تمهيد عام

يضمُّ هذا الكتاب نصوص الحكمة البابلية التي حفظها الزمان على الألواح الطينية بالخط المسماري، واستطاع علماء الآثار واللغات السومرية والأكدية (البابلية والآشورية) — بعد جهودٍ مُضنيةٍ رائعة استمرت زُهاء قرن ونصف قرن — أن يقدموها في أصولها الأولى أو في ترجماتها المختلفة إلى اللغات الأوروبية الحديثة. وهو يتابع نصوص هذه الحكمة على اختلاف أشكالها وأساليبها في أدب وادي الرافدين الذي لم ينفصل عن حضارته الدينية بوجهٍ عام؛ فيبدأ بأهم نصوص الحكمة وأشهرها، وهي النصوص الثلاثة المعروفة في التراث البابلي والعالمي تحت هذه العناوين والأسماء: «لأمتدحن رب الحكمة» (ويعرف أحيانًا باسم أيوب البابلي أو بالكلمات التي يبدأ بها الأصل وهي «لدلول-بيل-نيميقي»)، والحوار بين المعذب والصديق، وحوار السيد والعبد، ثم ينتقل إلى «تجلِّيات» هذه الحكمة في النصائح والنواهي التي كان يُوجِّهها الآباء والحكماء لأبنائهم أو للأمراء الذين عُهد إليهم بتربيتهم، وفي التراتيل والضراعات الدينية لبعض الآلهة، والمناظرات الأدبية والحكايات الخرافية على لسان النبات والحيوان، حتى يصل إلى «الحكمة الشعبية» التي تظهر في الحِكَم والأمثال والأقوال السائرة.

ويبدأ الكتاب بمدخل إلى الحكمة البابلية، يستهل بمحاولة تحديد مفهوم الحكمة وتمييزه عن مفهومها في أسفار العهد القديم وفي التراث العقلي والمنهجي اليوناني الذي اصطُلح على تسميته بالفلسفة. ويتبين من ذلك التحديد أن مفهوم الحكمة لم يقتصر على البراعة في طقوس السحر والعبادة وطرد الأرواح الشريرة من أبدان المبتلين بالمرض والعذاب، وإنما اتسع في نصوصها المتنوعة فاشتمل على معانٍ أخلاقية، وتأملاتٍ كونية، ومشكلات عقلية عبَّرت في صورٍ مختلفة عن رؤية الإنسان في حضارة أرض النهرين للوجود والمجتمع، والخير والشر، والعدل والظلم والمصير.

ويتتبع المدخل إلى أصول «حكمة بابل» عند السومريين١ الذين قدَّموا النموذج الحضاري والثقافي الذي بقي حيًّا مؤثرًا حتى بعد زوال دُولهم، وخراب مدنهم وانقراض شعوبهم. فالمعروف أن البابليين والآشوريين قد أخذوا عن السومريين نظام الكتابة بالخط المسماري، كما نقلوا كنوزًا ثمينة من أدبهم وديانتهم وأساطيرهم في الخلق والبعث، ومن أشكالهم الفنية وأجناسهم الأدبية، ثم طوَّروها بعد ذلك في أعمالٍ أكثر نضجًا وثراءً (وأشهر الأمثلة على ذلك هي ملحمة جلجاميش التي أقام البابليون على أصولها القصصية السومرية بناءً ملحميًّا رائع الكمال والجلال).

بيد أن تفكير البابليين ونظرتهم إلى الحياة والعالم قد اختلفا مع مرور الزمن وتحت تأثير عوامل التغير والتطور السياسي والاجتماعي والثقافي عن تفكير السومريين، كما تغيَّر تفكير البابليين أنفسهم وتصوُّرهم للعالم والقيم، وموقفهم من العلاقة بين الإنسان والآلهة منذ الألف الثانية قبل الميلاد، بعد أن اتخذت الآلهة ملامحَ إنسانيةً واضحة، و«أسقط» الإنسان قيمه وقوانينه الأخلاقية والتشريعية على الكون في مجموعه، وبدأ — كما قلتُ — في التساؤل عن معاني الخير والشر، والعدل والظلم على المستوى الإلهي والكوني والبشري، وعن ذنبه فيما يصيبه من مصائب على الرغم من تقواه وطاعته المطلقة للآلهة، ويتتبع «المدخل» بشيء من التفصيل الأسباب المحتملة لهذا التطور الذي تمخَّضت عنه أروع نصوص الحكمة البابلية المعبِّرة عن المشكلات العقلية والأخلاقية والوجدانية التي اشتدَّت حدَّتها حول الألف الأولى قبل الميلاد، وعن نزعات الشك والحيرة والتشاؤم و[التعب الحضاري] التي تصوِّرها النصوص الأساسية الثلاثة التي سبق ذكرها، والتي تتناول قضية اضطهاد الأبرار الصالحين، إلى جانب معالجتها مشكلة الموت الذي يبدو أنه كان منذ العصور المبكرة هو «الظلم الأكبر» عند السومري والبابلي، لا سيما إذا تذكَّرنا الصورة المظلمة المرعبة التي لازمتهما عن العالم السفلي أو «أرض اللاعودة»، وتفكَّرنا في الصورة الفاجعة المؤثرة التي تقدمها «جلجاميش» — في بعض القصص السومرية اﻟﻤﺠتزأة التي بقيت منها، أو في الملحمة البابلية — عن صراع الإنسان لمقاومة الموت وشوقه الجارف إلى الخلود.

