فلسفته وآدابه وآراؤه الدينية
اشتهر الفيلسوف تولستوي ببسط فلسفته في روايات يؤلفها، وهي تقسم إلى ثلاثة أقسام: من حيث الدين، ومن حيث الاجتماع، ومن حيث الفنون؛ أي الفلسفة الدينية والاجتماعية والفنية، على أنها كلها فروع لشجرة واحدة مبنية على قاعدتين؛ الأولى: أحبوا بعضكم بعضًا في كل شئونكم، والثانية: لا تقاوموا الشر بالشر فإن الشر لا يقتله إلا الخير.
إن التعاليم المسيحية التي تستحق أن تكون قاعدة للضمير البشري إنما هي الأناجيل الأربعة فقط: متَّى، ومرقص، ولوقا، ويوحنا، وما سواها فخارج عن الديانة المسيحية الحقيقية، فعلى من أراد أن يكون مسيحيًّا حقيقيًّا أن لا يتمسك بشيء يناقضها، وأن يعيش كما عاش المسيحيون الأولون من حيث البساطة، والقناعة، والاشتراك، والحرية.
هذه هي فلسفته الدينية، أما فلسفته الاجتماعية فهي هذه: يقولون إن الهيئة الاجتماعية فاسدة رديئة. نعم، ولكن الذنب ذنبنا واللوم علينا؛ لأننا نتكاسل فتسوء حالتنا، ونقاوم الشر بالشر فيزيد الفساد فسادًا، ذاهلين عن قول المسيح: «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» فإذا لم نعوِّد أنفسنا مقاومة الشر بالخير؛ أي باللطف والمجاملة والإحسان والمحبة، فإننا لا نتغلب على الشر في العالم، وتزداد الإنسانية فسادًا على فساد. فإذا كنا نطلب إصلاح الهيئة الاجتماعية فلنعمل أولًا على إصلاح أنفسنا بغرس المحبة والمسالمة والاعتدال وحب العمل في قلوبنا، فإن في ذلك إصلاح الهيئة الاجتماعية.
وأما فلسفته الفنية: فمقتضاها أن كل فن وعلم وصناعة يجب أن تكون غايتها نبيلة، وهي ترقية شأن البشر وراحة النوع الإنساني والمساعدة على رفع راية السلام في العالم أجمع، وإذا خرجت العلوم عن دائرة هذا الغرض، وانصرفت إلى اختراع الآلات الحرب والدمار وأسباب القصف والخلاعة واللهو، فإنها تسبب الفساد وتجلب الشقاء والضرر والعناء، وتصبح عبثًا في عبث.
- المبدأ الأول: أن الإنسان لا يجب عليه فقط أن لا يقتل أخاه الإنسان، بل يجب أيضًا أن لا يغضب منه، ولا يشكوه، ولا يحتقره، وإذا خاصم إنسانًا فيجب عليه أن يصالحه قبل أن يقدِّم قربانًا لله؛ أي قبل أن يتحد مع الله بالصلاة القلبية.
- المبدأ الثاني: أن الإنسان لا يجب عليه فقط أن لا يستسلم إلى شهواته، وأن لا يدنس جمال المرأة بجعلها آلة للذته الخشنة، بل يجب عليه أيضًا إذا تزوج بامرأة أن لا ينفصل عنها مدة حياته.
- المبدأ الثالث: أنه يجب على الإنسان أن لا يحلف بأنه يصنع كذا، أو يهب كذا؛ فإنه لا يملك نفسه، ولا أي شيء في هذا الوجود.
- المبدأ الرابع: أن الإنسان لا يجب عليه فقط أن لا يطلب عقاب العين بالعين والسن بالسن، بل يجب عليه إذا ضربوه على خدٍّ أن يدير لهم الآخر، وأن يصفح عن مهينيه، ويحتمل الإهانة بصبر جميل، وأن لا يرفض شيئًا مما يطلبه منه البشر إخوته.
