تقديم

بعد المِحنة …

كان الهدف من هذا الكتاب — الذي فرغتُ من تأليفه وسلمته للنشر في ربيع سنة ١٩٩٠ — يتلخَّص في أمرين: قراءة نصوص أدب الحكمة البابلية قراءة تقرِّبها للقارئ المعاصر، وتكشف له عن أعماقها الدفينة، التي تراكمت عليها «طبقات» تاريخٍ طويل من نظم الحكم والقيم والمعرفة والوعي على مدى ثلاثة آلاف سنة أو يزيد، والنظر في جذور «اللاحرية» والظلم والقهر الذي عاناه أبناء حضاراتنا القديمة، ولم تزل ظلاله وأصداؤه المعتمة تتردَّد حتى اليوم في صرخات الشكوى والشك والأنين التي تنبعث من تلك النصوص. ولقد فوجئتُ في صيف العام المذكور — مع الملايين من أبناء وطننا العربي وكل أصحاب الضمير على سطح كُرتنا الأرضية الصغيرة البائسة — ﺑ «أم المحن» في تاريخنا الحديث والقديم.

وأخذتْ سهام الأسئلة التي تُدمي القلب والعقل تنهال عليَّ كما انهالت على كل حريص على حاضر أُمَّتنا ومستقبلها، بل على ماضيها نفسه إذا تذكَّرنا «حضوره» الدائم في وعي الأفراد والشعوب ولا وعيهم: لمَ حدث هذا الذي حدث؟ وكيف؟ وفي صالح من؟ وإذا كانت الآراء قد اختلفت حول المحنة، فهل يمكن أن يختلف اثنان حول كونها نوعًا من الانتحار الذي نندفع إليه بأيدينا، وكأننا «نُنتحر» — إذا جازت هنا صيغة المبني للمجهول — أو نُستدرَج للانتحار؟ هل يمكن أن تكون للتراث التاريخي — أو على الأقل لبعض رواسبه التي ترسَّخت في اللاشعوري الجمعي — يدٌ فيما حدث؟ وهل يُعقَل أن تكون نزعات التدمير والتخريب الهمجي قد صحَتْ فجأة من قبورها «الآشورية» أو «التترية»، ونفضت عن وجوهها الشائهة تراب التاريخ وما قبل التاريخ؟ وإذا كان التراث يُلزِم ورثته دراسته ومعرفته والوعي به، أفلا يوجب عليهم كذلك أن يتجاوزوا أخطاءه وأعباءه بتراثٍ آخر يحمل منه العناصر والقيم الجديرة بالحياة والبقاء ليصبَّها في نهره المتدفِّق صوب الحرية والتقدم والاستنارة والعدل؟ أليس التراث — أو بالأحرى خير ما فيه — هو ثورة الماضين الذاهبين، كما أن الحلم بالمستقبل والعمل في سبيل تحقيقه ثورة الحاضرين والآتين أو ينبغي أن تكون؟!

تداعت عليَّ هذه الأسئلة وأمثالُها كما تتداعى عواصف الرمال على شجرةٍ وحيدة في الصَّحراء، وأثارت سُحبَ الهواجس والظُّنون التي خالجتني أثناء العمل في هذا الكتاب ولم تُفلح في تبديدها أضواءُ النقد والمراجعة والتحليل التي اجتهدت في تسليطها عليها؛ ولذلك فسوف أقتصر على بعض النقاط التي لا تزال تدور في فلك الحيرة والسؤال؛ لعل القارئ أن يشاركني التفكير فيها منعًا لأي نوع من أنواع الالتباس وسوء الفهم، ورغبة منا جميعًا في الوضوح والتوضيح:
  • (١)
    إنَّ كلَّ من جرَّب مرارة المحنة لا بد أن يكون قد سأل نفسه هذا السؤال الذي يتردَّد بصورةٍ عفوية في أوقات الشدائد والكوارث والأزمات: هل يُعيد التَّاريخ نفسه؟ وأي إنسان توافرت لديه معرفةٌ أَوَّليَّة بتاريخ وادي الرافدين القديم والوسيط وشاهد آثار التخريب والتدمير والحرق والنهب التي مُنيتْ بها دولةٌ صغيرة مسالمة في أواخر القرن العشرين، لا بد أن تكون قد قفزت إلى خياله وذاكرته صور المدن السومرية في الألف الثالثة قبل الميلاد (وفي هذا الكتاب ما يفيد أن بكاء تلك المدن من أهم أبواب الأدب السومري وأشدِّها تأثيرًا في النفس)، أو صور المدن الإسلامية التي خرَّبتها ونهبتها وسفكت دماء أهلها وانتهكت حرماتهم عساكر التتار في العصر الوسيط (مع احتلال غازان خان التتار وحفيد هولاكو لبلاد الشام في نهاية القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي على عهد سلطان المماليك الناصر محمد بن قلاوون، واحتلال تيمورلنك لها في سلطنة الناصر فرج بن الظاهر برقوق في القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي). وربما فكَّر كذلك في طاغية أوروك (الوركاء) السومري المتألِّه جلجاميش، على نحو ما عبَّرت الملحمة البابلية الشهيرة عن مظاهر بطشه واستبداده بشعبه، ولهاثه الأناني وراء الشهرة والمجد، وطموحه المهلك إلى الخلود الذي استأثرت به الآلهة من دون البشر، وذلك قبل «تطهُّره» التدريجي من طغيانه، واتجاهه — بعد موت صديقه أنكيدو وضياع نبتة الخلود من يده — إلى تأسيس الخلود الوحيد المُتاح للبشر الفانين على الأرض، ألا وهو تخليد الذكر بالبناء الحضاري والعمل في سبيل المجموع (وذلك هو التفسير الذي أخذ به بعض العلماء كما تبنَّاه كاتب السطور).١