ويحاول الكتاب أن «يقرأ» هذه النصوص المهمة قراءةً متفهِّمة متعاطفة، بعيدة بقدر الإمكان عن التسرُّع في إطلاق الأحكام «القبْلية»، والتعسُّف بفرض الآراء والتفسيرات التي تصبُّها في قوالب وأُطُر ووجهات نظر غريبة عنها؛ ولذلك تلجأ إلى تجربتها تجربةً باطنة تعتمد على استشعار روح النص ودلالته ورسالته من داخله، مع وضعه في سياقه التاريخي والاجتماعي المحدَّد، وتوخِّي الدقة والحذر والالتزام بآراء الثقاة في كل الأحوال. ولا شك أن «الذات» القارئة لم تستطع أن تحقق هذا النهج التأويلي (أو الهيرمينوطيقي) الباطن على الدوام؛ إذ منعها من ذلك عجزها — الذي لا بد من الاعتراف به والاعتذار عنه — عن قراءة النصوص في لغتها الأكدية الأصلية، واضطرارها في بعض الأحيان إلى قراءتها على ضوء المحنة التاريخية والحضارية الراهنة التي تعانيها «الذات» العربية الجماعية والفردية على السواء.

وقد كان من الطبيعي أن تواجَه مثلُ هذه القراءة — التي تتحاشى التعميم وإطلاق الأحكام المتسرِّعة بقدر الإمكان — بصعوبات ومشكلات لا يُستهان بها؛ فهناك مشكلة الإطار التاريخي والحضاري الذي يُفترض الإلمام به قبل الشروع في المحاولة، ومع أن هذا الكتاب ليس تاريخًا لحضارة أرض الرافدين، فإن قراءته لا تستغني عن قدر من الإلمام بتاريخ هذه الحضارة، في خطوطه المجملة وعصوره الأساسية؛ ولذلك وضعتُ في بدايته لوحةً زمنيةً موجزة تُبيِّن أهم عهوده وسلالاته وملوكه، ولوحةً أخرى بمعالم التطور الأدبي والفكري في مراحله التاريخية والسياسية البارزة، مع خريطتين تساعدان على تعرُّف جغرافيته التي لم تتوقَّف عن الحركة والتغير، ومواقع أهم الدول والمدن الأثرية وأسمائها القديمة والحالية، غير أن المشكلات التي تتصل بالمنهج والمفاهيم والتصورات كانت في واقع الأمر أصعب وأدقَّ. ولستُ أدري إن كنتُ قد اهتديتُ فيها إلى الصواب؛ إذ يكفيني — وأنا الغريب عن مجال التخصص اللغوي والأثري — أن أطرحها وأُوجِّه النظر إليها، لعلها أن تثير لدى المهتمين أسئلةً وإشكالاتٍ أخرى تتعلَّق بتراثنا و«هويتنا» وجذورهما الممتدة في حضارتنا وتاريخنا القديم، أو في عصورهما المختلفة ومراحلهما المتتالية بوجهٍ عام (وهي التي لم تزل بحاجة إلى قراءاتٍ تفسيرية أو «تأويلية» متعمِّقة لنصوصها وشواهدها المختلفة في سياقاتها التاريخية والاجتماعية المحددة).

وتتركَّز المشكلات والإشكالات التي رأيتُ من الضروري التعرُّض لها في هذا التمهيد العام في عدد من الأسئلة التي سأحاول الإجابة عنها بقدر طاقتي وعلمي المحدود: حكمة بابل، فلسفة هي أم حكمة؟ مفهوم الأدب ودور الإبداع أو المبدع فيه، معنى التاريخ وهل هو من صُنع الآلهة أو البشر الفانين، والأسطورة — مغزاها عند أهالي أرض النهرين القدماء وإمكانات التفسير والاستكناه لدينا نحن.

وأخيرًا تأتي قضية استلهام هذا التراث القديم ومدى ما تحقق منه عند بعض المبدعين وما يُرجى أن يتحقق.

