هل تكون الحياة كيفما نشكلها؟
إن «معنى الحياة» قد يعني «ما تدل عليه الحياة برمتها»، وفي تلك الحالة سيُنظر فعلًا إلى الولادة ورقصة القبقاب كجوانب لوحدة كاملة واحدة ذات دلالة، وهو ما يتخطى حدود توقعاتك حتى من أكثر الأعمال الفنية تميزًا وتكاملًا. حتى أعظم السرديات التاريخية لا تتخيل أن بإمكانها استخلاص معنى من كل شيء. فالماركسية ليس لديها شيء لتقوله عن غدد الرائحة الشرجية لدى السنور، وهو صمت لا ترى فيه ما يعيبها. ولا يوجد موقف بوذي رسمي بشأن شلالات ويست يوركشاير. فمن المستبعد بشكل كبير أن يشكل كل شيء في الحياة الإنسانية جزءًا من نموذج متماسك. إذن هل يكفي القيام بذلك على مدار معظمها؟ أو هل «معنى الحياة» يعني أكثر «الدلالة الأساسية للحياة»؛ أي إنها لا تعني ما تدل عليه ضمنًا بقدر ما تعني خلاصتها؟ إن عبارة مثل «معنى الحياة هو المعاناة» لا تشير إلى أن المعاناة هي كل الحياة، أو أنها فكرة وهدف الحياة، ولكنها تشير إلى أنها السمة الأهم أو الأكثر حيوية لها. ومن خلال تتبع هذا الخيط تحديدًا، يمكننا فهم المقصد الكلي المحير.
إذن هل توجد ظاهرة تسمى «الحياة الإنسانية» والتي يمكن أن تكون حاملة لمعنى متماسك؟ حسنًا، لا شك أن الناس يتحدثون عن الحياة أحيانًا بمصطلحات عامة كهذه. فالحياة مضحكة، أو دنيئة، أو ملهى ليلي، أو واد من الدموع، أو مفروشة بالورود. قد تبدو هذه المجموعة من المصطلحات البالية ليست كافية لبناء حجة. غير أن افتراض أن جميع العبارات التي تتضمن شرحًا ذاتيًا عن الحياة الإنسانية فارغة هو نفسه افتراض فارغ. ليس صحيحًا أن الحقائق المادية المحددة هي فقط ما تملك أية قوة. فماذا مثلًا عن التعميم بأن معظم الرجال والنساء في التاريخ قد عاشوا حياة من الشقاء والكدح العقيم البائس؟ لا شك أن هذا أكثر إثارة للانزعاج من الافتراض القائل بأن معظم الناس في مقاطعة ديلاوير قد عاشوا تلك الحياة.
إذا كان من الممكن أن تكون التعميمات بشأن الإنسانية صحيحة، فإن ذلك يرجع — من بين أشياء أخرى — إلى أن البشر بانتمائهم لنفس الجنس الطبيعي، لديهم قدر ضخم من الأشياء المشتركة فيما بينهم. وهذا لا يعني إغفال الفروق والاختلافات الرهيبة بينهم على المستوى السياسي. ولكن على مفكري ما بعد الحداثة الذين يطربهم الاختلاف، ويجدونه أينما ذهبوا بتشابه مخيف، ألا يغفلوا سماتنا المشتركة أيضًا. إن الاختلافات بين البشر أمر حيوي، ولكنها ليست أساسًا متينًا بالشكل الكافي بحيث يصلح لبناء أخلاقيات أو سياسات عليه.
إلى جانب ذلك، حتى لو لم يكن باستطاعة المرء الحديث عن «الحالة الإنسانية» في عام ١٥٠٠، فلا شك أن بإمكانه القيام بذلك في عام ٢٠٠٠. وهؤلاء الذين يجدون تلك الفكرة غير مستساغة يبدو أنهم لم يسمعوا بالعولمة من قبل قط. إنها رأسمالية تتخطى الحدود القومية ساعدت على تحويل الإنسانية إلى كيان واحد. إن ما نشترك فيه الآن على الأقل هو إرادة البقاء في وجه التهديدات المتعددة التي تواجه وجودنا، والتي تلوح في كل جانب. وهناك دلالة في أن من ينكرون حقيقة الحالة الإنسانية ينكرون أيضًا ظاهرة الاحترار العالمي. فلا شيء يفترض أن يوحد نوعًا من الأنواع بشكل فعال كاحتمالية انقراضه. فنحن نتوحد على الأقل في الموت.
إذا كان معنى الحياة يكمن في «الهدف» المشترك للبشر، فلا يبدو ثمة شك بشأن ماهيته. فالشيء الذي يكافح الجميع من أجل بلوغه هو السعادة. ولا شك أن كلمة «سعادة» من الكلمات الواهنة المرتبطة في الأذهان بمعسكرات الإجازات، وتثير فيها صورة الضحكات الهستيرية وقفزات الفرح في سترة متعددة الألوان. ولكن كما يقر أرسطو في كتابه «الأخلاق النيقوماخية»، فإنها تعمل بمثابة قاعدة من نوع ما في حياة الإنسان، بمعنى أنه لا يمكنك أن تسأل بشكل عقلاني ومنطقي «لماذا» يجب أن نسعى لأن نكون سعداء. إنها ليست وسيلة لبلوغ شيء آخر، مثلما هو الحال بالنسبة للنفوذ أو المال، إنها أقرب للحاجة لنيل الاحترام، والرغبة فيها تبدو كجزء من طبيعتنا. إذن نحن هنا أمام مصطلح تأسيسي من نوع ما. المشكلة هي أنه مصطلح مبهم تمامًا. ففكرة السعادة تبدو حيوية وفارغة على حد سواء. فما الذي يدخل في عداد السعادة؟ ماذا إذا وجدت السعادة في ترويع النساء العجائز؟ قد يقضي شخص ما يعتزم أن يصبح ممثلًا ساعات بلا جدوى في تجارب الأداء بينما يعيش على الفتات، ويقضي معظم وقته قلقًا، ومحبطًا وجائعًا نوعًا ما. إنه لا يدخل في عداد من نطلق عليهم سعداء. فحياته تخلو من أي متعة أو هناء؛ غير أنه — إن جاز التعبير — على استعداد للتضحية بسعادته في سبيل سعادته.