    غير أنَّ القليل من التفكير يُؤكد أنَّ التَّاريخ لا يعيد نفسه أبدًا، وأن لكل حادثة من الحوادث التاريخية التي تبدو متشابهة أو متقاربة طبيعتها الخاصة وسياقها المحدَّد بظروفها وأسبابها ونتائجها المختلفة، أضف إلى هذا أنَّ علم التَّاريخ الذي يبحث عن الحقيقة الموضوعيَّة الخالصة لا يجوز له أن يصبح فرعًا لعلم الوراثة أو علم النفس والطباع. وإذا كان الطغيان الذي تعدَّدت أشكاله ودوافعه وآثاره على مرِّ العصور هو الذي يوحي بذلك التشابه، فإن هذا لا يُعفي المؤرِّخ من دراسة كل حالة على حدة، وتمحيص كل حادث في سياقه الخاص؛ حتى لا يقع في مخاطر الإسقاط والهوى والتعميم.

  • (٢)

    ومع ذلك فإنَّ معرفة التراث معرفةً دقيقة ومحاولة استعادته أو «استحضاره» في وعي الحاضرين ضرورة لا مفر منها بحكم «تاريخية» الإنسان نفسه، لا سيما في مواجهة المحن والكوارث التي تدمِّر نظم العقل والواقع والقيم والشعور، ولا يمكن في مثل هذه المواقف النهائية أو «الحدِّية» أن يُلام الإنسان إذا قرن الحاضر بالماضي، أو ربط بينهما حيث لا يوجد رباطٌ سببي ضروري يجمع بينهما، بل إننا لنلتمس له العذر إذا ذهب إلى حدِّ تحميل الأقدمين وزر الفظائع التي ارتُكبت أو بعض هذا الوزر، مع علمه بأن أولئك الأقدمين قد أصبحوا اليوم — مع أجيال متلاحقة من أحفادهم — بقايا تراب تحت أكوام تراب، وأن جنون القتل والتدمير والتعذيب والنهب والسلب كان شيئًا عامًّا ومألوفًا بين معظم القبائل والأقوام في تلك العصور (كالحيثيين والحواريين والعيلاميين بجانب البابليين والآشوريين)، وسواء تصوَّر وجود رواسب من تراثهم استمرت تحمل عملها في ظلمات «اللاوعي الجمعي»، أو تصور وجود «نمط أَوَّلي» أو «نموذج أصلي» للطاغية وللطغيان لم يستطع الأخلاف أن يقتلعوا جذوره من غياهب أعماقهم، أو عدل عن أمثال هذه التطورات واستبعدها بوصفها غير علمية، فإن «الحكمة» التي لا أشك في أنه سيخرج بها من قراءة نصوص الحكمة البابلية على ضوء الأهوال التي جرت في الماضي والحاضر هي أن «تراث» الطغيان وما يلازمه من العسف والظلم، والقهر والفقر، واليأس والبؤس … إلخ؛ أقدم بكثير مما نتخيل عادةً، وأن تجاوزه بتراثٍ آخر يبدأ من بداية البدايات — وأقصد بها الحرية — قد بات أمرًا لا يحتمل التهاون أو التأجيل.

