أوان الحب
الحب …!
لقد قضيت الحياة كلها أحلم به وأتلهف عليه وأتوق إلى مطالعه، ولو أنه جاءني بادرًا لما وجدني خافَّة للقائه، ولقد كنتُ على طول الحنين إليه لا أرى من زماني فسحة للبحث عنه، ولكنه لم يجئ باكرًا، وإنما طال عليه الغياب، ثم أقبل يدلف ويمشي وئيدًا على أدبار الشباب …
ولكنك لن تجد في قصة هذا الحب شيئًا يروقك أو يوقد بعض ناره في جوانحك؛ لأنه حب بدأ على ثنية الكهولة، ولم يبد على بواكر الشباب وسطع الحداثة، إذ تروح النفس مُترعة بأحلامه، ولا يزال الخاطر مصقول الأديم متهيئًا لاستقباله.
إي والله لم أجد من زماني فسحة للحب، ولكن الذي صرفني عنه وعدل بي عن واديه، لم يكن غير واجب الرعاية لأختي الصغيرة «ج …»، فقد قضتْ أمُّنا يوم كانت أختي في العاشرة وأنا في السادسة عشرة، فكانت رعايتي لتلك الصغيرة ومساعدتي لأمي المسكينة، التي لم تستطع نهوضًا من الصدمة التي عاجلتها بوفاة أبي، قد تركتاني أكبر قبل الأوان.
وكان أبي أبدًا يناديني: «يا عوني الصغير»، فكنت أزهى بهذه الكنية، وآتيه فخارًا بهذا الاسم، وأجد فيه الفرح والخيلاء.
وكنت أقرب شبهًا بأبي مني بأمي، فقد ورثت عنه عينيه السوداوتين الهادئتين، اللتين توحيان من الأعماق قوة الإرادة وحب الريف والميل إلى القرية.
وكان أبي رئيسًا للحطابين الذين يعملون في أرباض قريتنا، وكانت أمي مخلوقة ناعمة … صنع الله لها، تلك الأم الغريرة الضعيفة الحول، الواهية الإرادة، لا تسأل شيئًا ولا تُسأل عن شيء، وكانت الصغيرة «ج …» أقرب شبهًا بها. وكانت أمي من أهل الحضر، وُلدتْ ودَرجت وقضت مطالع شبابها في المدينة، فلم تكن تروقها عيشة القرى، ولم يفتنها مشهد الحقول، ولم تستروح نفسها لأفق الريف.
وفي ذلك العهد لقيتْ أبي، فكأنما التقت قوة السروة الباسقة الصلبة المتينة بطراوة أنفاس الربيع اللين العليل، وكان أبي يناديها «بأنفاس السماء» لنعومة بدنها، ونصاعة محياها، ومسة من لون الذهب الأصفر الناضر تزين جدائلها المرسلة، وذلك العبق الخفيف الخفي المذهل الساحر الذي يدع الناس ينادون زهرة الربيع بأنفاس السماء وشذاها.
وكذلك كانت في عين أبي وعيني، ولكنها لم تكن زهرة من زهرات البر، فلم تأخذ في النمو حيث مضى بها أبي إلى الريف الفقير الساكن، بل عاجلها الذبول فنكست — فعل الزهرة الذاوية — رأسها، وعادت أشبه الأشياء بشجرة اللبلاب تتعلق بالسروة الناهضة في صميم الفضاء.
ففي ذات يوم والشمس تتزاور بادية من خلف السروات الناحلات المديدات. إذ ارتفع في السماء فبدد الصمتَ الرهيب صوتٌ عظيم تهلع له النفوس، وتنهد القلوب هدًّا، صوتٌ قصف توالى يُنذر بوقوع حادث في أكناف الغاب، وأخذ الناس يهرعون على الصوت من كل مكان، ويلتمسون الطبيب، ويطلبون للمصاب الغياث …
ولكن تُرى من يكون هو، لقد مضت كل ذات بعل وذات ولد تسأل وهي شاحبة اللون واجفة الفؤاد: من هو؟ وما الخطب الذي دهمه؟ ووقفن لاهفات جازعات ينتظرن النبأ، ويرتقبن قصة المصاب.