في بعض الأحيان ينظر إلى السعادة كحالة ذهنية، ولكن ليس هذا منظور أرسطو لها. فالسعادة هي ما قد نطلق عليه حالة روحانية، والتي لا تنطوي في رأيه على حالة داخلية من الوجود فحسب، ولكنها تنطوي أيضًا على ميل للتصرف بأسلوب معين. وكما أشار لودفيج فيتجنشتاين ذات مرة، فإن الصورة المثلى للروح هي الجسد. فإذا أردت أن تراقب «روح» أحدهم، فلتنظر إلى ما يفعل. وبالنسبة لأرسطو، يمكن بلوغ السعادة عن طريق الفضيلة، والفضيلة في المقام الأول ممارسة اجتماعية أكثر منها توجه عقلي. والسعادة جزء من أسلوب عملي للحياة، وليس حالة من الرضا الداخلي الخاص. وبناء على هذه النظرية، يمكنك مراقبة سلوك أحدهم على مدار فترة من الزمن وتصيح قائلًا: «إنه سعيد!» كما لا يمكنك أن تفعل مع نموذج أكثر ازدواجية من البشر، ولن يكون لزامًا أيضًا أن يكون على وجهه ابتسامة عريضة أو يقفز فرحًا.
على ذلك يتجلى لنا أحد الاعتراضات الواضحة على المثال الذي أورده باجيني. ألا يمكن أن يكون إنقاذ شخص من الرمال المتحركة «جزءًا» من سعادة الفرد، وليس انصرافًا عنها نابعًا من الإحساس بالواجب؟ لا يكون ذلك واضحًا فقط إذا كان تفكير الشخص في السعادة يسير في سياق المتعة، وليس السعادة بالمفهوم الأرسطي. فالسعادة من منظور أرسطو مرتبطة بممارسة الفضيلة؛ وعلى الرغم من أنه لم يكن لديه شيء محدد يدلي به بشأن إنقاذ الناس من الرمال المتحركة، فإن هذا كان ليُعد قطعًا دلالة على السعادة في نظر خليفته المسيحي العظيم توما الأكويني. فقد كان بالنسبة لتوما الأكويني مثالًا للحب الذي لا يتعارض في منظوره مع السعادة. وهذا لا يعني القول بأن أرسطو يرى السعادة والمتعة متضادين. على العكس، فالأشخاص الفاضلون في رأيه هم الذين يحصدون المتعة من فعل الخير، أما هؤلاء الذين يفعلون الخير دون الاستمتاع به، فهم في نظره ليسوا ذوي فضيلة بحق. ولكن لا شك أن مجرد متعة شخص أحمق أو متعة يحظى بها حاكم مستبد منحل تتناقض مع السعادة.
تتجلى فكرة باجيني عن السعادة — البعيدة نوعًا ما عن النموذج الأرسطي — في سيناريو اقتبسه من الفيلسوف روبرت نوزيك. لنفترض أنك قد تم توصيلك بآلة أشبه بالكمبيوتر الخارق في فيلم «المصفوفة»، أتاحت لك تجربة افتراضية من السعادة الكاملة المتواصلة. ألم يكن معظم الناس ليرفضون هذه السعادة المغرية بداعي عدم واقعيتها؟ أولسنا نرغب في أن نعيش حياتنا بشكل حقيقي، دون خداع، وَاعِينَ بأنفسنا باعتبارنا مؤلفي قصة حياتنا، وبأن كفاحاتنا — وليس آلة مصنعة — هي المسئولة عن إحساسنا بالإنجاز؟ يعتقد باجيني أن معظم الناس سيرفضون آلة السعادة لهذه الأسباب، وهو محق بالتأكيد. ولكن أكرر مرة أخرى أن فكرة السعادة التي يعرضها لنا هنا ليست أرسطية. إنها حالة مزاجية أو حالة من الوعي أكثر منها أسلوب حياة. بل إنها نفس نوعية المفهوم الحديث للسعادة الذي ربما وجده أرسطو غامضًا، أو على الأقل غير مستساغ. ففي رأيه أنك لا تستطيع أن تحظى بالسعادة بالجلوس داخل ماكينة طوال حياتك؛ ليس فقط لأن تجربتك سوف تكون مسألة محاكاة أكثر منها مسألة واقع، ولكن لأن السعادة تنطوي على صورة عملية واجتماعية من صور الحياة. إن السعادة من منظور أرسطو ليست نزعة داخلية قد تظهر فيما بعد في أفعال معينة، ولكنها أسلوب تصرف يخلق نزعات وميولًا معينة.
يرى أرسطو أن السبب وراء عدم قدرتك على الشعور بسعادة حقيقية بالجلوس داخل ماكينة طوال حياتك يتشابه إلى حد كبير مع السبب وراء عدم قدرتك على الشعور بسعادة كاملة وأنت حبيس كرسي متحرك أو رئة فولاذية. بالطبع لا يعني ذلك أن المعاقين لا يستطيعون إدراك إحساس غالٍ بالرضا الذاتي كأي شخص آخر؛ بل يعني ببساطة أن الإعاقة هي أن تكون قدرة الشخص على إدراك قوى وقدرات معينة مقيدة. ومثل هذا الإدراك في تعريف أرسطو المتخصص، هو جزء من سعادة الفرد. ثمة معانٍ أخرى «للسعادة» يمكن فيها للأشخاص المعاقين أن يكونوا سعداء تمامًا. غير أن أسلوب العزوف عن إفشاء الحقائق السائد حاليًّا وإنكار أن المعاقين هم معاقون حقًّا — وهو نوع من خداع الذات يبرز بشكل خاص في الولايات المتحدة التي تعتبر العجز مصدر حرج وأن لا شيء يكفي سوى النجاح — يعد شكلًا من النفاق الأخلاقي شأنه شأن العادة الفيكتورية في إنكار أن الفقراء أقرب لأن يكونوا تعساء، وترجع جذوره إلى ميل غربي عام لإنكار الحقائق المزعجة، أو رغبة ملحة لإزاحة المعاناة أسفل السجادة.
