في سبب صداقته لصديقه ديمتري نيكيليدوف
قال الفيلسوف: دخلت ذات يوم غرفة أخي فوجدته مضطجعًا على المقعد يطالع رواية إفرنسية، فرفع رأسه ليرى الداخل، ولما أبصرني رجع إلى حالته الأولى، واستمر على المطالعة دون أن يكلمني، فأخذت كرسيًّا وجلست حذاء المنضدة، وبعد برهة سألته هل يريد البقاء في البيت أم يروم الخروج للنزهة مع أصحابه؟ فأحدق بي مليًّا بدون أن يجاوبني، فاستدللت من ذلك أنه لا يرغب الكلام معي. فأخذت كتابًا وشرعت أطالعه، ولبثنا برهة غير يسيرة لا يكلم أحدنا الآخر، فاستكبرت الأمر وقلت في نفسي: مر علينا يومان لم يرَ أحدنا الآخر فيهما، والآن لدى اجتماعنا لا يريد أن يكلمني! إن هذا مما يقضي بالأسف والعجب، وفي أثناء ذلك دخل علينا صديقا أخي دوبكدف وديمتري نيكليدوف، وسلما عليه بشوق، ولم يكترثا بي لأني أصغر منهما، ثم أخذوا يتحادثون عن أمور مختلفة.
أما أنا فلبثت في مكاني ولم أبدِ أقل حركة كأني غير موجود بينهم، وفي أثناء الحديث قال صديقا أخي له: هلم بنا نذهب هذه الليلة إلى التياترو؛ لأننا قرأنا في الجرائد إعلانًا عن رواية بديعة المثال لم يسبق تمثيلها قبل الآن. فأجابهما: لا أستطيع ذلك بالنظر لعدم استعدادي للخروج. فاشتد بينهما الحديث حتى اتصل إلى جدال عنيف وتعنيف مخيف، حتى قال ديمتري لأخي: إنك تحب ذاتك محبة شديدة، والأنانية صفة قبيحة لا يليق بالشاب الأديب أن يتصف بها! فأنكر أخي عليه ذلك، وقال: إنك تنسب إليَّ هذه التهمة ظلمًا وأنا بريء منها! فتداخلت أنا في الموضوع وسألتهم جميعًا ما هو حب الذات؟ أو ما هي الأنانية؟ فأطرقوا كلهم مليًّا، ثم عرَّفها كل منهم تعريفًا لا يطابق الحقيقة. فقلت لهم: إن تعريفكم غير صحيح، وما كنت أنتظر صدوره عنكم أنتم الذين تعلمتم العلم الصحيح، وتخرجتم في أشهر المدارس العالية «كليات». فتفرس فيَّ ديمتري وقال لي متهكمًا بي: عرِّف لنا حب الذات أيها الفيلسوف الشهير. فخفق فؤادي سرورًا؛ لأني علمت أنها أحسن فرصة أتيحت لي لأبرهن لهم بأني لست أقل منهم إدراكًا، فقلت: إن حب الذات هو أن يثق الإنسان بنفسه بأنه أحسن وأعقل جميع الناس. فقال نيكليدوف: إن تعريفك هذا لا يوافق عليه أحد أبدًا. فأجبته: لا يهمني إن كان أحد يوافقني أم لا، وإنما أؤكد لك أني أعتقد بنفسي بأني أعقل كل الناس وأحسنهم، وأعتقد أيضًا بأنك نفسك تعتقد مثل هذا الاعتقاد. فقال نيكليدوف: كلا، إني لا أعتقد بنفسي كذلك أبدًا، وإني أعرف كثيرين هم أسمى مني، وأعترف لهم بسمو العقل والإدراك عني. فأجبته: ذلك مستحيل، ولا يمكن أن يكون أبدًا أبدًا؛ فازداد فيَّ تفرسًا، وقال: هل عن جد تقول هذا الكلام؟ فأجبته: نعم، ثم نعم. وإذ ذاك حضرني خاطر فقلت له: وإني أبرهن لك على ذلك برهانًا لا تقدر على دحضه وهو: لماذا يحب كل واحد منا نفسه أكثر من الآخرين؟ … ذلك لأنه يحسب نفسه أحسن منهم، وأنه أهل للمحبة أكثر منهم، ولو أننا نجد غيرنا أحسن منا لكنا لا محالة أحببناهم أكثر من أنفسنا، وذلك مستحيل ورابع المستحيلات، فافتكرْ جيدًا وتأملْ كلامي تجد أني محق كل الحق في ما قلته. فصمت نيكليدوف هنيهة يفتكر، ولما لم يستطع أن يعترض على رأيي رفع رأسه وابتسم ابتسامة تشف عن طهارة وصداقة، وقال: ما كنت أظنك مدركًا بهذا المقدار! فشعرت إذ ذاك بأن أجنحة السعادة ترفرف فوق فؤادي.
