قسوة الحب
كنت زوجًا وفية فاضلة، لم يخطر لها يومًا أن تخون بعلها، ولا هي يومًا خانته، وما أتيت حياتي أمرًا نُكرًا، ولا قرفت في العيش شرًّا فيعيبني المجتمع به، ولكني مع ذلك قتلت رجلًا …
ذلك ما نبأني به والد القتيل بعد أن عفا عني وصفح، فقد راح يقول إنه لهين على المرأة أن تقتل كما هو بَيِّن عليها أن تهب الحياة …
يا عجبًا! ما كنت أعرف ذلك ولا عَنَّ لي من قبل، بل قد كنت أتدبر الأمر من ناحيتي الخاصة، وأعمل على أن أدفع عني غائلة القانون. وما كنت أدري ما على المرأة التي تجد من الرجل الحب من فرائض كبار، وتكاليف ثقال …
وأنا اليوم أسند في حدود الأربعين، وكان زواجي منذ ستة عشر عامًا، وزوجي راغد العيش، موفق في الحياة، فنحن نسكن دارًا جميلة في أرباض المدينة ولم نُرزق ولدًا، وقد مضت حياتي حتى العام الفارط هادئة مألوفة، إلا فترات تتولاني خلالها السآمة، ويغمرني ألم الوحشة، فأجلس أستعيد أحلام الشباب وأماني الصبا، أيام كانت النفس لاهفة على الحب تتمنى لو تصيب إعجابًا وحبًّا، ولست أدري علام رحت أتمنى شيئًا كهذا ولم أعد الصبية الحدثة، ولا الفتاة الغر اللعوب، ولا حق لي فيه اليوم ولا أنا من أهله، ولكنا كذلك نحن النساء، قد نجاوز حدود الشباب، ثم لا تزال نفوسنا على الحب لاهفة، والعين لنعمته ولذاذته طلعة، وعسير علينا أن نتخلى عن ذلك الأمل ونستدبر ذلك الرجاء.
ومنذ قراب عام، قبل عهد هذا الأمر الذي جرى والذي أنا به محدثتكم، جاءت نسوة من المدينة في زورة لدارنا، وكنا جالسات نخيط ثيابًا، وقد جئتُ بفضلة من حرير وردي اللون فقلت لصواحبي شاكية آسفة: أحسبها لا تكفي لنصطنع منها غطاء لوسادة. فقالت صاحبة منهن: لِمَ لا تصنعين منها قميصًا مقورًا لا أكمام له يا عزيزتي؟ …
قلت ضاحكة: يا عجبًا! … ألمثلي يصلح القميص المهفهف الوردي لا كُم له؟ …
فقال: نعم، وله حاشية من مخمل مذهب، فأنت مديدة القامة سمراء المعارف، وإنك لتترائَيْن في ريطة مهفهفة كهذه مليكة من الملكات البهيات الباهرات …
قلت: ولمن ترين ألبسه؟ ومن ذا سيشهدني مترائية به؟
قالت: لزوجك تلبسينه، وعلى عينه تخطرين به.
فضحكن من قولها فاكهات، فقد كُنا نعلم أن أزواجنا لا يحسبوننا مليكات، ولا يروننا — وإن تجملنا لهم ما تجملنا — البهيات الباهرات.
ولكني أمسكت بفضلة الحرير فالتففت بها، وكان اليوم مطيرًا والحجرة معتمة، فما لبثت أن أدركت على بصيص الضياء أنني رحت في لفة تلك الفضلة الوردية اللون رائعة حقًّا، وحسناء باهرة ولا خفاء، ولقد كنت في صباي بدينة ممتلئة البدن، ولكني اليوم نحلت فأضحيت ممشوقة هيفاء، واتسعت حدقتاي فرُحت في العين نجلاء.
وانثنت صاحبتي تقول: في الحق ما رأيتك يومًا تلوحين كما لحت الساعة رائعة حسناء، ألا اصطنعي منها الغلالة الفضفاضة يا عزيزتي على بركة الله.
