبح الشك منطقيًّا وذا معنى فقط في وجود خلفية من اليقين. وبإمكاننا الرد سريعًا على شخص يدعي أن الحياة بلا معنى بقول: «ما هذا الذي بلا معنى؟» ولا بد أن يكون رده مصاغًا في إطار المعاني. فعادة ما يتساءل الأشخاص الذين يتحرون عن معنى الحياة عن معنى كل مواقفها المتنوعة؛ ولما كان تحديد موقف في حد ذاته يحمل معنى، فلا يمكنهم أن يتحسروا لعدم وجود معنى على الإطلاق. وكما أن الشك في كل شيء يعد شيئًا بلا معنى، من الصعب كذلك أن تدرك كيف يمكن للحياة أن تكون تافهة ولا معقولة على طول الطريق. فقد تكون الحياة بلا جدوى على طول الخط — بمعنى أنها تفتقر إلى غاية أو هدف معين — ولكن لا يمكن أن تكون تافهة بمعنى كونها حمقاء ما لم يكن هناك منطق ما يمكننا به قياس تلك الحقيقة.
غير أن الحياة قد تكون تافهة مقارنة بمعنى اعتادت أن تكتسبه، أو تعتقد أنها طالما اكتسبته. ولعل من الأسباب التي جعلت أتباع الحداثة أمثال تشيكوف ينشغلون إلى هذا الحد بإمكانية انعدام المعنى أن حركة الحداثة قديمة بما يكفي لتذكر فترة ما كان المعنى فيها لا يزال وافرًا، أو هكذا كان يشاع على الأقل. لقد كان المعنى متواجدًا حتى عهد قريب بما يكفي بالنسبة لكل من تشيكوف، وكونراد، وكافكا، وبيكيت وزملائهم، مما جعلهم يشعرون بالذهول والإحباط من تضاؤله. ولا تزال الأعمال الفنية التي تنتمي إلى حركة الحداثة تطاردها ذكرى كون منهجي منظم، ومن ثم لديها من الحنين ما يكفي للشعور بخسوف المعنى باعتباره كربًا، أو فضيحة، أو حرمانًا لا يطاق. ولذا نجد مثل هذه الأعمال في أغلب الأحيان تتحول فجأة نحو فكرة من الغياب المحوري، أي فجوة غامضة أو فترة صمت تميز النقطة التي تسرب منها الفهم وإضفاء المعنى. فتجدنا نفكر في موسكو في مسرحية تشيكوف «الشقيقات الثلاث»، وقلب الظلام الأفريقي لدى كونراد، أو منارة فيرجينيا وولف الغامضة، أو كهوف مارابار الخاوية لدى إي إم فورستر، أو نقطة تي إس إليوت الثابتة من العالم المتحول، أو اللامواجهة في صميم مسرحية «أوليسيس» لجويس، أو جودو بطل بيكيت، أو جريمة جوزيف كيه المجهولة لدى كافكا. وفي خضم هذا التوتر بين الحاجة المستمرة للمعنى والإحساس المزعج بمراوغته، يمكن للحداثة أن تكون تراجيدية بحق.
أما حركة ما بعد الحداثة — في المقابل — فهي ليست قديمة بما يكفي لاسترجاع فترة تواجد فيها الحقيقة والمعنى والواقع، وتتعامل مع مثل هذه الأوهام والضلالات بجزع الشباب الفظ. فلا جدوى من الحسرة على أعماق لم يكن لها وجود مطلقًا. وحقيقة أنها تبدو أنها تلاشت لا تعني أن الحياة سطحية، إذ إنه لا يمكن أن يكون لديك أسطح إلا إذا كان لديك أعماق لتقارنها بها. إن معنى المعاني ليس أساسًا قويًّا، بل وهمًا طاغيًا ثقيل الوطأة. والحياة دون الحاجة لمثل هذه الضمانات تعني الحرية. ويمكنك أن تجادل بأنه بالفعل كان هناك يومًا ما سرديات كبرى (مثل الماركسية) كانت مماثلة لشيء واقعي، ولكننا تخلصنا منها؛ أو يمكنك أن تصر على أن هذه السرديات لم تكن طوال الوقت سوى وهمًا، ومن ثم لم يكن هناك شيء لنفقده مطلقًا. فإما أن العالم لم يعد قائمًا على قصة، أو أنه لم يكن كذلك من الأساس.
وعلى الرغم من سذاجة جزء كبير من فكر ما بعد الحداثة فيما يتعلق بهذه المسألة، هناك نقطة واحدة يحمل فيها دلالة بكل تأكيد. إن غثيان جان بول سارتر أو التحدي التراجيدي لألبير كامو، حين يواجه عالمًا من المفترض أنه بلا معنى، هو بحق جزء من المشكلة التي يعد إجابة لها. فليس من المحتمل أن تشعر بأن العالم عديم القيمة إلى حد الغثيان — في مقابل انعدام قيمته بشكل عادي قبل ذلك — إلا إذا كان لديك له توقعات مبالغ فيها من الأساس. إن كامو وسارتر — إن جاز التعبير — متقدمان في السن بما يكفي لتذكر فترة كان العالم يبدو فيها ذا معنى؛ ولكن إذا كانا يعتقدان أن هذا كان وهمًا حتى في ذلك الوقت، فما الذي فُقِد تحديدًا باختفائه؟ ربما لا يكون للحياة هدف متأصل فيها، ولكن هذا لا يعني أنها عقيمة وبلا جدوى. فالعدمي هو مجرد ميتافيزيقي تحرر من الأوهام. والخوف هو الجانب الآخر للإيمان. والأمر نفسه ينطبق على الرومان الكاثوليك المرتدين، الذين يميلون للتحول إلى ملحدين بشكل محض بدلًا من أن يكونوا أنجليكيين متمسكين بالتقاليد والطقوس. وهذا يعزى فقط إلى أنك قد تخيلت خطأً أن العالم يمكن أن يكون بشكل ما ذا معنى في جوهره — وهي فكرة تراها حركة ما بعد الحداثة بلا معنى — وهو ما تسبب في تدميرك حين وجدت أنه ليس كذلك.