  • (٣)

    لعل الحكمة الحقيقية من هذا كله هي أننا لم نسيطر بعدُ على مشكلة الطاغية ومأساة الطغيان في تاريخنا القديم والحديث والمعاصر، ولم نستطع بعدُ أن «نقبض عليها» بالفكر — إن جاز هذا التعبير — ولم نُسلِّط عليها أضواء البحث العلمي الجاد في كل أبعادها، وذلك على الرغم من الكمِّ الهائل من الكتابات والتحليلات والتفسيرات التي قدَّمها التاريخ الحديث والمعاصر بوجهٍ خاص. ومع أن مفهوم الطغيان يرتبط بمفاهيم أخرى عديدة تنتمي إلى عائلته المشئومة، كالاستبداد والتسلُّط والحكم الفردي المطلق والدكتاتورية والشمولية … إلخ، ومع أنه لا يقتصر على حاكم أو نظامٍ بعينه، وإنما يمدُّ ظلال لعنته الكئيبة على مختلف وجوه حياتنا وتفكيرنا وسلوكنا وتعليمنا وإدارتنا … إلخ، ويثمر ثماره المسمومة في ألوان التعصب والتطرف وادِّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة التي نشقى اليوم بغُصصها، ونتوجَّس خيفة من أخطارها، بل وفي ردود الفعل المتشنِّجة عند الكثيرين ممن يتصدَّون لها؛ فإن المشكلة الأساسية تظلُّ قائمة، وهي أن الطغيان لم يأخذ حقَّه من اهتمام الدارسين والباحثين في العلوم الإنسانية بوجهٍ خاص، على الرغم من أنه هو رأس المشكلات والأزمات وأَوْلاها بالدرس والتحليل والنقد والعلاج، وأن مفهوم الشرق في نظر الغربيين — منذ أرسطو ونظريته عن الاستبداد والطغيان الشرقي التي عرضها في «السياسة» و«الأخلاق إلى نيقوماخوس» حتى هيجل وكثيرين بعده إلى يومنا الحاضر — يكاد يكون مرادفًا لمفهوم الطغيان أو الاستبداد وبالعكس، وأن كابوسه الخانق — أو بالأحرى كوابيسه المتنوِّعة الأشكال والظلال — قد خيَّمت على تاريخ هذه المنطقة من العالم منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، وإن لم تعدم كذلك حركات التمرد عليه، والثورة في وجهه، ولا دماء الشهداء الذين تحدَّوه وسقطوا صرعى جبروته واستبداده.

    والواقع أن المهمة المنتظَرة من الشرقي المشتغل «بعلوم الحكمة» هي تحديد معاني المصطلح وتتبع «بناءاته» المختلفة باختلاف المكان والزمان والسياق، ومحاولة وضع مبادئه وعناصره ونظمه — أو بالأحرى «لا-نظمه» المناقِضة لكل نظام ممكن على مستوى النظر والعمل واللغة والاجتماع … إلخ كما سبق القول — وبلورتها في نسقٍ محكَم مترابط سيكون هو الشرط الضروري لإقامة النسق الفكري المقابل له في جدل الصراع الحتمي الذي كُتب على أبناء هذا الجيل والأجيال التالية أن يخوضوه في سبيل تأسيس الحرية التي سمَّيتُها بداية البدايات. في هذا النسق الأخير يمكن أن تلتئم معاني التقدم والتحرر، والنهضة والوعي والتحضر، والتغيير والتنوير والتصوير التي لم تزل مشتَّتة على أقلام المخلصين من دعاتها والمضحِّين بحق في سبيلها منذ مطالع النهضة العربية الحديثة عند روادها الكبار. إن الضدَّ لا يُعرَف إلا بضده، وقد أوضحت المحنة الأخيرة بما فيه الكفاية أن إزاحة الطغيان وتناقضاته الدامية المنافية كما قلتُ لكل أنظمة الحياة والعقل والعمل — هي البداية الحقيقية على الطريق.