ربما تكون تضحية الفرد بسعادته من أجل سعادة شخص آخر هي أروع تصرف أخلاقي يمكن للمرء أن يتخيله. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه الصورة النموذجية للحب أو أكثر أنواع الحب قبولًا. إنه ليس أكثر أنواع الحب قبولًا؛ لأنه للأسف شيئًا ضروريًّا وأساسيًّا في المقام الأول، وليس الصورة النموذجية لأن الحب في أقصى صورة نموذجية له ينطوي على أقصى قدر ممكن من التبادلية، كما سأوضح بعد قليل. فقد يحب شخص أطفاله الصغار إلى حد الاستعداد للموت في سبيلهم عن طيب خاطر؛ ولكن لما كان الحب في أشمل معانيه هو شيء سوف يتعين على الأطفال أنفسهم تعلمه، فإن الحب بينك وبينهم لا يمكن أن يكون النموذج الأساسي للحب الإنساني، شأنها في ذلك شأن علاقة أقل قيمة، مثل عاطفة شخص تجاه خادم عجوز مخلص. فالعلاقة في كلتا الحالتين ليست متكافئة بالقدر الكافي.
إذن فالسعادة في رأي أرسطو تنطوي على إدراك إبداعي للملكات الإنسانية النمطية للفرد. إنها شيء تمارسه قدر ما هي شيء تكونه. ولا يمكن ممارسته بمعزل عن الآخرين، وهو ما يعد من ضمن الاختلافات بينها وبين السعي وراء المتعة. فالفضائل الأرسطية هي في أغلب الأحيان فضائل اجتماعية. إن فكرة تحقيق الذات يمكن أن يقترن بها إحساس بالقوة والحيوية والتوهج، وكأننا نتحدث عن تمارين رياضية للروح. والواقع أن نموذج أرسطو الأخلاقي للشخص «رائع الروح» أشبه كثيرًا بالوصف التالي: سيد أثيني ثري لا يعرف الفشل والخسارة والمأساة؛ وهو أمر مثير بالنسبة لمؤلف واحدة من أعظم الأطروحات العالمية عن الموضوع الأخير. إن الرجل الصالح بالنسبة لأرسطو غالبًا ما يبدو أشبه ببيل جيتس، أكثر من القديس فرانسيس الأسيزي. صحيح أنه ليس مهتمًّا بأن يكون ناجحًا مثل هذه النوعية من الأشخاص أو تلك — كرجال الأعمال مثلًا أو الساسة — ولكنه مهتم بأن ينجح كإنسان. فكونك إنسانًا — من وجهة نظر أرسطو — هو شيء يجب أن تجيده، والأشخاص ذوو الفضيلة إنما هم مبدعون في فن الحياة. ومع ذلك، هناك شيء خاطئ في نظرية عن السعادة قد تعتبر أن فكرة المرأة السعيدة تحمل تناقضًا وزيفًا منطقيًّا. وكذلك الحال بالنسبة لفكرة الفاشل السعيد.
غير أن تحقيق الذات في رأي كارل ماركس — أحد الفلاسفة الأخلاقيين المنتمين لسلالة أرسطو — يشمل أيضًا الاستماع لرباعية وترية، أو التلذذ بمذاق ثمرة خوخ مثلًا. ربما كان «لإشباع الذات» رنين أقل قوة من «تحقيق الذات». فالسعادة هي مسألة إشباع للذات، والتي لا يجب الخلط بينها وبين أيديولوجية الكشافة أو دوق إدنبرة المتعلقة برؤية الحياة كسلسلة من الحواجز يجب تخطيها وإنجازات يجب حصدها. فالإنجازات تكتسب معنى داخل السياق النوعي للحياة بأكملها، وليس (كما في أيديولوجية الحياة لدى متسلقي الجبال) كقمم منعزلة من بلوغ الأهداف.
إن الناس — بشكل عام — إما يشعرون بالرضا أو لا يشعرون به، وهم يعون تلك الحقيقة بصفة عامة. وبالتأكيد لا يمكن لأحد أن ينكر تأثير ما يعرف بالوعي الزائف هنا. فقد يتم خداع العبد ليعتقد أنه سعيد عندما يعكس سلوكه حقيقة أنه ليس كذلك. فنحن نملك موارد رائعة لتبرير تعاستنا وبؤسنا. ولكن على سبيل المثال حين يخبر نسبة ٩٢٪ من الأيرلنديين — وهي نسبة مثيرة للدهشة — منظمي استطلاعات الرأي أنهم سعداء، لا يملك المرء شيئًا سوى تصديقهم. صحيح أن الأيرلنديين من عادتهم إظهار الود والترحاب للغرباء، ومن ثم فقد يدعون السعادة لمجرد إشعار منظمي استطلاعات الرأي بالسعادة، ولكن لا يوجد سبب حقيقي يدعو لعدم تصديقهم. غير أنه فيما يتعلق بالسعادة العملية أو الأرسطية، تكون مخاطر خداع الذات أكثر حدة. فكيف لك أن تعرف أنك تعيش حياتك بأسلوب أخلاقي؟ لعل صديقًا أو مراقبًا خارجيًّا قد يكون حكمًا أكثر موثوقية في هذا الصدد من نفسك. وفي الواقع، قد يكون من بين الأسباب التي دفعت أرسطو لتأليف كتبه عن الأخلاق هو تصحيح إدراك الناس بشأن المفهوم الحقيقي للسعادة. ربما كان يفترض وجود قدر كبير من الوعي الزائف في هذا الصدد. وإلا فمن الصعب أن نعرف لما كان ينبغي أن ينصح بوجود هدف يسعى وراءه الرجال والنساء أجمع على أية حال.