- المبدأ الخامس: أن الإنسان لا يجب عليه أن يبغض أعداءه ولا يقاومهم، بل يجب عليه أن يحبهم ويساعدهم ويخدمهم. ا.ﻫ.
إني أعتقد بالحياة العتيدة، وأعتقد أيضًا بأن الحياة لا تنتهي بالموت، ولكنني لا أدري كيف تكون تلك الحياة؛ لأنه لا لزوم لمعرفتها.
ومما قاله عن فساد المجتمع الإنساني: إن تاريخ الإنسان من حين وجوده لغاية الآن تاريخ ظلم وجور وحرب وخصام، والناس مختلفون في تحديد الظلم والجور، فإذا أتيح لكل واحد أن يقاوم ما يحسبه ظلمًا وجورًا لامتلأت الدنيا بالحروب والخصومات، وأفضل شيء لملافاة هذه الشرور الكثيرة أن يفعل كل واحد الخير مع غيره بدلًا عن الشر، فتنصلح أحوال الناس عما هي عليه من الظلم والجور.
أما سبب زيادة الشقاء ووقوع الجرائم، فهي لأن كل إنسان في هذا العالم يهتم بنفسه، ويسعى لصالحه الخاص بدون أن ينظر إلى أخيه في الإنسانية مهما كانت حالته، فلو اهتم الأغنياء وكبار الناس وألَّفوا جمعيات، وأنشئوا المعامل، وجمعوا للعمل فيها المتشردين وذوي الفاقة لانقطعت اللصوصية واللصوص عن وجه الأرض؛ لأنهم يخلدون إلى السكينة والانصباب على العمل، وإذا بحثنا عن أحوال اللصوص وقطَّاع الطرق نرى أن سبب اندفاعهم إلى إقلاق راحة الناس وسلبهم هو العوز والاحتياج، فعدم اهتمام الأغنياء والحكومة بالفقراء وذوي البأساء، وتركهم وشأنهم يدخلون الحانات وبيوت الفساد والرذيلة لقلة العمل بسبب وجود الفساد والشر، والحكومة إذا تسنَّى لها وقوع أحد المجرمين في قبضة يدها تقوده إلى المحاكمة، وتستدعي الأغنياء المنتخبين أعضاء لديها فتحكم عليه وتزجه في السجن مع أولئك المنكودي الحظ الذين حرمتهم الحرية، وعلَّمتهم البطالة والفساد، وقادتهم إلى الرذيلة والشر، وهي — أي الحكومة — تظن أنها بزجِّها المجرمين في السجن تقوم بواجباتها نحو الهيئة الاجتماعية، غير عالمة بأنها تقترف جريمة لا تغتفر مع أخيها في الإنسانية الذي قادته إلى السقوط، وكان في وسعها أن تخلصه من الحالة التي آل إليها أمره؛ لأن السجون لا تؤثر في حالة الناس بل تزيد في تعاستهم، والهيئة الاجتماعية ليست قائمة الآن بسطوة القضاء وقوة المحاكم؛ بل لأن الناس لا يزالون يحبون بعضهم بعضًا، ويشفقون على بعضهم.
وقال يصف الشرور: «إن الفلاح الذي يفلح أرض غيره، ويبتاع ضروريات الحياة بالثمن الذي يُطلب منه لا يستطيع أبدًا أن يصير غنيًّا مهما كان مجتهدًا مقتصدًا، وأما الرجل الشريف المبذِّر الذي يتسرَّب في مناصب الحكومة، أو ينال الحظوة لدى أربابها، أو يصير مرابيًا، أو صاحب معمل أو بنك، أو تاجر خمر، أو يقتني بيتًا للمومسات، فهذا ينال الغنى من أقرب طريق، وأمثلة ذلك كثيرة حولنا.»
