كتاب مكشوف للكونت تولستوي من رجل كان على مذهبه ثم ارتد إلى الكنيسة
أيها الكونت ليون نيكولا يفتش
إنه من ذاك الوقت الذي افترقنا به؛ أي منذ عدت أنا أرثوذكسيًّا، وقد مر على ذلك نحو ثمانية أعوام لم أعد أخاطبكم بما هو مهم لنا نحن الاثنين، وقد عزمت عدة مرار على أن أكتب لكم، لكنه لإيقاني بأن كتابتي لا تجدي نفعًا فأحجم عن ذلك. غير أني الآن لمَّا قرأت ردكم الأخير على قرار المجمع بشأنكم عزمت أن أكتب لكم بعض كلمات، فأخذت اليراع وفؤادي يختلج في صدري من عظم التأثير الذي ألمَّ بي، وأنا لم أرَ شيئًا جديدًا في اعترافك الجديد؛ لأنه معلوم لديَّ منذ كنا سوية.
قلتَ في ردك إن حكم المجمع بشأنك جائر؛ لأنه حَكَمَ عليك وحدك بالخروج عن محجة الكنيسة، وجادة الحق والصواب، مع أن كثيرين يعترفون اعترافك. أقول: إنك محق في كلامك، ولكنك من جهة أخرى غير محق؛ ذلك لأن الذين يعترفون اعترافك لم يجاهروا بهذا المعتقد كما جاهرت أنت، ولم يحملوا حملتك على الكنيسة ورئيسها وأسرارها وخدمتها. ثم إنني أقدم لك برهانًا دامغًا على عدائك الشديد للكنيسة، واستياء أعاظم الكتَّاب منك؛ كلام رجل لا تستطيع أن تنكره، ولا ريب تذكر ما كتبه في حقك صديقك الحميم الكاتب الشهير فلاديمير سولوفييف في رسائله الثلاث تحت عنوان «حديث تحت النخل»، وتذكر أيضًا أنني كتبت له أسأله عن سبب النفور بينك وبينه، حتى أدَّى ذلك إلى عداوة شديدة بينكما بدلًا عن تلك الصداقة، وقد أطلعتك إذ ذاك على جوابه الذي قال في ختامه: «إن حملة تولستوي على الله وتهكمه على مسيحه في روايته البعث قد أثرت بي تأثيرًا شديدًا وهيَّجتني ضده.» ثم إنك في كلامك عن طقوس الكنيسة ومعتقداتها وأسرارها تقول بأنها ما هي إلا مجموعة أكاذيب وسحر وخداع، ولا أخوض عباب الرد عليك في هذا الشأن؛ لأن رجال الكنيسة لم يدعوا مجالًا لقائل، وإنما وجدتُ من الضرورة أن ألقي نظرة عامة على ردك الأخير، وأجيب عليه بكل إيجاز فأقول: إن في بعض فصول اعتراضاتك على عقائد اللاهوت قلت بأنك تعتبر الكنيسة بأنها مؤلفة من ألوف من الرجال الهمج ذوي شعر طويل طائعين طاعة عمياء لمئات من ذوي الشعور الطويلة مثلهم، فتعني بذلك رجال الدين. ولا أرد على تعريفك هذا للكنيسة؛ لأن الاعتراض عليه لا يجدي نفعًا؛ لأنه بعيد عن الحقيقة مراحل، ودليل على جهلك تمام الجهل لحقيقة الكنيسة وإنشائها وتأليفها. ولو فرضنا أن تعريفك هو حقيقي، وأن الكنيسة ما هي إلا رجال الإكليروس، وأنهم كلهم فاسدو السيرة ومتكبرون، ويحافظون بالتواتر على تعليم الكنيسة الذي تسلموه، ولكن ألم يخطر على بالك متى نشأ هذا التعليم؟ ومن وضعه؟ فإنه كما لا يخفاك ليس الإكليروس الحالي المتكبر الفاسد الأخلاق «على رأيك» هم الذين وضعوا الأسرار وألفوا العقائد ونظموا الشعائر، بل معظمها نراها واردة في العهد الجديد. وأوجه التفاتك إلى كلام بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنتوس كيف أنه يفهم كلام الرب عن الجسد والدم كما نفهمها نحن الأرثوذكسيون، وأنه وضع ترتيب المائدة المقدسة بقوله: «لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب» … إلخ «١ كو ص١١». ثم أليس أن المسيح يعترف في الإنجيل بالله كما نعترف به نحن؟
