رهان على الحب
مضى «ت» إلى بارئه منذ ليلتين، وجئت اليوم منفذًا وصيته أقص على الناس قصة حياته كما سمعتها من شفتيه قبل أن تتخرمه المنون منذ بضعة أيام.
وإني لأذكر الساعة كلمة حكيمة صادقة كنت قد قرأتها فيما قرأت عن الحب، وهي أن الحب ليبلغ بامرئ أبعد آفاق الهناءة والنعيم، أو يهوي بامرئ إلى أسحق وهدات الشقاء والبؤس، وكذلك كان نصيب «ت» من بؤس الحب وحرمانه من هناءته ونعماه، وهو فتى في مقتبل الشباب، يكاد يكون غلامًا في طراءة الحداثة، وقد لبث قرابة عام يتجرع غصص الحب ويسقى من صابه، ويعاني من ألمه وعذابه، حتى ذهب آخر مطاف الأسى ومدار الحزن … في الهالكين الغابرين.
وكنت قد عرفت من قصته طرفًا، قبل أن يكاشفني بها، فمضى يحدثني بطرفها الآخر ونحن جالسان في ذات ليلة عاصفة نجد على النار دفئًا وبهجة ضياء.
وأنشأ يقول: أرهف السمع لحديثي أيها الصديق؛ لأن الذي أنابه محدثك الليلة هو آخر ما أنا به متحدث، فإن هاتفًا يهتف بي، إنني على وشك الرحيل من هذا العالم، وأنا غدًا عن هذه الدنيا ظاعن متحمل … فإذا ذهبتُ يا صاحبي فوِصاتي إليك أن تقص على أهل الدنيا حديثي ليعلموا كم تعذبت … وليدركوا، فتكون عظة وتحق عبرة …
والآن، هأنا ذا جئت أقص حديث حبه كما سمعته منه آخر مجلس لنا، والعناصر متمردة ثائرة …
•••
والآن وأنا أقص عليك أمري، يعود بي الخاطر واثبًا إلى ما وراء تلك الأشهر القليلة التي حسبتها الأعوام الرخية، وخلتها من بطئها وتثاقل أيامها الحقب المستطيلة الوانية. ليَ الله من تلك الأشهر، لكم حفلتُ بالأسى الممض، والويل الحازب، والحزن الكاسر للفؤاد، أيام مضيت من عمل إلى عمل، ضاربًا في الأفق ألتمس السلوة ولا أجدها، وأرجو البرء من البرحاء ولا برء منها ولا شفاء. وإني لأسائل النفس اليوم من عجب وحيرة: أتراني واجدًا القصاص على ما اقترفت يوم أقف أمام بارئي، أم ترى هذا العذاب الذي خضته هذا العام الذي انفرط، والأسى الذي أنا خائض بين عدوتيه على الأعوام القادمة، سيروح قصاصًا كافيًا في عين الله الذي يرعى الأرض ومن عليها، ويشرف على الناس أجمعين …
وإني لتعروني على الذكرى هزة، ويأخذ بأنفاسي هدأة الليل، وسكون نامة الطبيعة، يأس غلاب أليم، فأود لو أنني ذهبت أختم حياتي بيدي، ثم يمسكني الخوف مما وراء هذا العالم، وخشية ما أعد الله لنا في الآخرة، فأمضي أذرع حجرتي ذهابًا وجيئة حتى يوهن الليل، وتبدو مطالع السحر، فأتهالك على الفراش من فرط الإعياء، فأنهض للعمل في بكرة النهار كأني قد قطعت ما بين طرفي الليل وسنان العين نائمًا …
منذ عامين وكنت قد جاوزت العشرين، فارقت دار أهلي، ونزحت عن موطني، كما يفعل أكثر الشباب، في طلب الرزق والتماس العمل، فتقلبت في أعمال عدة، حتى استقر بي ختام المطاف في مصنع كبير ملاحظًا للعمل: وكان «ف» وهو فتى في مثل سني مساعدًا لي في عملي، فما لبثنا أن رحنا صديقين وليَّين، يجمع بين فؤادينا محض الولاء، ويؤلف بيننا خالص الود.
