الحملة الفرنسية
لما اعتزمت الحكومة الفرنسية فتح البلاد المصرية؛ لعرقلة طريق الهند أمام الإنجليز حتى يضطروا إلى قبول الصلح، وعهدت إلى الجنرال بونابارت في تنفيذ هذه الخطة الجريئة، رأى هذا القائد البارع والسياسي المحنك أن السيف لا يكفي وحده لسلامة جيوشه والمحافظة على فتوحه فعقد النية على بث روح التعاون بين الحاكم والمحكوم، وتوثيق عرا الصداقة بينهما، وقرر تأليف حكومة أهلية تتفق مبادئها مع مبادئ الثورة الفرنسية، فتقوم بإدارة مصالح الشعب وتوفير طمأنينته، إلا أن اضطراب الأحوال السياسية والحربية، ولا سيما بعد إغراق الأسطول الفرنسي في معركة أبي قير، وجهل الأعيان والشيوخ في مصر يومئذ بأساليب الحكم الجديد، حمل نابليون على وضع هذه الحكومة الناشئة تحت إشرافه ورقابته.
وكان يجب على الرجل الذي نبتت في ذهنه هذه الخطة الجريئة أن يفكر في السعي إلى تحقيقها على الوجه الأكمل حتى إذا ما اعترضته بعض المصاعب تمكن من تذليلها، وكانت مسألة اللغة من أهم المصاعب التي قد تعوق علاقات الحاكم بالمحكوم. فكان لا بد للجنرال بونابارت أن يستدعي معه من لهم إلمام باللغات الشرقية حتى ييسروا عليه مهمته كلما أراد التحدث إلى الأعيان أو استطلاع رأيهم أو مفاوضتهم أو إرشادهم، فأدت هذه الحركة إلى ترويج صناعة الترجمة في مصر.
وكان في فرنسا وقتئذ بعض المستشرقين والمتخرجين في مدرسة اللغات الشرقية التي أنشأها الملك لويس الرابع عشر في القرن السابع عشر؛ لتخريج المترجمين الصالحين لإلحاقهم بالسفارات والقنصليات في الشرق، وكان بعضهم قد اكتسبوا شهرة عظيمة بسبب إقامتهم عهودًا طويلة في البلاد الخاضعة للدولة العثمانية أو المجاورة لها، واختلاطهم بأعيانها وحكامها حتى إنهم أتقنوا لغاتها. فانتفع بونابارت بمعلوماتهم وخبرتهم، ولكن بالرغم من الأعباء الثقيلة التي فرضها عليهم، ظل عددهم قليلًا إلى انتهاء الحملة، وكان معظمهم يتقنون اللغتين الفارسية والتركية أكثر من اللغة العربية التي لم يجيدوها إلا بعد تمرينٍ طويل ومشقة بالغة.
- (١) القيام بمهمة المترجم Intérprete: احتاج الجنرال بونابارت وكبار قواده إلى من ييسر لهم الاتصال بالشعب، وكان هؤلاء التراجمة في بادئ الأمر من الفرنسيين، حتى إذا اتسع نطاق العمل استعانوا ببعض الشرقيين، ولا سيما السوريين.
- (٢)
ترجمة الوثائق الرسمية والإدارية: قبل أن ينزل الجنرال بونابارت إلى البر، وزع منشورًا على أهالي الإسكندرية يكفل لهم حرية العقيدة، واحترامه الدين الإسلامي، ويحثهم على مناصرة الفرنسيين، ومحاربة المماليك الطغاة، وقد تولى «فانتور» ترجمة هذه الوثيقة، وطبعها المستشرق «حنا يوسف مارسيل» مدير مطبعة الحملة فوق الباخرة «لوريان» ووزع منها أكثر من أربعة آلاف نسخة على رجال الدين والأعيان، وتعتبر هذه الوثيقة أول عمل أخرجته مطبعة عربية في الشرق، واستمر المترجمون بعد ذلك في ترجمة المنشورات الرسمية، والأوامر الإدارية كما أخذوا يترجمون إلى الفرنسية الشكاوى الكثيرة التي كان يرفعها الأهالي إلى الديوان.
- (٣)
ترجمة الكتب العلمية: وبالرغم من الأعمال الإدارية الكثيرة التي أثقلت كاهل المترجمين استغل بعضهم أوقات فراغه القصيرة؛ لتحسين الكتابة العربية، أو مناقشة رجال الدين والعلم، أو ترجمة دواوين الشعراء، أو بعض المؤلفات العربية والعلمية والأدبية والدينية التي سيأتي ذكرها فيما بعد.
(١) مترجمو الحملة وأهم أعمالهم
(١-١) المستشرق فانتور Jean Michel Venture De Paradis
أعماله
وهو مخطوط عربي مودع مكتبة باريس تحت رقم ٢٢٠٤٩٣.
