حب بلا نسل
انفرطت عدة أعوام منذ وقعت أحداث هذه القصة، ولكني لا أزال أشعر بالتهيب والخوف، وأنا الساعة أُدون الوقائع وأقص النبأ، وأسرد الحقائق التي ظلت إلى اليوم مختبئة في صندوق فؤادي، لا يعلم أحد بسِرها، ولا يدري مخلوق بخافيتها، ولم أعترف لأحد يومًا بها، ولا كاشفتُ طبيبًا بآلامها، ولا فزعت إلى محام أستنصحه في أمرها، ولا بثثت ما في أعماق النفس من مواجعها لصاحب ولا صديق.
لقد كنت أريد أن أحمل قصتي هذه معي إلى العالم الآخر، حيث صلاح كل شيء فسد في الأرض، ومآب كل سر، ومعاد النفس وما تخفي وما تُعلن.
ولكن لماذا جئت إذن إليكم أقصها …؟؟
لا أدري … إلا أنني أريد أن أُنفس بها عن صدر مثقل بالآلام، أو لعله ضعفٌ مني اختلط بأمل مستطيل دفين، وهو أن تكون هذه القصة رسالة حب إلى الذي تدور عليه قصتي وله فؤادي كله، ومعه هواي، وإليه على أجنحة الخيال تأويبي …
•••
وقع الذي وقع عندما كنت في الثامنة عشرة عقب خروجي من المدرسة، إذ تعثر أبي في علة قاسية، فنصح له الطبيب بالمقام فترة من الدهر على ضفاف البحر في سياحة بحرية، فانتوينا أنا ووالدتي أن نذهب معه، وما كنت أدري والله أن الحياة كلها معلقة على تلك الطوافة، رهن بتلك السفرة النائية …
وأبحرت بنا الباخرة في الخامس من شهر أغسطس، وقد حفظتُ ذلك التاريخ، ومثله في تاريخ الحياة وشؤونها لا يُنسى ولا يمحى من الذاكرة، لأنه اليوم الذي كان فيه لقائي … به!
ولم يكن في لقائنا غرابة، بل كما يتلاقى الناس على صدور الجاريات في البحر، ويحدوهم الجلوس معًا إلى موائد الطعام، والخروج إلى ساحة الجارية للنزهة واستشراف البحر المترامي.
ولكني منذ أول شدة بيده على يدي، رحت ناسية الزمن، أعيش في أفق مُتورد مزدهر، لا يقاس فيه الزمن بالساعات وأجزاء الساعات، وإنما باللقاءات على سطح الباخرة والاحتجابات، وبخطران شبحه على العين، وغيابه عن الناظر، فكان هذا هو الحب الذي يقول الناس عنه إنه يقع من أول نظرة، وما كان في فؤادي منه جرى مثلُه في مسرى الكهرباء في أضواء نفسي.
ولم تكد الباخرة تلقي مراسيها فترة حتى تمت بيننا الخطبة، وتمنَّع أبواي في مبدأ الأمر، وكان هذا التمنع أمرًا مألوفًا، لأنني كنت ابنتهما الوحيدة العزيزة الغالية، ولم يكونا يعلمان قليلًا ولا كثيرًا من أمره، على حين لا يكاد الجليس إليه يقضي بضع دقائق حتى يجده على أحب ما يكون أدبًا وخيرًا ورقة. وكان في ذلك العهد يشتغل وكيلًا لمصنع وطيد كثير الشهرة، فذهب أبي من ساعته فتحدث إلى أصحاب المصنع وعاد إلينا مسرورًا راضيًا عن الخطبة قرير عين، وأغرى أمي بالقبول وهي في بكاء ودموع …
واهًا لتلك المسكينة … لقد كانت تطمع في أن تظفر لي بزواج كزواج الأميرات، لولولعها بالأبهة والبذخ وعيش الترف، ولكن ارتقابها الظهور في حفلة القران كأم العروس وتجملها بأبدع الثياب، وتهاديها رافلة في الدمقس والحرير، خفَّفَ بعض ألمها، وهون عليها بعض الأسف الذي كانت تجده في أعماقها.
