رد على اعتراض تولستوي
حضرة الفاضل الكاهن فلاديمير بابورا
إن الكنيسة الأرثوذكسية تهتم اهتمامًا زائدًا بخلاص أبنائها، وحفظهم من الضلالات والتعاليم الكاذبة المؤدية إلى الهلاك، ولذلك أصدر المجمع المقدس رسالة ضافية ضد تعاليم الكونت تولستوي الذي أنكر جهارًا المسيح والكنيسة، ورد ردًّا مفحمًا على كل بنود تعاليمه الفاسدة، وهو — أي المجمع — يشهد بتلك الرسالة بأن الكنيسة من الآن فصاعدًا لا تعتبر تولستوي من أبنائها، ما لم يتب ويرجع عن أفكاره الفاسدة، ولقد تصرف المجمع تصرفًا عادلًا مجردًا عن كل غرض، ولم يكن له سوى غاية حسنة ومقصد نبيل، وهما: تثبيت أبناء الكنيسة الذين لم يزالوا منضمين إليها في الإيمان الحقيقي المستقيم، وإرشاد الذين قبلوا تلك الضلالة، وتحذيرهم من مناولة السم الزعاف المدسوس في تلك التعاليم الكاذبة، وعلى الأخص لإرشاد نفس الكونت تولستوي وإفهامه بأن تعاليمه وأفكاره واهية فاسدة، وبذلك يوقظ ضميره من سبات الضلالة. ولقد ختم المجمع المقدس حكمه بعبارة مفعمة من الرأفة والحنان طبقًا للمحبة المسيحية، فإنه جهر بالدعاء إلى الإله المتعال ليعطيه — «أي لتولستوي» — الربُّ توبة لمعرفة الحق، ويرجعه إلى طريق الحق ويرشده إليها.
ومع ذلك فقد صادف قرار المجمع عند فريق من الناس المسيحيين استياء شديدًا، وتضاربت الآراء والأفكار، ونسبوا للكنيسة وممثليها القساوة وعدم الإنصاف والظلم بمعاملتهم تولستوي تلك المعاملة الشنيعة على رأيهم، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، وقالوا إن الكنيسة لم تتصرف طبقًا لشريعة المسيح التي تأمر بالمحبة، وغفران الزلات، ولقد شذَّت عن دائرة هذا التعليم الواضح، والحق يقال إن هذه الأقوال أوهى من نسيج العنكبوت؛ لأنها ثقيلة على الأسماع وغريبة في بابها، وقد بلغت أقصى حدود الجهالة، وخطا قائلوها خطوة شاسعة في العقوق والتطاول، وعصوا أمهم الكنيسة الأرثوذكسية التي تهتم بهم اهتمامًا زائدًا، ونسبوا لها أمورًا نجلُّ قدرها عنها، ولا يخفى أن الرعاة يعلمون رعيتهم ويعظونهم كأب لأولاده «ات ص٢ عدد ١١».
ويطلبون منهم أن يرتجعوا ويتجنبوا المباحثات السافلة والأفكار الساقطة، ولا يجوز للآباء أن يصمتوا في ظروف كهذه، بل عليهم أن يعظوا ويعلموا؛ ليضحدوا التعاليم الكاذبة والهرطقات قبل أن ينتشر الشر ويتسع الخرق، ويأصل في قلوب الرعية.
- أولًا: أولئك الذين ارتدُّوا عن الإيمان المسيحي، ورجعوا إلى عبادة الأوثان، أو حسب قول الرسول: من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدَّس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة «عب ص١٠ عدد ٣٩».
- ثانيًا: الهراطقة الذين لم ينكروا تمامًا الإيمان المسيحي، ولكنهم لجهالتهم أو لتشعب أفكارهم يفسدون معتقدات الكنيسة، ويحملونها على محمل يخالف ما وضعت له «كالكونت تولستوي»، وهم في ذلك لا يخشون وعيد الرسول القائل: ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما «غلا ص١ عدد ٨ و٩».
- ثالثًا: المنشقون عن الكنيسة الذين مع أنهم لا يرفضون عقائد الكنيسة، ولكنهم لا يرضخون للسلطة الكنائسية، وينفصلون عنها بذواتهم وإرادتهم الخاصة، ومثل هؤلاء يصدق عليهم كلام المخلِّص القائل: «وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار.» «متَّى ص١٨ عدد ١٧».