(١-٢) المستشرق جوبير Lours-Amedee Jaubert
اختاره بونابارت للسفر معه إلى مصر بتوصية فانتور، وذلك بعد أن رفض العلامة لانجليس الانضمام إلى رجال الحملة (ويقال: إن هذا العلامة كان يجيد جميع اللغات الشرقية) وكانت معلومات جوبير في اللغة العربية مقصورة على قواعدها التي تعلمها على يد المستشرق الكبير «سيلفستر دي ساسي» ولكنه أتقنها فيما بعد بفضل اجتهاده، وساعده على ذلك مناقشاته المتوالية للعلماء والشيوخ وأعضاء الديوان، ولما توفي فانتور حل محله كبيرًا لمترجمي الحملة فازدادت مخصصاته وتبعاته.
ولما غادر جوبير البلاد المصرية مع سائر رجال الحملة عين مدرسًا للغة التركية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، ثم مدرسًا للغة الفارسية في الكوليج دي فرانس فناظرًا لمدرسة اللغات الشرقية، ومما يثير الدهشة أنه لم يعين قط مدرسًا للغة العربية، وهذا دليل واضح يثبت ما ذكرناه قبل ذلك وهو أن أهم مترجمي الحملة كانوا يجيدون اللغتين التركية والفارسية أكثر من إجادتهم اللغة العربية.
أعماله
(١-٣) المستشرق مارسيل Jean Joseph Marcel
ويقول مارسيل: إنه جمع أكثر من ألفي مخطوط باللغة العربية والفارسية والتركية والقبطية، وإنه لم يندم على ما بذله من المال، وما عانى من مشقة البحث للحصول على هذه المجموعة، ويروى عنه أنه بينما كانت مدافع الفرنسيين تضرب ساحة الأزهر حيث كان الثوار قد لجئوا إليها، قفز مارسيل وسط اللهيب؛ لينقذ من النار بعض المخطوطات الثمينة التي كانت في المسجد.
- متنوعات الأدب الشرقي Mélanges de Litterature Orientale: جمع مارسيل مقتطفات من آثار أشهر شعراء العرب وكتابهم، وترجمها إلى اللغة الفرنسية، فنالت استحسان الجمهور.
- القاموس الفرنسي العربي للغة العربية العامية: وهي طبعة منقحة للقاموس الصغير الذي نشره في القاهرة سنة ١٨٩٨، ويضم هذا القاموس٦ أكثر من أربعين ألف كلمة، ولا شك أن لهذا المجهود فائدة عظيمة، قال مارسيل في مقدمة قاموسه: «شوهت البلاد العربية اللغة الأصلية التي كان ينطق بها عرب الجاهلية. فلما وصلت إلى الإسكندرية منذ أربعين سنة (مع الحملة الفرنسية) لاحظت مع الأسف أن خادمي الخاص لا يفهم كلامي كما أنني لا أفهم كلامه بالرغم من أنني تلقيت دروس اللغة العربية على يد أساتذة مهرة. فتعلمت اللغة العامية، وتمكنت بعد جهد عظيم أن أنشر في مصر قاموسًا موجزًا للغة العربية العامية.٧
- تحفة المستيقظ العانس في نزهة المستنيم والناعس: وهي ترجمة مخطوط عربي إلى اللغة الفرنسية، طبعها مارسيل سنة ١٨٣٥ في ثلاثة أجزاء، وذكر في المقدمة كيف أمكنه العثور على هذه الوثيقة. فقال: «تعرفت على كثير من أعيان القاهرة، ولكني عاشرت على الأخص الشيخ المهدي، فكانت علاقاتنا مستمرة ومصطبغة بصبغة الصداقة، وبينما كنا نتحدث في أحد الأيام عن الأدب العربي كلمته عن كتاب ألف ليلة وليلة. فقال لي: هذا كتاب يرجع إلى زمن قديم جدًّا، وعلى كل حال فقد اقتدى به كثير من الكتاب في تأليف ما يشابهه، وإني شخصيًّا أملك مخطوطًا من هذا النوع. فأظهرت له رغبتي في قراءة هذا المخطوط فأتى به في اليوم التالي وأهداه إليَّ راجيًا مني قبوله، وهذا المخطوط كتبه بيده وإني أعتقد أن الشيخ المهدي هو مؤلفه على رغم عدم اعترافه هو بذلك.»٨
وهؤلاء المستشرقون الثلاثة يعدون أهم مترجمي الحملة، ولا شك أنهم قاموا بأكبر قسط من العمل الملقى على عاتق المترجمين، وتركوا فوق ذلك أبحاثًا قيِّمة في التأليف والترجمة، وكان يساعدهم على أداء هذه المهمة الشاقة بعض المتخرجين في مدرسة اللغات الشرقية بباريس ومن بينهم:
(١-٤) ديلابورت Jacques-Dgnis Delaporte
ولد في سنة ١٧٧١ وتوفي في سنة ١٨٦١، وكان العالم دي ساسي أستاذه في اللغة العربية، واشتهر بعد ذلك بإجادة هذه اللغة، وجاء إلى مصر مع الحملة، وألحق بإدارة مدير الشئون المالية، وكتب تاريخًا موجزًا لعصر المماليك نشره باللغة الفرنسية في الجزء السادس عشر من كتاب «تخطيط مصر».