من الممكن اعتبار أن أعمال صمويل بيكيت قد انحصرت في مكان ما بين قضايا الحداثة وقضايا ما بعد الحداثة. ففي إدراكه للمراوغة المفرطة للمعنى (إذ أشار ذات مرة إلى أن كلمته المفضلة هي «ربما»)، يعتبر بيكيت حداثيًّا كلاسيكيًّا. فكتاباته محبوكة من البداية للنهاية بإدراك لوقتية المعنى، مدركًا — وهذا من المفارقات — أنه ربما لم يكن له وجود من الأساس. وهذا هو ما يجعله يبدو موجودًا بشكل سطحي «فحسب»؛ فهو يحوم بشكل محفوف بالمخاطر على حافة الصياغة اللفظية، قبل أن يهوي بلا مبالاة بعيدًا إلى ظلام يفتقر إلى الكلمات. إنه واهٍ ومتسق مع حقيقة كونه مُدرَكًا بالكاد. فالمعنى يتوهج ويضمحل، ويمحو نفسه بمجرد ظهوره تقريبًا. فتجد قصة بلا هدف تشق طريقها بصعوبة نحو السطح، فقط لتُجهَض في منتصفها لصالح قصة أخرى على القدر نفسه من العبث. ولا يوجد حتى ما يكفي من المعنى لإطلاق تسمية على الخطب الذي بنا.
إن كل شيء في عالم ما بعد معسكر الأوشفيتز غامض وغير محدد. فكل مقترح هو فرضية تجريبية، ومن الصعب التأكد ما إذا كان أي شيء يحدث أم لا؛ فماذا في هذا العالم يعتد به كحدث؟ هل انتظار جودو يعد حدثًا، أم إرجاء لحدث؟ إن فعل الانتظار ذاته يندرج تحت اللاشيء؛ فهو بمثابة تأجيل أبدي للمعنى، أو ترقب للمستقبل الذي يعتبر أيضًا أسلوب حياة في الحاضر، وهو ما يشير إلى أن عيش الحياة يعني أن ترجئ أو تعلق الوصول إلى معنى نهائي؛ وعلى الرغم من أن فعل تأجيل المعنى يجعل من الصعب تحمل الحياة، فقد يكون هذا أيضًا هو ما يجعلها تستمر. كيف لك — في عالم تتسم فيه عملية تحديد المعنى بهذا القدر من الوهن والتمزق — أن تدرك مثل هذا المعنى المتألق؟ لعل شخصيتا فلاديمير واستراجون في «في انتظار جودو» قد فشلا في إدراكه بالفعل؛ ربما كان بوزو في حقيقة الأمر هو جودو (لعلهم قد أخطئوا سماع الاسم) ولا يدركان ذلك. أو ربما أن كل هذا التجمد المؤلم والهزلي للزمن هو تعبير عن قدوم جودو، مثلما يشير خواء التاريخ بالنسبة للفيلسوف والتر بنجامين بنوع من الإنكار والرفض إلى الوصول الوشيك للمسيح. ربما سيكون وصول جودو تحررًا صحيًّا من الوهم، بما يوحي بأنه لم يكن هناك حاجة إليه من الأساس؛ أنه لم يكن هناك شيء جلل واحد يصرخ من أجل الخلاص، ولكن هذا الاعتقاد في حد ذاته جزء من وعينا الزائف. وقد يكون ذلك مقاربًا لرؤية والتر بنجامين للمسيح الذي سيغير العالم، ولكنه سيفعل ذلك بإحداث تعديلات ثانوية بسيطة.