وانثنت أخيرًا تقول: على بركة الله إذن يا بنية، فلنعج على أكبر المدائن لنبتاع جهازك، ففعلنا، وتركنا أبي يتم سياحته في البحر وذهبنا نحن ننفق الكثير من المال ونبتاع خير ما نجده من النفائس والمطارف.
وكذلك انقضى الصيف، وفي نهاية شهر سبتمبر عُدنا من سفرنا، وكنت أنا وهو نريد أن يتم الزاوج في نوفمبر، ولكن أمي كانت تود أن نستأني، فنترك الزفاف إلى أوان الربيع، إذ كانت تكره العجلة في كل شيء وتحب أن تجعل زفافنا باهرًا وتعد له أكبر المعدات، وتحيله حديث المدينة وأهلها.
ولكنه كان عليه ملهوفًا فلم تكن من حيلة للتأجيل. فحددنا لحفلة الزواج الثالثَ من ذلك الشهر، وأخذت المعدات تُعد في عجلة لذلك اليوم المنتظر والفرحة الموعودة، وحالت المجامع والحفلات والمآدب بيننا وبين الاستمتاع بالخلوات، حتى لقد ذهب ذات مرة يقول ونحن عائدان من أحد المراقص: ما قولكِ يا فاتنة في الخروج إذا بكر الصبح على الجواد إلى نزهة وحدنا في معارج الغياض؟
قلت: أبدع بها من نزهة! فلنا الله لِمَ لَمْ نفكر في هذه الخاطرة الجميلة قبل اليوم؟ تصور كيف تكون مسرتي بالخُلو إليك ساعة كاملة لا ينازعني في خلوتي إليك منازع.
فضحك وأهوى علي بقبلاته، وهو يقول: يا لك من صغيرة ساحرة … إذا قضى الله يومًا أن نفترق فلن أعيش في هذه الدنيا ولن أحيَا يومًا.
وكذلك وجدنا الصباح الباكر قبل نهضة العالم من المضاجع على جوادين لنا نريد المنتزه، وكأنما أدرك الجوادان ما يراد منهما فراحَا يمشيان جنبًا إلى جنب متلاصقين يهزان رأسيهما كأنهما فاهمان ما هنالك …
يا لله! ما كان أهنأها ساعة، وأملأها بالمسرات نزهة على أنفاس الصباح وسكينة الكون، ولم أكن أصدق أن الساعة قد انتهت عندما نظر إلى ساعته، فقال: لقد حان الإياب.
فقلت: دعنا نفعل ذلك كل يوم.
قال: وهو كذلك.
وجعلنا في كل صبح نبكر إلى تلك النزهة، وفي بعض الأحيان نُعرج على أحد المطاعم، فنتناول طعام الفطور فيه.
وكذلك ولتْ بنا الأيام حتى لم يبق على يوم العرس غير أسبوع.
فقالت أمي يومًا: لقد أخذتِ تلوحين نحيلة، تذكري يا بنيتي أنك إذا أوقدت الشمعة من طرفيها استنفدت الضياء وشيكًا، فخذي من هذه النزهات الباكرات على قدر، وتناولي من النوم كفاية بدنك حتى تحفظي عليك جمالك يا غالية.
قلت: ركبة أخرى ثم نكف يا أماه …
ولما ركبنا في صبح اليوم التالي، رحت أقول له برنة أسف وحزن ونحن عاطفان بجوادينا نحو المتنزه: هذه هي ركبتنا الأخيرة.
فضحك قائلًا: نعم يا آنسة، ولكنها غدًا متكررة للعروس.