وإذا كانت السعادة حالة ذهنية، فإنها إذن قد تعتمد على ظروف الشخص المادية. من الممكن أن تدعي أن بإمكانك أن تنعم بالسعادة على الرغم من تلك الظروف، وهي حالة ليست بعيدة عن حالة الفيلسوف باروخ سبينوزا أو الرواقيين القدماء. غير أنه من المستبعد إلى حد كبير أن يكون بإمكانك الشعور بالسعادة عند العيش في معسكر للاجئين مكتظ وغير صحي، بعد فقدان أطفالك مباشرة إثر كارثة طبيعية. غير أن ذلك يكون أكثر وضوحًا بناء على إحدى النظريات الأرسطية للسعادة. فلا يمكنك أن تكون شجاعًا وجديرًا بالاحترام وسخيًّا ما لم تكن شخصًا حرَّ الإرادة بشكل معقول يعيش في ظروف سياسية تدعم هذه الفضائل. ولذلك يرى أرسطو أن الأخلاق والسياسة بينهما رباط وثيق. فالحياة الصالحة تتطلب حالة سياسية من نوع معين؛ وهي في رأيه حالة مزودة بقدر جيد من العبيد والنساء الخاضعات، للقيام بالأعمال والمهام الشاقة بينما تنطلق أنت سعيًا وراء حياة التميز. إن السعادة قضية مؤسسية؛ فهي تتطلب نوعية من الظروف الاجتماعية والسياسية تحظى فيها بالحرية لممارسة قدراتك الإبداعية. ويكون ذلك أقل وضوحًا حين ينظر أحدهم للسعادة بشكل أساسي كقضية داخلية أو فردية، مثلما يفعل الليبراليون. فالسعادة حالة ذهنية قد تتطلب بيئة هادئة خالية من الاضطرابات، ولكنها لا تتطلب نوعًا بعينه من السياسات.
إذن فقد تشكل السعادة معنى الحياة، ولكنها ليست قضية بسيطة ومباشرة. فقد رأينا — على سبيل المثال — أن أحدهم قد يدعي أنه يستمد السعادة من انتهاج سلوك حقير. بل قد يدعي بأسلوب لا أخلاقي أنه يستمدها من التعاسة، كما في عبارة «إنه يشعر بالسعادة أكثر ما يشعر بها عند الشكوى.» بعبارة أخرى، هناك دائمًا مشكلة الماسوشية أو التلذذ بتعذيب الذات. فقد تكون حياة المرء — فيما يتعلق بالسلوكيات الحقيرة — ذات معنى شكليًّا؛ من حيث كونها منظمة ومتماسكة ومخططة بشكل جيد، ومليئة بالأهداف المحددة بشكل جيد، فيما تتسم بالتفاهة أو حتى الانحطاط في محتواها الأخلاقي. بل قد يكون الاثنان متصلين فيما بينهما، كما في متلازمة البيروقراطي ذي القلب الضامر. بالطبع توجد عناصر أخرى مرشحة لتشكيل معنى الحياة: القوة، والحب، والاحترام، والحقيقة، والمتعة، والحرية، والعقل، والاستقلالية، والدولة، والأمة، والإله، والتضحية بالنفس، والتأمل، والحياة وفقًا للطبيعة، وتحقيق السعادة القصوى لأكبر عدد من الأشخاص، ونكران الذات، والموت، والرغبة، والنجاح الدنيوي، وتقدير الرفاق، وحصد أكبر عدد ممكن من الخبرات القوية، والاستمتاع، وما إلى ذلك. إن الحياة تصبح ذات معنى بالنسبة لمعظم الناس — على الصعيد العملي إن لم يكن دائمًا على الصعيد النظري — بعلاقاتهم بأقرب الأشخاص إليهم، مثل شركاء الحياة والأطفال.
ثمة عدد من العناصر المرشحة الأخرى سوف تبدو للعديد من الناس إما بالغة التفاهة، أو وسيلية أكثر من اللازم، لكي يعتد بها كمعنى للحياة. وتندرج كل من القوة والثروة بشكل واضح إلى حد ما إلى فئة العناصر الوسيلية، وأي شيء يستخدم كوسيلة لا يمكن أن يتسم بالسمة الأساسية التي يتطلبها معنى الحياة؛ إذ إنه يتواجد من أجل شيء أكثر جوهرية من نفسه. وليس بالضرورة أن يساوي ذلك بين ما هو وسيلي وبين ما هو أدنى: فالحرية — على الأقل في بعض من تعريفاتها — وسيلية، ولكن معظم الناس يتفقون على قيمتها النفيسة.
ومن ثم فإن إمكانية أن تكون القوة هي معنى الحياة قد يبدو أمرًا محل شك؛ غير أنها مورد بشري ثمين، كما يعي من لا يملكونها. وكما هو الحال بالنسبة للثروة، فإن هؤلاء الذين يملكون القوة هم فقط من يملكون ازدراءها. فكل شيء يعتمد على من يستخدمه، والأغراض التي يستخدمه فيها، وفي أي مواقف. ولكنها لا تبدو غاية في حد ذاتها أكثر من الثروة؛ ما لم تتعامل مع «القوة» بالمعنى النيتشوي، الذي يعد أقرب لفكرة تحقيق الذات منه إلى فكرة السيطرة والهيمنة. (هذا لا يعني أن نيتشه كان يحمل أي بغض لجرعة قوية من الأخيرة). إن «إرادة القوة» في فكر نيتشه يعني نزعة كل الأشياء لإدراك وتوسيع وتقوية نفسها؛ ومن المنطقي أن ننظر إلى هذا كغاية في حد ذاتها، مثلما ينظر أرسطو إلى ازدهار ونجاح الإنسان كغاية في حد ذاته. وقد كانت نظرة سبينوزا للقوة مشابهة إلى حد كبير. كل الفرق هو أن هذا التزايد المتواصل للقوى في رؤية نيتشه الداروينية للحياة تشمل القوة أيضًا كهيمنة، إذ يسعى كل شكل من أشكال الكائنات الحية إلى إخضاع الأشكال الأخرى. وهؤلاء الذين يستهويهم النظر إلى القوة في إطار الهيمنة كغاية في حد ذاتها لا بد أنهم يستدعون إلى الأذهان الصورة الغريبة والبشعة لمالك الصحيفة البريطانية الراحل روبرت ماكسويل، والذي كان محتالًا ومتنمرًا والذي كان جسده يمثل صورة قذرة لروحه.