- رابعًا وأخيرًا: كل الذين ترى الكنيسة بموجب السلطة المعطاة لها من الرب ضرورة قطعهم منها لانحرافهم عن الإيمان؛ قال الرب: الحق أقول، كم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكلما تحلونه على الأرض يكون محلولًا في السما «متى ص١٨ عدد ١٨».
فيظهر لنا مما تقدم أن الكنيسة بناء على أساس تعاليمها ينبغي عليها أن تبحث عن أبنائها بحثًا مدققًا، وتفصل الأجرب من بين خراف قطيعها الصحيح السليم لئلا يعديه، والمجمع المقدس كرئيس عالٍ للكنيسة الروسية المستقيمة الرأي قد فعل واجباته ضد هرطقة الكونت تولستوي، وأعلن قطعه بعدل تام دون غاية طبقًا للمحبة المسيحية السامية.
عظيمة هي خطيئة الكونت تولستوي أمام أمنا الكنيسة الجامعة المقدسة، ولكن رحمة الله عظيمة لا تقاس ولا تحد، وروح قدسه الإلهي الذي يكمل كل شيء يرشد ويقود الخطاة إلى الخلاص، إنه مقتدر أن يخلص وينير بنور الحق نفس الكونت الساقطة؛ لأنه جبلته وصنع يديه.
إن مؤسس الكنيسة الربَّ يسوع المسيح جاء إلى الأرض لكي يخلص ما قد هلك، وكان يفرح فرحًا عظيمًا بوجود الخروف الضال «متَّى ص١٨ عدد ١١ و١٣»، وكذلك الآن، فإن الكنيسة الأرثوذكسية بشخص ممثليها ورؤسائها توجه كل اهتمامها لخلاص أبنائها، ولا تترك في ميدان الإهمال أولئك الذين بسبب إظلام فكرهم يتجنبون عن حياة الله بسبب الجهل الذي فيهم «إفسس ص٤ عدد ١٨»، ويبتعدون عن أمهم الكنيسة التي غذتهم بتعاليمها، وعن رعاتها الساهرون على الخراف الناطقة.
لقد جاء في منشور المجمع المقدس أن الوسائل التي استعملتها الكنيسة لرد الكونت لم تتكلل بالنجاح؛ فلذلك اهتم المجمع أيضًا هذه المرة اهتمامًا أبويًّا؛ ليدعوه للرجوع إلى أحضان الكنيسة الإلهية ينبوع الخلاص على أمل أنه في أيام حياته الأخيرة المضطربة يدرك حقيقة الله، ويحب مخلِّصنا وإلهنا الحقيقي، ويندب أمامه خطاياه. وبناءً عليه أصدر المجمع ذلك المنشور الذي أعلن به بأن الكونت تولستوي ابتعد عن الكنيسة بإرادته واختياره، ومع ذلك فقد التمس من الرب الرحوم أن يرحمه ويرده إلى طريق الخلاص والحق.