وكنت أعلم في نفسي أنني ما كنت لألبس شيئًا كهذا غريبًا بديع الرواء، فإن زوجي سيحسبني به ممثلة من رخيصات الممثلات، ولكني مع ذلك استمعت إلى نصيحة صاحبتي فجعلت من تلك الفضلة قميصًا ولم أصطنع له الحاشية المذهبة إبقاء على حشمة هونًا ما، وحرصًا على شيء من وقار.
وفيما كنا نهيئ ذلك القميص، أنا وصديقتي، راحت تقول: لقد سمعتك يومًا تقولين إن لزوجك آلة كاتبة قديمة العهد يضعها في غرفة مكتبه، فاسمعي إذن، إن لدينا غلامًا قد انحدر من بلده البعيد ليقيم عندنا، وهو يعد نفسه اليوم لدراسة علم التجارة، وقد قلت له إن في وسعه أن يجيء في بعض الأحيان ليتدرب على الكاتبة عندكم ويمرن أنامله.
قلت: لا ضير من ذلك، فإن زوجي لا يعود في المساء في هذه الأيام من كثرة عمله وتراكم شواغله.
قالت: إن الغلام فتى هادئ وديع عليه من الذكاء سمات ومخايل.
•••
وفي أصيل اليوم التالي جاء الغلام.
وكنت قد غسلت شعري قبل قدومه وجلست أجففه في قاعة الاستقبال، ولم أكن عقصت جدائلي بعد، ولا قصصت من ذوائبي الغزار، فعل النساء في عصرنا هذا، وديدن الحسان البرزات، وإنما تركت شعري مرسلًا على سجية فروعه الوحفة، وضفائره المديدات.
وتلفت حولي أبحث عن ثوب أشتمل به ريثما تجف جدائلي، ونحن اليوم لا نقنع إلا بالطريف، ولا يرضينا في كل يوم سوى الجديد القشيب، فتناولت الثوب المهفهف الشفاف الوردي اللون الذي اصطنعته.
حقًّا لقد أصابت صديقتي فيما رأت! فقد تراءيت بذلك الثوب باهرة ساحرة الرواء، ورحت أمسك في يدي بمروحة يابانية مذهبة الحواشي، وكان شعري قد جف وراع … ودق الجرس …
وذهبت ففتحت الباب وبدوت حيال الغلام، وأخذ مشهدي عينه، فتراجع مبهوتًا كأنما قد رأى شبح حورية من بنات السماء.
قلت: أأنت … طالب التجارة …؟
قال: أرجو أن لا أكون قد أزعجتك بمقدمي.
وخيل إلي أنه قد راح بي المأخوذ المبهوت. وظننت دهشته تلك بعض حياء الشباب، ولكن رعشة شفتيه، دلتني على أن ما به قد تجاوز حدود الدهشة والاضطراب، فأخذته إلى حجرة زوجي ورتبت له المنضدة كما يشاء.
وراح يقول: إن ذلك منك لجميل، وهو منك طيب وكريم. وكان الغلام فتَّان الطلعة، غريب الملامح، في الربيع الثامن عشر، ناحل البدن أزرق العينين مثال الحياء، تطل من عينيه نظرات حييات، وفورات شعرية ما أحسبني رأيت منها يومًا في عيون الشباب!
وكانت عيناه الزرقاوان لا تطرقان النظر إلى وجهي.
قلت: أيروقك المكان؟
قال: أحسبه كذلك …
ووقفت أنظم صفوف الكتب والأوراق فسقطت إحدى جدائلي على ذراعي العارية، فاستقرت عينه عليها لا تبرحها، ولم يكن أحد غير زوجي قد رآني وأنا بادية في غلالة شفافة كتلك، ولم أكن أحسب أنها تثير ألباب الرجال. ولكني عندما أدركت مبلغ التأثير الذي أحدثه مشهدي مترائية بذلك الثوب الرقيق الفضفاض، شعرت بشيء من فرح الأطفال، فاصطبغ وجهي بلون الأرجوان، ولم أتمالك نفسي من أن أبتسم ابتسامة مفعمة بالرقة واللطف، وإن لم أخرج بها عن حدود الاحتشام.
وانثنيت أقول للغلام: أنا تاركتك لتشتغل، فإن أردت شيئًا فتعال اسألنيه فإني جالسة في حجرة الاستقبال.