أما بالنسبة للثروة، فإننا نعيش في حضارة تنكر أنها غاية في حد ذاتها بدافع من الورع، وتتعامل معها في الواقع العملي بالطريقة نفسها بالضبط. إن من بين أقوى الاتهامات الموجهة للرأسمالية أنها تدفعنا لاستثمار معظم طاقاتنا الإبداعية في أمور هي في واقع الأمر نفعية بشكل بحت. وبذلك تصبح وسائل المعيشة هي الغاية. إن السمة الأساسية للحياة تتمثل في إرساء البنية التحتية المادية للمعيشة. ومن المدهش أن النظام المادي للحياة في القرن الحادي والعشرين يزداد حجمًا مثلما كان في العصر الحجري. فرأس المال الذي يمكن أن يُخصص لتحرير الرجال والنساء — ولو بدرجة متوسطة — من الحاجة الملحة للعمل يُخصَّص بدلًا من ذلك لمهمة تكديس المزيد من رأس المال.
إذا كان السؤال الخاص بمعنى الحياة يبدو ملحًّا في هذا الموقف، فإن ذلك يرجع من جانب إلى أن عملية التكديس برمتها في النهاية غير مجدية وبلا هدف، مثل الإرادة لدى شوبنهاور. فعلى غرار الإرادة، يتمتع رأس المال بقوة دافعة خاصة به، ويتواجد بشكل أساسي لأجل نفسه، ويستخدم الأفراد كأدوات لتطوره الأعمى. كما أن به شيء من الدهاء الدنيء الذي تتسم به الإرادة، إذ يقنع الرجال والنساء الذين يستخدمهم وكذلك العديد من الأدوات بأنهم متفردون وذوو قيمة غالية وإرادة حرة. وإذا كان شوبنهاور يطلق على هذا الخداع مسمى «الوعي»، فإن ماركس يطلق عليه الأيديولوجية.
بدأ فرويد رحلته بالاعتقاد بأن معنى الحياة هو الرغبة، أو خدع اللاوعي خلال فترة اليقظة من حياتنا، وتوصل للاعتقاد بأن الموت هو معنى الحياة. ولكن هذا الادعاء يمكن أن يكون له عدة معانٍ مختلفة. فهو يعني لدى فرويد نفسه أننا جميعًا في النهاية عبيد لدى «ثاناتوس» أو غريزة الموت. ولكنه يمكن أن يعني أيضًا أن الحياة التي لا تحوي شيئًا، لدى الفرد الاستعداد للموت في سبيله، من غير المحتمل أن تكون مثمرة. أو يمكن أن يشير إلى أن الحياة في ظل الوعي بفنائيتنا يعني العيش بالواقعية والسخرية والمصداقية وإحساس تأنيبي بمحدوديتنا وضعفنا. وعلى هذا الصعيد على الأقل، فإن التمسك بإيماننا بأكثر ما هو حيواني فينا يعني العيش بمصداقية. فسوف نكون أقل ميلًا لخوض مشروعات متغطرسة تجلب الأسى لنا وللآخرين. فالثقة اللاواعية في خلودنا هي مصدر جزء كبير من دمارنا.
ومن خلال التنبه المرير لفنائية الأشياء، سوف نتوخى الحذر من التشبث بها بشكل استحواذي. ومن خلال هذا الانفصال التمكيني، تتحسن قدرتنا على رؤية الأشياء على حقيقتها، وكذا الاستمتاع بها بشكل أكبر. وفي هذا الإطار، نجد أن الموت يدعم الحياة ويعززها، بدلًا من تجريدها من القيمة. هذه ليست وصفة للاستمتاع باللحظة، ولكن العكس تمامًا. فالتلذذ المحموم بالاستمتاع باللحظة، وإمتاع النفس، والاحتفال بتناول نخب إضافي، والعيش وكأن الغد لن يأتي، إنما هو استراتيجية بائسة للتحايل على الموت تسعى بلا جدوى لخداعه وليس فهمه. وفي خضم بحثها المستعر عن اللذة، إنما تضفي جلالًا على الموت الذي تحاول إنكاره. وعلى كل ما تتسم به هذه الرؤية من براعة وإتقان، فإنها تشاؤمية، بينما تقبل الموت يعد رؤية تفاؤلية.
إلى جانب ذلك، فإن الوعي بحدودنا — التي يبرزها الموت بشكل قاسٍ لا يرحم — يعني أيضًا الوعي بالطريقة التي نعتمد بها على الآخرين وطريقة تقييدهم لنا. فحين يعلق القديس بولس بأننا نموت في كل لحظة، فربما يكون جزءٌ مما كان يدور بخلده هو حقيقة أننا لا يمكننا العيش بشكل جيد إلا بتكريس النفس لتلبية احتياجات الآخرين، فيما يعد نوعًا من الموت الأصغر. وفي قيامنا بذلك، إنما نتدرب على ذلك النكران الأخير للذات الذي هو الموت ونتصوره قبل حدوثه. وبهذه الطريقة يكون الموت في إطار الاحتضار المتواصل للنفس هو مصدر الحياة الصالحة. وإذا كان ذلك يبدو نوعًا من الخنوع ونكران الذات غير المقبول، فإن ذلك يعزى فقط لأننا ننسى أنه إذا كان الآخرون يفعلون ذلك أيضًا، تكون المحصلة نوعًا من الخدمات المتبادلة التي توفر السياق لكل نفس لكي تزدهر. والاسم التقليدي لهذا التبادل هو الحب.