ولقد ظهر كالشمس في رابعة النهار بأن منشور المجمع المقدس لا يُشتمُّ منه رائحة القساوة، كما يدعي بعض الناس الذين أسدلت الغباوة حجابًا كثيفًا على عيونهم فحكموا عفوًا على أمور مسلمة دون تروٍّ وإمعان، فكان حكمهم فاسدًا لا يقبله العقل السليم، وإذا كان البعض لم يزالوا ممتعضين من المجمع لإصداره مثل ذلك المنشور فليكن معلومًا لديهم أن المجمع لا يستطيع أن يتصرف بخلاف ذلك؛ لأنه للحصول على غاية الكنيسة الموكول إليها المحافظة على وديعة تعليم الإيمان الخلاصي الثمين يطلب من المجمع المقدس أن يحافظ أيضًا على تعاليمها حتى لا يطرأ عليها ضرر أو تغيير، بل يبقى ذلك التعليم صحيحًا كاملًا بعيدًا عن التحريف، وإذا وُجد أحد كالهراطقة والمعلمين الكاذبين الأقدمين «ومثل الكونت تولستوي الآن» ينكرون عقائد المسيحية، ويقدحون في جوهر الإيمان المسيحي، فهل يسوغ للمجمع أن يسكت عنهم؟ أَوَلَيس أنه محق بإعلانه سقوط تولستوي بإرادته من أحضان الكنيسة؛ ليدافع بذلك عن الإيمان، ويثبت التعليم الإلهي الحقيقي، ويوطد حسن العبادة في قلوب المؤمنين؟
إن بولص الرسول معلم المسكونة العظيم يعلم تلميذه هكذا: احفظ الوديعة معرضًا عن الكلام الباطل الدنس، ومخالفات العلم الكاذب الاسم الذي إذا تظاهر به قوم زاغوا من جهة الإيمان «تي ص٦ عدد ٢٠ و٢١»، وأيضًا أوصاه بما يأتي: تمسَّك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني في الإيمان والمحبة في المسيح يسوع: احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا «٢ تي ص١ عدد ١٢ و١٤». ورعاة الكنيسة المعينون حراسًا لهذه الوديعة الروحية المنتشرون في سائر أقطار الأرض بأمر مخلِّصنا يسوع المسيح فهم خلفاء للرسل الذين سلموهم التعليم الحقيقي، ومطلوب منهم أن يعظوا رعيتهم بمواضيع توافق ظروف المكان والزمان والأحوال لأجل منفعتهم، وجلب الكل إلى طريق الحق والخلاص، ولكننا نقول، والأسف يملأ منا الجوارح، إن أناسًا كثيرين لقلة إدراكهم، أو لضلالهم، أو لعدم فهمهم ومعرفتهم واجبات رؤساء الكنيسة، قد رشقوا المجمع المقدس بعبارات السفه لقطعه الكونت تولستوي، ولو علم هؤلاء قول الرسول لكفونا وكفوا أنفسهم مئونة البحث في هذا الموضوع: «أطيعوا مرشديكم، واخضعوا لهم؛ لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حسابًا لكي يفعلوا ذلك بفرح لا آنِّين؛ لأن هذا غير نافع لكم.» «عب ص١٢ عدد ١٧». فكان واجب عليهم أن يتذكروا كلام الرسول القائل أيضًا: «أن تعتبروهم جدًّا في المحبة من أجل عملهم.» «أ. تي ص٥ عدد ١٢». ولقد ظهرت عدالة المجمع المقدس القانونية المبنية على تعاليم المسيح والرسل في حادثة تولستوي الذي اعترف بإنكاره الإيمان بالمسيح، وعقائد الكنيسة المقدسة التي لا تعتبره ابنًا لها ما لم يرتد إليها من نفسه. ا.ﻫ.
وهاك ما أجاب المطران أنطوني في ٣٠ حزيران «يونيو» سنة ١٩٠١ رادًّا على كتاب تولستوي الذي أجاب به المجمع المقدس بداعي قطعه من الكنيسة.
نَشر في شهر أفريل الكونت تولستوي بين الناس رسالة ردَّ بها على ما قرره بشأنه المجمع المقدس، فرأيت من الضرورة أن أجيب عنها بكل إيجاز:
إن الكونت يؤيد برسالته صحة وعدالة ما نسبه إليه المجمع المقدس، غير أنه علَّق على ذلك المنشور بعض ملاحظات كان بودِّي أن أفندها واحدة فواحدة لو لم تكن مجلة الإرسالات الدينية كفتنا مئونة الرد عليها بما نشرته من المقالات الضافية بخصوص ذلك.
إذا كنت أيها الحبر ترى في نشر كتابي منفعة للكنيسة فأنا أوافق على نشره، وأعد موافقتي فرضًا لازبًا عليَّ أمام الحق والكنيسة المقدسة التي عظُمت في عيني بعد قراءتي الإهانة التي ألحقها بها الكونت تولستوي …
أيها السيد الكلي القداسة، قرأت بالأمس من أيادي الناس جواب الكونت تولستوي على منشور المجمع المقدس، وقد أثر بي تأثيرًا سيئًا ما ورد به، وهو أن الكنيسة لم تسعَ لإرشاده وردِّه عن ضلاله، وبما أن ادعاءه هذا افتراء محض، ولدحضه أُورد لكم ما سمعته بأذني من نفس الكونت تولستوي.