وجاء فتى من الحطابين يعدو، فقال: إن الرفقة قادمون بأبي … وا حزناه … لقد رأيت أمي … أمي المسكينة، الحلوة، الضعيفة، الواهية، تتواثب من فرط الألم، وتتساند من فداحة الكارثة، وأما أختي فأخذت تتصايح وتبكي بدافع الغريزة، وهي لا تدري علام البكاء وما مبلغ المأساة وجلال الخطب، وإنما تبكي لبكاء أمها، وتجاوب بالدمع دمعها، وأنا، الله لي … لقد استقرتْ على وجهي عيناه السوداوتان، وشفتاه الملتهبتان وهما تبتردان رويدًا وتصفران على مهل، وهو يحاول أن يبعث من صدره أنفاسه المتحشرجة الخافتة الراجفة، نعم، أنا عونه الصغير، وسناده الأكبر. وفي رفق يمازحه إصرار، راحتْ جارة لنا تفك يدي أمي المشتبكتين حول صدره، وتمشي بها وطفلتها منصرفة بهما من الحجرة، وجثوتُ أنا بجانب أبي، ومضيت أقول بصوت مختنق: إنك لن تتركنا يا أبي … وحاول هو أن يرفع يده ليلاعب جدائل شعري ملاعبة ألفتُها منه ولطالما فرحت بها ولذني لطفها ورفقها، فتراخت يده ولم تستقم؛ إذ سقطت كتلة عظيمة من الخشب فوق صدره فحطمت أضالعه، وتركت يديه مرتخيتين واهيتين متساقطتين إلى جنبيه.
وانحنيت وذهبت أنصت إلى الكلمات التي راحت تخرج من بين شفتيه المختلجتين متقطعة لاهثة لا تكاد تبين.
قال لقد رقيت مركزًا أسمى من مركزي أيتها الصاحبة الصغيرة والولية الحسناء … نعم، أنا تاركك لنفسك، ومعتزل في هذه الحياة عملي. يا عوني الصغير، أنت الآن عوني الأكبر … لديك أمك الصغيرة، «أنفاس السماء»، ولديك أختك الغريرة الحسناء، ألستِ ناهضة في العيش بجانبها، آخذة بيديهما، يا حبيبة أبيك وخليفته في عشيرته …!؟
فأطرقت إطراقة الإيجاب؛ إذ عصاني منطقي فلم أجد لساني على الجواب مسعفًا، ورأيت بياضًا يغشى فمه شيئًا فشيئًا ثم يتصاعد إلى خديه، ويكاد يبلغ عينيه، فانحنيت أداني وجهه وأمس بخدي فمه، فإذا بذلك الفم قد سكن وانقطع اختلاج الشفتين واسترد ملك الموت من الأرض وديعة السماء.
طار لبي، وغام السحاب على خاطري وعيني، ورفعت رأسي ونظرت إلى عينيه الجامدتين، فأفلتت من بين شفتي أنَّة مجنونة موحشة، وإذا بيدين رقيقتين — لكن قويتين — قد رفعتاني من مجثمي وسمعت صوت الطبيب يناديني قائلًا: شجاعةً أيتها المرأة الصغيرة وتجلدًا لأجل أمك؛ فإنها أحوج ما تكون اليوم إلى عونك.
وعند ذلك ارتفعتْ ورائي صيحة كظيمة متهيبة تقطع نياط القلوب، فدرتُ بعيني فرأيت شبح أمي الناحل المترنح حيالي، وعيناها الأليمتان ترسلان نظرات لهيفة متوسلة، كأنما هي تحاول أن تدرك مبلغ المصاب وتتساءل ما معنى الخطب وما أمره، وشفتاها تهتزان في حركة تهد الفؤاد، ويداها الصغيرتان البضَّتان تصعدان وتهبطان وقد جاءت فترامت على صدري وتعلقت بثوبي ونحري، ومن فوق بدنها الواهي الناحل ألقيتُ العين على أبي … أبي وابتسامته الباسلة الحائرة التي لا تزال على وجهه، وفي لهجة رهيبة ومنطق جليل رزين غمغمت أقول معطية عهدي، مقدمة أمام جثمانه الهامد موثقي: «سأتولى مكانك يا أبتِ … سأتولى مكانك، فنم بسلام».