ومضيت من الحجرة أرفل في ذلك الثوب النضير على عينيه، وكان أولى بي أن أذهب فأنضوه عني، وأستعيض عنه ثوبًا من الثياب التي أبتذلها في البيت، ولكني في الحق لم أفعل، وإنما عدت إلى حجرة الاستقبال فوقفت حيال المرآة أشد من حواشيه وأهذب من ثنياته وتلافيفه وأهز فروعي حول كتفي، ثم رحت أستلقي على المتكأ.
بالله! منذ كنت صبية غرًّا لم يقع لي مثل هذا الإحساس الغريب الذي جال بنفسي، وغمر لبي في تلك الساعة، ذلك إحساس متدفق فياض طاغي المد، معتلج الأواذي، بل إحساس لا يكون إلا في أقاصيص السحرة وبنات الجن، إحساس تكتمه المرأة عن كل مخلوق ولا تصفه لأعز صاحب وصديق.
وجلست أنصت إلى دقات مفاتيح الآلة الكاتبة، وأتمثل عيني ذلك الغلام الوسيم المقسم، فخلت كأني أتعاطي أفاويق عقار مسكر مخدر كنت إليه مشوقة لاهفة.
وفيما أنا مسترسلة مع ذلك الحلم اللذيذ الساحر، إذ سمعت صوتًا يقول: لا تتحركي … فإذا لهذا الصوت رنة صوت العابد القانت لا أحسب امرأة تحلم بمثله من حبيب جليل الحب مكتمل الولاء.
وكنت أعلم أنه ينبغي لي أن أرد الغلام عما هو آخذ فيه، ولكني لم أكن في ماضي الحياة قد سمعت من فم رجل من أهل الدنيا صوتًا حلوًا عذب الأغاريد! …
ووقف الغلام يتأمل شعري الفاحم المرسل حولي، وينظر مليًّا إلى ثوبي المهفهف الشفاف لا يكاد يستر بدني.
قال: أتأذنين لي أن أجيء وأكثر المجيء؟ …
قلت: بلا ريب …
قال: شكرًا شكرًا …
وانصرف مسرعًا لا يلوي على شيء …
•••
وكذلك جعل يجيء بانتظام، وراحت صديقتي تحدثنا بأخباره، قالت: إن أباه شيخ كبير في بلد صغير بسواد الريف، وقد نشأ الغلام وحيدًا من الخلان في كل بلدة، وأحسبه تعثر في علة فاستطالت العلة به عامًا كاملًا.
قلت: لا عجب إذا هو اليوم بدا ناحلًا واهي البدن.
قالت: أظنه قد عوفي من زمان بعيد وابل، ولكنه في الحق غلام عجيب، بل دودة كتب، كثير القراءة، مكب على العلم. وإن كان أهله يقولون إنه يقرأ كتبًا لا يَخلق بمثله أن يتناولها … حقًّا إنه لغلام حساس شفاف العاطفة.
قلت: إنه ينظم شعرًا.
قالت: يا عجبًا! أشاعر هو أيضًا؟ ولم تكن صديقتي تعرف ذلك عنه. ولكنه في تلك الأصائل الثلاثة التي قضاها يتدرب على الأداة الكاتبة عندنا لم يصنع شيئًا سوى كتابة القصائد، وكانت القصائد تكتب لي، فقد جعل يجيء إلي بها في خجلة وحياء، فكنا نجلس على المتكأ معًا ويروح هو ينشدنيها بنفسه، وكان مجلسنا أبدًا هادئًا في خلوة رقيقة على نسائم الأصيل إبان الربيع، ولم أكن أجد رغبًا في الخروج من البيت، ولا أرتقب زائرًا يزور، ولم يكن علي عمل أؤديه حتى تحين الخامسة فأنهض لتهيئة العشاء لزوجي قبل رجعته، ورحت أجد مسرة النفس في الخلوة إليه، والاستماع إلى شِعره وقصيده الحافل بوصف الجمال وشكاة الحب، ووقف عند بيت يصف فيه لمسة يد المليكة الفاتنة فألقى يده على يدي ولم أكن طيلة الحياة بالإنسانة المجنونة العاطفة، الخلابة الهوى، فأردت أن أظل على خلقي هذا وعهدي، فاجتذبت يدي في رفق منه، فتركها غير ملحاح في إمساكته، ولكنه ظل يرنو إلى يدي بين فترة وأخرى، فعل الطفل الحزين السليب من شيء حلو كان يطلبه فحيل دونه.