إذا كان العالم مبهمًا، فإن اليأس غير ممكن. فواقع غامض لا بد بالتأكيد أن يترك مجالًا للأمل. ولعل ذلك أحد أسباب عدم إقدام المتشردين (ولكن من قال إنهم متشردون؟) على قتل أنفسهم. فلا وجود للموت في أدب بيكيت، فقط عملية لا تنتهي من الانحدار والتدهور الجسدي؛ من تيبس الأطراف، وتشقق الجلد، وتشوش مقلة العين، وثقل السمع، وهو تدهور يبدو أنه سيستمر للأبد على الأرجح. ويبدو أن غياب جودو قد غمر الحياة في حالة من الغموض المتطرف، ولكن هذا يعني أنه لا يوجد تأكيد على أنه لن يأتي. فإذا كان كل شيء مبهم وغامض، فلا بد أن هذا يسري أيضًا على معرفتنا به، وفي هذه الحالة لا يمكننا استبعاد احتمالية وجود حبكة سرية وراء كل ذلك. حتى الكآبة لا يمكن أن تكون مطلقة في عالم بلا ثوابت مطلقة. فيبدو أنه لا يمكن أن يكون هناك خلاص في عالم من هذا النوع، رغم أنه يبدو لنا أنه المكان الذي قد لا تزال فيه فكرة الخلاص فكرة منطقية ذات معنى؛ ولكن في هذه الحالة قد لا توجد حاجة مطلقة إليها أيضًا. وعلى أية حال، من ذا الذي يمكن أن يقول إن هذا المشهد من التشوهات والإعاقات وأجزاء الجسم الخالية من الشعر — إذا شوهد من منظور مختلف كلية — ليس تأرجحًا على حافة التغيير؟
باختصار، يبدو ذلك مستبعدًا إلى حد كبير. غير أن حقيقة أن لا شيء في أدب بيكيت محدد ونهائي، وأن كل دال منقوص ينقلنا إلى ما يليه، لا يمكن اعتبارها رمزًا لرغبة فحسب، بل رمزًا لمعنى. فالمعنى أيضًا عملية منقوصة بشكل لا نهائي؛ انتقال من دلالة إلى أخرى دون خوف من الوصول لنهاية أو أمل في ذلك. يمكننا أن نكون واثقين من شيء واحد على الأقل بشأن أي معنى، وهو أن هناك دائمًا المزيد من المعاني حيثما ينبثق ذلك المعنى. فلم يكن من الممكن منطقيًّا أن يكون هناك معنى نهائي يضع نهاية لعملية التفسير والتأويل، نظرًا لأن ذلك المعنى سيحتاج إلى تفسير. ولما لم يكن للدلالات معنى إلا في إطار الدلالات الأخرى، فلم يكن من الممكن أن يكون هناك دلالة كبرى واحدة نهائية مثلما لم يكن من الممكن أن يكون هناك عدد واحد أو شخص واحد في العالم.
في عالم بيكيت، تعني حقيقة أن هناك دومًا مزيدًا من المعاني من حيث يأتي المعنى مزيدًا من المعاناة بشكل عام. غير أن تقهقر فكرة المعنى المطلق توفر نوعًا من التمكين أيضًا، إذ إنها تخلق المساحة التي يمكننا البقاء فيها من لحظة للحظة. صحيح أن البقاء والازدهار يتطلبان ضمانات أكثر من تلك المتاحة في عالم بيكيت المستنزف؛ إلا أن الضمانات الأقوى من اللازم تميل لإعاقة ازدهارنا أيضًا. وقد كانت كلمة «ربما» — من بين أشياء أخرى — هي استجابة بيكيت للسيطرة الفاشية التي حارب ضدها بمنتهى الشجاعة، بوصفه أحد أفراد المقاومة الفرنسية. فإذا كان صحيحًا أننا بحاجة لدرجة من اليقين للمضي في طريقنا، يصبح صحيحًا أيضًا أن القدر المبالغ فيه من اليقين يمكن أن يكون مهلكًا. في الوقت نفسه، هناك شيء يبدو أنه لا يمكن القضاء عليه يستمر في الحدوث ولكنه يتميز بكل ما تتمتع به عملية الهضم من رتابة وافتقار إلى المرونة وعدم تمييز.
ويعد تبخر فكرة المعنى الثابت أحد الأسباب وراء صعوبة وصف أعمال بيكيت بالتراجيدية، إذ تبدو غير محددة بشكل يتعذر معه وصفها بهذا الوصف. ثمة سبب آخر يتمثل في تفاهتها البالغة، وأسلوبها الأيرلندي الساخر الذي يميل لفضح الزيف وبث الإحباط. إنه نوع من الأدب المضاد، الذي يقوض لغة الإنجاز المُسكرة. إنها كتابات تحتفظ بميثاق اتفاق سري مع الفشل؛ مع تلك المسألة المرهقة والمضجرة الخاصة بالبقاء بلا هدف. إن شخصيات بيكيت الإنسانية المفرغة من الداخل والفاقدة للذاكرة لا ترقى حتى لمنزلة الأبطال التراجيديين، والتي كانت لتصبح على الأقل دلالة ثابتة من نوع أو آخر. إنها حتى ليست على قدر كاف من التنظيم لكي تعدم نفسها. فنحن في حضرة مسرحية هزلية متدنية أو كرنفالية سوداء وليست دراما مرتفعة المستوى. وكما هو الحال مع الحرب العالمية الثانية، فإن الغلو هو السمة السائدة. فيبدو أننا لا نستطيع حتى أن ننسب معاناتنا لأنفسنا، إذ إن الفاعل الإنساني قد انهار داخليًّا مع التاريخ الذي ينتمي إليه. ولكي ننسب ذكرى أو تجربة لهذا الفاعل الإنساني دون غيره، فإن ذلك يتطلب درجة من الثقة والتأكيد لم يعد من السهل الحصول عليها.