غير أننا أيضًا نموت في كل دقيقة بمعنى أكثر حرفية نوعًا ما. فنحن نعيش بنوع من الإنكار المستديم، إذ نبطل موقفًا بإلقاء أنفسنا داخل آخر. وهذا السمو الذاتي الدائم — الذي لا يتاح سوى للبشر — يعرف باسم التاريخ. غير أنه على مستوى التحليل النفسي يسمى الرغبة، وهو ما يعد أحد الأسباب التي تجعل الرغبة مرشحًا مقبولًا لمعنى الحياة. فالرغبة تطفو على السطح حين يكون هناك شيء مفقود. إنها مسألة عوز ونقص، تفرغ الحاضر من مضمونه من أجل نقلنا إلى مستقبل مفرغ بشكل مماثل. فمن ناحية، يعتبر الموت والرغبة خصمين؛ لأننا إذا توقفنا عن الرغبة، فسوف يتوقف التاريخ. ولكن من ناحية أخرى، فإن الرغبة — التي يعتبرها الفرويديون القوة الدافعة للحياة — تعكس في نقصها الداخلي الموت الذي ستقودنا إليه في النهاية. وفي هذا الإطار تكون الحياة أيضًا توقعًا مسبقًا للموت؛ فالشيء الوحيد الذي يمنحنا القدرة على مواصلة الحياة هو أننا نحمل الموت في داخلنا.
وإذا كان الموت يبدو إجابة كئيبة للغاية للسؤال عن معنى الحياة، والرغبة فكرة شهوانية للغاية، فماذا عن التأمل الفكري؟ من أفلاطون وسبينوزا إلى الزعيم الديني المنتمي للمحافظين الجدد ليو شتراوس، كان لفكرة أن التأمل في حقيقة الوجود هو أنبل أهداف الإنسانية إغراؤها؛ لا سيما بين المفكرين. ومن اللطيف أن تشعر بأنك قد بلغت معنى الكون بمجرد الدخول إلى مكتبك بالجامعة كل صباح. يبدو الأمر كما لو كان يفترض بمصممي الأزياء — حين يُسئلون عن معنى الحياة — أن يجيبوا: «بنطلون رائع بحق»، فيما ينبغي أن يقترح المزارعون المحصول الوفير كمعنى للحياة. حتى أرسطو، على كل اهتمامه بصور الحياة العملية، كان يعتقد أن هذا هو أسمى أشكال الإنجاز. غير أن فكرة أن معنى الحياة يكمن في تأمل معنى الحياة تبدو أشبه بالدوران في حلقة مفرغة. فهي تفترض أيضًا أن معنى الحياة هو افتراض من نوع ما مثل «الأنا عبارة عن وهم»، أو «كل شيء مصنوع من لباب الخبز.» بعد ذلك قد يكون الحظ حليفًا لنخبة صغيرة من الحكماء — الذين كرسوا حياتهم للتفكر في هذه الأمور — ويتوصلوا إلى حقيقة القضية أيًّا كانت. وتلك ليست القضية بالنسبة لأرسطو، الذي يَعتبر مثل هذا التخمين — أو التأمل — هو نفسه نوعًا من الممارسة؛ ولكنه خطر يمكن للقضية أن تجلبه.
ولكن إذا كان للحياة معنى، فإنه بالتأكيد ليس من هذا النوع التأملي. فمعنى الحياة ليس افتراضًا بقدر ما هو ممارسة. إنه ليس حقيقة خفية، ولكنه «صورة» محددة من صور الحياة. ومن الممكن أن تصبح معلومة فقط خلال الحياة. ربما كان هذا هو ما يدور في ذهن فيتجنشتاين حين أشار في «الرسالة الفلسفية المنطقية» إلى «أننا نشعر أنه حتى لو وجدت جميع الأسئلة العلمية الممكنة إجابات لها، فإن مشكلات الحياة لم تعالج جميعًا بعد. بالطبع لا يكون هناك حينها أية أسئلة متبقية، وتلك هي الإجابة بالضبط. فحل مشكلة الحياة يُدرك في اختفاء هذه المشكلة» (٦٫٥٢، ٦٫٢٥١).
ما المعنى الذي يمكننا استخلاصه من تلك المقولات الغامضة؟ إن فيتجنشتاين على الأرجح لا يقصد أن معنى الحياة هو مسألة زائفة، بل يقصد أنه مسألة زائفة فيما يتعلق بالفلسفة. لم يكن فيتجنشتاين يُكِنُّ الكثير من الاحترام للفلسفة، والتي كان يتمنى أن يضع لها كتابه «الرسالة الفلسفية المنطقية» نهاية. فقد كان يعتقد أن جميع الأسئلة الحيوية تقع خارج إطار حدودها الصارمة. فليس معنى الحياة شيئًا يمكن أن يقال في شكل افتراض واقعي؛ وقد كان هذا النوع من الافتراضات هو النوع المنطقي الوحيد بالنسبة لفيتجنشتاين في بداياته. ويمكننا أن نلمح شيئًا من معنى الحياة حين ندرك أنه ليس من هذا النوع من الأشياء التي يمكن أن تمثل إجابة لسؤال ذي معنى على المستوى الفلسفي. إنه ليس «حلًّا» على الإطلاق. وما أن ندرك أنه يتجاوز حدود جميع مثل هذه الأسئلة، ندرك أن «هذه» هي إجابتنا.