(١) حكمة بابل: فلسفة هي أم حكمة؟

لو نظرنا في أغلب الكتب التي وُضعت عن تاريخ الفلسفة لوجدنا أنها إما أن تتجاهل الفلسفة الشرقية تمامًا، وإما أن تكتفي بنبذةٍ موجزة عن أهم الاتجاهات والمدارس في الفلسفة الهندية والصينية،٢ مع إغفال «الحكمة القليلة الشأن» عند المصريين وسكان أرض الرافدين القدماء والعبرانيين كل الإغفال، أو تذكُّرها في أفضل الأحوال بصفحة أو فقرة وحيدة أو سطورٍ قليلة، وحجة مؤلفي هذه الكتب أن هذه الحكمة لا تؤلِّف نسقًا مترابطًا يُشبه تلك الأنساق العقلية المتكاملة التي نجدها في بعض المدارس الفكرية في الهند والصين، وأنها لا تسمو إلى مستوى التفكير المنهجي والبرهاني الذي تميز به اليونان، وحاولوا أن يؤكدوا استقلاله عن الاعتقاد الديني والخيال الأسطوري والتعبير الشعري الوجداني.

ولو تأملنا ما قاله كانط العجوز (١٧٢٤–١٨٠٤) في إحدى رسائله من أن جهده الفلسفي كله قد انحصر في محاولة الإجابة عن ثلاثة أسئلة هي: ماذا يمكننا أن نعرف؟ ماذا ينبغي علينا أن نعمل؟ ماذا يحق لنا أن نؤمن به أو نأمل فيه؟ لكي تكتمل الأسئلة الثلاثة في هذا السؤال: ما الإنسان؟ لكان في إمكاننا أيضًا أن نطرح الأسئلة السابقة — بالنسبة لبدايات التطور العقلي للإنسان — على غير الترتيب الذي أراده كانط أو على العكس منه، فلا بد أن الإنسان قد بدأ بالتساؤل عن حقائق الميلاد والموت والمصير أو عن ألغازها، كما تُفكِّر في القوى الخفية التي تفوق وجوده ومعرفته، كالآلهة التي تمثلت له في الظواهر الطبيعية المخيفة، وفي الأرواح والشياطين، وفي قواعد السلوك الصحيح والفعل الأخلاقي أو الفعل النافع، قبل أن يسأل بطريقةٍ نظريةٍ مجرَّدة عن طبيعة الوجود أو طبيعة المعرفة ومجالاتها وحدودها، وإذا كان كل مُفكِّر وكل عصر يُقدِّم إجابات عن الأسئلة الكبرى المتعلِّقة بالوجود والموت والحرية والخير والشر … إلخ؛ فقد قدَّم حكماء بابل أيضًا إجاباتهم. صحيح أنها صيغت بلغةٍ شعرية ومجازية وأسطورية مختلفة عن لغة «المقال» البرهانية، ولكن هذا ليس سببًا كافيًا لتجاهلها والتقليل من شأنها، ولا يسوغ استبعادها وإخراجها من دائرة «التفلسف» بمعناه العام بحجة أنها لم تُصبَّ في قالب «اللوجوس» القياسي والمنطقي الصارم.

ويجدر بنا قبل الخوض في هذه القضية أن نستمع إلى شهادة مؤرِّخٍ منصف للفكر الشرقي القديم حيث يقول: «لا يوجد في هذه الأيام إنسان يستطيع الاعتقاد بأن اليونان وروما، وشعوب أوروبا في العصور الوسطى والحديثة، هم دون سواهم أرباب التفكير الفلسفي، ففي جهات أخرى من الإنسانية سطعت عدة مواطن للتفكير المجرَّد وظهرت أشعَّتها جليًّا، وانتشرت في شتى الأنحاء. وبما أن هذه المواطن لم تكن منفصلة بعضها عن بعض، كما ظُنَّ في الماضي، فيجب الاعتراف بأن تفكير الغرب لا يكفي نفسه بنفسه، وأن تفسيره التاريخي يتطلَّب إعادة وضعه في وسطٍ إنساني واسع النطاق؛ لأن التاريخ الصحيح هو وحده التاريخ العالمي.»٣
ولم يعدم التفكير الفلسفي في الشرق القديم من يُنصِفه ويردُّ إليه اعتباره من بين مؤرخي الفلسفة الغربية أنفسهم، وأقرب الأمثلة على هذا وأكثرها إشراقًا تلك المقدمة التي كتبها الأستاذ «إميل برييه» لكتاب الأستاذ ماسون-أورسيل الذي اقتبسنا منه السطور السابقة، والذي قصد به أن يكون تصديرًا لتاريخ الفلسفة المشهور الذي ألَّفه الأستاذ «برييه» وتتمة له، وقد أشار «برييه» في مقدمته إلى الصعوبة المزدوجة التي تواجه دراسة تاريخ الأفكار وتطوُّرها في الشرق: فالفلاسفة يُعوزهم الإعداد اللازم للقيام بهذا العمل، وعلماء فقه اللغة لا يميلون في أغلب الأحوال لدراسة تاريخ التفكير الفلسفي … ومن الضروري؛ لإدراك أهمية البحث في الفكر الشرقي وفائدته، أن نُعرِّف الفلسفة تعريفًا يتجنَّب الإسراف في التجزئة والتحيز. وإذا كانت الفلسفة، كما سماها اليونان، لم توجد إلا في التراث الإغريقي والتراث الغربي الذي يقوم عليه، فلا الفلسفة، ولا موضوعها، قد وُجِدا بالمعنى الدقيق في الهند أو الصين، ولا — من باب أولى — في مصر والممالك الآسيوية القديمة. ثم يعترف الأستاذ «برييه» بأن عزل التراث الغربي عما أُثر عن الشعوب الشرقية من معارف وتفكير، معناه «الحكم على أنفسنا» بعدم فهم ذلك التراث الفلسفي الغربي نفسه، شأن من يعجز عن فهم نهاية لحن فصل عن بدئه واستهلاله،٤ والواقع أنه ليس من السهل العثور على أصول هذا اللحن، ولكن من الممكن الاقتراب منها لإدراك الظروف والشروط المشتركة للفكر الأوروبي الآسيوي، وفهم الحركات الكبيرة التي جابت العالم من أحد طرفيه للآخر، وهنا يستشهد «برييه» بعدة حقائق ساطعة: تَفجُّر الروح الشرقية عند بعض الفلاسفة السابقين لسقراط وعند أفلاطون نفسه، الأصل السامي لمعظم الفلاسفة الرواقيين، الجو الديني الذي نمت فيه الأفلاطونية المحدثة، غزو المذهب المانوي الإيراني الأصل — والثنائية الزرادشتية من قبله — للعهود الأولى من الفكر الغربي، «ومن ثم يكون من السذاجة الظن بأن كل هذا مرجعه إلى تقدُّم العبقرية الإغريقية تقدُّمًا منطقيًّا حتميًّا.»