والقليل جدًّا من كتابات بيكيت هو ما يتسم بالثبات أو التناغم الذاتي؛ وحينئذ يكمن اللغز في كيف يمكن للأمور أن تكون متقلبة ومؤلمة بشكل مستمر في الوقت ذاته إلى هذا الحد. غير أن المفارقة في أعماله هي احتفاظها بحنينها إلى الحقيقة والمعنى، على الرغم من وجود موضع عميق في منتصفها لا يشغله سوى المعنى. والوجه الآخر للمراوغة والغموض هو إخلاص بيكيت الرهباني للدقة، وللحركة المدرسية العقلية الأيرلندية. وما يبدو غريبًا بشأن كتاباته هو أسلوبها المتفلسف الذي لا يحوي سوى قشور وبقايا من المعنى، ونقشها الدقيق للخواء المحض، ومحاولتها الثاقبة إلى حد الجنون لاستيعاب ما هو عصي على الوصف. فَفَنُّهُ يأخذ مجموعة من المسلَّمات، وبأسلوب شبه بنيوي يدعها تمر بتعديلاتها الميكانيكية المتنوعة، إلى أن تُستنفد العملية بالكامل ويتولى الأمر مجموعة أخرى من التعديلات على نفس القدر من انعدام المعنى. وهناك أعمال درامية كاملة تصنع من إعادة ترتيب نفس البقايا والقصاصات القليلة. ربما يكون عالم بيكيت محيرًّا وغامضًا، ولكن أسلوب معالجته له أسلوب توضيحي محايد. فتتقلص لغته إلى حد التقشف عند النقاط غير الجوهرية، إذ تتضاءل وتتقطع إلى أبعد حد، وتظهر عداءً بروتستانتيًّا لكل ما هو زخرفي وغير ضروري. وربما يكون الزهد في الكلمات هو أقرب ما يمكن للحقيقة. فالقارئ يوجه إلى الفكرة بشكل أكثر رداءة، ولكن بمزيد من الصدق. وما يلفت انتباهنا هو التدقيق البالغ الذي ينسج به الهراء واللغو في أعماله، والمنطق الصارم الذي تتعامل به في التلميحات والسخافات. ربما تكون مواد بيكيت خامًا وعشوائية، ولكن معالجته لها تتبع أسلوبًا معينًا بشكل ساخر، بتأنق أشبه بخطوات الباليه واقتصاد في استخدام الإشارات والرموز. يبدو الأمر كما لو كانت المنظومة الشكلية للحقيقة، والمنطق، والعقل بأكملها تظل كما هي دون مساس، على الرغم من أن محتوياتها قد تسربت.
ومن منطلق هذا المنظور «ما بعد الحداثي» الثاني، فإن الحياة ليست ذات معنى، ولكنها أيضًا ليست بلا معنى. والادعاء بأن الوجود مجرد من المعنى بهذا الشكل الكئيب العابس يعني البقاء أسيرًا لوهم أنها قد تكون ذات معنى. ولكن ماذا لو لم تكن الحياة من تلك النوعية من الأشياء التي يمكن الحديث عنها في أي من هذين الإطارين؟ فإذا كان المعنى شيئًا يفعله الناس، كيف لنا أن نتوقع أن يكون العالم ذا معنى أو بلا معنى في حد ذاته؟ ولماذا ينبغي إذن أن نشعر بالأسى على حقيقة أنه لا يقدم لنا نفسه كعالم يفيض بالمعنى؟ إنك لم تكن لتتحسر على حقيقة أنك لم تولد مرتديًا قبعة صوفية صغيرة. فالأطفال الذين يولدون متأنقين بقبعات صوفية صغيرة ليس من نوعية الأشياء التي يفترض للإنسان توقعها. ولا جدوى من الشعور بغصة في حلقك بشأن ذلك. فالقدوم إلى الدنيا عاري الرأس ليس سببًا لإبداء خوف تراجيدي؛ فهذا ليس نقصًا تَعِيه إلى حد يجلب لك الكآبة بينما تمضي في متابعة شئون حياتك اليومية.
لا شيء مفقود هنا، مثلما لا يوجد شيء مفقود حين أقول: «لأنني وضعتها على الموقد» في معرض إجابتي عن سؤال «لماذا تغلي الغلاية؟» غير أن أحدهم قد يظن أنني لم أفسر له سبب غليان الغلاية ما لم أشرح له العمليات الكيميائية التي تقف وراء هذا، ثم القوانين التي تقف وراء ذلك، وهكذا إلى أن نصل إلى طريق مسدود حيث تنتهي جميع الأسئلة. وما لم يكن هناك أساس مطلق، سيكون هناك حتمًا شيء مفقود. لا بد أن يُترك كل شيء معلقًا في الهواء بشكل مقلقل. وهذا هو الحال بالنسبة للمعنى في منظور البعض. فلا شك أنه إذا كان المعنى هو مجرد شيء نتوصل إليه، فإنه لا يستطيع أن يعمل كبنية تحتية أكيدة للواقع. فالأشياء يجب أن تكون ذات معنى بطبيعتها، لا أن يكون لها معنى فقط لمجرد أننا جعلناها كذلك. وكل هذه المعاني لا بد أن تفضي لمعنى عام واحد. فما لم يكن هناك معنى للمعاني، فلا يوجد معنى على الإطلاق. فإذا كانت حقيقة أن الثلوج تتساقط لا تدل على أن الإله يسعى لأن يلف العالم بمعطف ناعم من النسيان، فلا بد أنها مجرد حقيقة تافهة.
ما هو المعنى «المتأصل» على أي حال؟ إن المعاني لا «تكمن» في الأشياء مثلما يتواجد الحبر في الزجاجة. فقد يكون هناك مقصد ذو دلالة في مكان ما من العالم لا نعرفه (مثل ندفة ثلج غير مرئية، أو نمط اجتماعي لم يُكتشف بعد)؛ ولكن المعاني بالدلالات الأكثر شيوعًا للكلمة ليست كذلك بالطبع. إنها تفسيرات للعالم، ومن ثم فهي تعتمد علينا. إن الحديث عن المعاني «المتأصلة» يتلخص في الحديث عن محاولة وصف ما هو قائم بالفعل في الواقع. ولكن نحن من نقوم بعملية الوصف. بعد ذلك يمكننا أن نقارن هذا بالمعاني «المنسوبة» مثل «الأرض الخضراء». هناك أيضًا معانٍ ذاتية بالتأكيد، مثل «بالنسبة لي، يمثل لي خط أفق شيكاغو صورة الإله»، أو «حينما أسمع كلمة «حوض» يتوارد إلى ذهني دائمًا أبراهام لنكولن.»
