زمن صباه
قال الفيلسوف: لله ما أحسن أيام الصبا التي لا تعود! وما أحلى ذكراها في فمي وأطربها على فؤادي! فإنها تنعش صدري، وترفع نفسي، وهي ألذُّ ذكرى عندي؛ لأنها تذكرني بما مرَّ في زمن الصبا من أويقات الأنس والصفاء، فقد كنت أقضي سحابة نهاري باللعب حتى يجيش دمي فأدخل مساءً غرفة الطعام، وأجلس على مقعدي الخاص أمام المائدة، وأتناول قدحًا من اللبن اللذيذ المحلى بالسكر، وبعد ذلك يسطو عليَّ النعاس فيثقل جفناي في وقت أفضِّل فيه البقاء في مكاني على براحه؛ لكي أتمتع بالإصغاء للحديث، وكيف لا أصغي لحديث والدتي مع الآخرين؛ فإن صوتها الرخيم وكلامها العذب كانا يخرقان أعماق قلبي ويرتسمان فيه كأنهما من نار، ولكن عينيَّ كانتا تزيدان ثقلًا، وسلطان النوم يسطو عليَّ فأتفرس بوالدتي فأراها تصغر كثيرًا حتى يصبح وجهها بنظري بقدر الذرِّ، ولكنه مع ذلك واضح لي تمام الوضوح، ويظهر لي أنها تنظر إليَّ مبتسمة فأطرب جدًّا بمرآها على تلك الصورة، فأحدق بعينيَّ وأشدهما لأتمكن من رؤيتها أكبر مما هي ظاهرة لي، ولكنها لا تبلغ في نظري حجم أولئك الصبيان الذين نراهم في إنسان العين.
ثم أنهض من مكاني وأضطجع على الكرسي الهزاز الكبير فتقول لي أمي: إنك تنام على الكرسي ويضرك البرد، وخير لك أن تذهب إلى غرفة منامك في الطابق الأعلى. فأجيبها أني لا أريد أن أنام، غير أن نوم الصبا الصحيح كان يثقل جفوني فأنام نومًا هنيئًا هادئًا، ولا أستيقظ إلا عندما توقظني، فأشعر إبَّان نومي بأن يدًا ناعمة لطيفة تطوِّق عنقي، وبمجرد لمسها لي كنت أعرفها حالًا وأجذبها إليَّ وألصقها بفمي وأقبِّلها قبلات حارة متعددة؛ فتخاطبني بصوتها الحنون قائلة: انهض يا روحي، قد حان وقت النوم. أما أنا فكنت أتناوم غير خائف كدرها، وإنما أفعل ذلك قصدًا؛ لتزيد في مداعبتي وملاطفتي فلا أفوه ببنت شفة، ولا أبدي حركة؛ بل أقبِّل يدها مرارًا وتكرارًا، فتقول: انهض يا ملاكي، قم يا عمادي، استيقظ يا مهجة فؤادي وقرة عيني. ثم تدغدغني بيدها الأخرى، فتتنبه أعصابي، وأنهض مدفوعًا فأرى أمي جالسة أمامي، فأطوِّق عنقها بيدي، وأضع رأسها على صدري، وأتنفس الصعداء، وأقول: آه كم أني أحبك يا أماه! فتتبسم ابتسامة تشفُّ عن حب عظيم، ثم تجذب رأسي إليها، وتقبِّل جبيني، وتنهضني على حجرها، وتقول لي: إذن أنت تحبني يا ليون، فداوم على حبك، ولا تَنْسني أبدًا، وإذا جاءك يوم لم تجد فيه أمك فلا تَنْسها؛ بل ابقَ على حبها كما لو كانت أمامك. ثم تكرر تقبيلي فتتهيج حواسي وأذرف دمعًا سخينًا، وأقابلها بالقبلات الحارة، وبعد ذلك أصعد إلى الطابق الأعلى، وأدخل غرفة النوم، وأقف أمام الأيقونات، وأصلي صلاة وجيزة أختمها بالدعاء بطول بقاء والديَّ، ولا أجد أعذب من تلك الألفاظ لفؤادي، وهي عندما كنت أقول: ارحم يا الله أبي وأمي، وحين تلاوة تلك الصلاة كنت أشعر بسعادة عظمى؛ ذلك لأني أمزج محبة والديَّ بمحبة الله الحي.