ويشير الأستاذ «برييه» إلى ثلاث نقاط جديرة بالاعتبار فيما نحن بصدده من الحديث عن مكانة الحكمة البابلية بوجهٍ خاص في تاريخ الفكر الفلسفي: أولها: أن الإدراك الواضح للروابط والعلاقات المتماثلة بين المذاهب والآراء في الشرق والغرب لا يتم عن طريق الحكم المتعسِّف على أوجه التشابه بينها، بل عن طريق الصلات التاريخية المؤثرة القابلة للمراجعة والتمحيص (وهو مبحث لم نتقدم فيه بصورةٍ جادة إلى اليوم).

وثانيهما: ضرورة الاعتراف، بجانب بعض العناصر المشتركة التي انتشرت هنا وهناك، بوجود عناصر أخرى ذات «أصالة جذرية» تجعلها غير قابلة للانتقال من حضارة إلى أخرى. وإذا كان «برييه» يمثل لذلك بأصالة الفكر الهندي والصيني، فإن المفكِّرَيْن؛ الرافدي، أو المصري القديم لا يَقلَّان عنهما أصالة وخصوصية. والنقطة الثالثة التي تستحق الانتباه إليها هي أن الوثائق والأسانيد التي يعتمد عليها المستشرقون (والمقصود بهم هنا الباحثون في حضارة الشرق وفكره سواء كانوا من الغربيين أو الشرقيين) لا يمكن أن تقارن من حيث طبيعتها بالوثائق والأسانيد التي يستخدمها مؤرخو الفلسفة الغربية؛ فالأولى أدنى إلى التي يستعملها الأنثروبولوجيون ومؤرخو الديانات والعلوم والفنون والصنائع من طقوسٍ دينية، واحتفالات، وأساطير، واختراعات فنية، إلى غير ذلك من العناصر التي تستطيع دون سواها أن تساعد على إلقاء الضوء على تفكير الأقدمين من سكان أرض الرافدين ومصر وإيران، وعلى ما يسميه الأستاذ «ماسون — أورسيل» بفلسفتهم «الضمنية»، والأمر في هذا لا يختلف تقريبًا فيما يتَّصل بالشعوب الأكثر تطورًا في الهند والصين.