منذ عام زرت الكونت في قرية ياسانيا بوليانيا، وفي أثناء إقامتي عنده علمت أن كاهن سجن تولا يتردد عليه مرارًا عديدة، فسألت الكونت عما إذا كان يُسَر بزيارة ذلك الكاهن؛ فأجابني ما نصه بالحرف الواحد: «إن كاهن سجن تولا رجل حسن السيرة دمث الأخلاق لين العريكة، وفوق ذلك فإنه مؤمن إيمانًا حقيقيًّا، وإني أُسَرُّ كثيرًا بمسامرته، غير أن سروري ينعكس لدى معرفتي بأنه يأتي إليَّ من قبل رئيس الكهنة لإرشادي ووعظي».
أكتب لكم هذه الشهادة وليس لي بذلك غاية سوى إظهار الحقيقة التي لو سكتُّ عنها لم أسلم من نخس الضمير؛ بل كنت أشعر دائمًا بأني أخشى غضب الكاتب الشهير أكثر من غضب الله عز وجل. ا.ﻫ.
أما بقية ما جاء في جواب الكونت تولستوي فإن الفؤاد يجمد جزعًا لتلاوتها، ويقشعر الجسم من هول ما تضمنته تلك الرسالة؛ لأنه يعدُّ تاريخ تجسد المسيح، وتعاليم الفداء، ومعرفة المسيح إلهًا، تهكمًا وتجديفًا، أعني أنه يمحو بذلك كل الديانة المسيحية، فلما طالعت ذلك، وعرفت أنه كان يتمنى الحصول على رخصة لطبع كل كتبه بخصوص الدين، ولو نال متمناه فلا ريب أنه كان لا يمضي وقت وجيز على الكنيسة إلا ويخرج منها الناس أفواجًا، ولا يبقى فيها غير الزعانف فأحاق بي خوف عظيم من أعمال وأفكار هذا الرجل التعيس، وتمثَّل أمامي يوليان الذي أراد أن يمحو عن وجه الأرض تعليم المسيح، وتذكرت هلاكه وتاريخه المشين، ففهت بنبوة أشعياء النبي على بابل: اصعد إلى السموات، وارفع كرسيَّ فوق كواكب الله، وأصير مثل العلي، لكنه انحدر إلى الهاوية إلى أسفل الجب.
ولقد جمد فؤادي من تجديف الكونت تولستوي الغير المعقول، فإن ذلك ما هو إلا مخاصمة الله وإشهار حرب على المسيح ابن الله الحيِّ الذي سيدين الأحياء والأموات. قال بولص الرسول: «إن كان أحد لا يحب الله الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما ماران أثا.» «١ ك ص١٦ عدد ٢٢»، وجاء في بشارة متَّى: «من ينكر الرب يسوع فالمسيح ينكره.» «ص١٠ عدد ٣٣»، ومن ينكر ألوهية يسوع المسيح ويتمسك بهذا التجديف فهو محروم، وإنكاره هذا يجلب عليه اللعنة دون أن يوجهها إليه أحد، ويبعد نفسه عن الله، ويحرمها الحياة الإلهية، ويبتعد عن روح قدسه، ولقد قال الرسول: «ليس أحد وهو يتكلم بروح الله يقول يسوع أناثيما، وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس.» «١ ك ص١٢ عدد ٣»، وإن الكونت تولستوي قال هذه الأناثيما على الرب يسوع المسيح.