سوف نرى لاحقًا أن بإمكاننا الحديث عن المعاني باعتبارها مدمجة في الأشياء بشكل ما، أو بوصفها الطبيعة التي تكتسبها. غير أن المعاني «المتأصلة» في معظم الأحيان هي ببساطة أجزاء اللغة التي تهدف لإدراك ما هو قائم هناك. وفي بعض الأحيان يكون هناك مواقف، مثل ما حدث للسفينة «ماري سيليست» — أيًّا كان ما حدث — والتي لا نعرف فيها ما يحدث هناك، وأين قد تكون الحقيقة، بخلاف جميع تفسيراتنا الحالية. كيف يؤثر ذلك على النقاش بشأن معنى الحياة؟ من الممكن أن يكون للحياة معنى «متأصل» في إطار معنى لا يعرف أي منا شيئًا عنه؛ معنى مختلف تمامًا عن المعاني المتعددة التي نصوغها منها في حياتنا الفردية. فقد كان سيجموند فرويد — على سبيل المثال — يعتقد أن معنى الحياة هو الموت، وأن كل الجهد الذي تبذله «الإيروس» أو غرائز الحياة يهدف للعودة إلى حالة من الركود الأشبه بالموت، حيث لا يعود بالإمكان أن تتعرض الأنا لأي أذى. فإذا كان ذلك صحيحًا (وبالطبع قد لا يكون كذلك)، فإن ذلك يستتبع أنه كان صحيحًا قبل أن يكتشف فرويد الحقيقة، وصحيح أيضًا الآن حتى بالنسبة لمن لا يعرفونها. إن دوافعنا ورغباتنا قد تشكل نمطًا لا نعيه، ولكنه نمط يحدد بشكل جوهري معنى وجودنا. وعلى ذلك فقد يكون هناك معنى للحياة نجهله (أو كنا نجهله) كلية، ولكنه معنى لم يُصَغْ من قِبَل قوة خارقة مثل الإله أو روح العصر. ولصياغة هذه الفكرة بأسلوب أكثر تخصصًا قليلًا: التأصل ليس بالضرورة أن يدل ضمنًا على السمو والتفوق. فالمعنى الذي يصاغ للحياة من قبل الإله، والمعنى الذي نكونه بأنفسنا، قد لا يكونا الاحتمالين الوحيدين.
سوف نتناول معًا كيف يمكن للحياة أن تقاوم المعنى الذي نحاول أن نضفيه عليها حالًا. وفي غضون ذلك، يمكننا أن نستعرض عن كثب أكبر فكرة كون المعنى كامنًا «داخل» قصيدة. إن القول بأن المعنى في عبارة مثل «هل أشبهك بيوم صيف؟» يكمن «داخل» الكلمات نفسها، يعني القول بأن الكلمات لها معنى متفق عليه في اللغة، وهو اتفاق يتجاوز حدود المعنى الذي قد أرغب في أن تعنيه الكلمات أيًّا كان بشكل أعمق بكثير، والذي يرتبط بشكل جوهري بمشاركة صورة عملية من صور الحياة. وحقيقة وجود اتفاق هنا لا تعني أننا لا يمكننا أن نتجادل بشأن ما تعنيه تلك الكلمات في هذا السياق بعينه. ربما كانت كلمة «هل؟» هنا تعني «هل تريدينني أن أفعل؟» أو قد تعني «هل صحيح أنني سأقارنك في المستقبل بيوم صيف؟» إن الأمر كله يتلخص في أن ما نتجادل حوله ليست معانٍ ننسبها اعتباطيًّا للكلمات. ومع ذلك، فإن هذه المعاني موجودة فقط «داخل» الكلمات بسبب الأعراف الاجتماعية التي تقرر حقيقة أن حروف كلمة يوم (ي. و. م) يجب أن ترمز للوقت ما بين شروق الشمس وغروبها، وأن حرف «ك» يرمز لضمير المخاطب، وهكذا. وهذه الأعراف اعتباطية بالتأكيد حين يُنظر إليها من الخارج، مثلما قد توضح مقارنة لكلمتي «يوم» وضمير المخاطب «ك» بنظيريهما في اللغة البلغارية. ولكنها ليست اعتباطية حين ينظر إليها من الداخل، شأنها شأن قواعد الشطرنج.
والقول بأن المعنى «متأصل» — بمعنى أنه مدمج في الأشياء أو المواقف بصورة ما، وليس مفروضًا عليه — قد يكون أسلوبًا مضللًا في الحديث؛ ولكن من الممكن، رغم ذلك، أن يكون له معنى ما. فبعض الأشياء — على سبيل المثال — يمكن القول بأنها تعبر عن المعاني أو تجسدها في حضورها المادي الفعلي. والحالة النموذجية لذلك هي الأعمال الفنية؛ فالشيء الغريب بشأن الأعمال الفنية أنها تبدو مادية وذات معنى في الوقت نفسه. كنت قد استعرضت في بداية هذا الكتاب قضية أن الأشياء مثل جهاز تخطيط القلب لا يمكن أن تكون ذات معنى في حد ذاتها؛ لأن المعنى مسألة لغة، وليس مسألة أشياء. ولكن نظرًا لأن جهاز تخطيط القلب هو شيء من صنع الإنسان — على عكس الكرنب مثلًا — فمن الممكن بالتأكيد القول بأن له معانٍ ومقاصد مدمجة به. فهو في النهاية له وظيفة معينة في عالم الطب، مستقلة تمامًا عن أية وظائف قد أختار أن أنسبها له. فبإمكاني دومًا أن أستخدمه لإبقاء النافذة مفتوحة في يوم حار خانق، أو استخدامه ببراعة شديدة لصد شخص مصاب بجنون القتل؛ ولكن يظل ما أستخدمه في القيام بذلك هو جهاز تخطيط القلب.