وطبيعي أن الأصول المشتركة للتفكير الشرقي والغربي، وعلاقات التأثير والتأثر المتبادلة بينهما؛ لا تنفي الحقيقة الواقعة، وهي أن طريقة النظر و«الاستكناه الروحي» ليست واحدة فيهما. ولعل هذا أن يكون هو السبب في لجوء مؤرخ الفكر الشرقي إلى استخدام كلمات ذات معنًى أوسع وأكثر إبهامًا من كلمة «فلسفة» — المحدَّدة بتاريخها العقلي والمنهجي منذ اليونان إلى اليوم — للدلالة على موضوع بحثه، وهي كلمات الفكر أو الحياة الروحية أو الحكمة … وبلا شك أن دافعه إلى ذلك هو أن معظم النظريات والمذاهب والآراء التي نجدها في الشرق عن الوجود والقيم والنفس وما بعد الطبيعة والمعرفة ذاتها قد نشأ في الأصل عن طقوس دينية واجتماعية، وممارسات روحية وسحرية وعملية، بحيث صارت تلك الآراء والمذاهب مع الزمن صورًا فكرية — منطقية ورمزية، تبلورت فيها تلك الطقوس والممارسات التي امتزج فيها الدين والشعر والسحر والأسطورة والاحتفال، وكان الغرض منها هو «الخلاص» أو «الفناء» والاتحاد بالكائن الأعلى أو بالكل، أو إعادة التجانس والتوافق بين الإنسان والعالم وبينه وبين المجتمع، أو إصلاح نظم السياسة والأخلاق والتربية من داخل الفرد قبل كل شيء، أي تحويل الروح وتغيير الكيان الإنساني بأكمله بصورة فعالة، وليس مجرد المعرفة النظرية لذاتها (كما كانت الحال في فلسفة اليونان في معظم عصورها ومدارسها)، ولا جعل الإنسان هو «مالك الطبيعة وسيدها والمسيطر عليها» (كما حدث في التفكير الغربي منذ عصر النهضة إلى عصرنا الحاضر، مع استثناءات صوفية عرفانية، أو رومانتيكية ووجودية، أو تأويلية «هيرومينوطيقية» لا تُقلِّل بحال من تفوُّق مبدأ السيطرة على العالم الذي أصبحت «الثقافة» الحديثة بقدراتها الهائلة بالنسبة إليه أشبه بالطفل المعجز الجبار الذي يلعب بالنار، أو بالثمرة الحلوة المُرَّة التي نضجت على فروع شجرة الفلسفة والعلم المنهجي).