(١-٥) بيلتيت Belletete ou Belleteste
(١-٦) براسيفيش Damien Bracevich
(١-٧) بانهوسن Panhusen
عين في بدء الحملة مترجمًا خاصًّا للجنرال كليبر، ثم اختفى عن زملائه يوم نزول القوات الفرنسية، وانقطعت أخباره حتى الآن.
(١-٨) لوماكا Jean-Baptiste Santi L’homaga
(١-٩) رينو Jean Renno
مترجم ملحق بالجيش.
•••
أما المترجمون الشرقيون: فكان عددهم قليلًا أيضًا وهم جبران سكروج وإلياس فخر وبترو سافرلو وإبراهيم صباغ ومسابكي وإليوس (إلياس) بقطر والأب روفائيل زخورة، ولم يشتهر منهم إلا اثنان هما إليوس بقطر والأب روفائيل.
(١-١٠) إليوس بقطر
ولد في أسيوط سنة ١٧٨٤ من أب قبطي، ولما بلغ الخامسة عشر من عمره ألحق بقيادة الجيش الفرنسي مترجمًا، وسافر إلى فرنسا مع سائر رجال الحملة، وعين سنة ١٨١٢ لترجمة الكتب المودعة محفوظات وزارة الحربية. ثم ألحق بالجيش مترجمًا، وألغيت وظيفته سنة ١٨١٤، وفي سنة ١٨١٧ أجيز له تدريس اللغة العربية العامية بمدرسة اللغات بباريس، وتوفي سنة ١٨٢١.
(١-١١) الأب روفائيل دي موناكيس Dom Raphael De Monachis
•••
وقصارى القول: إنه كان للحملة الفرنسية شأن عظيم في إحياء الترجمة في مصر، ولكن قوادها لم يهتموا بترجمة الكتب والمقالات العلمية؛ لتوزيعها على الشعب كما فعل فيما بعدُ محمد علي باشا، بل اقتصر اهتمامهم على ترجمة ما يتصل بالأعمال الإدارية والعسكرية وحدها. أما مؤلفات المستشرقين: فإنهم لم ينتهوا منها أثناء الحملة، على أنها كانت فوق مستوى شعب أهمل تعليمه فلا يستطع أن يجني أية ثمرة منها.
هوامش
G. Guémard, les Orientalistes de L’Armée d’Orient.
وينبغي لنا أن نذكر أن التباين بين اللغة العربية الفصحى واللغة العامية لفت نظر كثيرين من الأدباء ففكروا هم أيضًا في وضع معجم يشابه معجم مارسيل، وكتب في هذا الموضوع السيد عيسى إسكندر المعلوف في الجزء الأول من مجلة مجمع اللغة العربية تحت عنوان «اللهجة العربية العامية» (صفحة ٣٥٠–٣٦٨) وذيل مقاله بأسماء بعض المعجمات للغة العامية، نكتفي بذكر ما طبع منها بمصر، وهي:
- (أ) معجم إلياس بقطر القبطي: وفيه لغة مصر والشام والمغرب وتونس العامية، طبع بباريس سنة ١٨٦٤ وفي مصر سنة ١٢٨٩ﻫ (١٨٧٢).
- (ب) الشذور الذهبية في الألفاظ الطبية: وهو معجم للمصطلحات العامية، تأليف محمد عمر التونسي، المتوفي سنة ١٢٧٤ﻫ (١٨٥٧) مخطوط في ٦٠٠ صفحة في باريس، ونقل للخزانة السلطانية في القاهرة بالتصوير الشمسي.
- (جـ) منظومة عمر إسماعيل الزجلية: أظهر فيها تمازج العربية بغيرها من اللغات والعبارات الركيكة، طبعت في القاهرة سنة ١٨٨٣م.
- (د) اللغة العربية العامية في مصر والشام، لميخائيل الصباغ السوري، المتوفي سنة ١٨١٦م، طبع هذا الكتاب في ستراسبورج سنة ١٨٨٦.
- (هـ) الرسالة التامة في كلام العامة، لميخائيل الصباغ المذكور.
- (و) المناهج في أحوال الكلام الدارج، لميخائيل الصباغ أيضًا، ولا نعلم عن الرسالتين الأخريين شيئًا.
- (ز) مميزات لغات العرب وتخريج اللغات العامية منها. لحفني بك ناصف، طبعت سنة ١٨٨٦ في ٤٨ صفحة.
- (ﺣ) الترجمة والتعريب، لحمزة فتح الله المصري، خطاب ألقاه في المجمع العلمي في فيينا سنة ١٨٨٦، وطبع بالمطبعة الحجرية في مصر في ٣٠ صفحة بقطع الربع العريض، وفيه بحوث في اللغة العامية.
- (ط) التحف الوفائية في اللغة العامية المصرية، للسيد وفاء محمد، طبعت بالقاهرة سنة ١٣١٠ﻫ (١٨٩٢) في ١١٩ صفحة.