والتهب خدي في ذلك المساء عندما غادرني غلامي الجميل، ووقفت أتطلع إلى وجهي في المرآة … يالله من بريق عيني وسطع نظرتي.
في الحق ما شهدت لهما يومًا ذلك البريق الساطع، ولا عجب إذ راح زوجي يقول عندما عاد في ذلك المساء: أنت تلوحين مشرقة الليلة يا طفلتي العجوز! أكنت في السينما؟
فابتسمتُ لنفسي ورحت أوازن بين مسرة رؤية مشاهد الصور المتحركة وبين خفة الفرح الذي أجده، فتضاءلت تلك المسرة في عيني وعفتها بجانب هذه الرعدة المسكرة التي تسري مني في أنحاء البدن.
وفي المرة التالية جلسنا نتحدث، فمضى هو يقص علي طرفًا من حياته الموحشة القفر من الأنيس، ويتكلم في الحب ويقول إنه ليراه شيئًا غامضًا جليلًا، ورائعًا بديعًا، ذا دب إلى النفس ما لبث أن غمرها من جميع نواحيها.
فابتسمت لوصفه ونبأته أنني بأحلام الحب عليمة.
فانفجر يقول لي: الله! لقد كنت أشعر بأنك ستدركين وتفهمين وأنت المرأة الأريبة الجميلة البديعة الساحرة.
فكدت أضحك وجعلت أقول لصواحبي ما بي، وأكاشفهن بما وجدت، ولكني كدت أبكي أيضًا ويهجم الدمع في عيني، فقد نسيت أنني كنت بادي الرأي أحسبه غلامًا مفتونًا، وقد راقني أن أسمع أحاديثه عن الإعجاب بي وعن الجمال وعن الحب، وكان الغلام مفعم الفم بهذه الكلمات الكبار الجلائل، وفي كل مرة راح يقولها كنت أدرك من نظرات عينيه أنني أنا عنده المعنية بها.
وجعل يتناول يدي في يده، ولست أدري كيف رحت أتركها له وأصبر لها طويلًا في يده، وكان يمسك بها في شيء من سذاجة الطفولة، ثم لا يلبث أن ينظر نظرة الطفل المتغلب على دموعه إذا أنا حاولت أن أقطع عليه فيض أحاسيسه بمحاولة اجتذابها منه.
ولقد كان واللهِ يتعبدها تعبدًا، وكنت أنثني أضحك، وتهتز نفسي اهتزازًا إذا انتهت خلوتنا، متخيلة أننا كنا في حلم، ومضى الحلم.
ولكني لم أنبئ زوجي بما جرى، فما كان بوسعي أن أقف فيض هذه اللذة الجديدة التي مضت عندي أشبه شيء بعقار مخدر أدمنت تعاطيه وهيهات أن أكف عنه.
ومضيت أحدث النفس قائلة: لا ضير من ذلك ولا بأس ما دمت امرأة فاضلة ولن أعدو حد الفضيلة، فليكن هذا إذن سري الدفين الجميل.
وفي الحق أي جذل رحت أجده في أن يكون لي عند نفسٍ ساذجةٍ حلوةٍ حبٌّ بليغ وإعجاب عظيم ولا يعلم الناس بأمرنا، فلقد صغَّرني هذا الخاطر عشر سنين وردني مفراحًا طروبًا هانئة، وجعلني أبدو حسناء لأول مرة في الحياة! …
وانثنيت أعمل بنصائح صديقتي فألبس المخمل والمهفهف والغلائل الشفافة وأطيل الوقوف للزينة أمام المرآة، فعل الفتاة في مقتبل أيام الشباب، حتى بدوت في عين هذا الفتى الناشئ أشبه شيء بالمليكات …
وكان يقول وهو يتراجع خطوة ليتأملني وأنا خاطرة نحوه: يا مليكتي.