وكان «ف» ذا طبيعة جموح تنزع إلى اللهو والمجانة كل منزع … وكان يميل بعض الميل إلى الشرب، ويستطيب الجلسة إلى الكأس، وما كادت تنفرط بضعة أسابيع على لقائنا واختلاطنا في عملنا وفراغنا حتى وجدتني أعاطيه وأشاربه، ولم يكن إقبالي على الشراب رغبًا فيه ونزوعًا إليه، وإنما أردت أن أريه أنني على الشراب كذلك لقادر.
ففي ذات مساء ونحن جالسان معًا نشرب ونتسامر، أنشأ صاحبي يحدثني قائلًا: استمع إلي، ما بالك لا تحاول اقتناص الفتاة الممتنعة على القانصين؟
قلت: من عجب الفتاة الممتنعة على القناص! يا لله! ومن تكون، وفيم امتناعها، وكيف استحال قنصها؟ …
قال: هي فتاة في هذه الناحية عزَّت على المغازلين، وأبت الاختلاط بالشباب، واستكبرت على المتحببين، فتاة تدعى «سوسن» وهي والله أملح ظبيات المدينة وعذاراها الحسان، ولكن لم يستطع أحد حتى اليوم أن يخلص إليه ودها … أو يصيب منها موعدًا للقاء.
فهززت رأسي هزة الساخر المستخف، ومضيت أقول في لهجة الاعتداد والخيلاء: إنني مراهنك على أني فاعل، بل في وسعي أن أجعل بيني وبينك عهدًا أنني خاطبها وظافر بودها إذا حاولت.
فضج صاحبي ضاحكًا وصاح بي قائلًا: أيها المزهو بنفسه، المعتد بسحره وفتونه، أتحسبك أوتيت على النفوس سلطانًا، أم تراك من الغواة الماكرين …؟ ما هذا من شأنك، فإن له أربابه وله سحرته وأساطينه، وإني معاهدك على أنني نازل لك عن راتب أسبوع كامل لو فعلت الذي قلت.
قلت: لقد رضيت رهانك، فهات ورقًا ولنجعله بيننا موثقًا ليكون أشد إلزامًا وأضمن وفاء.
وكتبنا التعهد في صورتين، أخذ هو صورة، وحفظت أنا الأخرى.
وانثنى يسخر مني ويعبث بي قائلًا: والآن يا سيد روميو، بل يا أمير العشق والعاشقين، صُن فؤادك واحذر لمهجتك، وراقب الله في حشاشتك، فإن أخوف ما أخافه عليك أن تسقط أسير حب وتقع من جمالها في شراك فتكون من الهالكين.
وكان أهل «سوسن» يقيمون غير بعيد من شاطئ النهر، حيث كنا نشتغل في تركيب آلة رافعة لري وسقي، ففي غداة اليوم الذي تلا يوم الرهان، أوقعتُ عمدًا الجرة التي نحفظ فيها الماء لشربنا، وذهبت متشفعًا مستسقيًا إلى دار أهلها معللًا النفس بنظرة منها أبلو بها الأمر الذي أنا له، وأعد له عدته …
وكان التوفيق رائدي؛ إذ لقيتني «سوسن» نفسها لدى الباب.
قلت: جئت مستسقيًا، فهل في قليل من الماء تأذنين؟ فإن ماء النهر لا يطيب للشاربين.
قالت: حبًّا وكرامة، وابتسمتْ.
ويح النفس من ابتسامها! لقد كانت أفتن ابتسامة شهدتها على فم حسناء.
وأردفت تقول: تعال لأريك موضع البئر …
وكانت البئر على مرمى الحجر من البيت.
وفيما نحن نمشي إليها، قلت مغريًا بالحديث: إن اليوم لجميل. قالت وفي صوتها رنة الأسى والحنين: هو كذلك، وإن أيامنا هنا لتثير في النفس الحنين إلى البلد الذي جئنا منه.
قلت: ومن أين أنتم؟
قالت: من الإسكندرية.