خطرات أفكار لأسقف أرثوذكسي طالع اعتراف تولستوي الجديد
أيجوز بعد هذا الإقرار الجديد الذي جاهر به الكونت تولستوي أن ندعوه تابعًا للكنيسة الأرثوذكسية المقدسة أو مؤمنًا باستقامة رأيها، فإذا كان أحد لم يزل مشككًا بذلك، فلا ريب أنه بعد مطالعته رسالة الكونت الأخيرة تزول من نفسه تلك الشكوك، ولم يكتفِ الكونت بأنه أنكر جهارًا جميع عقائد الديانة المسيحية، وجاهر بالابتعاد عن الكنيسة المستقيمة الرأي، وجحد جميع أسرارها المقدسة، وسمى تعاليمها مجموعة أكاذيب وخداع وخرافات خشنة، وزاد على ذلك بأنه أعلن جميع أقاربه بأن لا يدفنوه حسب طقوس تلك الكنيسة، فهل بعد هذا يجوز للمجمع المقدس أن يصمت بعد أن سمع هرطقة تولستوي وشاهد تعاليمه التي انتشرت بسرعة في سائر أقطار الأرض ولو أنه لم يقبلها أحد ولكنها وجهت التفات الناس إليها؟ ثم أليس أن المجمع بسكوته يكون سببًا لعثرة أبناء الكنيسة المؤمنين، وتركهم الإيمان القويم، وخروجهم عن حظيرتها؟ وهل يسوغ للمجمع أن يأذن بالصلاة على جثة تولستوي الذي طبق ذكره أربع أقطار المسكونة؟ أليس أنه يجلب بذلك هزؤ وسخرية جميع أعداء الكنيسة، وعليه نقول: إن المجمع المقدس تصرف بقطعه تولستوي بحكمة زائدة، وما فعل إلا واجباته المطلوبة منه، ولا يختلف في ذلك اثنان، فنسأل الله أن يوطد دعائم الكنيسة، حتى إنها لا تخجل من المجاهرة بمعتقداتها وإيمانها بالله وبنفسها. أما الكونت، فقد اعترف وأقر بأنه ابتعد عن الكنيسة، وأيد أفكاره التي جاهر بها، غير أنه علق بعض ملاحظات على منشور المجمع ضده، وانتقد بعض مواضع منه انتقادًا أملاه عليه الغرض الذي تملَّكه، فاعترض على المجمع لأنه قطعه وحده من الكنيسة مع وجود كثيرين يعتقدون اعتقاده، وصرحوا باعتقادهم في الكلام والحديث والنشرات والكتب، ولكن المجمع لم يقطع أحدًا منهم عن الكنيسة سواه، وفي ذلك ما فيه من الانحراف عن جادة الحق والإنصاف، وأشار في كتابه إشارة خفية بأنه هو الكاتب الشهير الذي قبل العالم أفكاره، وترجم كتبه إلى جميع اللغات في نفس وقت ظهورها باللغة الروسية، وأنه لا يجوز مساواته بزعانف الكتَّاب. ثم قال بأن أتباعه بخصوص الدين قليلون؛ لأن المراقبة كانت تمنع انتشار كتبه الدينية فأضحى وجودها من جرَّاء ذلك كالعدم، ونحن لا نوافقه على ذلك أبدًا؛ لأنه وإن كان أتباعه قليلين فمؤلفاته انتشرت في كل مكان عُرف به اسم تولستوي، وهذا الاسم أصبح أشهر من نار على علم؛ لأنه ما من إنسان يحسن القراءة في العالم إلا ويعرفه، وإذا كان يجهله بعض بسطاء روسيا فسيأتي وقت يتنور به الجميع ويطالعون مؤلفات تولستوي التي ستدوم إلى الأبد، فينبغي علينا من الآن أن ننبه أفكار البسطاء الذين ستشرق عليهم أنوار العلم في المستقبل، ونوضح لهم بأجلى بيان وأقوى برهان فساد هذه البدعة أو الضلالة، حتى لا ينغرُّوا بسفاسف الأقوال، ويسقطوا في مهاوي الضلال.