  • (٤)
    ترتبط بما سبق ضرورة أخرى، وهي أن ينطوي النسق أو النظام السابق الذكر على «حكمة الرجل الصغير» أو رؤية الإنسان العادي الذي ظل على الدوام هو الضحية الأولى والأخيرة للطغيان، كما أهملته الفلسفة أو كادت، باستثناء معظم «فلاسفة» الشرق الأقصى في الصين بوجهٍ خاص، وبعض الحالات القليلة في تاريخ الفلسفة الغربية والعربية.٢
    إنَّ التغلغل في أزمات الإنسان العادي وآلامه الجسدية والروحيَّة، وفي أحشاء واقعه الذي يغصُّ بالأحزان والآمال الفردية والجماعية المحبِطة، وتحليلها وردِّها إلى عناصرها و«ثوابتها وبناها اللازمنية» — كما يقول اليوم بعض اللغويين — و«المصالح» الكامنة وراءها … إلخ، وسط خضم التحولات والضغوط التي تنهال عليه وتجرفه بعيدًا عما نسمِّيه الأصالة والهوية وتحقيق الذات والإبداع والحرية … إلخ. كل ذلك هو الضمان الوحيد كي لا يغترب «التفلسف» عن حقيقته وواقعه، أو تغترب الحقيقة والواقع عنه، سواء تمثَّل هذا الاغتراب من ناحية في الإطلال عليها من برجٍ منطقي وجدلي متعالٍ عليها، أو من ناحية أخرى في السقوط في حمأة التشوُّش الغوغائي والخطابي وحمياه، والغرق في دوي الطبول والأبواق التي تدقُّ عليها وتنفخ فيها الأنا النرجسية المتضخِّمة الملهوفة — وسط مآتم القيم وفواجع البشر — على الشهرة الرخيصة والمجد الزائف، ولعله أن يكون كذلك هو البداية الحقيقية — أو إحدى البدايات على أقل تقدير — للتأسيس النظري والمنهجي ﻟ «فلسفةٍ عربية» مستقلَّة وحميمة كثر التساؤل عنها وطال افتقادها وانتظار فجرها الذي بدأت خيوطه الأولى في الفترة الأخيرة في اختراق ظلمات الليل العربي على استحياء. إن الرجل العادي أو الإنسان الصغير كما يسمَّى في بعض اللغات، ينتظر «سقراط الجديد» الذي لا يكتفي بمحاورته وتجريب ذكائه عليه، وإنما يتوقع منه أن يلتفت إلى عذابه ومعاناته المأسوية التي يكاد تاريخ الفلسفة أن يخلو منها (كما تقول ملاحظةٌ عابرة وعميقة لفيلسوف الحياة والاجتماع جورج زيميل ١٨٥٨–١٩١٨)، وذلك قبل أن «يبلورها» في نسقٍ فكري مترابط يعكس — بالأفكار — واقعه الممزَّق المضطرب. وليس معنى هذا أن نطالب «المتفلسف» العربي بأن يكون شاعرًا وفنانًا، ولا حتى بأن يكون باحثًا ميدانيًّا، بل معناه أن نطالبه بالبدء من التجربة الحية، ومشاركة «الناس» (الذين طالما تجاهلهم الفلاسفة!) مواقفهم وتجاربهم واختياراتهم … إلخ بما هو مواطن وشريك، قبل تحليلها وتفسيرها وردِّها إلى شروطها وأُسسها الأولى؛ فالفلسفات الكبرى تؤكد أنها لم تخلُ أبدًا من قدر من المشاركة في «الواقع» والتعاطف معه أو الاندهاش منه ومحاولة تجاوزه ونقده والشك في أوضاعه، وأنها لم تنفصل عنه تمامًا ولا قصرت في القيام بدورها النقدي له بأساليبها الصورية والتعميمية المجرَّدة وغير المباشرة، وربما تكون مشاركة الناس حياتهم، وتبصيرهم بحقيقتهم وحقائق واقعهم، وتقديم دليلٍ عقلي وعملي يوجِّه تفكيرهم واعتقادهم وسلوكهم، ويساعدهم على «صنع» حاضرهم وتشكيل مستقبلهم، إلى غير ذلك من مهامَّ معرفيةٍ وأخلاقية وجمالية، ربما تكون هذه وغيرها هي بعض الواجبات الملقاة على كتفَي «سقراط العربي» الذي صَهَرته نيران المحنة،٣ ولو تمعَّن القارئ في الحكم والأمثال الشعبية والأقوال السائرة على أَلْسنة البابليين في هذا الكتاب، لعرف أن استخلاص الصور والمبادئ «القبلية» الكامنة فيها وفي نظائرها عبر التاريخ العربي وفي كل آدابه الشعبية، ثم صياغتها في نسقٍ فكري يبدأ من التجربة القديمة المتجدِّدة مع صور الطغيان على اختلاف أبعاده وظروفه، لو فعل ذلك وبدأ من هذه البداية «الاستقرائية» لأمكن القول إنه قد بدأ أيضًا في وضع قدمَيه على الطريق الطويل نحو فكرٍ عربي مستقلٍّ وناجٍ من واقعه، ومتحرر من القوالب الجاهزة التي طالما حُشر فيها رغم أنفه.
  • (٥)