ثم يمضي فيجلس بجانبي جلسته الغريبة، نصفها طفولة ونصفها عبادة، وأحيانًا يضع رأسه في راحتي أو يسند جبينه إلى كفي وينشئ يحدثني بكل ما يجول في نفسه ويجري في خاطره وأنا سكرى بنشوة الحب.
قال يومًا في توسل ورجاء: دعيني أنادك باسمك فحسب.
فضحكت من فرط السرور بأن في الدنيا مخلوقًا لا يزال يريد أن يناديني نداء الفتى للفتاة.
فتناول يدي في رفق وتهيب العابد الخاشع وغمغم يقول: يا غادة الجمال!
وطبع قبلة على يدي، ومضى.
وكانت أناملي لا تزال راعشة، يتدفق الدم خلالها حارًّا ملتهبًا عندما ذهبت لأهيئ لزوجي طعام العشاء، ولكني لم أشأ أن أسترسل مع نزق الحب، وإنما قلت لنفسي لا بأس من قليل من لذة بريئة عفة كتلك في جو حياة صامتة خرساء في ظل زوج لا يعرف ما الحب.
وما خطر لي أن أنظر إلى هذه العلاقة الجديدة من ناحية الغلام، أو أتدبر ماذا يكون منه إذا منعته بعد أن شجعته.
وكان الغلام متلاشيًا في حبه لي، وأثار هذا الخاطر في نفسي زهوًا وأولد خيلاء، عرفانًا مني بأنني رحت عنده شغله الشاغل ليل نهار، وأنني مانعته الاسترسال معي ورادته عن التمادي، وأنا على ذلك جد قديرة. وكانت تلك ولا ريب قسوة، ولا تحتاج المرأة في سني إلى شيء من البراعة تحشده للتسلط على فؤاد غلام.
وجاء يومًا يتوسل، قال: البسي القميص الوردي اليوم فأنت فيه أجمل وأبهى.
ففعلت وجئت به بادية!
قال: دعي فروعك مرسلة، يالله من شعر المرأة! إنه والله السحر المبين!
فجلستُ فوق المتكأ وجدائلي نائمة حولي، والغلام جاثم عند قدمي.
وراح يتناول شعري فرعًا فرعًا فيقبله عشرًا ويتمسح به عشرًا، ورفع وجهه إلى وجهي.
قلت: حذار!
قال: ألا تسمحين لي بقبلة من خدك أيتها الفاتنة، إنني على القبلة في لهف.
فألقيت يدي على كتفه في رفق أمنعه.
قال: أتمنعيني القبلة وأنا …
فأدركت إذ ذاك أن إعلان الحب قد وقف على شفتيه … فهل تراني مانعته عن المضي في حبه؟
نعم، ذلك ما خطر لي في تلك اللحظة، فلم أحفل بألم الغلام من ذلك، ولا بفجيعة نفسه.
قلت: سكوتًا! لا ينبغي لك أن تتكلم.
فجعل يرعش ألمًا وهو يقول: أنا نازل على ما تشائين! أفطاردتي أنت من رحمتك؟
وكنت أعلم أن ذلك كان أكبر واجبي، فقد هتفت بي الحكمة وناداني الضمير أن افعلي ولا تترددي، ولكني كنت مثله راعشة راعدة أخشى أن أفقده فتذهب عني فرحة الإحساس بحبه لي وإعجابه بي.
وعاد يقول وهو يقبل ذوائبي: أنت لا تريدين مني أن أذهب؟
قلت: كلا! ولكن اكفف عن هذا.
قال: لتكن مشيئتك، فهل تبيحين لي جدائل شعرك أغمرها قبلًا؟
قلت: نعم، لك هذا فحسب.
وكنت لا أزال راعشة النفس عندما ذهب، فقد كدت أواقع المحظور، وأخترق السياج.
وظل يجيء تباعًا، وفي كل يوم نتمادى قليلًا، ففي المجلس تظل يدي أبدًا في يده، وكان أكثر مجلسه يهوي عليها تقبيلًا، ثم يعمد إلى جدائلي فيقبلها، وإلى ثوبي وإلى ذراعي العاريتين فيلثم ما شاء أن يلثم.
وتفاهمنا على الحب بيننا وإن لم نتصارح به، ولم يكن أحد في المدينة يعلم بأمرنا.