وشهرة تولستوي بعثت الكنيسة لأن تفقه واجباتها، فألقت الحرم والقطع على كل من ينكر تعاليمها، ولم تهتم بالكتَّاب الذين هم في الخفاء فيما سبق، وهذه عادة جرت عليها الكنيسة منذ إنشائها إلى يومنا هذا؛ لأنها تعلم ضعف الجنس البشري، ولذلك تتجاوز كثيرًا ما عن هفوات بعض أبنائها الخوارج، ولذلك كانت تقطع الرجل الذي تتيقن تهوره الزائد وتتأكد بأنه لا يمكن إصلاحه وإرجاعه عن ضلاله، وتصرفها هذا إذا تأملناه بعين الحقيقة نراه بالغًا منتهى العدالة والإنصاف، وهي تعلم بأن مصير الإنسان النهائي لا يتوقف على قطعة ورق مكتوبة أو مطبوعة، ولا على فرزه من بين أعضائها بالحرم، بل يتوقف على خروجه وابتعاده عن طريق الحق وينبوع الحياة، وحرم الكنيسة في مثل هذه الأحوال لا يكون إلا كشاهد على ذلك، ولو فرضنا أن رجال الكنيسة الروحيين تغاضوا عن وجود شخص شذَّ بين المؤمنين، وتساهلوا بعدم قطعه، أو أنهم لم يعلموا بوجوده، فإنه لا يستطيع أن يختفي من أمام قضاء الله العادل الذي لا تخفى عنه خافية، وكذلك لا يضرُّ قداسة الكنيسة، وعدا هذا فاللعنة أو الأناثيما ما هي إلا آلة عقاب للانتقام من الخاطي؛ لأن الرب يقول: «لي الانتقام، أنا أجازي، يقول الرب.» والكنيسة تعلم هذه الكلمات أكثر من غيرها، واللعنة الكنائسية ما هي إلا واسطة لإرجاع الخاطئ، وإذ لم يكن ذلك في الإمكان فإنه يقصد بها إعلان جماعة الكنيسة عن ظهور ضلال بدعة، وبذلك تمنع ضلال البسطاء؛ لأنها في قطعها الضال وإظهار زيغه وضلاله توطد عقائد إيمانها وتؤيدها بالبينات الدامغة فتمنع انتشار الضلال، وكما قدمنا إن الكنيسة كانت تجنح إلى مثل ذلك فقط في الحوادث المهمة التي يخشى منها جلب الضرر والتعب كما فعلت الآن بظهور ضلالة تولستوي الشهير.
ثم إن الكونت يعترض على أن منشور المجمع يتضمن نميمة ضده حركت الناس على شتمه وقذفه بأقبح أنواع المثالب، والذي دعاه أن يعترض هذا الاعتراض هو أن المجمع المقدس ينسب إليه أنه كرجل غيور متعصب ينشر تعاليمه، ويقول تولستوي: إن هذا المدَّعَى لا ظل له من الحقيقة، وهاك كلماته: «إني لم أجتهد أبدًا لنشر تعاليمي.»
ولا جرم أن القارئ يستغرب هاته الكلمات؛ لأن تولستوي يعرف تمام المعرفة بأن مؤلفاته «وعلى الأخص الأخيرة» ستطبع برمتها، وتروج رواجًا عظيمًا، وينتشر مئات وألوف منها في جميع أقطار العالم؛ وبالأخص في روسيا، فكيف يقول إذن لا ذنب له بنشر تعاليمه الكاذبة، والمجمع المقدس محق بما قاله من أن تولستوي كمتعصب غيور كان ينشر تعاليمه منذ سنين عديدة، ويكرز بها بقصد هدم عقائد الكنيسة المقدسة، والمجمع جمع بهذا القول جميع أعمال تولستوي العلمية بقطع النظر عن الطرق التي كان يستعملها لبث هذه التعاليم؛ سواء كان يطوف بين الشعب بنفسه للوعظ بها أو كان يرسل بذاته مؤلفاته للمطابع، أو كان يعهد بذلك إلى أصدقائه ومريديه، ومعلوم أن من يقدِّم السُّم لإنسان فلا شك أنه يقترف إثمًا عظيمًا، ولكن الأعظم منه ذنبًا هو ذاك الذي يركب السُّم؛ لأنه يعلم أن القصد من عمله هلاك شخص ما، وهذا عمل فظيع، وإثم كبير، وبالإجمال، إن هذه النقطة من كتاب تولستوي لا تخلو من الغرابة.
وأغرب من ذلك وأعجب ما قاله الكونت في اعتراضه وتكذيبه المجمع بما جاء في منشوره من أن الكنيسة لم تستعمل أدنى وسيلة لإرشاده مع أنه حضر إليه عدة رهبان بهذا الخصوص فكانوا يحادثونه عن الإيمان، وكان هو يقبلهم ويحادثهم برضاء تام، حتى إنه صرَّح بذلك لبعض أصدقائه من الأشراف والعظماء، وأخبرهم بما كان يدور بينه وبينهم من المباحث الدينية، وأنه كان يعلم بأن هؤلاء الكهنة يأتون إليه من قِبل الأساقفة ككاهن سجن تولا وغيره. فهل بعد ذلك يحق لحضرته أن يقول بأن الكنيسة لم تعظه أو ترشده وتنبهه إلى غلطه العظيم وخطئه الفاحش؟! وربما يدعي بأن المجمع المقدس لم يرسل إليه أحدًا رأسًا، وأن الكهنة المرسلين من قِبل الأساقفة وليس من قبل المجمع، فنجيب على ذلك: إن المجمع والأساقفة مرتبطون ببعضهم ارتباط حلقات السلسلة، وفي كل الأحوال أخطأ كاتبنا الشهير خطأً عظيمًا لا يغتفر.