ولما قضينا للميت الراحل حقوقه، خففت أنا وأمي وأختي من القرية إلى المدينة العامرة المخيفة بضجيجها وزحامها، ولكن فتنة الحضر لم تستطع أن تمنع شجرة اللبلاب المتعلقة بجزع السروة الصلبة المتينة من التشبث بسنادها، فما انقضى عام حتى وافت أمي الصغيرة أبي إلى مرقد الآخرة، وضجعتْ بجانبه تحت أطباق الثرى.
وما بقي من مكافأة أبي استعنتُ به بعد رحيل أمي على شراء حانوت صغير على القارعة لبيع الفاكهة.
•••
ومرت بي ثمانية أعوام طُوال عنيفة جاهدة، دأبتُ فيها على الخدمة في الحانوت، وبرعتُ في استهواء زبائني، واكتسبت خبرة برغباتهم، فاستطعت أن أجعل الصبية «ج» الحسناء رافلة أبدًا في المطارف الناعمة، تزيدها حسنًا، وتكسبها تفتحًا وازدهارًا.
وفي المساء، إذا لم يكن حفل ولا خروج إلى النزهة، اعتدت أن أكب في البيت على الخيط والإبرة، أحيك في معزل ثوبًا جديدًا لأختي تريده للظهور غانية حالية في محفل منتظر أو وليمة وشيكة. ومن خلال الظلال لا ألبث أن أرى عينين ناعمتين براقتين مصقولتين تطالعانني ضاحكتين متهللتين، وهما مُترعتان مراحًا بالحب، واسترواحًا إلى الصبابة، وقد تحقق أمل الشباب، وصحتْ في الصبا الأحلام.
وكان حبيبها فتى ممتشق القد مكتمل العضل، ذا فم حلو ومعارف عليها من الصباحة آيات بينات. وفيما كانت تلك الإنسانة الصغيرة الخيالية البديعة تذوب متلاشية في تلك الأحضان القوية الرقيقة المفتولة، كنت أذهب أسائل النفس في حسرات: لماذا لم تُقدر لي السعادة، ولِمَ قد حُرمت ذلك الهناء …؟
وأذكر ليلة دعاني فيها شاب مليح إلى الذهاب معه إلى العشاء في مطعم فخم والانطلاق بعد نعمة المائدة إلى الملهى، فخفق فؤادي سرورًا وطربًا لتخيل قضاء بضع ساعات في رفقة ذلك الأغيد المليح، ولكني تذكرت أن أختي ستذهب في تلك الليلة بالذات إلى مرقص بديع، ولم أتم بعد ثوب زينتها، فاستعفيت ولم أقبل المقترح. وكان هذا آخر العهد بيني وبين ذلك الفتى.
وجاء اليوم الذي كاشفتني أختي الطفلة الغريرة اللدنة الناعمة كأمها بعزمها على القران، ففي تلك الليلة أطلتُ الجلوس إلى المرآة فأدركت أنني مدانية حدود الكهولة، وأنني من فرط حناني عليها ورعايتي تركت الحياة تمر بي مرًّا، حتى أصبحت ولم أعد غير فتاة عانس انمحت مسحة جمالها فغدت خلية من سمات الحسن ومعالم الحداثة.