أليس في رسائل الرسل موضحًا أتم إيضاح أن عمل الفداء حجر زاوية هذا التعليم؟ أليس أن أقرب تلاميذ المسيح «ونفس رسول المحبة» كانوا يذهبون إلى هيكل أورشليم لأجل الصلاة؟ وأنه في الأجيال الأولى المسيحية انتشرت خدمة القداس الإلهية ووضعت الترتيبات الكنائسية، وأن تلاميذ المسيح والذين تتلمذوا لهم كانوا يحافظون على هذه التعاليم أشد المحافظة، ويبذلون دمهم في سبيل صيانتها من التعدي عليها؟ أليس أنك جرحت إحساسهم وأهنتهم في تسميتك هذه التعاليم كذبًا وسحرًا وخداعًا؟
يا حضرة الكونت تولستوي، تقول إنك تحب الحق أكثر من كل شيء في العالم، فأرنا ذلك بالفعل، وما عليك لذلك إلا أن تطرح أفكارك الحاضرة عن الكنيسة، ولو إلى أمد قصير، وعندما تنساها وجِّه أفكارك إلى الأجيال الأولى من ظهور الدين المسيحي. فهل يا ترى بعد ذلك تستطيع أن تتهم بالوقاحة ومحبة الفضة وقلة الشرف والعظمة أولئك المسيحيين الذين جاهدوا جهادًا حسنًا في سبيل انتشار الديانة المسيحية، وأدهشوا العالم بأعمالهم العظيمة حتى أقر لهم الملوك بالفضائل، ومالوا بكليتهم إليها؛ لأنهم أخرسوا العلماء والفلاسفة بحكمتهم وفلسفتهم الحقيقية؟! اذكر بوليكارب، والفيلسوف يوستين، وأنطوني ومكاريوس العظيمين، ويوحنا الذهبي الفم، وباسيلوس العظيم، وغريغوريوس المتكلم باللاهوت، وأفغوستين المغبوط … وغيرهم من الذين احتملوا اضطهادات جمة لأجل توطيد دعائم الدين المسيحي، بماذا يا ترى تفسر خدماتهم العظيمة التي قاموا بها نحو الحق مع خدمة ألوف مثلهم؟ ألا يدل ذلك دلالة صريحة على صدق تعليم الكنيسة الذي جاهد في سبيله هؤلاء الرجال المشهورون بالتقوى والصلاح، المعروفون بالغيرة والنشاط، والذي أنت تسميه ضلالًا وكذبًا وخداعًا؟!
ومما لا سبيل لإنكاره هو أنه وافق على تعليم الكنيسة هذا وتعليم السيد المسيح والرسل الأطهار في عدة أجيال رجال من شعوب مختلفة ومرامٍ متباينة، مختلفون في المعارف، والجنس، والإدراك، ولم يقم من بينهم واحد يعتقد اعتقادك، ويسعى ليفسد جوهر الإيمان كما سعيت أنت، ومع مرور الأيام وكرور الأعوام لم يستطع أحد أن يدحض الإيمان المسيحي الصحيح، ولا أن يشوبه بشائبة. وقد قام في كل زمان ومكان رجال شهد لهم العالم بسمو المدارك وسعة الاطلاع، ولم يشكك واحد منهم بلاهوت المسيح أو بالتثليث، وأقرب شاهد على ذلك باسكال، وغلادستون، وسولوفييف الروسي، ولقد طالعت عدة مرات دستور إيمانك الجديد فكنت أشعر لدى مطالعتي إياه بحزن شديد مؤثر للغاية. نعم، إن كلماتك التي تقر بها عن الله حسنة، وهي أن الله روح ومحبة وصدق، ولكن لدى قراءتها لا تتأثر النفس كما يجب، بل تبقى بعيدة عن الإحساس بُعد الحقيقة عن معتقدك، وإنني ما زلت أتذكر ترجمتك للفصل الأول من إنجيل يوحنا، وكيف أنك حرَّفت الترجمة تحريفًا قبيحًا ظاهرًا؛ حيث الأصل الحقيقي يقول: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله.» فحرفتها هكذا بقولك: «في البدء كان المعرفة، والمعرفة صارت عوض الله، ثم صارت المعرفة الله.»