قلت من عجب ودهشة: ماذا أسمع، أمن الإسكندرية أنتم؟ وفيها موطني، ولديها دار أهلي وقومي، فمن أية ناحية منها جئتم؟
قالت: من جنوبها، أراك تعرفها.
وتهللت أسارير الفتاة.
واسترسلتْ تسائلني قائلة: لا حدثتني عنها إن كنت قد جئت منها منذ حين قريب؟ فقد انفرطت علينا أربعة أعوام سويًّا ونحن عنها في بين أليم … نبئني متى كان آخر عهدك بها؟
قلت: غادرتها منذ ستة أشهر فقط وأنا أدعى «ت».
فصاحت فَرِحة متهللة: يا عجبًا! ألست في دهش من لقائنا ونحن أهل بلد واحد في موضعنا هذا، فهلا أقمتَ حتى يجيء أبي؟
وفي عودتنا من البئر استبقتني مسرعة تنادي أباها إلى الخروج.
وما هي إلا لحظة أخرى حتى ارتفع لنا شيخ ضعيف يتكئ على عصا، وكان لا يزال في دور النقاهة من مرضه.
فابتدرته الفتاة قائلة: أبتاه، أقبِل للسلام على ضيفنا، إنه يشتغل على الشاطئ في تركيب الآلة الرافعة وهو من أهل الإسكندرية.
فجعل الشيخ يقول: أهلًا، ومرحبًا، وهو يمد يده مصافحًا، وأدركت من حديثه أنه معروف في الحي الذي نشأ به وما جاوره.
وما لبث الحديث أن مال بنا نحن الثلاثة إلى عدة شؤون، فلم أنتبه منه إلا على صفير الصافرة المنبعثة من الآلة الرافعة، إيذانًا بالظهيرة. فأسرعتُ إلى الجرة فاحتملتها وصحت أقول: يا لله! لقد تأخرتُ عن الجماعة وأخشى أن يرجموني إذا أنا أطلت الغياب …
وانثنى الشيخ يقول — وقد رآني أهم بالذهاب —: أرجو أن لا تقطع عنا زيارتك.
وأردفت الفتاة على قول أبيها: نعم، زرنا في أي وقت يحلو لك.
وفي طريقي إلى موضع العمل، نسيتُ الرهان كلَّ النسيان، ورحت أردد بيني وبين نفسي قائلًا: نعم، سأزورها قريبًا، وإني لأعود بالذاكرة الآن إلى ذلك اليوم الذي لقيتها فيه على تلك الصورة، فلا أذكر ولا أشهد بعين الخيال غير عينيها الجميلتين السوداوين وهما تتحدثان بأبلغ منطق قائلتين: إنني أحبك!
•••
وفيما أنا مقبل على المضارب، سمعت صوت صديقي «ف» يصيح قائلًا: أين كنت يا رجل طيلة الضحى كلها؟ أفلجرةٍ ذهبت تملؤها تطيل هكذا الغياب، عجبًا لك! أكنت تحتفر بئرًا لتعود بالجرة من مائها حافلة؟ …
فتلفت في نواحي المضرب مستوثقًا، فلما لم أر أحدًا معه، رحت أجيبه قائلًا: كلا يا صاح، لقد كنت عند «سوسن» بعد أن ملأت الجرة، حقًّا أيها الصديق إنها لفتاة ساحرة آية الملاحة.
فوثب صديقي من مكانه فأمسك بتلابيبي ومضى يهيب بي قائلًا: ماذا جرى لك، وما الذي أصاب شغاف فؤادك؟ ما كنت والله أحسب الأمر صائرًا في يوم وليلة إلى ما أرى الساعة وألمح على صفحة وجهك، أكذا هو الحب من أول نظرة؟ …
ولقد أصاب صديقي في تسمية ما كان بي «الحب من النظرة الأولى»، لقد كان ذلك كذلك، وكانت النفس به من أول وهلة مفعمة.
وما هي إلا أيام معدودات حتى وجدتني أقضي كل أيام الفراغ في دار «سوسن»، نلعب حينًا الورق، وحينًا نذرع البستان النضير متمشيين متنزهين، وفي البستان كانت خميلة من أغصان الشجر، وهناك اعتدنا أن نجلس الساعات في خلوة ساحرة، نتحدث ونستمع إلى خرير النهر الفياض.