ولا يخفى أن للمدح والثناء قوة شديدة تؤثر تأثيرًا عظيمًا في عقل الإنسان، والدليل على ذلك أنني شعرت من نفسي بأنني أصبحت أكبر وأعظم وأعقل مما كنت كثيرًا، وهذا الشعور ولَّد برأسي أفكارًا ومعاني جديدة.
ثم اتصلت ونيكليدوف من حب الذات إلى المحبة الحقيقية، وبقطع النظر من أن حديثنا يظهر للقارئ تافهًا أو بدون معنى، فقد كان له عندنا أهمية عظمى، فإن نفسينا اتفقتا اتفاقًا واحدًا كأنهما في جسد واحد، بحيث لو ضرب أحدنا على أوتار نفس الآخر لرأى أن الرنة تؤثر تأثيرًا بينًا في نفسه فتبدي نغمة واحدة، ولقد شعر كلانا بسرور عظم لاتفاق عواطفنا وشعورنا أيضًا بأنه ينقصنا وقت ليظهر فيه الواحد للآخر ما يخالج كلًّا ضميره.
ومن ذلك العهد تمكنت عرى الصداقة بيننا، فكنا ننفرد أحيانًا كثيرة في غرفتي نتطارح الحديث، ونتكلم عن معيشتنا المستقبلة، وخدمة الحكومة، والزواج، وتربية الأولاد، وما شابه ذلك، ولكن لم يكن يخطر ببالنا ولا مرة واحدة بأن كلامنا ما كان إلا حديث خرافة؛ ذلك لأننا كنا نجد فيه طلاوة جديدة تطرب حواسنا بسماعها؛ لأن الصغير يقتنع في نفسه ويعتقد في عقله اعتقادًا ساميًا.
ومعلوم أن جميع قوى نفس الشاب تكون موجهة بجملتها إلى المستقبل الذي يولِّد في رأسه أفكارًا مختلفة لذيذة، وهي لا تكون مبنية على اختبار المعيشة الماضية؛ بل على أمل عظيم بإمكان الحصول على سعادة عظمى في المستقبل، وهذا الأمل الوطيد في النفس يؤلف أو يكوِّن سعادة الشاب الحقيقية.
وعندما ابتدأ الناس يحتفلون بموسم الرفاع «كرنفال» انهمك صديقي نيكليدوف في السرور والابتهاج، وزارنا عدة مرار، ولكنه لم يلتفت إليَّ، ولم يحادثني البتة؛ فاستكبرت الأمر، وحسبت ذلك إهانة لي، وحكمت بأنه متشامخ غير أهل للصداقة، فجعلت أترقب فرصة لأعلمه بها بأني ما عدت أهتم بصداقته فأقطع معه كل علاقة.