ثم يقول الكونت بأنه ترك الكنيسة بعد أن درس تعاليمها بكل دقة وإيضاح، فكان كلما يزيد في الدرس والبحث يزداد شكًّا في صدق تلك التعاليم. أجل، إن هذا الحادث محزن جدًّا، ولكنه من جهة أخرى ليس هو الوحيد من هذا القبيل، وإن مثل هذا يحدث ليس من كذب تعاليم الكنيسة ولا من أي شيء يلم بها، بل من ضعف إيمان وتشعب أفكار من يبحث في هذه التعاليم بحثًا يخالف وضعها، وينظر إليها نظرًا يطابق أفكاره الفاسدة. وقد أوضح الكونت نسبة الإنسان إلى الكنيسة وأسرارها في روايته «حنه كارينينا»؛ وخصوصًا عند ذكره الصلاة أمام فراش نقولا ليفين، وهو رجل ابتعد عن الكنيسة ورفض تعاليمها، وبقي على حالته مدة طويلة، غير أنه في آخر حياته أصيب بمرض عضال، وفي إبَّان مرضه عاد إلى الكنيسة، وأمر أن تقام في غرفته صلاة، وذلك عندما كان على فراش الموت ظانًّا أنه بواسطة هذه الصلاة يتجدد الإيمان في نفسه، وهذا الإيمان يشفيه من مرض السل؛ فكان ينظر إلى الأيقونة نظر من يسأل شيئًا، ثم أخذ يتفرس في وجهه لعله يقرأ في ملامحه جوابًا لسؤاله، وكان نقولا يكرر رسم الصليب أمام الأيقونة مرات متواصلة مجتهدًا؛ لكي يدب الحرارة في قلبه الميت، ولكنه لم ينل متمناه، وذهبت أتعابه أدراج الرياح، فأمر بعد نهاية الصلاة بطرح الأيقونة خارجًا بعد أن وجَّه إليها كل عبارات السفه والشتائم.
فالكونت تولستوي يوضح تعاليم الكنيسة في رواياته بأمثال كهذه، والإنسان لا يريد أن يفهم بأن الخلاص لا يتم إلا بتهذيب النفس الأدبي، وأنه يقدر أن يشترك مع الله بالقداسة فقط، وهو — أي الإنسان — عجول في كل أموره، ويزعم بأنه إذا فعل بعض المظاهرات الخارجية يرتقي حالًا إلى قمة الخلاص الديني، ويقتطف حالًا جميع أثماره الشهية، وهو يزعم أيضًا بأن الأسرار تقوم بمثابة علاج شافٍ لذلك، وبمجرد إتمامها يتصور أنه سيشعر فورًا بتأثيرها في داخل نفسه، وأعماق قلبه! وما قلناه عن هذا نقوله عن جميع تراتيب الكنيسة. فالإنسان لا يلحظ ولا يشعر بالمفعول الذي ينجم عن تناوله الأسرار أو تتميم جميع فروض الكنيسة؛ لأن حالته الروحية الأدبية التي تؤثر فيها تلك الأسرار والفروض الموضوعة لها قد انفسدت فسادًا ظاهرًا، فيعتقد أنها عديمة التأثير والنتيجة، وأنها بحد ذاتها لا أهمية لها، ومع اعتقاده هذا يسعى للحصول على اقتطاف أثمارها ليأكلها بقبول وشهية! فأسرار الكنيسة لا تخلِّص الإنسان عندما يستعملها كعلاج للخلاص، بل تخلصه عندما يتناولها بقصد إنكار النفس الداخلي وحمل الصليب بتقديم نفسه ضحية لله. على هذه الصورة تعرف الكنيسة نفسها، وتفهم معنى أسرارها، ويحذو حذوها جميع أبنائها المسيحيين الحَسني العبادة الذين يصرحون بهذا الاعتقاد في كل زمان ومكان، ولا عجب إذا وقع على رهباننا وعلى