وا حزناه! … إني والله لا أزال إلى الساعة أسمع خرير ذلك الماء الثجاج المتدفع، ولكني أتبين من خلاله نغمة حزينة ورنة أسى، تمزق نياط الفؤاد …
وفي ذات ليلة، ونحن في مجلسنا ذاك، والقمر يرسل ضياءه الفضي المتراقص المتلألئ فوق صفحة الماء، رحت أتناولها بين ذراعي وأهمس قائلًا: سوسن … إنني أحبك … يا أغلى النساء … ألا عديني أنك بالزواج مني راضية.
فهمست هي أيضًا بصوت عذب رقيق، ودموع الفرح تتحير في عينيها: لك عندي مثل الذي لي عندك ويزيد، ولن تطيب لي الحياة إلا بك؛ لأنني أحبك من أعماق قلبي، بل لقد أحببتك منذ أول يوم تلاقينا …
وكذلك جلسنا ساعة كاملة في مكاننا، نتحدث في أمر المستقبل، ونرسم له خططه، ولما اختفى القمر عنا خلف أغصان الشجر وأعالي الدوح، عدنا أدراجنا على مهل إلى البيت.
قلت وأنا أطبع فمي على خدها: طاب ليلك يا سوسن العزيزة، وسأجيء مساء غد لنذهب بالنبأ إلى أبيك معلنين.
•••
أواه … لقد كانت تلك الليلة آخر عهدي بالسعادة الحقيقية، فقد تلقيت ضحى اليوم التالي كتابًا منها، ففضضت في لهفة غلافه، وإذا بتلك الورقة التي كتبت أنا وصديقي «ف» فيها العهد والرهان قد سقطت من جوفه، وفي جنة الملتاث المذهوب اللب رحت أقرأ ما كتبت سوسن في تلك الرسالة، فإذا هي تقول: «لقد برح الخفاء وحصحص الحق، فقد عثرت بهذه الورقة فوق أرض الخميلة … وا فؤاداه! … ما الذي غرك بي حتى مضيت تلهو بفؤادي وأنت العليم بمبلغ حبي لك، لقد ربحت رهانك! ولكنك أضعت فؤادي … وداعًا …».
فما كدت آتي على هذه الكلمة الأخيرة، حتى اندفعت في وحشة وجنون أريد دارها، فوجدت الدار قد أقفرت من أهلها، فالتمست الجيران أسألهم عنها، وعن أبيها، فقيل لي: أما الشيخ فقد ذهب إلى المدينة، وأما فتاته فباقية، ولعلها قد مضت تتنزه في الحقول.
فكتبت إليها رسالة أشرح لها الأمر، وأبين، ودسست الكتاب من تحت عقب الباب، وانكفأت شارد اللب، ذاهل الخاطر، عائدًا إلى حجرتي، فتهالكت على المرقد باكيًا، وجعلت أغالب الدمع الواكف المنهمر فلا أقدر، ورحت أغمغم لنفسي والهًا ناشجًا: سوسن … سوسن … إنني أحبك … ألا صفحًا ومغفرة، وتقبلي الشفيع، وارتضي العذير.
ووجدني صديقي «ف» على تلك الحال بعد فترة قصيرة، فبُهت مما رأى، وأقبل علي فألقى ذراعه فوق كتفي، وقال: نبئني ما خطبك فإني على الخطب معوان.
فأنشأت في منطق عاثر وبلسان متلعثم، أقص عليه ما جرى، وكيف سقطت الورقة التي تعاهدنا فيها على الرهان مني وأنا لا أدري، فعثرتْ هي بها، فلفظتني وتولت عني غير مستأنية لشرح، ولا ممهلتي لبيان.
فجعل ذلك الصديق يواسيني ويربت ظهري بيده، ويقول: لا تخف ولا تحزن، فإنني ذاهب إليها هذا المساء فشارح لها حقيقة الخبر إن لم تكن رسالتك قد أدت الغرض أحسن أدائه …
ولبث بجانبي أصيل ذلك النهار كله، لا يكف عن مواساتي والتسرية عني، حتى أدركنا المساء، فودعني وانطلق إلى غايته.