    لقد كتبتُ الصفحات الأولى من التمهيد العام لهذا الكتاب (تحت عنوان: حكمة بابل، فلسفة هي أم حكمة؟) وفي «خلفيَّتها» بعض الأفكار السابقة، وكان هدفي منها هو تفنيد الرأي الشائع — صراحةً أو ضمنًا — بين معظم مؤرخي الفلسفة الغربيين وأتباعهم من الشرقيين، وهو أن الفلسفة — بمعناها العقلي والمنهجي الذي اتخذته منذ نشأتها مع العلم، ومحاولاتها للانفصال عن الدين والأسطورة، في مجتمع دولة المدينة اليونانية الحرة — شيءٌ غربي — محض، وأن «حكمة» الشرق — الدينية والأخلاقية المتَّجهة في جملتها إلى الخلاص والتطهُّر والتوافق مع الطبيعة الخارجية أو الداخلية لا السيطرة عليها والتحكم فيها — كانت في أفضل الأحوال مجرَّد تمهيد لها أو طَرقات على بابها أو بشائر من نور فجرها، بحيث يستطيع المؤرخ الغربي أن يغفلها من حسابه دون أن يشعر بالخسارة أو بتأنيب الضمير!

    وقد ناقشتُ بشيء من التفصيل هذا التمركز الغربي حول الأنا المتسلطة والمسيطرة حتى اليوم على الباطن والظاهر والإنسان والطبيعة، وانتهيت كما انتهت قبلي صفوة من الباحثين الغربيين والشرقيين٤ إلى استحالة إنكار وجود «فلسفة» شرقية بالمعنى العام الذي يُفهَم من مجموعة الرؤى الكلية والمواقف التأملية في مغزى الحياة والموت، والخلق والمصير، والخير والشر، والعدل والظلم، والاختيار والجبر … إلخ، مهما جاءت هذه التأملات في الإطار الديني والأخلاقي الموروث، وفي لغة المجاز الشعرية والأسطورية. والحق أن هذه القضية تكاد اليوم أن تكون محسومة؛ إذ ترسَّخ الاقتناع لدى المنصفين المتعمقين من الغربيين أنفسهم بأن للحكمة الشرقية حقها المشروع في الوجود داخل الإطار النوعي الخاص بها، لكن الأهم من ذلك — في تقديري المتواضع — هو المهمة الملقاة على أبناء الشرق أنفسهم، والعرب بوجهٍ خاص، في تشييد أبنيتهم النظرية وأنساقهم الفكرية والمعرفية التي تنبع — كما ذكرت — من تجارب واقعهم المأزوم، وتتمتع بقدرٍ معقول من الاستقلال والخصوصية التي لا تنزلق إلى مهاوي التعصب، ولا تندفع إلى التطاول على «الآخر» بدلًا من نقده نقدًا حرًّا أمينًا، أو التحدي الفجِّ الذي تتردد صيحاته المتشنجة كثيرًا في هذه الأيام، وأحسب أن مواجهة المعاناة القديمة المتجددة من الطغيان على اختلاف صوره تأتي في مقدمة هذه التجارب، كما أن محاولة «بلورتها» فكريًّا، كما سبق القول، يمكن أن تكون إضافة أساسية إلى الفلسفة أو «الحكمة العالمية» كما سماها «كانط»، وخطوة مهمة على طريق الأصالة المنشودة من جانب الشرقي الذي يواجه في الوقت نفسه محاولاتٍ ضاريةً مستميتة على كافة المستويات لتكريس تبعيته لنموذج الآخر المستغل المهيمن، كما يمكن أن تساعده على الخروج من مأزق الحكم عليه بالانتحار الحضاري والانقراض المعنوي «بفضل» طغاته المتخلفين و«لا-نظمهم» المتخلِّفة، وبأيديهم هم قبل أيدي الآخرين الذين نسارع باتهامهم بدلًا من البدء بأنفسنا.
  • (٦)