وكان لصديقتي أربعة أولاد كبار، وما كانت تتصور أن غلامًا في مثل سن أكبر أبنائها، يمكن أن يحب صديقتها التي في سنها.
وكنت من ناحيتي لا أفتأ أقول لها: إن الغلام يدأب على العمل ويكد له، ولم أعد أدعو الصديقات إلى بيتنا، واعتذرتُ لهن بأنني آخذ دروسًا في فن التطريز، وأنني أخرج من البيت في كل أصيل لذلك الدرس.
أما زوجي فقد راح يقول في ذات عشاء: أحسب ذلك الغلام «معجبًا» بك مفتونًا.
ومضى يضحك فاكهًا.
ذلك إذن هو رأي زوجي في الأمر ومعتقده، إنني إذن في مأمن من كل فضيحة أو خطر.
وعشت أيامي تلك في فرحة غاشية، أقضي ساعات الفراغ في إعداد ثياب جديدة للظهور بها على الغلام إذا قدم، وكان يجيء وأنا أحيك الثوب الطريف فيتناوله فيقبل الكمين والصدر والنحر ويقول: أنا بتقبيل الثوب جد قانع.
ولكنه في مرة ما قبل جبيني، وفي مرة أخرى قبل ما بين عيني.
لقد عشت في سكرة مقيمة لا أفيق منها وقد غادرتني سن الأربعين، فعدت شابة حارة الشباب، أعيش في قصة من أقاصيص السحرة، غير آبهة بأن هناك غلامًا يدفع ثمن ذلك من نجيع دمه وحشاشته …
•••
وانتبهت من سكرتي على حين غرة، وصحوت من أحلامي على صدمة عنيفة. إذ وجدت الناس قد أخذوا يتحدثون فيما بينهم عن علاقتي بالغلام وأمري معه، ورأيت نظرة غريبة متهمة في عين صاحبتي، وسمعت خلسة غلامًا يقول لصديق له وأنا أمر بهما: نعم، هذه هي السيدة التي يصعد ذلك الفتى المعهود إليها في كل أصيل.
لقد مسحت هذه المخاوف عن فؤادي هناءته، فقد كان حلم الحب بديعًا لذًّا ساحرًا، ولكني لم أشأ أن أشتريه بسمعة المرأة المتزوجة، وأحسب أنني لم أكن في الحق أحب الغلام لذات نفسه كحبي لذلك الإعجاب الغريب منه بي، فلما رأيت لذة الإعجاب قد جعلتْ تختلط بألم الضمير، أهابت بي نفسي أن امسكي.
وقد قامت القطيعة بيننا في ذات يوم كان فيه الغلام جذلان متوثبًا.
قلت: دع شعري لا تجذبه.
قال: لا تغضبي فإنني مهاجمك بحب القبل.
فتولاني الرعب، إذ أدركت أنه قد تمادى فما أستطيع له ردًّا.
قلت: لقد كان الذي بيننا حماقة الحمقى.
قال: حماقة؟ يا عجبًا!
وتراءت في عينيه نظرة مشدوهة كمن هو موشك أن تغشاه الغاشية وشعرت بأن موعد قدوم زوجي قد قرب فخفت واضطربت.
قلت: عد إلى بيتك.
فراحت آماله وحنينه ومخاوفه ولهفاته تجتمع كلها على صفحة وجهه، ولكني لم أرع لها ولم أحفل …
لقد كنت خائفة … أفكر في زوجي القادم وأريد أن أختم الأمر عاجلة، فما كان مني إلا أن دفعت الغلام في رفق صوب الباب ثم أغلقته في أثره، وقفلت راجعة لا أنظر إليه.
ولما عاد زوجي في ذلك المساء رحت أمسك بالثور من قرونه.
قلت: إن ذلك الغلام قد أكثر من الترداد ليشتغل على أداتك الكاتبة، أفلا ترى من ذلك بأسًا؟ قال: بل كل البأس، إنه غلام مضياع عاطل، نبئيه يذهب ليبتاع له واحدة.
قلت: سأفعل!