لا شك أن الأنظمة الفكرية الأولى المتعلِّقة بتركيب الكون وحقيقة الإنسانية قد بدأ تصوُّرها لأول مرة في مراكز الحضارة والثقافة التي ارتفع ضوءها عبر الدول والعصور المتوالية في أرض ما بين النهرين، بالإضافة إلى الحضارتين الكريتية والمصرية اللتين كانتا بالنسبة لها كالمحيط بالنسبة للمركز. فتأسيس المجتمع والدولة، وبزوغ الضمير الإنساني، وإصدار التشريعات والقوانين الإصلاحية، وتصوير الآلهة المرتبط بطبيعة التربة، وتجسيدها لقوى الطبيعة وظواهرها، والوظائف الموكولة لأبناء الآلهة أو المفوضين عنهم من الملوك في تحقيق خصب الطبيعة وتنظيم الأحداث والدورات الكونية، والتضحية بالقربان وارتباطها بتصوُّر خلق الإنسان من الدم والطين، وتطهُّره من دنس الشياطين والأرواح الشريرة للمشاركة في الطبيعة الإلهية، ثم تمرده على الآلهة التي سمحت بشقائه وألمه رغم صلاحه وتقواه وعدم تقصيره في تقديم القرابين وغيرها من فروض الطاعة، وتساؤله بعد ذلك عن طبيعة الخير والشر، والعدل والظلم، والقدر والحرية والخلود الذي استأثرت به الآلهة عندما سوت طبيعته وكتبت عليه الموت؛ كل ذلك قد ساعد على نشأة مشكلات ما بعد الطبيعة عن مشكلات الطبيعة (الأرضية والجسدية). وعن الجهود والطرق النفعية والعملية (في التنجيم والسحر والوزن والكيل ومسح الأراضي) التي تطوَّرت بدورها إلى جهودٍ تجريبية أكثر تنظيمًا في الفلك والطب والحساب والهندسة، أضف إلى ما سبق نصيب الفكر الرافدي في تكوين الفكر والعلم العالمي من الاعتقاد في النظام الكوني وأثره في النظرية الخاصة بالزمن ومظاهرها الفلكية، والإيمان بالقضاء والقدر باعتباره قدرًا كونيًّا ومصيرًا بشريًّا، والفكرة الغامضة عن السماء باعتبارها سقف العالم وأباه الذي ينفذ منه النور وتتساقط منه مع المطر بذور الحياة التي تتلقاها الأرض، وارتباط هذا بالملك الأعلى ابن السماء وأبي الشعب (من «الإنسي» أو «اللوجال»٥ السومري والملك البابلي، إلى الفرعون المصري، إلى الإمبراطور الصيني)، والنظرية الخاصة بالخصب والتوالد الناشئة عن شعائر الفصول والمواسم الدورية، والمتصلة بعقيدة الآلهة الأم او إن شئت بأسطورتها المحورية (مثل ننخور سانج ونينماخ ونيتو ومامي أو ميمي عند السومرين، وأرور خالقة البشر في ملحمة الخلق البابلية، وبلت أيلي أو بعلة أيلي التي ربما تكون هي عشتار البابلية أو أستارتة الكنعانية)، وبدايات نظرية الخلق في أساطير التكوين السومرية وملحمة الخلق البابلية، ونظرية الخير والشر، والنظام والفوضى، والسكون والحركة … إلخ.
ولو أطلقنا كلمة الفلسفة بمعناها الأعمِّ على أية حكمة أو رؤية متَّسقة وشاملة يُكوِّنها الإنسان عن نفسه وعن العالم والمجتمع، وقضايا الأصل والمصير والوجود والقيم، وسائر القضايا التي يتساءل عنها بما هو إنسان يحيا في العالم ومع الناس، ويقلقه الموت وما بعد الموت، أو على الصورة التي حصلها في وعيه ثم عبر فيها بمختلف وسائل التعبير عن تجربته بالواقع في مجموعه؛ لو فعلنا ذلك لكان من حقِّنا القول إن الفلسفة كانت حاضرة في وعي الإنسان منذ أن فرغ من مطالب الحياة المادية ومستلزمات الصراع الطبيعي وبدأ يعقل وجوده ويحدِّد علاقته بالعالم والآخرين، حتى لو تم تعرف مستوى هذا التعقل عن طريق تحليل «القول» الأسطوري أو الشعري، واستخلاص بنية علاقاته الكامنة في صوره واستعاراته ورموزه وصيغه المجازية المختلفة، ويكون علينا في هذه الحالة أن «نجرِّب» هذه الفلسفة الحية في خصوصيتها النوعية وسياقها التاريخي والاجتماعي والثقافي المحدَّد، وأن «نعايشها» و«نستحضرها» في كيانها التعبيري العيني الذي تُجسِّده لغاتها وأساطيرها وملامحها وتراتيلها وأغانيها وحكاياتها وخرافاتها وأمثالها وحكمها وسائر ما أبرز علماء اللغة والتاريخ والآثار من شواهد رؤيتها وحكمتها. ولا بأس على الإطلاق من استخلاص الأفكار المترابطة في هذه الحكمة الحية وبَلْورتها في نسقٍ متكامل، لكن الخطأ كل الخطأ — في تقديري على الأقل — أن نأخذ على الحضارات الشرقية القديمة أنها لم تصبَّ تجربتها بالوجود في قالب «اللوجوس» اليوناني-الغربي كما سبق القول، وأن تبذل الجهود في تلمُّس «البذور الفلسفية التي أينعت فيما بعدُ لدى اليونان.»٦ بحيث يصبح التفكير الأسطوري والشعري والعلمي «العملي» مجرد تمهيد أثَّر تأثيرًا لن يستطيع أحد اليوم أن يُنكِره لهذا «اللوجوس»، وكأنما كان أشبه بتباشير الضوء المرتجفة المتعثرة التي سبقت إشراقة شمس العقل الإغريقي المنتصر، أو كأنما هو الضلع الأول في مثلث جدل الروح أو العقل الكلي المطلق في مسيرته التاريخية و«الدرامية» الهائلة التي بدأت مع حضارات الشرق القديم في الصين والهند فالإمبراطورية الفارسية بما فيها الحضارة البابلية والفينيقية ومصر التي كانت بمنزلة «المركَّب» من العناصر السابقة، والمعبر والجسر إلى حرية هذا الروح أو العقل المطلق ووعيه بذاته بدءًا من اليونان والرومان حتى اكتماله عند الجرمان.٧
لا ضير كما قلت، من البحث عن علاقات التأثير والتأثر، بشرط أن يستند هذا البحث في كل الأحوال إلى قراءة الشواهد والأسانيد الأصلية قراءةً متأنية، مع استخلاص بنيتها الخاصة والحذر من إدراجها تحت بنيةٍ أخرى أو إذابتها فيها أو حتى مقارنتها بها، فالمشكلة مع أمثال هذه البحوث أنها تبذل العرق والجهد لإثبات أصالة الفكر الشرقي واستقلاله بمقاييس «اللوجوس» (العقل القياسي اليوناني) ومفاهيمه ومصطلحاته في أغلب الأحيان، وبهذا تُكرِّس التبعية التي انطلقت أساسًا للتحرُّر من نيرها؛ إذ تظل أسيرة لهذا العقل، مقيدة بنموذجه «المطلق» الذي لم يكن الفكر الشرقي سوى تمهيد أو إعداد له (قد لا يخلو من الروعة والجلال، وإن خلا من الفلسفة بمعناها المنهجي الدقيق)؛ ومن ثم يقعون — عن قصد أو غير قصد — فيما أرادوا نفيه، ويهدرون الطاقة في شيء يهم الباحث الغربي قبل أن يهمنا، ويرفعون «اللوجوس» إلى مستوى المعيار والمقياس، ويتوِّجونه بأكاليل المجد التي هو في شغل عنها بإثبات تفوُّقه الساحق في هذا الميدان نفسه، وفي غيره من الميادين، أي أنهم يرتدُّون إلى جدل «هيجل» المتحيِّز المتعالي في تفسيره للتاريخ، وإلى أفكار «ليفي-بريل»٨ المشهورة عما «قبل المنطق» والعقلية البدائية، وآراء «هنري فرانكفورت»٩ وزملائه عن مغامرة العقل الأولى «قبل الفلسفة»، ورؤاه «الأسطورية» التي سبقت انفصال «الأنا» البشرية عن «الأنت» الطبيعية، واستقلال «الموضوعي» عن «الذاتي»، وزحف العقل المتحرِّر من أغلال المحرمات المقدَّسة.