فهممت بأن أجيب ولكن وقع في تلك اللحظة ذلك الحادث الذي غيَّر وجه حياتي، حادث بسيط ولكنه ترك في العيش أثرًا لا تمحوه الأيام، إذ هبت أنفاس الريح العاصف فأطارت غطاء رأس رجل من السابلة في وجه جوادي، فكَرَّ ثم فر، وتوثب مجفلًا، وفي لحظة رعب وهول وجدتني أسقط عن صهوته، وما لبث أن غام الكون كله في عيني، ورحت لا أعي شيئًا …!
وبعد ساعات ثُبت إلى نفسي فإذا أنا في ألم شديد والوجوه منحنية علي، والأصوات تتهامس حولي، ولم أدر ماذا جرى ولا أدركت إلى أين جيء بي، ولا حفلت بالبحث، بل كل ما كنت في حاجة إليه هو النوم … النوم العميق ونسيان الألم الذي يفتُّ في سائر أجزاء بدني.
ومضت أسابيع لست أستطيع اليوم على وصفها جلدًا، فحسبي أن أقول إنني لبثت في المستشفى حتى ختام الشتاء، فلما خرجت مبلة مما أصابني، كان أصحاب المصنع قد ألحوا عليه في الرجوع، فانتظر حتى زال عني الخطر واطمأن، فلم يجد مفرًّا من العود فعاد، ولكنه كان على وشك الرجوع إلينا وكنت في لهفة على لقائه.
ففي ذات صبح ونحن جالستان أنا وأمي في حجرتنا نشتغل بتطريز ثوب جديد مضيت أقول لها: يا عجبًا يا أم، كأنما كنت تتكلمين بلسان القدر، وها هو ذا الأمر سيقع كما كنت تريدين.
فنظرت إلي أمي حائرة وقالت: ماذا تعنين؟
قلت: أعني العرس ولا ريب، ولقد أردت أن يكون أوان ربيع، وها هو ذا القدر قد أرجأه إلى الربيع، فماذا تقولين؟
وإذا بي أرى الدمع يترقرق في عينيها، وانثنت تقول — ملقية الثوب من يدها ومطوقتي بذراعيها —: أي فتاتي العزيزة، لم يهن علي حتى الساعة أن أحدثك بما جرى، لأنك كنت واهية القوى، إنني أخشى أنك ستضطرين إلى ترك فكرة الزواج جملة واحدة، أو على الأقل لا ينبغي التفكير فيه حتى تكاشفي خطيبك بكل شيء.
قلت: من عجب كل شيء! ماذا تعنين يا أماه؟ … أحالت بعد ذلك الحادث الحال، أم تنكر الزمان؟
فتلعثمت أمي قائلة: كلا يا ابنتي، لقد كانت أصابتك داخلية عندما سقطتِ من فوق صهوة الجواد، وكان لا بد من إجراء عملية جراحية عاجلة لنجاة حياتك من مخالب الموت، ولقد كانت عملية خطيرة، وكانت نتيجتها أنك لن تلدي إذا تزوجت أولادًا، ولن تقع لك نعمة البنين.