واهًا لي، وحسرةً على الشباب، لقد كنت أحلم بالحب ولا أزال به حالمة، فيأسًا أيتها المسكينة وهيهات؛ فإن الحب لم يخلق لمثلك، وإنما أنت عون أبيك وخليفته في عشيرته …
•••
وكذلك لبثت عشرين سنة بجانب «ج» أرعى لها بيتها وهي متعلقة بي كما كانت أمنا تتعلق بأبينا، وكانت هي تقول إنها لا تستطيع العيش مستغنية عن عوني، فظللت في عونها، وكانت — وا حسرتاه عليها — لا تزال في ربق الشباب عندما عاجلها الموت فذهبتْ للقاء أمها وأبيها، وكان زوجها يحبها ويعجب بها، ولكن قبل أن تتفتح أكمام الزهر والأعواد التي زرعناها حول قبرها، وكانت تلك الأزاهر أحب شيء إلى نفسها، جاء زوجها إلى البيت بزوج أخرى، ولم تكن هذه تحتاج إلى سناد تترامى عليه، وعماد تنهض فوقه، فلم ألبث أن أدركت أنه لم تعد بأحد حاجة إلى بقائي.
لقد كنت من الحداثة ضروريةً لا غناء لأبي عني، ولا لأمي من بعده، ولا للصغيرة «ج» التي تركاها لرعايتي وعوني. فإذا بي على رأس الأربعين، وحيدة لا حاجة بأحد إلي، ولا مكان لي عند أحد.
وجاءني يقول وهو مُتكره متردد: إنه قد أعد العدة لإيوائي إلى دار هادئة يعيش فيها نساء مثلي لا يعملن عملًا مجهدًا، ولكن يجدن رفاهية ورعاية بقية آجالهن.
وأحسبُ أنه كان ينبغي لي أن أكون شاكرة لهذا الصنيع، عارفة هذه المحمدة له. ولكن روحًا من الثورة والتمرد تولتني؛ إذ أحسست أنني قد خُدعت في صفقة الحياة وغبنت، فلقد ظللت الماضي كله أعطي كل شيء ولا آخذ شيئًا، أعطيت الشباب والآمال والأحلام، وها أنا ذي اليوم لا أُجزى عما وَهبت غير العيش بقية الأجل بين جدران ملجأ …
وا حزناه … أنا التي لهفت على الحب وحلمت به، ودعوت إليه، قضى القدر أن أُحتبس في دار للعجزة … واللائي أَدْبر العمر بهن …
يا لله … أدبر العمر بهن، ولكني لم أعد كذلك.
لقد كنت فتية أحس في الأضالع وقدة الشباب، وكيف تنطفئ نار تجد في كل يوم وقودها من اللهفة على الحب وحرارة الأمل، والتوق إلى المنى البعيدة؟
لقد ثارت نفسي متمردة تريدان تحتال آخر الحيل قبل أن تسكن إلى اليأس وتودع الأمل الوداع الأخير.
•••
وأعلنتْ صُحف المساء أن معرضًا للملاهي والألعاب سيقام على ضفاف البحر تذكارًا ليوم مشهود، ومضتْ تطنب في وصف ضروب اللهو التي حُشدت فيه. فما كدت أقرأ هذا النبأ حتى أجمعت أمري على أن ألقي بآخر سهم في كنانتي على مرمى الحياة قبل أن أستسلم إلى دخول ذلك الملجأ صاغرة، فعددت فضلة المال التي ادخرتها، فكانت يسيرة ولكنها تكفي لركوب القطار ودفع الأجر ونفقة البيت. إذن لا بأس … سأثب الوثبة الأخيرة … سأعيش لنفسي يومًا واحدًا في العمر، يومًا بهيجًا حافلًا بمتع الحياة من لهو وقصف، وإذن لن يستطيع العيش في الملجأ أن يحرمني نعمة ذكرى ذلك اليوم وصورته …!
وذهبت إلى دولاب ثيابي فأخرجت أحسن حلله، وأبى شعري الفاحم إلا أن يلتوي ويسترسل فروعًا وخصالًا متلطفة تلاعب جبيني وخدي، وراح خيال شبابي المستعاد وعيني السوداوتين يضحك لي في المرآة عندما تناولتُ جعبتي الصغيرة ومشيت منصرفة لاقتناص … الحب …!