إن كلمات فيتجنشتاين التي استشهدتُ بها فيها في موضع سابق في الكتاب — «الغموض لا يكمن في كيفية نشأة العالم، ولكن يكمن في وجوده أصلًا» — ربما تعني أن بإمكاننا الحديث عن هذه الظروف أو تلك في العالم، ولكن ليس عن قيمة أو معنى العالم ككل. وهذا لا يعني أن فيتجنشتاين قد رفض هذا الحديث باعتباره لغوًا فارغًا، مثلما فعل الوضعيون المنطقيون. على العكس، فقد كان يعتقد أنه أهم بكثير من الحديث عن الظروف الواقعية. كل ما في الأمر أن اللغة لم تستطع تمثيل العالم ككل. ولكن على الرغم من عدم إمكانية التعبير لفظيًّا عن قيمة ومعنى العالم ككل، فقد كان بالإمكان إظهارهما. وتمثلت إحدى الطرق السلبية لإظهارهما في توضيح ما «لم» يكن بإمكان الفلسفة قوله.
إن معنى الحياة ليس حلًّا لمشكلة، ولكنه مسألة العيش بأسلوب معين. إنه ليس مسألة ميتافيزيقية، بل مسألة أخلاقية. إنه ليس شيئًا منفصلًا عن الحياة، ولكنه الشيء الذي يجعلها جديرة بأن تعاش؛ أي أنه يمثل سمة وعمقًا ووفرة وقوة معينة للحياة. وفي هذا الإطار يكون معنى الحياة هو الحياة ذاتها ولكن بعد إدراكها بطريقة بعينها. ويشعر المتاجرون بمعنى الحياة بالإحباط بشكل عام نتيجة هذا الزعم، إذ لا يبدو غامضًا وفخمًا كفاية. بل إنه يبدو عاديًّا ومفهومًا أكثر من اللازم، أي إنه أكثر تنويرًا بدرجة طفيفة من الإجابة «٤٢». بل أكثر من الشعار المكتوب على القمصان القطنية الذي يقول: «ماذا لو كان الأمر كله يدور حول الهوكي كوكي؟» إنه يأخذ السؤال الخاص بمعنى الحياة من أيدي زمرة من الخبراء الجهابذة أو المتخصصين ويعيده إلى الوجود اليومي. وتلك هي نوعية السخافات التي أسسها متَّى في إنجيله، حيث يظهر عودة ابن الإنسان في مجده محاطًا بالملائكة من أجل يوم الحساب. وعلى الرغم من هذه الصور المجازية الكونية الجاهزة، يتبين أن الخلاص قضية مملة بشكل مثير للحرج؛ إنه مسألة إطعام الجوعى، وتقديم الشراب للظمأى، والترحيب بالغرباء، وزيارة المساجين. إنه لا يحمل أي سحر أو عبير «ديني» مميز أيما كان؛ فبإمكان أي شخص أن يقوم به. فيتضح أن مفتاح الكون لا يكمن في إدراك مزلزل، ولكنه شيء يفعله الكثير من الناس على أية حال دون أدنى تفكير. إن الخلود لا يكمن في حبة رمل، ولكن في كوب من الماء. فالكون يقوم على مواساة المرضى والتسرية عنهم. وحين تسلك هذا النهج، فإنك تشارك في الحب الذي أنشأ النجوم. والعيش بهذه الطريقة لا يعني امتلاك حياة فحسب، بل امتلاكها بوفرة.
ويعرف هذا النوع من النشاط بالحب، ولا علاقة له بالمشاعر الشهوانية أو حتى العاطفية. إن وصية المحبة مجردة من الذاتية بشكل بحت؛ فنموذجها الأساسي هو حب الغرباء، وليس هؤلاء الذين ترغب فيهم أو تعجب بهم. إنه ممارسة أو طريقة حياة، وليس حالة ذهنية. ولا صلة له بالمشاعر الدافئة أو العلاقات الشخصية الحميمة. إذن، فهل الحب هو معنى الحياة؟ لا شك أنه كان المرشح المفضل لعدد من المراقبين الفطنين، لا سيما الفنانين. إن الحب يشبه السعادة في أنه يبدو كمصطلح قاعدي، أي غاية في حد ذاته. وعلى غرار السعادة، يبدو الحب جزءًا من طبيعتنا؛ فمن الصعب أن نقول لماذا يجب أن نعبأ بإعطاء الماء للظمأى، لا سيما إذا كنت تعلم أنهم سيفارقون الحياة في غضون دقائق على أية حال.
غير أنه على أصعدة أخرى يوجد تصادمات بين القيمتين. فالشخص الذي يقضي حياته في الاعتناء بطفل معاق إعاقة بالغة إنما يضحي بسعادته في سبيل حبه، حتى لو كانت هذه التضحية تبذل أيضًا باسم السعادة (سعادة هذا الطفل). كذلك قد يؤدي بك القتال من أجل العدالة — والذي يعد شكلًا من أشكال الحب — إلى الموت. إن الحب قضية مرهقة ومثبطة للهمة، تمتزج بالمعاناة والإحباط، وتختلف تمامًا عن الرضا الأحمق المشع بالبهجة والإشراق. ولكن يظل من الممكن أن تجادل بأن الحب والسعادة ينتهي بهما الحال كتوصيفات مختلفة لنفس أسلوب الحياة. ولعل أحد أسباب ذلك أن السعادة في واقع الأمر ليست رضا أحمق يشع بالبهجة، ولكنها (على الأقل بالنسبة لأرسطو) الحالة التي تنبع من الازدهار الحر لقدرات وقوى الفرد. ويمكن القول بأن الحب هو نفس الحالة ولكن مع النظر إليها بكلمات قريبة الشبه؛ إنه الحالة التي يتأتى فيها ازدهار الفرد من ازدهار الآخرين.