ثم قال: «على مَ نرى الرجال الأقوياء الماهرين المعتادين التعب هم والفريق الأكبر من بني البشر يخضعون لأناس ضعفاء الأبدان لرجال أخنات أو شيوخ عجزة؟ لماذا نرى الأقوياء يتعبون لهؤلاء الضعفاء؟ لأن الضعفاء قد امتلكوا الأرض وخيراتها والمعامل وما فيها، والحق الذي يمتلك به الغني الأرض، ويجني ثمار ما يتعب به غيره لا ينطبق على مبدأ من مبادي العدل والإنصاف، وما هو إلا اغتصاب تؤيده القوة الحربية.
وقد صار العمال آلات لقهر إخوانهم بصيرورتهم جنودًا للحكومة وآلات في يدها للقتل والفتك، وما دام الناس يحللون قتل غيرهم تبقى الجنود في يد رجال الحكومة؛ أي في يد فريق صغير من الناس، ويبقى هذا الفريق مستعينًا بهم على ابتزاز الأموال من الذين يكسبونها بعرق جبينهم، وشرٌّ من ذلك أن رجال الحكومة يفسدون جمهور الناس، ولولا ذلك ما استطاعوا التسلط عليهم وابتزاز أموالهم، وأصل كل الشرور ما رسخ في الأذهان من أن تجنيد الجنود لقتل الناس ليس إثمًا، بل هو شرف كبير وعمل نبيل؛ لذلك لا تزول الشرور من الدنيا بتحرير الفلاحين، ورفع الضرائب، وتكثير الآلات والأدوات، ولا بإبطال الحكومات الحاضرة؛ بل بإبطال كل تعليم ديني يجيز للناس أن يحملوا السلاح لقتل غيرهم.»
وقال في هيئة المجتمع الإنساني: «عبثًا يحاول بضع مئات من البشر المتراكمين بعضهم على بعض في مكان ضيق تشويه وجه الأرض التي يعيشون عليها، عبثًا يسحقون تربتها بالحجارة حتى لا ينبت فيها نبات، عبثًا يفسدون الهواء برائحة البترول والفحم الحجري، عبثًا يقطعون الأشجار، عبثًا يطاردون الحيوانات والطيور، عبثًا يصنعون كل ذلك، فالربيع في المدن لا يزال ربيعًا، الشمس فيه تزداد إشراقًا، والنبات تدب فيه روح الحياة، لا في جوانب الشوارع الكبرى فقط، بل بين بلاط الطرق أيضًا، وكذلك الأشجار والأزهار والطيور وسائر المخلوقات التي تسر وتبتهج بأشعة الشمس المحيية، كلها تكون مسرورة مبتهجة في الربيع إلا الإنسان الذي يستنكر جمال تلك الأمور الطبيعية المقدسة، ولا يرى جميلًا غير ما يضعه ويتصوره من الأمور التي يغش بعضه بعضًا، ويعذب بعضه بعضًا.»
وقال عن أخلاق وأطوار الناس: إن أفكار الناس كلها متفقة على أن الجمال صفة حسنة تغطي كل قبائح ونقائص المرأة، فالغادة الفتَّانة إذا حدَّثت خرافة أو حماقة يقبلها السامعون بكل ارتياح، ويعدُّون تلك الحماقة نبالة زائدة والخشونة رقة وظرف، وإذا اقترفت عملًا مستهجنًا فإنه يظهر لمحبيها منتهى الآداب والكمال.
وعن الأمهات، قال: إن جميع الأمهات يعلمن تمام العلم فساد سيرة الرجال، ولكنهنَّ يتظاهرنَ أمام بناتهنَّ بأنهنَّ يعتقدن تمام الاعتقاد بطهارة وعفة الرجال، ويتصرفنَ بعكس ذلك الاعتقاد الكاذب، ويعرفن بأية صنارة يصدن الرجال لهنَّ ولبناتهنَّ. وقال أيضًا: إن إفادة المرأة محصورة في ولادة الأولاد وإرضاعهم وتربيتهم، وكلما أحسنت وظيفتها في ذلك كانت الفائدة أعظم، وهي لا تحسنها تمام الإحسان إلا إذا أحست عند تلك التربية أنها تعد لمستقبل الهيئة الاجتماعية خُدامًا نافعين.