أهذا إذن ما وقع، وكنت منه خلية الذهن؟ …
ونهضت من مجلسي فمشيت متعثرة مترنحة إلى مخدعي، فاحتبست نفسي فيه، إذ أردت أن أخلو إلى التأمل والتفكير، ولبثت ساعة مستلقية على الفراش أجهد الذهن في تدبر أمري، فكان ينتهي بي في كل مرة مطاف التفكير إلى نتيجة واحدة، وهي أنني لا أستطيع تركه، وليس لي على فراقه يدان …
لقد كنت أبدًا أحب الأطفال، فقد كنت من طفولتي وحيدة في وَحشة خليَّة من الأخ والأخت، فلا غَرْوَ إذا كان قد جاء مع فكرة الزواج الشوق الشديد إلى ولادة الولدان، ولذة تربية البنين، ولداننا نحن معًا وبنينا سويًّا، وما أبدع خطيبي أبًا، وما أروعه أن يروح بعد الزواج والدًا، وكنت على يقين من أن شعوره من هذه الناحية لا يختلف عن شعوري، ولطالما رأيته حانيًا على الأطفال، رحيمًا بالأفراخ الصغار، فلا يرى طفلًا في ألم أو وليدًا في بكاء، حتى يقف ليسأله ما به ويرقأ دمعه، ويمسح عبرته. وإذا كان ذلك ما سيرتقب مني فهل لي الحق في الزواج به وحرمانه تلك النعمة إلى الأبد؟ ولكن هل في استطاعتي وأنا أجمع الأضالع على هذا الحب العميق له أن أنزوي جانبًا لأرى امرأة سواي شاغلة منه مكاني، لا لهفوة هفوتُها، ولا لخطأ من صنع يدي، وإنما لحادث لم أستطع له ردًّا …!
وحِرْتُ في أمري فأجمعت النية على أن أدعه يقطع فيه بالرأي الذي يراه، ونهضت في الحال فذهبت إلى حيث كانت أمي لا تزال جالسة تسائل نفسها: أتراها قد أخطأت في مكاشفتي أم أصابت؟ فقلت وأنا مقبلة عليها، متناولة في يدي يدها: أماه العزيزة، لقد انتويت أن أواجه الحقيقة، فإذا جاء غدًا — وفي غد سيصل — فلينبئه أبي أو الطبيب بما جرى، فإذا ظل بعد علمه به يريدني لذات نفسي رضيتُ به، وإذا رفض فلا لوم عليه ولا تثريب …
وعشت ليلتي تلك وغدي رهنَ قلق مستحوِذ أليم.
وجاءني أخيرًا … فجمعني بين ذراعيه، وأمسكني مليًّا لصق صدره، وهمس يقول: أنت وحدك التي أطلب، وأنت مناي الذي أتمنى، أمُدركة يا غالية، أنت وحدك، لا بالولد أحفل بجانبك ولا بالبنين …
وبعد شهر من ذلك التاريخ تم الزواج، وكانت هدية العرس التي أتحفنا بها أبي، قطعة أرض فسيحة في ضاحية قريبة، فذهبنا من مطالع عهدنا الجديد نفرغ قصارى سعينا في بناء البيت والحائط وتجميله من الزهر والثمر بما شاء لنا الذوق الجميل …
وهنأنا عيشنا في السنين الأولى من زواجنا، حتى خيل لي أن الغمامة التي كانت تنذرنا بأن تغيم في سماء عيشنا الهنيء قد قشعت.
ولكن في ذات يوم بينما كنت أبحث في بعض الحقائب إذ عثرت على صورة فتوغرافية لي يوم كنت طفلة في الحول الثاني فهرعت بها طافرة من الفرح إليه وكان جالسًا إلى المنضدة يكتب، فألقيت الصورة أمام عينيه وقلت: انظر، أتتبين في هذه ظل زوجتك.
فجلس يتأملها طويلًا وهو لا يحير جوابًا، ثم ألقى يديه فجأة حول خصري وراح يدفن وجهه في طيات ثوبي وغمغم يقول وكتفاه يرعشان من فرط التأثر: أواه يا عزيزتي.
قلت جازعة: ماذا بك يا فاتني؟
فخلاني من ذراعيه، وأمسك برأسه بين كتفيه وأخذ يبكي … ففهمت …
•••
وقضى أبي نحبه، وجاءت أمي لتعيش معنا.
وكنت قبل هذا العهد أصحب زوجي في رحلاته بين حين وحين، ولكني أدركت أن ذلك لم يعد ميسورًا لأنني لا أستطيع ترك أمي وحدها.