فنظر إلي نظرة حادجة قاسية وقال: وهل أحسن في غيبتي سلوكًا؟
قلت: أجل …
وسادنا سكون طويل، وأدركت أن حلمي المعسول قد حار إلى ختامه، وأن شبابي الثاني قد انقضى … فعدت أقول: أحسبك بي واثقًا لا تخامرك بي ريبة ولا يساورك شك؟
قال: يا عجبًا! أتخونينني مع ذلك الغلام «المفعوص» …؟!
فتألمت في أعماق نفسي لرأي زوجي في ذلك الغلام الذي نعمت به دهرًا، وخلته الوسيم المقسم، ولكني ثبت إلى نفسي فحمدت الله على أنني لم أقترف الإثم العظيم.
وفي اليوم التالي قدم الغلام، ولقد وددت لو أنني استطعت أن أكون به رحيمة وعليه حادبة، ولكني كنت منه خائفة، وتراءى لي في ذلك اليوم ضئيلًا كما قال زوجي، مريضًا أعجف هزيلًا.
قال: فاتنتي!
قلت: لقد كنت أهم بأن أقول لك أمس إنه ليس من الحكمة أن تجيء إلى هذا البيت.
فوقف يحدجني بنظر مشدوه أليم!
ومضيت أقول: إن من رأي زوجي أن تقتني لنفسك أداة كاتبة فذلك خير وأجدى.
قال: ويلتا …!
وما كنت إلى ذلك العهد سمعت صرخة مخلوق آدمي في عذاب المحتضر، فقد هزتني صرخته تلك، ولكني ناديت شجاعتي.
فقلت: إن كانت لك أشياء فخذها.
قال: ليس لي شيء آخذه.
ووقف ينظر إلى وجهي مليًّا وهو جامد في مكانه لا حراك به، حتى لقد هممت أن أصيح من فرط الرعب الذي استحوذ على نفسي لمشهد عينيه الهاشتين، وشفتيه الراعشتين، ولما حاولت أن آخذ يده في يدي لإمساكة الوداع، راح يضحك ضحكات مجنونة مرعبة، وانثنى يقول: إنك لكاذبة! … إنك لكاذبة! … ودفعني عنه وانطلق لا يلوي على شيء …
•••
وبعد ستة أشهر من ذلك الوداع الأليم، انتهى إلى مسمعي نبأ ما جرى، فقد أصاب الغلام داء دوي، لا يسلم المصاب به من شره، ولما علم بخافية دائه أطلق النار على رأسه فكان من الهالكين!
وجاءت صديقتي تنعاه إلينا فقالت: إن الغلام قد ترك لأبويه كتابًا يقول إنه سئم الحياة ويسألهما المغفرة.
ولكني كنت عليمة وحدي بسر يأسه وسوء خاتمته. فلم يأخذني أحد بجريرة ولا حملت إصر نكبته، وأدركت رويدًا أنني استخدمته لإشباع غروري ومسرة نفسي … فقتلته!
وكان والده هو الذي بصرني بأثرتي المجرمة التي أودت بولده. له الله ذلك الوالد، لقد كان رجلًا كريمًا رفيع الذهن روحانيًّا، لو أن غلامه عاش لمضى على سنته، نعم إن الرجل من أهل الدين ويرى أن المرأة المتزوجة ينبغي أن تكون فاضلة، وأن فضيلتها يجب أن تكون عندها مطالع خصالها، ومن بعدها تأتي الرحمة والوفاء والحكمة وحسن الأدب.
ولا تكون المرأة امرأة خير حتى تجتمع أولئك لها، وكذلك مضى يعظني وهو يتحدث إلي عن آماله الكبار التي كان يعقدها على فلذة كبده، فقال: لقد كان ولدي سهل القياد، سريع التأثر، بحاجة إلى الناصح المعين.
وسكت قليلًا ليغيب السكين إلى مقبضه في صميم فؤادي، ثم مضى يقول: ولشدَّ ما سرني أن علمت من كتبه في ذلك الحين ورسائله مبلغ إعجابه بك، فلا شيء في العالم هو أعظم سلطانًا على نفس الغلام من صداقته لامرأة كريمة أكبر منه سنًّا، وكنت أرجو أن يجد عندك العون الذي كان بحاجة إليه …
ولكني بدلًا من أن أعين ذلك الغلام … قتلته …!