وبعد الصلاة أتوسد الفراش فتهجم عليَّ الأفكار والهواجس، فتطرد بعضها بعضًا، وكلها ملآنة بحب طاهر وآمال عظيمة بالسعادة النيرة المستقبلة، فيمر في مخيلتي ذكر أستاذي كارلوس وما حل به من المصائب؛ فأتألم من ذلك كثيرًا، فأسأل الله القادر على كل شيء أن يخفف مصابه، وأن يمكنني من مساعدته لأقدم له كل ما في استطاعتي تقديمه. ثم تنتقل أفكاري فجأة إلى ألعوباتي وكلبي الأمين الذي كنت أحبه، فترتاح نفسي لذلك، ولا يعود يهمني إلا أن يكون الجو في اليوم التالي جميلًا لأتمكن من الخروج إلى النزهة، ثم أتحوَّل إلى جانبي الآخر فتمتزج تلك الهواجس والأفكار فأنام نومًا هنيئًا لذيذًا، ووجهي رطب بدموع السرور والابتهاج، فهل يا ترى تعود إليَّ هذه الوجدانات الرقيقة وعواطف المحبة العامة الشديدة، وقوة الإيمان والرجاء الزائد التي كنت حائزًا عليها في أيام صغري؟ وأيُّ شيء يتمنى الإنسان خيرًا من أن تجتمع فيه صفتان جيدتان؛ سرور دائم طاهر، وحبٌّ زائد للجميع، وتكون هاتان الصفتان ملازمتين له في جميع أدوار حياته، ومحركتين له على فعل الخير والصلاح والأعمال الحسنة المرضية. أين تلك الصلاة الحارة؟ وأين تلك المواهب الثمينة، وتلك الدموع الطاهرة؛ دموع الالتماس والآمال؟ لقد هبط ملاك التعزية ومسح تلك الدموع ببشاشة وهشاشة. فهل الحياة ألقت على عاتقي حملًا ثقيلًا من متاعبها، ونزعت عني تلك الدموع والأفراح، ولم تبقِ لي سوى ذكرها …؟
ومما قاله ذاكرًا زمن فتوته: أيصدِّقني الناس لو علموا الأفكار التي كانت موضوع تأملاتي الدائمة في أيام فتوتي، ذلك لأنها غير مطابقة لسني وحالتي، وعلى رأيي أن عدم المطابقة بين حالة الإنسان وأعماله الفكرية الأدبية هي برهان واضح للحقيقة، وإني قد انفردت سنة كاملة كنت أسعى في أثنائها لحل بعض مسائل عويصة ظهرت في فكري، ولم أتمكن من كشف النقاب عن محياها بالنظر لصغر سني، وهي: ماهية الإنسان، وحياته المستقبلة، وخلود النفس، ومع هذا فإن عقلي القاصر في ذلك الحين كان يلتهب لإيضاح هذه المسائل التي تعد بعرفي خطوة شاسعة؛ ليستطيع أن يدركها عقل الفتى الذي لم يُتِح له السن حل معمَّاها أو إيضاحه.
ويظهر لي أن العقل البشري يترقى في كل شخص بمفرده بحسب الطريقة التي يسير عليها في التثقيف، وأن الأفكار التي تشتغل لتكون أساسًا للأعمال الفلسفية ليست إلا قسمًا متحدًا مع العقل، فهما من هذا القبيل رضيعا لبان، وأن كل إنسان يشعر بها، ويميل إليها قبل أن يدرس الفلسفة، ولقد تمثلت هذه الأفكار في عقلي تمثلًا واضحًا، حتى إنني عزمت على أن أتخذها طريقة أسير عليها في جميع أدوار حياتي، وكنت أتوهم في نفسي بأني أول مكتشف لهذه الحقائق العظيمة النافعة، ومرة خطر على بالي فكرٌ، وهو أن السعادة لا تتوقف على الأسباب الطارئة الخارجية؛ بل على علاقاتنا بتلك الأسباب ونسبتنا إليها، وأن الإنسان الذي تعوَّد خوض المنايا واحتمال المشقات والمصاعب، لا يمكن أن يكون تعيسًا، أو يشعر بالتعاسة، وأنا لكي أعوِّد ذاتي على التعب كنت أحمل بيديَّ الممدودتين مدة خمس دقائق قاموسًا غير مبالٍ بالألم الشديد.
وذات يوم ورد على فكري فجأة بأن الموت ينتظرني في كل ساعة وكل دقيقة، وقد حتمت دون أن أدرك تلك الحقيقة التي لم يدركها الناس السالفون بأن خير واسطة لسعادة الإنسان هي أن يتمتع، وينتفع بالحاضر، ولا يفتكر بالمستقبل، فأثر في نفسي هذا الفكر تأثيرًا شديدًا، حتى إنني خضعت له، وتركت الدرس ثلاثة أيام متوالية، واضطجعت على سريري، وتفكَّهت بمطالعة الروايات، وتنعمت بألذ المأكولات وأشهاها.