وبدأ الانفصال بيننا لأول مرة منذ عهد الزواج، وإني لأذكر جلستنا على مطالع المساء السابق ليوم الفراق، فقد آوت أمي إلى مخدعها عقب العشاء، وراح هو يستلقي على جلد الدب بجانب الموقدة ويناشدني أن أغني له لحنًا.
ماذا أنت صانع يا حبيبي إذا أنا في غد ركبتُ البحر مفارقًا. ماذا أنت في غد صانع إذا جاءت الأنباء من بعيد تحطم آنية الحب وتذهب من وقعها الأليم بالعهد، ألا لا تذكري ذلك ولا تتخيليه، فإنني على العهد باق، وعن الوفاء مسؤول، ولكن إذا قاسمني فؤادك مقاسِم، وشاركني في حبك مشارِك، فلن أطيق القسمة ولن أحتمل، فماذا أصنع يا حبيبي، وما أفعل يا فاتن الفؤاد …
وتبين رنة الدموع في تضاعيف صوتي، فقام من استلقاءته فألقى يده على كتفي في حنان وقال: هذه أغنية محزنة في ليلتنا هذه، فغنيني قطعة مفرحة فذلك خير …
فكفكفت عبراتي وغنيته ما شاء …
وفي الغداة قبل أوان الفراق دسَّ رزمة صغيرة في يدي وهمس قائلًا: لئلا تنسيني.
ولما انصرف أخذتها إلى مخدعي ففتحتها فإذا هي علبة بديعة دقيقة من الذهب مرصعة بالجواهر ولها زنبرك تضغطه بأنملتك فينفتح الغطاء، فضغطته فإذا بوجهه الضاحك البسام يطالعني من جوفها في صورة دقيقة مركبة في أيقونة حلوة غالية، فوضعتها لصق قلبي حيث هي إلى اليوم ثلاثين عامًا كاملة …
وبدا شهر الغياب الذي غابه عني حلقة طويلة في عيني طول الأبد، وعاد أخيرًا يحمل البشرى بأنه قد عُين مديرًا عامًّا للمصنع، وأنه لن يضطر بعد ذلك إلى السفر وإنما سيقتضيه المنصب الجديد الطواف بالفروع وإنشاء مركز للإدارة، ولكني قلت فرحة ضاحكة: على كل حال لن يفرقنا بعد اليوم سفر ولن نضرب بيننا نوى.
ولكن الأعوام الثلاثة التي تلت ذلك مضت وزوجي أكثر وقته في غياب، وأنا منه في فراق أليم، ولولا أن أمي كانت في مرض شديد لما ترددت في إغلاق البيت واللحاق بزوجي لأعيش في أكنافه وأتفيأ ظلاله الوارفة، ولم يلبث أن أُقيمَ معرضٌ عام لمتاجر المصنع فاحتجزه هذا المعرض عني الصيف كله، وقد تعب من العمل فآثر أن يقضي شهرًا في مسارح الصيد، وقد ضرب هو وجماعة من الرفاق الخيام على مسيرة أميال عديدة من الحضر فلم يستطع أن يكتب، وغابت عني رسائله، ولَكَمْ بِتُّ ساهرة العين أرعى النجم وأفكر فيه وأخاف عليه أن ينتابه في تلك القفار سوء، ولكن تلك الفترة التي قضاها في الفلاة أجدتْ على صحته، فعاد ملفوح الوجه نشيطًا أجمل من قبل.
وفي اليوم التالي اشتدت العلة بوالدتي، فألزمتها الفراش، وما كاد أسبوع ينقضي على رجوع زوجي إلى عمله حتى وافتها المنون فمضت في الذاهبين.
وكان رحيلها في سكون، فلم أشأ أن أزعج زوجي بنعيها وآثرت له الراحة وهدوء البال.