يرى أولئك الذين يؤمنون بوجود الإله — أو بأية قوة ذكية أخرى تقف وراء وجود الكون — أن الحياة لها معانٍ وأهداف مقترنة بها، لأنها في حد ذاتها شيئًا مصنوعًا. لا شك أنها عمل رديء بشكل مفزع من عدة جوانب، صنع فيما يبدو على عجل في لحظة من الإلهام المتدني لأحد الفنانين. ولكن بإمكانك الحديث عن المعنى المتأصل هنا، مثلما يمكنك أن تفعل مع كرسي ذي مسندين. فالقول بأن كرسيًّا ذا مسندين هو منتج «مقصود» لا يوحي بأنه يأوي رغبات وأمنيات خفية، ولكن يوحي بأنه صنع بغرض تحقيق نتائج معينة؛ تحديدًا لجلوس الناس عليه. وهذا يمثل معنى أو وظيفة يكتسبها الكرسي بمعزل عما قد أرغب في أن يعنيه، ولكنه ليس معنى مستقلًّا عن الإنسانية بشكل تام. فهو مصنوع على هذا النحو؛ لأن أحدهم صممه على هذا النحو.
حين نتساءل عما إذا كان موقفًا بعينه يعد مثالًا للعنصرية مثلًا، إنما نتساءل عن الموقف نفسه، وليس فقط عن مشاعرنا تجاهه، أو اللغة التي نستخدمها لوصفه. فالنظر إلى معانٍ على غرار «متحيز» و«تمييزي» كمعانٍ «متأصلة» في الموقف هو مجرد أسلوب مصطنع لقول إن الموقف عنصري حقًّا. أما إذا لم نرَ ذلك — إذا فكرنا على سبيل المثال أن «العنصرية» هي مجرد مجموعة من المعاني الذاتية نضفيها على الحقائق المجردة لما يحدث — فإننا إذن لا نرى الموقف كما هو عليه. فأي وصف له يفتقر إلى مصطلحات مثل «تمييزي» — وهو الوصف الذي يحاول مثلًا أن يكون «خاليًا من أية قيمة» — لن يرصد ما يدور بشكل كاف. وسوف يخفق كوصف، وليس فقط كتقييم. وهذا لا يعني بالضرورة أن معنى الموقف واضح تمام الوضوح؛ فقد يتضح أن تحديد ما إذا كان الموقف عنصريًّا أم لا أمر مستحيل. ولا شك أن هذا ما يعنيه الناس حين يدعون أن من الممكن «بناء» الموقف بطرق متضاربة. فكلمات مثل «عنصرية» تجسد تأويلات قابلة للجدل، ولكن ما نتحدث عنه هو حقيقة الموقف، وليس معنى تأويلاتنا.
دعنا نتناول الأمر من الزاوية المعاكسة. دعنا لا نتساءل عما يبدو عليه المعنى «المتأصل»، ولكن ما يعنيه الادعاء بأن المعاني هي ما «نشكل» العالم عليها. هل يوحي ذلك ضمنًا بأن بمقدورنا «بناء» المعنى بأية طريقة قديمة نشاؤها؟ بالطبع لا. فلا أحد يعتقد هذا فعليًّا، لا سيما لأن الجميع يتفقون على أن تأويلاتنا يمكن أحيانًا أن تكون خاطئة. كل ما في الأمر أن الأسباب التي يسوقها الناس لتبرير ذلك تميل للاختلاف. غير أن جميعهم يتفقون على أنه لن يكون «مجديًا» لنا أن «نصور» النمور على أنها خجولة ورقيقة. ومن بين أسباب ذلك أن بعضنا لن يظل على قيد الحياة على أثر ذلك التصور. وسوف يشير بعض المفكرين إلى أن هذا التصور لا يتناسب ببساطة مع بقية تأويلاتنا، فيما سيذهب آخرون إلى أن هذا التصور للنمور لن يسمح لنا بالقيام بالأشياء الملائمة المُعززة للحياة، مثل الهرب منها بأسرع ما يمكن حين تكشر عن أنيابها. وسوف يذهب بعض المنظرين — الذين يُعرفون بالواقعيين — إلى أننا لا نستطيع النظر إلى النمور كمخلوقات رقيقة لأن الحقيقة الواقعة هي أن النمور ليست رقيقة. كيف عرفنا ذلك؟ لأن لدينا أدلة قوية على أنها ليست كذلك، وهي أدلة تأتينا من عالم منفصل عن تأويلاتنا له.