وأخذتْ الجماهير تتقاطر، وما لبث الخليج أن بدا حاشدًا بالسابحين والسابحات في مختلف الألوان، تسطع منهم الأذرع وتبرق السيقان. وارتفعت صيحات الفرح من شفاه ملتهبة بحرارة الشباب، تختلط في الفضاء بأصوات الباعة من كل صنف ولون، وعادت الرمال البيضاء المترامية على الضفاف حديقة مفراحًا بهيجة تطالع العين منها المظلات البديعة والأثواب المهفهفة، وقوالب الحسن التياه، والملاحة ذات الدل والخفر والخيلاء … وظللت لحظة مستطيلة قانعة بالجلوس فوق الرمال الدافئة وتأمُّل المارة ورؤية مشاهد الألعاب، ولكني ما لبثت أن درت بعيني فألفيت الناس جماعات، مثنى وثلاث ورباع، كلهم بإلفه فَرِح، وبرفيقه طروب، أو بصاحبه في سرور وابتهاج، ووجدتني في وسط هذا الجمع وحيدة من الخلان، لا رفيق إليه منتهى جذلي، ولا سمير أضاحكه وأنعم في بهرة الحفل بسمره، فتولتني وحشة أليمة وظمأ إلى الرفقة ولهف على الصاحب والخدِين، ورحت أجيل العين في الوجوه لعلي ملاقية وجهًا أعرفه أو أسمع صوتًا آلفه، فوجدتني وحيدة غريبة لا شأن لها بالجمع، بل امرأة محت الأيام مسحة الجمال من معارف وجهها، يدفعها الشباب المساميح الصباح الوجوه بالمناكب، ويمرون بها ولا ينظرون. وا حزناه! لقد كنتُ بعد كل تلك السنين أحسبني مختلسة من العمر يومًا واحدًا ذا مراح وابتهاج، أعده ذكرى طيبة مواسية لبقية الأجل أقضيها بين جدران ملجأ موحش أليم.
لك الله أيتها العانس المسكينة، ودعي الأمل، هيهات ما لك في هذه الحياة من نصيب، اذهبي اطلبي إلى الوردة أن تغمض وإلى الزهرة أن تعود كما نواراكما كانت. ما أنت والحب، وما أنت والمراح، أنت عون أبيك وسنده، ولكن أبي … ها أنا قد عدتُ وحيدة وقد تركني الذين وصيتني بهم، ولم يعد لصغيرتك من تعينه وترعاه، وذهب الأمل، وخبت وقدة اللهفة على الحب.
•••
واحتملني تيار الجمع الزاخر في طريقه، فما لبثت أن وجدتني في السرادق الرحيب الذي أقيمَ في المعرض للعبة الأحصنة الخشبية، فانتبذت من القوم مكانًا فجلست ملقية يدي في حجري وأسلمت خاطري للتفكير.
ولست أدري كم لبثت في مجلسي، وإذا بيد قوية قد أُلقيت فوق يدي، فتطلعت بوجهي فأبصرت وجهًا وسيمًا تطل منه عينان زرقاوان تنظران إلى وجهي نظرة مستطيلة مفعمة حنانًا وتأثرًا.
قال صاحب ذلك الوجه بصوت ملتهف خفيض: ماذا بك يا سيدتي؟ فأثر في نفسي حنان صوته، فوجدتني أقول وأنا خائرة النفس معذبة: إنني وحيدة. قال: وحيدة! … وخطف على وجهه نور رحمة وشهاب حنان غريب.
فقال: يا لك من مسكينة! ألا صديق؟
فهززت رأسي هزة النفي ولم أتكلم.
فسكتَ لحظة ثم ابتسم قائلًا: هل لك في ركبة معي فوق الأحصنة؟ فخفق فؤادي ونهضت واثبة وقد عاودني الأمل.