فلما زارنا أول مرة بعد انقضاء الرفاع تقدم إليَّ على قصد محادثتي، فقابلته بعبوسة وقلت له: ليس لي وقت للحديث لأني مضطر لاحضار دروسي. ثم تركته وصعدت إلى الدور العلوي، وانزويت في غرفتي، ولكن بعد ربع ساعة فتح باب غرفتي ودخل عليَّ نيكليدوف، وقال: هل يكدرك حضوري؟ فأجبته بعامل خفي: كلا. مع أني قصدت عمدًا ألا أقبله، ثم قال لي: لِمَ تركتني وحدي يا عزيزي؟ أليس لأنه مضى علينا بضعة أيام لم نجتمع ولم نتحادث سوية؟ أفلا تدري أني قد اعتدت ذلك وأشعر عند عدم محادثتك كأنه ينقصني شيء؟
فسرى عني حالًا ما كنت به، وذهبت من نفسي تلك الشكوك، وظهر لي ديمتري كما كان يظهر من ذي قبل بأنه شاب لطيف، فأجبته: أنت تعلم لماذا تركتك. فقال: يحتمل ذلك، ولكنني لو عرفت السبب فلا أصرح به؛ لأني أفضِّل أن أسمعه منك. فقلت: إني أصرح لك بالسبب وهو: تركتك لأني كنت غضبانًا عليك، ولا أقول غضبانًا بل منفعلًا منك، ثم إني كنت أظن دائمًا أنك تزدري بي بالنظر لحداثتي بالنسبة إليك. فألقى عليَّ نظرة تشف عن حب طاهر شديد، وقال: أتعلم لماذا تعلقت بك وأحببتك أكثر من كل معارفي؟ ذلك لأنك متصف بصفة تفردتَ بها عن سواك، وهي الإخلاص والاعتراف بكل شيء.
فأجبته: أجل، إنني أعترف دائمًا بكل أمرٍ حتى ولو كان معيبًا، وإنما أعترف فقط لمن أثق بصداقته وولائه.
فقال: إن كلامك عين الصواب، فإنه لكي تثق بشخص ما ينبغي أن تكون مخلصًا له إخلاصًا حقيقيًّا، أَوَلسنا صديقين يا ليون؟ أفما تكلمنا عن شروط الصداقة وماهيتها، وقد اتفقنا على أن نكون صديقين حقيقين، وأننا نثق ببعضنا كل الوثوق؟ وها إننا نتعاهد من الآن فصاعدًا على أن نعترف بكل شيء لبعضنا، وبهذه الوسيلة نتمكن من درس أخلاق بعضنا، ولا نعود نخجل من شيء، ولكي لا نخشى فساد الغير نتعاهد أيضًا ألا يتكلم أحدنا عن الآخر في أي مكان وجد. قال كار: إنه يوجد لكل اتحاد طرفان؛ الواحد يحب والآخر يرشح ذاته للمحبة، الواحد يقبِّل والآخر يقدم وجنته للتقبيل، وهذا عدل لا ريب فيه، وفي صداقتنا كنت أنا أقبِّل وديمتري يقدم لي وجنته لأقبِّلها، وهو أيضًا كان مستعدًّا لتقبيلي؛ لأن حبنا كان متساويًا متبادلًا.
•••
إن صداقة نيكليدوف كشفت لي دورًا جديدًا للحياة وغايتها وعلاقتها، وفهمت منه أنه من واجبات الإنسان أن يترقَّى في كل شيء حتى يرقى قمة الكمال الأدبي الذي هو سهل المنال ومستطاع لكل من يسعى للوصول إليه والحصول عليه، أما أنا فإني كنت حتى هذا العهد أبتهج باكتشاف الأفكار الجديدة، وأعتقد أيضًا أني أستطيع الوصول إلى قمة ذلك الكمال، فكنت أرسم في مخيلتي رسومًا عديدة لأعمالي المقبلة؛ لأن عيشتي كانت حتى هذا الوقت عيشة اضطراب وبطالة وتشويش أفكار.
إن الأفكار الحسنة التي تبادلتُها مع صديقي ديمتري نيكليدوف كانت تعجب عقلي فقط دون حواسي، غير أنه أتى وقت ظهرت لي تلك الأفكار بمظهر جديد وقوة جديدة شعرتُ على أثرها بخوف شديد، وآسفت على ذلك الوقت الطويل الذي صرفته عبثًا، وعزمت عزمًا ثابتًا أن أشرع من تلك الدقيقة باتخاذ هذه الأفكار الجديدة قانونًا أسير عليه في حياتي، ووطدت النفس بأني سأحافظ عليها، ولا أحيد عنها حتى النَّفَس الأخير من حياتي. إن هذا التغيير الفجائي الذي حصل لي أسميه ابتدأ زمن الشبيبة ومعترك الحياة.
هذا ما كتبه الفيلسوف عن نفسه في كتاب عنوانه فتوة وصبوة وشبيبة تولستوي نقلناه عنه باختصار.