أيًّا كان موقف الشخص هنا، يبدو صحيحًا أن الفرق بين «المتأصل» و«المنسوب» مفيد بما يكفي لبعض الأغراض، ولكنه قابل للتفكيك والتجريد من نواح أخرى. فالقليل للغاية مما يسمى المعاني المتأصلة — مثل المفاهيم الوثنية للقضاء والقدر، أو النموذج المسيحي للخلاص، أو فكرة هيجل الشاملة — تتضمن أن يفهم الناس حياتهم. وبناء على هذه الرؤية، لا يكون الرجال والنساء مجرد دمى متحركة في يد حقيقة مهيبة، مثلما هم من منظور شوبنهاور. توجد حقيقة من هذا النوع في هذه النماذج؛ ولكنها لن تتكشف دون مشاركة فعالة من الرجال والنساء فيها. إن جزءًا من مصير أوديب المأساوي أنه يساعد بشكل نشط — إن لم يكن أعمى — في حدوث فجيعته. وفي العقيدة المسيحية، لن تحل مملكة الرب ما لم يتعاون البشر في خلقها، على الرغم من أن حقيقة أنهم يفعلون ذلك مفترضة بالفعل في الفكرة الأساسية للمملكة. ويرى هيجل أن العقل يدرك نفسه في التاريخ فقط من خلال الأفعال الحرة الحقيقية للأفراد؛ والواقع أنه يكون في أقصى درجات واقعيته حين يكونون في أقصى درجات حريتهم. كل هذه السرديات الكبرى تفكك الفرق بين الحرية والضرورة؛ بين صياغة معانيك وبين تقبل معنى ما متواجد بالفعل في العالم.
إن كل المعاني عبارة عن أعمال من صنع الإنسان، والمعاني «المتأصلة» ما هي إلا تلك الأعمال التي تنجح في رصد شيء من حقيقة الأمر. فالعالم لا ينقسم نصفين إلى هؤلاء الذين يؤمنون بأن المعاني «متأصلة» في الأشياء كما تتضمن البطن الزائدة الدودية، وهؤلاء الأشخاص غريبو الأطوار الذين يعتبرون فكرة «وجود زائدة دودية» مجرد «تركيب اجتماعي» لجسم الإنسان. (لأسباب طبية صحيحة، ليس كل هؤلاء الأشخاص يظلون على قيد الحياة أيضًا). وهذا النوع من «التركيبات» هي نوع من الحوار من طرف واحد مع العالم، نحن من نملي فيه الشكل الذي يسير عليه، مثلما يفعل الأمريكيون في العراق. ولكن المعنى في الواقع هو نتاج تفاعل بيننا وبين الواقع، إذ يكون هناك اعتماد متبادل بين النصوص والقراء.
وبالعودة إلى نموذج السؤال والإجابة الخاص بنا: يمكننا أن نطرح أسئلة على العالم، وهي بالتأكيد أسئلتنا نحن وليست أسئلته. ولكن الإجابات التي قد يأتي بها العالم هي إجابات توجيهية؛ لأن الواقع دائمًا ما يكون أكثر بكثير مما تتوقعه أسئلتنا. إنه يتجاوز تأويلاتنا له، ولا يتورع عن توجيه تحية لها من آن لآخر بإشارة وقحة، أو تفريغها من محتواها. لا شك أن المعنى هو شيء يفعله الناس؛ ولكنهم يفعلونه من خلال حوار مع عالم واضح ومحدد له قوانين ليست من اختراعه، وإذا كان لمعانيهم أن تكون صحيحة وسارية، فلا بد أن يحترموا مزاج وتركيب هذا العالم. وإدراك ذلك يستوجب غرس حس معين من التواضع، يتعارض مع تلك الحقيقة البديهية «البنائية» التي مفادها أنه حين يتعلق الأمر بالمعنى، نصبح نحن الأهم. وهذا المفهوم المتطرف ظاهريًّا متواطئ سرًّا في الواقع مع أيديولوجية غربية لا تهتم سوى بالمعنى الذي نسبغه على العالم وعلى الآخرين لخدمة أهدافنا الخاصة.
وعلى ذلك وجب أن تختفي الماهيات؛ أي فكرة أن الأشياء — بما فيها البشر — لها طبائع محددة وواضحة. فلو أنها استمرت، لاعترضت طريق قوة الإله العظمى. وقد كان «الواقعيون» الذين يؤمنون بمثل هذه الطبائع الواضحة في حالة تشاحن بالغة مع «الاسميين» الذين اعتبروها مجرد خيالات لفظية. وعلى ذلك، فإن هذا النوع من البروتستانتية ما هو إلا شكل أولي من النزعة اللاماهوية. وكما هو الحال مع نوع ما من النزعة اللاماهوية السائدة اليوم، فإنها تسير جنبًا إلى جنب مع نوع من فلسفة الإرادية، أو عقيدة الإرادة. وما إن تختفي الطبائع الواضحة، سيتمكن الحكم المطلق للإله من النجاح أخيرًا. وحينئذ سوف تصبح الأشياء على ما هي عليه لأن الإله أمر بذلك، وليس لذاتها. وفي هذا الصدد تستبدل حركة ما بعد الحداثة البشر بالإله. فالواقع ليس قائمًا بذاته، وإنما يتخذ الشكل الذي نمنحه إياه.