ولما قضيت للراحلة حقوقها، سرَّحت الخدم وأغلقت البيت لأنني أردت أن ألتمس منه الفرار، جازعة من ألم الوحشة، أحوج ما أكون إلى تبديل الهواء وطيب النقلة لكي يجيء في مختم الشهر كما كنت أرتقب وأنتظر، فيجدني رغم الحداد على أمي متهللة للقائه، موفورة العافية لمقدمه، فنعود إلى سالف عيشنا لا ننفصل آخر الدهر ولا نفترق.
ولكني كنت حيرى لا أدري أين المكان الصالح والموضع الطيب الذي يحسن الذهاب إليه، وتصفو عنده الحياة، ويستقر حوله السكون، فأستجم عنده من النشاط، وأسترد أعصابي المحطمة الواهية.
ولكني ما لبثت أن تذكرت فجأة موضعًا حسنًا أجد فيه كل ذلك، على ضفاف بحيرة حسناء، كنت في عهد الطفولة قد قضيت صيفًا من العمر كان أهنأ أيام العيش وأرغدها وأجمل ما في الحداثة من ذكريات.
وما هي إلا أيام معدودات ألفيتني جالسة في سقيفة فندق يطل على أمواه البحيرة ويشرف على مشهد الطبيعة الباهرة، وكان سحر المكان قد أسكرني وبدا لي أفتن مما كنت أذكر له من فتون، وجلست ممسكةً بكتاب أتطلع إلى الأولاد وهم يرتعون على الضفاف ويسبحون على صدر الماء، فعادت نفسي تهفو في أثر البنين وعاد بي الحنين كما كان منذ سنين.
وحملني الخيال على أن أختار من بين أولئك الصغار صغيرًا وأدعوه بيني وبين نفسي طفلي وصغيري، وكان وليدًا ما أحسبه تجاوز الحول الثالث بعدُ، وسرني أن لداته الصغار جعلوا ينادونه باسم زوجي العزيز.
وبينما أنا في أحلامي هذه وتخيلاتي، إذ دلفت نحوي سيدة تنصف بها العمر، فجلست بجانبي وكانت ثرثارة حلوة الثرثرة، تعرف من شؤون الناس أكثر مما يعرفون من شؤونها، فسألتها عن «طفلي الصغير» فانطلقت تقول: أتعنين الوليد ذا الفروع الصفراء كأنها من سبائك الذهب صِيغت، ألا ترينه جميلًا بديعًا، تلك أمه الجالسة عن كثب منا، السيدة ذات المظلة الحمراء، إنها والله لا تزال في مراح الطفولة كوليدها وهم يجيؤون للمقام بهذا الموضع مرة كل عام، وهذه المرة هي الثالثة، وقد جاء أبوه العام المنصرم، فإذا هو رجل أغيد مليح، وهو بابنه هذا صبٌّ كلف، يحنو عليه الحنان كله.
ودق الجرس إلى موائد الطعام فدخلنا إليها جميعًا، وجاء مجلسي بجانب السيدة ووليدها الصغير، فتجاذبنا الحديث وآنستْ كل واحدة منا إلى جليستها، وإن كانت هي حيية لا تطيل حديثًا، وإنما تحنو على صغيرها لا يشغلها عنه شاغل.
ولما نهضنا عن الموائد دس الطفل يده في يدي واقترح أن يريني سمكات له صغارًا في دلو على الشاطئ.
ولما سرنا إلى السمكات راح يقول في لثغة الأطفال: أنا أحبك وأنت لطيفة جميلة …
ومن ذلك العهد أقبل عليَّ بنفسه وأصبح أتبع لي من ظلي، وجعل يناديني أمي الأخرى، وأحسست له حبًّا عميقًا هو هتاف الأمومة المكينة من غريزتي الحبيسة في صدري، لم تجد من قبلُ متنفسًا ولم تر لتبعتها مغيضًا.
قلت له مرة: أود لو أن أمك وهبتك لي.
فنظر إليَّ مليًّا وراح يفكر في صمت، ثم انثنى يقول: أخاف أن لا يرضى أبي إلا إذا أخذتِه هو كذلك.