    وأخيرًا نصل إلى الكلام عن التفسير الذي توخَّيته لهذه النصوص القديمة بغية قراءتها قراءةً كاشفة ومتعاطفة كما سبق القول. ومن الصَّعب الحديث عن فلسفة ذات مناهجَ متعددةٍ (وهي فلسفة التفسير أو الهيرمينوطيقا) تُعبِّر كذلك عن رُؤًى ومواقف مختلفة من تجربة النص وطرق تأويله وقراءته وقراءة مؤلفه ومتلقيه جميعًا وشروطها الموضوعية والمنهجية التي لا تستغني عنها أية تجربة علمية، مهما تعذَّر الفكاك من طبيعتها الذاتية والتاريخية التي يفرضها تلاقي آفاق التفسير السابقة وتفاعلها، والواقع أن أصحاب هذه الفلسفة ما زالوا مشغولين بالإشكالات النظرية والمنهجية المرتبطة بتأسيس هذا النظام المعرفي الجديد، وما زالت آراؤهم التي ينطلقون منها في التفسير شديدة التباين: فمن أنطولوجية — فينومينولوجية — أو ظهورية في الوعي والشعور الحدسي الذي يتوجه لرؤية الحقائق والماهيات والمقومات الأساسية رؤيةً حية (هيدجر)، إلى «خبرية» تجريبية تعتمد على تكشف الحقيقة بعيدًا عن المنهج «العلمي» وتصوراته الموضوعية الحديثة، وعلى انصهار أو تلاحم آفاق التفسير الذاتية في التقريب بينها رغم الحواجز الفاصلة (جادامر)، إلى تطويرها للتفسير بحيث يصبح منهجًا عامًّا لتفهم المعنى الكلي في العلوم الإنسانية (إميليو بيتي)، إلى الاهتمام ﺑ «المصالح» المتضمَّنة في أفعال المعرفة والتواصل اللغوي ونماذجهما (هابرماس)، وعلاقة هذا كله بالمأثور اللاهوتي والرومانسي في تفسير النص الديني والأدبي والتاريخي، وإن لم يمنع هذا من الاتفاق بينهم بما يشبه الإجماع على رفض النزعات الطبيعية والوضعية الساذجة في المعرفة والوجود، وتبنِّيهم في كل الأحوال (باستثناء هانز ألبيرت — تلميذ بوبر وصديقه — ونزعته العقلانية والطبيعية في المعرفة) للنزعة الإنسانية (الأنثروبولوجية) والفردية في فهم الكيان التاريخي والذاتي الذي نسمِّيه النص من داخله بوصفه كيانًا إنسانيًّا متفردًا يختلف عن كل ما هو طبيعي وموضوعي، ويقتضي في تجربته وتفهُّمه وتفسيره مناهج مختلفة عن مناهج التحليل والتعليل في العلوم الطبيعية (وذلك على نحو ما أكد «دلتاي ١٨٣٣–١٩١١» أحد رواد فلسفة الحياة التي تقوم عنده على «التفهُّم الكلِّي» لما هو متفرِّد في الإنسان والتاريخ وعصور الحضارة ونماذج الأدب والفن …)

    ولما كان المجال لا يسمح بالخوض في هذه المشكلات النظرية والمنهجية، فقد اقتصرت على تقديم نبذةٍ شديدة الإيجاز عن هذا الفرع المعرفي الجديد؛٥ لعلها أن تلقي شيئًا من الضوء على فلسفة التفسير التي اكتفيتُ منها بالجانب الذي يتجاوب مع نزعتي إلى التعاطف مع هذه النصوص أو غيرها فيما قدمت من قبلُ من دراسات ومقالات، وذلك قبل أن أعرف عن تلك الفلسفة شيئًا يمكن أن يرقى إلى مستوى المعرفة بالمعنى الدقيق. ويبقى التفسير الذي حاولتُه لنصوص الحكمة البابلية عملية استعادةٍ إبداعية للنص الذي ألَّفه أو دَوَّنه الشعراء والكُتَّاب البابليون، مع وضع المصاعب والمحاذير التي ذكرتُها مرارًا في ثنايا هذا الكتاب موضع الاعتبار باستمرار: كالجهل باللغة الأصلية والكتابة المسمارية، وتعذُّر أي محاولة لاستكناه إعمال النص بصورةٍ مُرضية من نواحيه الدلالية والإشارية، بجانب الفروق الشاسعة التي تفصل المفسر لهذا النص عن مبدعيه ومتلقِّيه الأصليين من حيث الزمان والسياق الحضاري والديني والمعرفي … إلخ، الأمر الذي يجعل من الصعب — إن لم يكن من المستحيل — تفهُّم الحالات والمواقف النفسية والذهنية التي جرَّبوها وقصدوا إليها، ناهيك عن تقمُّصها واستعادتها، ومع ذلك فإن هذه المصاعب التي لا يُستهان بها لم تثنني عن محاولة الحدس ﺑ «الرسالة» التي أراد الكاتب أو الكُتَّاب الأصوليون تبليغها، رغم المحاذير الصريحة والخفية التي قيَّدت حريته في التعبير عن تلك الحالات والمواقف وتجسيدها في أشكالٍ موضوعية مقروءة أو مسموعة (راجع التمهيد العام، الجزء الخاص بمفهوم الأدب والإبداع).
  • (٧)
    وأيًّا كان الرأي في هذه القراءة لنصوص الحكمة البابلية وتفسيرها، فسوف تبقى مجرد إمكانيةٍ مفتوحة على إمكانات قراءات وتفسيرات أخرى ربما يُقدَّر لها أن تكون أكثر توفيقًا وأقرب إلى الموضوعية والدقة في استخدام الأدوات العلمية والمنهجية والنقدية، والمهم أن «خطاب» هذه النصوص قد تردَّدت معانيه — أو على الأقل ما فهمتُه واستشعرتُه منها — على ضوء رؤيتي للوجود العربي المأزوم، ومن خلال تجربتي وتجربة أبناء جيلي الذين قضوا معظم عمرهم في ظل اللاحرية والاستبداد. وأحسب أن أدنى مشاركة في «روح» هذه النصوص يمكن أيضًا أن تشاركني في جزء من تفسيري إن لم يكن فيه كله، وربما أيدتني فيما ذهبت إليه من آراء حول الطغيان والضرورة لمواجهته وتجاوزه على مستوى الفكر والعمل.٦
  • (٨)