فيا حضرة الكونت، ما هو الله المعرفة؟ فبجسارة أقول لك: إن إلهك ما هو إلا مجموعة أفكارك التي أحببتها وما زلت عليها، ولم تزل تنقلها من جهة إلى أخرى مدة عشرين سنة، وهي أفكار متشعبة مضطربة لا تستقر على حال من القلق.
ولا يخفاك بأن الإيمان على نوعين: إيمان بالخبر «رومية ص١٠ عدد ١٧»، وإيمان بالثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا تُرى «عب ص١١ عدد ١»، وهذا هو الإيمان الحي المنتظر الذي يهب الناس ثقة لا تتزعزع بما لا يرى، وهو — أي الإيمان — بعيد عنك بعد السماء عن وهاد الأرض؛ لأنه يعطى من المسيح الإله والإنسان الذي أنكرته، ونحن ما دمنا أحياء على الأرض ننال بواسطته وحده الزلفى إلى الأب السماوي القدير فنحصل على مواهب رحمته العظمى، وأنت بإنكارك المسيح الفادي تحرم نفسك مواهب نعمته السامية، ولعدم اختيارك الروحي قوة تلك المواهب فلا تستطيع أن تميز محبة المسيح من محبة الطبيعة، ولا التواضع من الكبرياء؛ ذلك لأنك لا تدرك قوة الإيمان بالمسيح المصلوب الذي قام من بين الأموات، ومن جهلك ضرورة ذلك الإيمان لولادة الإنسان الجديدة.
ومما يستحق الاستغراب والدهشة هو أنك لحد الآن تجهل تمام الجهل معرفة حياة نفس الإنسان التي عرفها أبسط الناس العديمي العلم والمعرفة، الذين قال عنهم رسول الأمم: «إن الله اختار جهَّال العالم ليخزي الحكماء، واختار ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء؛ حتى لا يفتخر كل ذي جسد أمام الله.» وكيف أننا لا نستغرب ذلك؟ فإن الله كشف لبولص البسيط الوحي الروحي الإلهي، وأخفاه عن تولستوي الفيلسوف الشهير، ثم إنك أوردت شهادة على حسن اعتقادك بعض أسطر لكولريد الشهير التي رأيت ضرورة إعادتها، وهي أن الذي يحب الديانة المسيحية أكثر من الحق فذاك لا ريب أنه سيحب كنيسته أو معتقده أكثر من الديانة المسيحية، وينتهي ذلك الشخص بمحبة ذاته «راحته» أكثر من كل شيء في العالم، فخذ لك مثالًا على فساد هذا الكلام وبُعده عن الحقيقة: بولس الرسول الذي تكرهه كرهًا شديدًا لإيضاحه تعليم المسيح أكثر من بقية الرسل الذين شادوا جميعًا كنيسة المسيح المقدسة، فإلى أي شيء انتهى هذا الرسول؟ أإلى محبة ذاته «راحته» أكثر من كل شيء في العالم؟ إن عدو الحق المبغض لا يستطيع أن يقول عنه ذلك، أليس أن هذا الرسول الأمين قضى حياته باحتمال الاضطهاد والمشقات والأتعاب من أجل المسيح؟
وأذكِّرك بأقرب التلاميذ للمسيح؛ وهما: بطرس ويوحنا، وأوجِّه أنظارك إلى رسائلهما عن تعليم المسيح، ترى أنهما أتمَّا حياتهما بالطرد والاضطهاد والموت شهيدين. ثم إني لا أذكرك بأيام الاضطهادات الشديدة التي ثارت على المسيحيين وأقلقت راحتهم، حتى إن كثيرًا منهم أهرقوا دماءهم من أجل اسم المسيح القدوس وكنيسته الطاهرة، ولا أذكرك بحالة نسَّاك البراري وما قاسوه من شظف المعيشة والتقشف والإمساك؛ كأنطوني ومكاريوس وغيرهما، الذين تركوا ملذات هذا العالم، وقمعوا شهوات النفس، كل ذلك من أجل محبتهم للمسيح.
وقبل أن أختم كلامي أقول: إن وقتنا قد دنا للنهاية، وإني لا أقطع الرجاء ولا أيأس من أنك في دقائق غربتك الأخيرة على الأرض ستضطرم صورة الفادي في نفسك، وتخرجك من الظلمة إلى النور العجيب المدهش، كالسعيد الذكر غوستين.