شعبنا البسيط وجلٌ عظيم لدى مطالعتهم في رواية البعث كتابة تولستوي عن سر المناولة؛ لأنه ما كان يدور بخلدهم أنه يوجد إنسان على الأرض يعرف سرَّ المناولة على طريقة تولستوي المادية. ولنا ملاحظة أخرى على الكونت لا بد لنا من إيضاحها، وهي أنه في آخر كتابه يقول إنه يستطيع أن يغير أفكاره عندما يجد معتقدًا أوضح من معتقده، ولكنه لا يقدر أن يرجع إلى أحضان الكنيسة ويُحسب من أبنائها، كما أن الطير لا يستطيع أن يرجع إلى قشر البيضة التي خرج منها. فيظهر من كلامه هذا بأنه لم يزل مشككًا بصحة مذهبه الجديد، وبذلك يكذِّب نفسه بنفسه، ولا خير في مذهب لم يزل صاحبه مرتابًا بصحته، ثم إن الكونت يقول إنه يؤمن بإله روح ومحبة، ويزعم بأنه إذا جمع عدة ألقاب مرادفة يعبر عن إيمانه، ولكن يا ترى ما هو إله المحبة إذا لم يكن في الوقت نفسه ذاتًا؟ وهل لهذه المحبة معنى أزلي بعيد الغور يطابق ناموس الحياة العالمية العامة؟ وهذه المحبة نراها ثابتة حقيقية أزلية في الله المثلث الأقانيم. وتولستوي يستمد أصل معتقده الجديد من الديانة التي تركها، واستهزأ بها، وتهكم عليها، وكذلك ما قاله عن خلود النفس والعقاب والثواب، فإنه مبهم كل الإبهام، وإذا لم يكن هذا الخلود موضَّحًا إيضاحًا تامًّا ومعرَّفًا تعريفًا ظاهرًا، فإذن بالطبع لا يكون شيء بعد الموت، ولا هنالك ثواب أو عقاب؛ لأن الطبيعة دائمًا في حالة واحدة غير مائتة وعديمة التغيير، وسوف نرى من يتمنى لنفسه خلودًا كالخلود الذي يعتقد به تولستوي؛ حيث لا عقاب ولا ثواب! فالكونت تولستوي كلامه يناقض بعضه؛ فمن جهة ينكر تعاليم الكنيسة عن الثواب والعقاب، ومن جهة أخرى عند كلامه على معتقده بهذا الخصوص يستعمل نفس الكلام الذي تعبر به الكنيسة عن تعليمها فينجم عن ذلك حالة حرجة، وهي أن الإنسان يحب شخصًا ويحترمه ويسأله، ويوجه كل أفكاره لتتميم إرادته، ولكن في الوقت ذاته يثبت أن ذلك الشخص ليس له إرادة ولا معرفة، وينهى عن محبته وإكرامه، وإذا كان الكونت يعترف بوجوب الصلاة، ويقول إن أساس الحياة هو الله المحبة، وأنه يجب على الإنسان أن يتمم إرادته، فمن هذا القبيل يكون هو الإله الحي الذي تعترف به الكنيسة المقدسة، وينكره بالفكر والقول الكونت تولستوي.
ثم إنه لنا مزيد الأمل برجوع الكونت إلى أحضان الكنيسة، وصيرورته من أبنائها، واعتقاده بتعاليمها، وذلك بالنظر لسمو أفكاره وسعة مداركه حقق الله آمالنا به، غير أن تابعيه يحولون دون رجوعه إلى التوبة، ولكنه ما دام معنا، ولم يحن له الوقت للوقوف أمام الديَّان العظيم، فلا نقنط من مراحم الله غير المتناهية، وينبغي علينا أن نصلي إليه بحرارة إيمان؛ لكي يرحم عبده ويرده إليه، ويؤهلنا معه بقلب واحد وفم واحد أن نمجد اسمه القدوس. ا.ﻫ.