ويرى أنصار الفلسفة الإرادية أن التعذيب أمر خاطئ أخلاقيًّا؛ لأن إرادة الإله قد حكمت بأن يكون كذلك، وليس لأنه خطأ في حد ذاته. بل إنه لا يوجد شيء صواب أو خطأ في حد ذاته. فقد كان بإمكان الإله بكل سهولة أن يقرر جعل العجز عن تعذيب أحدنا للآخر جريمة تستحق العقاب. ولا يمكن أن يكون هناك مبرر لقراراته؛ لأن المبررات من شأنها أن تعوق حريته المطلقة في التصرف. وهكذا تسير اللاماهوية جنبًا إلى جنب مع اللاعقلانية. وعلى غرار كل الطغاة، فإن الإله لاسلطوي؛ لا تحكمه قوانين أو منطق. فهو مصدر قوانينه ومنطقه، والتي وجدت لخدمة نفوذه وسلطانه. ومن ثم كان من الممكن إجازة التعذيب إذا تناسب مع أهدافه. وليس من الصعب التعرف على ورثة هذه العقائد في عالمنا السياسي.
إن النفس البروتستانتية لم تعد تشعر بالراحة والألفة في العالم؛ فلم يعد هناك أية روابط بين الاثنين. ولما كان الواقع عديم المعنى بطبيعته، لم يعد بمقدور النفس إيجاد انعكاس لها في الواقع، المصنوع من مادة مختلفة تمامًا عن مادتها. ومن ثم لا يمر وقت طويل قبل أن تقدم على الشك في وجودها — مثل شخص منبوذ — وتحرم من أي شيء خارج نطاقها قد يؤكد هويتها. إن «الإنسان» هو المصدر الأوحد للمعنى في العالم؛ ولكن العالم رفض عملية إضفاء المعنى تلك، محولًا إياها إلى عملية اعتباطية وبلا مبرر. ونظرًا لعدم وجود معنى أو منطق في الأشياء، فإنها أيضًا لا يمكن التنبؤ بها. ولذلك فإن النفس البروتستانتية تتحرك بخوف في عالم مظلم من القوى العشوائية، يطاردها إله خفي، وهي غير واثقة من خلاصها.
لا شك أن كل هذا كان في الوقت نفسه عملية تحرر ضخمة. فلم يعد هناك ببساطة طريقة واحدة صحيحة لقراءة الواقع. ولم يعد الكهنة يحتكرون مفاتيح مملكة المعنى. وصارت حرية التأويل متاحة. كذلك لم يعد الرجال والنساء مضطرين للخضوع للمعاني الجاهزة التي مزجها الإله في العالم. وتدريجيًّا أفسح النص المقدس للكون — والذي كانت فيه العناصر المادية تشكل رموزًا مجازية للحقائق الروحانية — المجال لظهور نص دنيوي. فبعد أن أُفرغ الواقع من المعاني الموضوعة مقدمًا، صار بالإمكان تأويله وفقًا لاحتياجات ورغبات الإنسانية. وما كان فيما سبق معاني ثابتة صار بالإمكان تفكيكها وتجميعها بطرق خيالية جديدة. وقد كان القس البروتستانتي فريدريك شلايرماخر هو من ابتكر علم الهرمنيوطيقا، أو التفسير. بل إن هناك جدلًا حول وجود جذور إنجيلية راسخة لهذه الرؤية. فقد جاء في (سفر التكوين ٢ : ١٩): «جبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها» (النسخة القياسية المنقحة). ولما كان فعل التسمية في الثقافة اليهودية القديمة فعلًا إبداعيًّا أو أدائيًّا دومًا، فإن هذا يشير إلى أن الإنسانية هي مصدر المعنى، بينما يهوه رب العبرانيين هو مصدر الوجود. فالإله يخلق الحيوانات، ويقدمها للإنسان، وتصبح ما يصنعه منها.
هل ينبغي أن يكون تخبط الروح البروتستانتية الوحيدة في الظلام مصحوبة بخوفها سببًا للقلق بالنسبة لمن يؤمنون بأننا قادرون على تشكيل الحياة كيفما نشاء؟ نعم ولا: لا؛ لأن جعل حياتك ذات معنى — بدلًا من توقع أن يكون معناها موجودًا سلفًا — يعد فكرة منطقية تمامًا. ونعم؛ من حيث إنها يجب إلى حد ما أن تعمل بمثابة تحذير واقعي ومتعقل من أن تشكيل المرء لمعنى حياته بنفسه لا يمكن أن يكون مجرد مسألة صياغة أي معنى يستهويك. فهو لا يعفيك من تبرير أيما شيء يجعل لحياتك معنى في إطار الاعتقاد العام. فلا يمكنك أن تكتفي بقول: «أنا عن نفسي، أجد أن معنى الحياة يكمن في حيوان الزَّغَبَةِ الخانقة»، وتأْمُل في الإفلات بما قلت.
ولا يمكن أيضًا أن يكون مسألة خلق من عدم. فالبشر مخلوقات حرة الإرادة؛ ولكن فقط على أساس اعتماد أعمق على الطبيعة والعالم وأحدهم على الآخر. وأيًّا كان المعنى الذي قد أصوغه لحياتي، فإنه مقيد من الداخل بهذا الاعتماد؛ فلا يمكننا البدء من الصفر. إنها ليست مسألة تخلص من المعاني الممنوحة من قبل الإله من أجل صياغة معانينا الخاصة، مثلما تخيل نيتشه على ما يبدو؛ فنحن غارقون في عمق المعنى، مهما كان الموضع الذي قد نجد أنفسنا فيه. فنحن نتشكل من معاني الآخرين؛ معانٍ لم نخترها قط، ولكنها توفر لنا المصفوفة التي نتوصل داخلها لفهم أنفسنا والعالم. وفي هذا الإطار — إن لم يكن جميع الأطر — فإن فكرة أن بإمكاني تحديد معنى حياتي تعد وهمًا.