وعلى الطرف الآخر نجد من الباحثين المخلصين من يبذل الجهد المضني في طرح ثوب «اللوجوس» على الفكر الشرقي لستر «عوراته» الأسطورية؛ فيسمي تعدُّد الآلهة عند السومريين تعددًا للأسباب، ويُقسِّم هذه الأسباب إلى فئتين سلبية وإيجابية، ثم يَقرِنها برموزٍ أخلاقية على الشر والفوضى والعماء من ناحية، وعلى الخير والنظام والنور والبناء من ناحيةٍ أُخرى، وينظر إليها في النهاية نظرةً «اجتماعيةً واقعية» باعتبار أن الآلهة يستهدفون خير الجماعة «عبر ألوان من النشاط الفكري جسَّدتها الأحداث المتلاحقة للتطور التاريخي والمرتبط بعامل الزمن ولا صلة لها بقصص الخرافة.»١٠
ثم يتجه إلى البابليين فيؤكد أن مسألة «الجوهر» قد احتلَّت موقعًا في تفكيرهم، وأنهم قد أدركوا قانون العلِّية إدراكًا واعيًا عندما أضفوا النظرة الكونية الطبيعية على المجتمع الإنساني، وبذلك نجح المفكِّر «التأملي» في العراق القديم في توحيد النظرة الكونية الاجتماعية للحوادث الطبيعية والإنسانية؛ مما دفعه إلى تنظيم حياته الاجتماعية تنظيمًا لم يُعرف في مكانٍ آخر، بحيث جاءت إجاباته على المشكلات الطبيعية والاجتماعية متمتعة بكل مقوِّمات التأمل الفلسفي.١١
والغريب أن الباحث الكريم يستطرد بعد ذلك مباشرةً فيقول: «ومن الخطأ الحكم عليها — أي على تلك الإجابات — بمنظور العصر، أو على ضوء نتائج البحث الفلسفي اليوناني المكتمل على يد الأوربيين.» وكأنه شعر بوقوعه في الخطأ فلم يحاول إصلاحه بل تمادى فيه؛ فقد أخذ يفسِّر مادة النصوص الأسطورية والملحمية والشعرية من خلال المفهوم اليوناني-الغربي عن الفلسفة، وكانت النتيجة أن وضعها في قوالب تأملية وعقلية مجرَّدة من هذا القبيل: جدل الصراع في الطبيعة وثنائية التناقض الأصلي، تفسير الكون على أساس حيوية المادة وفي إطار وحدة وجود فيضية (في ملحمة الخلق البابلية)، التوصل لقانونَين منطقيَّين «هما الذاتية والشبه»، استخدام منهج البحث المعتمد على القياس والتمثيل، والتجربة والتركيب، والاستدلال والاستنتاج، تفسير الظواهر بلغة الزمان والمكان والعدد، القول بالأصل السرمدي للخلق الذي لم يتم من لا شيء، الارتقاء من الطبيعة إلى ما وراءها ومنح المبادئ أو الجواهر قوًى تتناسب ودورها في الكون، إدراك العناصر الأربعة قبل اليونان، تأثير الحوادث الفلكية والكونية على مجرى الحياة في الأرض «بما يقترب من فكرة عالم المثل»، القول بالغائية في الكون والحياة والصراع الجدلي الذي ينتهي إلى الانسجام والنظام، القول بالهيولى الأوَّلية «اللامتعينة واللامحدودة» التي تكمن فيها بذور المخلوقات، أفكار التجسيم والحلول التي جسَّدتها عناصر إلهية في قوى الطبيعة، القول بوجود قوانين ثابتة في الطبيعة والمجتمع توجِّهها وتسمى «الميات»، ورفض المصادفة والعشوائية،١٢ إلى آخر هذه الأحكام التي تحاول أن تثبت وجود «لوجوس» رافدي وتنسى أنها — بالتعبير الهيجلي — قد «رفعته» في «المركب العقلي الأعلى» الذي أرادت منذ البداية أن تثبت استقلاله وتميُّزه عنه.
وقد يبلغ الأمر ببعض الباحثين — على العكس مما تقدَّم — إلى حد نفي «العقلانية» عن الفلسفة اليونانية نفسها، والتأكيد الجازم — الذي لا أظن أن أحدًا يوافق عليه — بأن «أوج العقلانية في الفلسفة هو حضيضها»: إن أوج ازدهار الفلسفة اليونانية متمثلة في تكوُّن المدارس الفلسفية بالمعنى العميق الكامل على يد أفلاطون وأرسطو والرواقية والأفلاطونية المُحدَثة، هو نفسه حضيض العقلانية، والرجوع إلى المسلَّمات نفسها الغيبية للبدائيين، موضوعة بكلامٍ مُنمَّق ونظامٍ فلسفي يَخفى على غير الخبير معدنها الميثولوجي البحت. «فما فكرتا المثل والتناسخ عند أفلاطون وهي كل فلسفته، وما الإله المحرِّك الغائي والعقول الفلكية عند أرسطو وهي عماد ميتافيزيقا، وكذلك ما فكرة أفلوطين عن الفيض، والواحد الذي يلد، والبذور التي تصدرها النفس الكلية إلا تُرَّهات خرافية.»١٣
وواضح من العبارات السابقة أن الهدف الذي يرمي إليه الباحث هدف مزدوج؛ فهو يحاول من جهة أن يثبت أن معظم ما نسمِّيه فلسفةً قديمة، وبعض الحديثة، خارج عن دائرة «الفلسفة» بالمعنى «العلمي» و«العقلي» الذي يفهمه منها، وأن حظ الفلسفة اليونانية من العقلانية، متمثلة في كُبريات فلسفاتها، هو في الجوهر حظ أيٍّ من المواقف البدائية قبلهم. كما يحاول من جهةٍ أخرى أن يبرهن على أن دعوى ابتداء الفلسفة مع اليونان دعوى فارغة، وأننا لو فهمناها بالمعنى التاريخي الشامل لكل المواقف — من مثالية ومادية، وسواء قامت على العلم أم على التأمل والفرضيات الخيالية — لتحتَّم علينا القول إن «فلسفات اليونان الميتافزيقية الكبرى هي مجرد عمل بأن استمد المواد الخام، بل ربما الخطة عمومًا لبنائه الذي يبنيه، من الشعوب البدائية، واعتقادات الحضارات المعاصرة له والمتقدمة عليه.»١٤ وكأن القول بفلسفة «المعنى الشامل لكل المواقف» في حضارة وادي الرافدين يستوجب قبل ذلك نفي «العقل» و«المعقول» و«العقلانية» عن فلسفة اليونان وآرائهم الميتافيزيقية خاصةً؛ لكي يتسنى القول إن شأنهم في ذلك شأن السابقين من «الشعوب البدائية» الذين استمدُّوا منهم مواد البناء؛ وبذلك يُضحَّى بالعقل والعقلانية، ويسلبان من اليونان وغير اليونان، لتأكيد مفهوم أيديولوجي محدَّد لهما، لم يكن من الممكن أن يظهر إلى الوجود بغير ذلك التطور الطويل.