    وأخيرًا فقد حاولت قدر طاقتي أن أوازن كفتي الذاتية والموضوعية، والتعاطف والإنصاف، وألَّا أُجازف بأي تعميم أو إسقاط قبل تجربة النصوص نفسها، متحاشيًا فرض أي أحكامٍ مسبقة على حضارة نعتز بكل جميل وجليل فيها، كما نخضعها للتفسير والنقد شأنها شأن كل ما أنجزه الإنسان في التاريخ.

    وإني لأتمنى أن يكون هذا الكتاب دعوةً مفتوحة لإعادة قراءة نصوصنا القديمة والوسيطة والحديثة، بعد محنة مروِّعة تقتضي من الجميع نقْد كل شيء على الإطلاق ومراجعته مراجعةً جذرية، حتى لا تتكرَّر في حياتنا أو حياة أولادنا وأحفادنا — لا قدَّر الله — مِحنٌ أخرى أدهى وأمرُّ وأشدُّ. وذلك في تقديري هو الباب الوحيد الذي ننفذ منه إلى الوعي والتقدُّم والتحرُّر والتغيير وسائر القيم التي يسعى خيرة أبناء هذا الجيل لترسيخها، ولا يسأمون من الدعوة إليها والحديث عنها، مهما قيل عن حديثهم وتفكيرهم إنه ضرب من تمنيات «اليوتوبيين» وأحلامهم التي لم ينجح معظمهم حتى الآن في تجسيدها في مواقف عملية وأنظمة وأشكالٍ موضوعية ونسقية … فهل آن أوان تحقيق هذه الأحلام بالأفعال الواعية وفي طليعتها فعل النقد والتفسير؟

    ألا يقتضي هذا أن تكتمل معرفتنا بحاضرنا وواقعنا من خلال معرفتنا «بتحقيقات» ذاتنا التاريخية عبر العصور، وبتصميمنا على إرادة «صنع» المستقبل الذي يولَد «هنا» ويبدأ «الآن»، أي تصميمنا — كما أكدتُ أكثر من مرة — على البدء من بداية البدايات؟

    ألا يستوجب كذلك — من واقع ما يجري على الساحة الثقافية منذ سنوات من مناقشات ومجادلات حول الحرية والتغيير والتنوير لم تخلُ في بعض الأحيان من التشنُّج والعدوانية وإدانة الآخرين — أن يبدأ بعض دعاة هذه القيم الغالية بأنفسهم قبل أن يفكِّروا في تغيير غيرهم وتغيير واقعهم؟!

وفي النهاية أرجو أن يكون هذا الكتاب بدوره مجرَّد بداية تتبعها خطوات أوفر حظًّا من العلم والتدقيق والتحقيق، وإني لأشكره سبحانه إن كنتُ قد وفقتُ، وأسأله العفو والمغفرة إن كنتُ قد أخطأتُ، فمنه وحده الخير والسداد، وإليه ألجأ، وإليه المصير.