ومرة وقفت أمام اللوح الكبير الأسود في غرفة التدريس، وجعلت أرسم عليها بالتباشير صورًا مختلفة غير مرتبة، فخطر لي فجأة معنى وهو لما يسر النظر بالترتيب والانتساق، وسألت نفسي ما هو الانتساق؟ وعلى أي شيء مؤسس؟ وهل كل شيء في هذه الحياة منتسق الوضع؟ فقلت: كلا هذا غير ممكن، ثم رسمت على اللوح صورة فرضت بأنها الحياة، وقلت: إن النفس تذهب بعد الحياة إلى الأبدية، فمددت خطًا طويلًا من الصورة حتى إلى آخر اللوح، ورسمت في آخر الخط صورة وفرضت بأنها الأبدية، ثم سألت نفسي: لماذا لا يوجد خط آخر من جهة صورة الحياة المقابلة؟ وكيف لا يمكن أن تكون الأبدية من جهة واحدة فقط … فلا ريب بأننا وُجدنا قبل هذه الحياة، ولكننا قد نسينا وجودنا ولم نعد نتذكره؟
إن هذا الفكر ظهر لي بأنه جديد، لكنه واضح لا يحتاج إلى برهان، ثم أخذت دفترًا وعزمت أن أكتبه فيه كي لا أنساه غير أن الأفكار العديدة تجمعت في تلك الآونة في رأسي، وحالت دون ذلك، ولم أجد وسيلة لطردها سوى أني نهضت من مكاني، وشرعت أتخطر في الغرفة ذهابًا وإيابًا، ثم أبصرت فرسًا فجعلت أفتكر أين تذهب روحها بعد موتها؛ أإلى إنسان أم حيوان؟ وبينما كنت أجهد أفكاري لحل هذا السؤال دخل عليَّ أخي، فلاحظ أنني أفتكر بأمر ذي بالٍ فابتسم، وابتسامته هذه وضعت حدًّا لأفكاري، وأفهمتني بأن كل ما أفتكر به ما هو إلا خرافات باطلة.
وإني لم أتمسك بمعتقدات الفلاسفة القائلين بوجود الصور والأجسام؛ لأنني أعتقد أنه لا يوجد أحد أو شيء غيري في هذا العالم، وأن الأشياء ليست بأشياء، وأن الأجسام والصور تظهر لي عندما أشاهدها أو أوجِّه إليها التفاتي، وأنه عندما لا أفتكر بها أو لا أشاهدها تختفي عني حالًا، ومجمل القول: إني وافقت مذهب سيللنغ القائل بعدم وجود الأجسام والأشياء، بل توجد نسبتنا إليها وعلاقتنا بها.
إن الأفكار الجديدة تتولد بواسطة مقدرة الإنسان من المعرفة أو الإدراك على ضبط حالة النفس بوقت محدود، ثم استعمالها عند الاقتضاء، ولا يخفى أن ميلي إلى الأفكار الجديدة رقَّى إدراكي ترقية غير طبيعية، وآل بي إلى أنه عندما أشرع أفتكر بالشيء البسيط كنت أسقط في لجة أفكار مختلفة يصعب عليَّ الخروج منها، ولا أعود أستطيع أن أحصر أفكاري بذلك الشيء الذي يشغل فكري؛ بل كنت أفتكر بماذا أفتكر، فأسأل نفسي: بم أفتكر؟ فأجيب: أفتكر بما أفتكر. وبماذا أفتكر يا ترى الآن؟ إني أفتكر بالشيء الذي أفتكر به؛ لأن الإدراك الآن قد وافى العقل … وفوق ذلك فإن اكتشافاتي الجديدة قادتني إلى محبة ذاتي، فقد جعلتُ أتصور بنفسي رجلًا عظيمًا قد اكتشفتُ لخير الإنسانية أجمعها حقائق جديدة، فأفضل ذاتي على جميع العلماء المتقدمين الذين لم يفيدوا العالم بشيء، ولكن يا للعجب والدهشة؛ فإني عندما كنت أقابل نفسي بواحد منهم كنت أجزع خوفًا من ذلك، وبمقدار ما كنت أُعلي منزلتي لذاتي لم أستطع في تلك المقابلة أن أرفعها ولو قليلًا بالنسبة إلى الغير، حتى إني لم أتمكن من أن أضبط نفسي عن الخوف والخجل لدى كل حركة تبدو مني أو لفظة أتفوَّه بها.