ولما رجع بالتذكرتين لمحت على وجهه لهفة كأنها رجاء الفتى وضراعة أهل الشباب، وركبنا مرتين ثم استعدنا الركوب مرات، ونحن ضاحكان مسروران. وفيما كان يعينني على النزول لمس كتفي كتفه واستندت ذراعي إلى ذراعه، فإذا موجة من كهرباء قد سرت في مفاصلي فهزتني هزًّا.
وكان ذلك إحساسًا جديدًا لم أشعر من قبل بمثله.
وجلسنا فوق الرمال، وأكلنا شيئًا من الحلوى، وكسبت في النصيب سلة من سلال البقل والخضر، فما عتمت هذه السلة أن أعادت إلى خاطري ذكر أحلامي الماضية ولهفاتي على عيش الزواج وحياة ربة الأسرة، ورأيت الحاضر، نعم هذا الحاضر الهنيء الرغيد ذاويًا متلاشيًا في المستقبل الأليم، حفت جوانبه الوحشة، وقام على حفافيه عذاب.
وتناول هو السلة فعلقها بذراعه باسمًا وبذراعه الأخرى أمسك بذراعي، فقال: لنترك هذه ونذهب نركب إلى طوفة طيبة فذلك نعيم كدنا ننساه.
قلت: أوثر أن نجلس جلستنا هذه لنشنف أسماعنا بصوت الموسيقى إذا لم تر من ذلك بأسًا، فسرتْ في تضاعيف صوته أنغام حنان ورنة لهف غريب، وهو يقول: أمتعَبة أنت؟ قلت: كلا، ولكني أرى أن نختم يومنا على الأغاريد، فذلك أبدع ما يختتم به يوم كهذا …
ولفنا الصمت في مجلسنا مليًّا.
وكان هو بالحديث البادئ.
قال: هلا أنبأتِني أين مقامك؟ وفيم لقاؤك؟ حتى نتوافى إلى يوم آخر طيب كهذا جميل المبتدأ حلو المختتم.
وا حسرتاه … يوم آخر … لقد نهضت في مخيلتي جدران الملجأ وأسواره الشاهقة، وكإنسان بلغ أقصى نهاية العذاب، ثم لم يستطع عليه بعد ذلك صبرًا. رحت بين عبرة مخنوقة، وزفرة كظيمة، أقص عليه قصتي، فلما أتممتها امتدت ذراعه فطوقتني، وراح صوته في مثل حنان الأمومة يقول: واهًا لك أيتها المسكينة! واهًا لك أيتها الصغيرة المحزونة!
فاستعدت يدي من إمساكته وحاولت الكلام بثبات، ولكني اختنقت بالعبرات فلم أستطع صبرًا.
قلت: والآن لا أمل! لقد ذهب الحلم الجميل، ولم يبق غير ذكرى هذه الساعات القليلة، تلك عدة أيامي القادمة.
وعاد يتناول يدي الباردتين في يده الحارة المستعرة، وراح يقول في لهجة المتضرع المبتهل: ما أحوجني إلى عونك يا عون أبيك وأهلك، إن لدي البيت الذي كنت به تحلمين، والأفق الذي كنت عليه تلتهفين، أواه أيتها الصغيرة! … أنت والله المرأة التي كنتُ الحياة كلها أتمناها، وتهفو نفسي إليها، فهل تجدين في فؤادك لعامل دؤوب مثلي موضعًا؟ وهل ترضين بي في الحياة شريكًا؟
وشدَّ يدي حتى كاد يؤلمني، ولكني لم أتألم ولم أحفل؛ فقد كانت تلك أولى ساعات الحب ومطالعه.
لقد لقيت ضالتي المنشودة وفزت في قنص الحب، وصحت الأحلام بعد لَأْيٍ ويأس. وما أبدع الحب يجيء وئيدًا ويقبل على مهل، فينعش موات الأمل، ويُنسي المرء ما كابد على الطريق وما ذهب من مراحل الأجل.
طوبى للحب، إنه رحيم بديع وإن جاء بعد الأوان …