وفي اعتقادي أن المرأة الفاضلة هي التي تبعد عن مفاسد هذا الكون، وتزهد في العالم، وتحصر قوتها في إحكام ما فُرض عليها لأولادها أجنَّة وأطفالًا وصبيةً، تغرس في نفوسهم بذور الفضائل ليشبوا على ما تعلموه، ويفيدوا إخوانهم في المجتمع الإنساني إفادة لا تقوم بثمن.
ولكي تحسن القيام بهذا الواجب لا يلزم لها على رأيي الاندراج في سلك تلامذة المدارس العالية، بل حسبها أن تحسن القراءة والكتابة لتتمكن من مطالعة كتب الدين والآداب التي تنير النفس وتزجرها عن ارتكاب الآثام.
وإني أنظر إلى النساء اللواتي يشاركن الرجال في الأعمال فآسف على عذراء خُلقت للحمل والولادة والإرضاع كيف تخرج من دائرتها وتتعدى الحدود التي رسمتها لها الطبيعة إلى ما ينقصها الاستعداد الفطري للقيام به، وما مثلها في ذلك إلا كأرض جيدة التربة زرعت زُوانًا، وليس تشبيهها بالأرض الجيدة مطابقًا من كل وجه؛ لأن الأرض لا تلد غير الخبز، أما المرأة فإنها تلد أسمى المخلوقات وأعلاها مقامًا، وهو الإنسان الذي لا تعادله أموال العالم ولا يستطيع أحد أن يلده غير المرأة، ذلك الإنسان الذي يلد فكره بدائع هذا الكون وجميل منشآت الحضارة والعمران!
وقال: على الرجل أن يكدَّ ويشتغل، وما على المرأة إلا أن تقيم في البيت؛ لأنها زوجة، أو بعبارة أخرى: لأنها إناء لطيف سريع الانثلام.
وقال عن الحب: إن دوام الحب بين الزوجين من رابع المستحيلات، إنه قد يكون حب ولكن إلى وقت قصير جدًّا، ثم لا يدوم إلا في الروايات فقط، وأما بين الناس فعديم الاستقرار في قلبين معًا، وكل رجل — متزوجًا كان أو غير متزوج — إذا اجتازت به غادة فتَّانة فأكثر ما يكون منه أن يوجِّه إليها التفاته، وقد يبذل بعضهم كل مرتخص وغالٍ بعد ذلك في سبيل الوصول إليها.
والمرأة من هذا القبيل كالرجل، فإنها تجتهد للاتصال بأكثر من واحد دائمًا، وما دام يمكنها هذا الاتصال فهي نائلة إربها لا محالة. ا.ﻫ.
هذه بعض فقرات من فلسفة هذا الفيلسوف العظيم، وأقواله المأثورة التي أحدثت دويًّا في أقطار الأرض، وصادفت قبولًا وإقبالًا من الطبقة العلياء من شبان الروس، واستحسانًا من فلاسفة وعلماء أوروبا وأميركا، وكان لها وقع كبير في النفوس، ولكنها لم ترُق لرجال الدين في روسيا كونها مخالفة للتعليم المسيحي، خصوصًا بعد أن أنكر جوهر الإيمان الذي هو سر الفداء والثالوث الأقدس وألوهية المسيح؛ فأنذره المجمع المقدس أن يرجع عن اعتقاده هذا، ويبطل تعاليمه المخالفة للدين المسيحي عمومًا والمذهب الأرثوذكسي خصوصًا، فلم يذعن لهم، ولذلك اجتمع رؤساء المجمع المقدس تحت رئاسة السيد الجليل أنطوني مطران بطرسبرج وحرمه وقطعه من الكنيسة كصاحب ضلالة.
ونحن ننشر الحرم، واعتراض زوجته، ورده عليه، وردود رجال الدين عليهما مترجمًا عن اللغة الروسية حرفيًّا.