كيف لنا أن نفهم هذا التعريف للحب، برغم ابتعاده عن كل من كاتولوس وكاثرين كوكسون؟ بادئ ذي بدء، يمكننا العودة إلى مقترحنا السابق بأن احتمالية أن يكون للحياة الإنسانية معنى مدمج فيها لا تعتمد على إيمان بقوة خارقة من نوع ما. فمن المحتمل أن تطور البشر كان عشوائيًّا وعرضيًّا، ولكن لا يترتب على ذلك بالضرورة ألا يكون لهم طبيعة ذات نوعية خاصة. والحياة الصالحة بالنسبة لهم قد تكمن في إدراك تلك الطبيعة. فالنحل قد تطور بشكل عشوائي أيضًا، ولكن بالتأكيد يمكن القول بأن له طبيعة محددة؛ فالنحل يفعل الأشياء الخاصة بالنحل. ويكون هذا أقل وضوحًا بكثير في حالة البشر، إذ إن جزءًا من طبيعتنا — على عكس النحل — أننا حيوانات ثقافية، والحيوانات الثقافية مخلوقات شديدة الغموض. ومع ذلك، يبدو واضحًا أن الثقافة لا تلغي «كياننا النوعي» أو طبيعتنا المادية. فنحن بحكم طبيعتنا — على سبيل المثال — حيوانات اجتماعية يجب أن تتعاون وإلا تموت؛ ولكننا أيضًا كائنات فردية تسعى لتحقيق إشباعها الذاتي. فتحقيق الهوية الفردية هو نشاط لكياننا النوعي، وليس حالة تتعارض معه. فلم نكن لنستطيع تحقيقها — على سبيل المثال — لولا اللغة، التي هي ملك لي فقط لأنها ملك للنوع البشري الذي أنتمي إليه أولًا.
وبناء على النظرية التي اقترحتها للتَّوِّ، فإنه لا يوجد أي تعارض نهائيًّا بين اثنين من أقوى المتنافسين في رهانات معنى الحياة؛ ألا وهما الحب والسعادة. فإذا كانت السعادة تُرى بعين أرسطية بوصفها الازدهار الحر لملكات المرء، وإذا كان الحب هو نوعية التبادل التي تتيح لذلك أن يحدث على النحو الأمثل له، فلا يوجد صراع حاسم بينهما. ولا يوجد أيضًا صراع بين السعادة والفضيلة، بالنظر إلى أن معاملة عادلة ورحيمة للآخرين تعد على النطاق الواسع للأمور واحدة من شروط الازدهار الشخصي للفرد. ومن ثم تقل الحاجة للقلق بشأن نوعية الحياة التي تبدو ذات معنى من حيث كونها إبداعية وديناميكية وناجحة ومكتملة، ولكنها تتألف من تعذيب الآخرين أو سحقهم. وبناء على هذه النظرية أيضًا، فإن الفرد ليس مرغمًا على الاختيار بين عدد من المرشحين المختلفين من أجل تحقيق الحياة الجيدة، مثلما يشير جوليان باجيني إلى حتمية هذا الاختيار. فيقدم باجيني مجموعة من الاحتمالات لمعنى الحياة — السعادة والإيثار والحب والإنجاز وفقدان أو نكران الذات والمتعة والخير الأصلح للنوع — ويشير بأسلوبه المتحرر إلى وجود قدر من الحقيقة فيها جميعًا. ومن هذا المنطلق يُقترح نموذج للاختيار والمزج. وهكذا على طريقة المصممين، يمكن لكل منا أن يأخذ ما يريد من هذه العناصر المتنوعة ويمزجها مكونًا منها حياة ملائمة له بشكل متفرد.
إذن، هل موسيقى الجاز هي معنى الحياة؟ ليس بالضبط. فالهدف سيكون إذن بناء مجتمع من هذا النوع على نطاق أوسع، وهو ما يمثل مشكلة سياسة. ولا شك أنه طموح مثالي إلى حد الخيال، ولكن ليس في ذلك ما يسوء. إن الهدف وراء مثل هذه الطموحات هي الإشارة إلى اتجاه ما، بغض النظر عن استحالة بلوغنا هذا الهدف مع الأسف. إن ما نحتاج إليه هو صورة من صور الحياة لا هدف لها إطلاقًا، مثلما يخلو عرض الجاز من أي هدف. فبدلًا من خدمة هدف نفعي أو غاية ميتافيزيقية جدية، فهو متعة في حد ذاته؛ فهو لا يحتاج إلى تبرير يتجاوز نطاق وجوده. وفي هذا الإطار، يقترب معنى الحياة بشكل مثير من انعدام المعنى. والمتدينون الذين يرون هذه النسخة من معنى الحياة هادئة أكثر من اللازم حتى إنها لا تمثل لهم مصدرًا للارتياح يجب أن يذكروا أنفسهم بأن الإله أيضًا هو غاية نفسه، وأساسه، وأصله، ومنطقه، ومتعته الذاتية، وأن العيش على هذه الوتيرة هو وحده ما يجعل بالإمكان القول بأن البشر يشاركون في حياته. أحيانًا ما يتحدث المتدينون وكأن أحد الفروق الأساسية بينهم وبين غير المتدينين يكمن في أنهم يرون أن معنى وهدف الحياة يكمنان خارجها. ولكن هذا ليس صحيحًا تمامًا حتى بالنسبة للمتدينين. فالإله — من منظور اللاهوت الكلاسيكي — يفوق العالم، ولكنه يبرز بداخله كعمق. وكما يشير فيتجنشتاين في موضع ما: إذا كان هناك ما يسمى بالحياة الأبدية، فلا بد أن تكون هي الحياة الحاضرة الآن. فاللحظة الحالية هي صورة للخلود، وليست تتابعًا لانهائيًّا لمثل هذه اللحظات.
إذن هل غطينا السؤال على نحو حاسم؟ إن من سمات الحداثة أنه نادرًا ما تتم تغطية أي سؤال مهم بشكل تام. فالحداثة — كما أشرت من قبل — هي الحقبة التي ندرك فيها أننا عاجزون على الاتفاق حتى على أهم القضايا وأكثرها جوهرية. ولا شك أن مجادلاتنا المستمرة حول معنى الحياة سوف يثبت أنها مثمرة. ولكن في عالم يحيق بنا فيه خطر داهم، فإن إخفاقنا في إيجاد معانٍ مشتركة يعد مصدر تحفيز بقدر ما هو مصدر إزعاج.