ولكنه ما لبث أن عاد يقول إنه لم يجدها في دارها، فما كدت أسمع النبأ حتى هجس بنفسي هاجس أليم، وخفت أن يكون هذا النبأ مطلع الأسى ونذير المصاب.
وساورني القلق فلم أطق جمودًا في مكاني، ولم أجد روحًا إلى النوم أو أجدها وأعرف أين ذهبت.
فخرجتُ تحت جنح الليل أمشي على غير هدى كأنني شبح من الأشباح هائمًا في بهرة الظلام على وجهي، حتى رآني الصباح واقفًا بباب بيتها ولا يزال الباب موصدًا.
فعدت أدراجي إلى حجرتي متعبًا واهنًا، فالتمست النوم من فرط الإعياء، ورأيت فيما يرى النائم، كأن نورًا باهرًا قد غمر الحجرة وشبح «سوسن» مطالعي في ثوب أبيض كالضياء، وهي مادَّةٌ ذراعيها كأنها تناديني، ثم ما لبثت الرؤيا أن اختفت، فصحوت من النوم ولا أزال أسمع كلماتها وهي تقول: إنني أحبك … ولن تطيب لي الحياة إلا بك …
يالله! أتراها تناديني لأشرح لها ما خفي من أمري وما احتجب؟
وأسرعت إلى ثيابي فارتديتها وانطلقت إلى دارها، فلم أجد فيها أثرًا لمخلوق حي. فعدت إلى صديقي فما كدت أدخل عليه حتى وثب صائحًا: أراك قد عدت، فهل علمت وهل سمعت؟
قلت مبهوتًا — وقد رأيت وجهه ممتقعًا —: ماذا ترتقب مني أن أسمع؟ نبئني، أمن جديد انتهى إليك نبأه؟
قال: تعال اجلس إلي أحدثك.
وكان صوته هادئًا، وإن كان في منطقه رنة نكرتها.
فهمست أقول: أعنها أنت محدثي؟ إنها ليست …
فنكس رأسه وغمغم يقول: لقد غادرت هذا العالم! …
وأحسبني في تلك اللحظة قد غشيتني الغاشية؛ لأنني ما لبثت أن رأيت ذلك الطيف في ثوبه الناصع الجميل طالعًا علي مقبلًا، ولكني سمعت صوت صديقي يناديني، ففتحت عيني ورحت أستمع له غائب الذهن مشرد الخاطر، وهو يقص علي كيف كان موتها.
قال: لقد وجدوا جثتها طافية على صدر النهر …
وقضيت أيامًا جاثيًا بجانب ذلك القبر الجديد المحتفر، غير مغالب العبرات التي مضت تسحُّ من العين سحًّا، وأنا أناديها: … يا أعز الناس ألا تعودين؟ إن لم يكن لك عود فلي إليك ذهاب …
هذه هي قصتي، فلا عجب إذا أنت رأيتني قد عدت حطامًا وشنًّا باليًا، وأنا في الثالثة والعشرين، وإذا أنت أدركت أنني على الموت ملتهف، فإن في أعماق فؤادي هاتفًا يهتف بي: إنها قد غفرت لي وإنها بتلك الابتسامة الساحرة التي لقيتني أول مرة في هذا العالم ستلقاني بها وشيكًا يوم أغادره …
•••
ولنعد إلى ما قلت في صدر هذه القصة: لقد صعد «ت» منذ ليلتين إلى بارئه، وكان صديقه «ف» ساعة المحتضر عن يمينه، وكنت أنا على شماله …
وأحسبه مضى سعيدًا قرير العين؛ إذ كانت كلماته الأخيرة: أي «سوسن»! ها أنذا قادم.
ولما سمع الشيخ «د» والد الفتاة بموت «ت»، ابتسم ابتسامة حزينة، وغمغم قائلًا: نعم، هما اليوم سعيدان! …
وعملًا بوصيته، وبرضى أبويه، دفن الشهيد الراحل بجانب رفات الشهيدة الراحلة …