وكأنما أعجبته هذه الفكرة، فمضى يصفق لها ويضحك ملء فمه قائلًا: إنه سيأتي غدًا فلتسأليه وستأخذني أمي إلى المحطة لاستقباله.
ولكن في غدٍ لم يتح للصغير ما كان في أمسه يتمنى، إذ أصاب حجر في مخاض الماء قدمَه فجرحها واحتجزه الجرح عن المسير.
فقلت لأمه: دعيه في رعايتي. ولما رأيتها تتردد توسلت إليها فرضيت شاكرة.
حقًّا لقد كان ذلك في الحياة يومًا مشهودًا، منذ مضيت وطفلي ساعات معدودات، أضاحكه وأسليه وأنسيه أبويه ووحشة الوليد إلى والديه، وأخذته ساعة النوم في أحضاني فجعلت أغني له أغنيات الطفولة حتى أخذ الكرى في رفق بمعاقد جفنيه.
وكانت أمه قد تركت مفتاح حجرتها معي، فقمت به لأرقده في مهاده، ولكني ما كدت أقف بعتبة بابها حتى جمدت في مكاني لا أستطيع حراكًا، لقد أخذت عيني على المنضدة صورة زوجي في إطار مجمل.
ومشيت بالوليد إلى سريره، فأضجعته وغطيته بغطائه وأنا راعشة الأوصال، وانحنيت عليه فطبعت على وجنته قبلة راجفة!
وانتبهت إلى نفسي بعد لحظة فوجدتني جالسة فوق فراشي والعلبة الصغيرة التي ظلت لصق صدري كل ذلك الدهر الطوال مفتوحة بين يدي … يا لله! … ها هو ذا الوجه وجهه والصورة صورته! …
رباه! ماذا عسيت أن أفعل، وهو عما قليل قادم، لا ينبغي أن يراني ولا ينبغي لمخلوق في العالم أن يعرف السر، أو يدرك الخافية. إن لي الحق الأول فيه ولكني أحمد لربي صنيعه أن أنساني حقي، وألهمني نسيانه، وأوحى إلي النزول عنه.
إن هذه العشيرة الصغيرة تعيش اليوم في رغد، ولو أنني حطمت آنية هذه الهناءة وهدمت هذا الفردوس الذي تنعم بأفيائه وخمائله، فما نفع ذلك لي وما جدواه، وما الذي عندي أحبو به الرجل الذي أحببته، فيقوم عنده مقام هذا الوليد البديع، والصغير الغالي.
ولم أشعر في فؤادي بحقد على زوجي أو ضغن أو غضب، فقد أدركت الدافع وعرفت الباعث.
وآذنت الخامسة وحان موعد وصول الوالد إلى وليده، فهرعت إلى مهد الطفل، فأيقظته في رفق وحنان وألبسته ثوبه، وكان يطفر ويتنزى كالعصفور الفرِح على فننه، وتناولت مقصي الصغير فاقتطعت لي خصلة من سبائك شعره، وتركته على صفير القاطرة يتلفت هاربًا إلى البهو يتطلع إلى القطار القادم غائبًا عن حياتي إلى الأبد.
يا للطفل العزيز الجميل … تراه اليوم قد نسي أمه الأخرى.
وانتبذت مكانًا خفيًّا وسمعت صوت زوجي وهو يتلقى طفله مناديًا إلى الأحضان يا زينة الحياة …!
وتركت المدينة بقطع من الليل … وآويت من ضجيج الحياة إلى منعزل هادئ صامت لا يعرف الناس فيه من خبري شيئًا، وإلى اليوم لم يبق لي من الماضي أثرًا من ذلك الزوج الذي ضحيت بالحياة كلها في سبيل هناءته.
تلك خصلة من شعر وليده الذي كان دهرًا يناديني: يا أمي الأخرى …!!