القاهرة والكويت
في شهر أبريل ١٩٩٢
عبد الغفار مكاوي
١  وذلك في المقدمة التي صدَّر بها ترجمته لملحمة جلجاميش (مطبوعات جامعة الكويت، ١٩٩٤)، وفي المسرحية الملحمية التي استوحاها منها (وظهرت في سلسلة كتاب الهلال، العدد ٤٩٤، شعبان/فبراير ١٩٩٢، تحت عنوان «هو الذي طغى: محاكمة جلجاميش»)، وفي بحث بعنوان «جلجاميش وجذور الطغيان»، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، العدد ٤٢، شتاء ١٩٩٣.
٢  ترتبط هذه الحالات القليلة في تاريخ الفلسفة الغربية بأسماء مذاهب ومدارس وشخصيات نذكر من أهمهم الكاتبين — وبخاصة ديوجينيس ومصباحه الشهير! — والرواقيين وسقراط وديكارت وفيشته ومارس وبعض النفعيين أو الواقعيين السُذَّج والجدد والبراجماتيين أو العمليين وأصحاب الموقف الطبيعي أو الإدراك الفطري من التحليليين المعاصرين — مثل جورج مور بوجهٍ خاص وأتباعه — والنقديين من الجدليين الاجتماعيين من مدرسة فرانكفورت الذين دارت أفكارهم حول اغتراب الفرد «وتشييئه» نتيجة القمع والهيمنة والقهر في ظل الأنظمة الرأسمالية والشمولية في المجتمعات الصناعية المتقدمة، وقد ارتبطت في تراثنا الفكري — الفلسفي والكلامي والصوفي — إلى حدٍّ ما بأسماء عدد من الفلاسفة — مثل الفارابي وإخوان الصفا وابن رشد — والمتصوفة والفقهاء وفلاسفة التاريخ والاجتماع كالمعتزلة والحلاج وابن تيميه وابن خلدون. والأمر يحتاج بطبيعة الحال إلى مزيد من البحث والاستقصاء.
٣  راجع لكاتب السطور: لم الفلسفة؟ الإسكندرية، منشأة المعارف، ١٩٨١، ص٤٩ وبعدها، ص٦٧–٨٧.
٤  راجع على سبيل المثال لا الحصر المقدمتَين اللتين كتبهما الدكتور فؤاد زكريا لترجمته لكتاب برتراند رسل حكمة الغرب بجزأَيه، سلسلة عالم المعرفة، العددين ٦٢، ٧٢، الكويت.
٥  لم يعد هذا الفرع المعرفي مجهولًا في لغتنا، لا من الناحية النظرية ولا التطبيقية؛ وذلك بفضل الجهود الطيبة لبعض أساتذة اللغة والنقد الأدبي والفلسفة عندنا، وإن تكن حتى الآن قليلة ومحدودة بالقياس إلى المساحة التي تشغلها فلسفة التفسير — أو التأويل كما يسميها بعضهم — في الفكر الفلسفي المعاصر. وتجدر الإشادة بجهود الأساتذة والدكاترة نصر حامد أبو زيد في تفسيراته — أو تأويلاته — لنصوص ابن عربي والمتكلمين والنحويين والمفسرين المسلمين، ولمقاله الهام عن الهرمينوطيقا ومعضلة تفسير النص (مجلة فصول للنقد الأدبي، ١٩٨٥) وعاطف جودة نمر في كتابه عن النص الشعري ومشكلات التفسير (القاهرة، مكتبة الشباب، ١٩٨٨) بجانب العدد الخاص من مجلة (ألف! مجلة البلاغة المقارنة، التي يصدرها قسم الأدب الإنجليزي والمقارن بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد الثامن، ربيع ١٩٨٨).
٦  مبلغ علمي أننا لا نملك حتى الآن بحوثًا نقدية وعلمية دقيقة لنظم الطغيان والقهر على اختلافها في تاريخنا الطويل، وإن توافرت الدراسات والقراءات العديدة للنظم المعرفية والفكرية والثقافية، وتنوَّعت حظوظها من الدقة والموضوعية أو من التشوُّش والاضطراب. إننا نفتقد اليوم أمثال هذه الدراسات النقدية والتحليلية للعقل التاريخي والسياسي التي أصبحت بعد المحنة مطلبًا ملحًّا لن يعجز عن تحقيقه القادرون المتمكِّنون، هؤلاء الذين يعلمون أن لمثل هذه الدراسات نماذجَ عديدةً عند الآخرين الغربيين، ومنها دراسات ميشيل فوكو المعرفية (أو الحفرية) للجنون والجريمة وأنظمة الرقابة والعقاب، ودراسات يورجين هابرماس عن تحوُّلات الرأي العام الأوروبي منذ القرن السابع عشر. وأحسب أن الأمر يحتاج إلى تكاتف الدارسين لبلورة فكرٍ سياسي عربي بالمعنى العلمي والفلسفي الدقيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