هكذا نجد أنفسنا — كما يقول الناطقة — بين قرنَي الإحراج، فإن نحن بلورنا المفاهيم والقضايا الفلسفية الكامنة في الفكر الشرقي في نسقٍ مشابه للنسق العقلي اليوناني، وقعنا في المبالغة، ووجدنا أنفسنا على حافة «اللامعقول»، وإن حاولنا أن نُجرِّد العقل الفلسفي اليوناني من عقلانيته حتى لا يكون أفضل حظًّا من «اللاعقل» الشرقي الأسطوري، تردَّينا في هاويةٍ مظلمة غابت عنها كل مصابيح العقل. وفي الحالين نخطئ التحليل والتفسير ونفتقد المنهج، نتطلب في الماء جذوة نار، أو نلقي الماء على جذوة نار.

والأمر مع الدين ليس أفضل حالًا مما هو عليه مع الفلسفة، فإذا كنا قد لمسنا بعض المشكلات التي تواجه «بَلْورة» الحكمة البابلية في نسقٍ عقلي، فإن صعوباتٍ مماثلةً تواجه محاولة استخلاص نظام أو نسقٍ ديني (لاهوتي)، وترجع هذه الصعوبات إلى سببين: طبيعة الشواهد والبيِّنات المتوافرة لدى الباحثين، ومشكلة الفهم التي تعوقها حواجز التفسير وقوالب التصوُّر المسبقة.

أما عن الأمر الأول فإن شواهد «الدين» الرافدي (مع ما في استخدام هذا التعميم من مخاطر!) أثرية بقدر ما هي نَصيَّة، والشواهد الأثرية تتمثل في خرائب المباني التي كانت مسرحًا لممارسة الطقوس الدينية، من مزارات ومعابد و«زقورات» (أبراج) معابد وموضوعات متعلِّقة بالعبادة كالصور وأعمال النحت البارز أو القليل البروز والأختام الأسطوانية والتماثيل وأدوات التعزيم،١٥ صحيح أن العلماء قد درسوا هذه الآثار من النواحي الفنية وعرفوا أسماءهم ووظائفها، ولكن مشكلة «المعنى» الكامن وراء الوصف التفصيلي لا تزال مطروحة، والأجوبة عنها لا تزال محجوبة في آفاق يكتنفها الصمت والغموض. والتسرع باستخلاص نتائج فكرية وعقدية، أو بتركيب بناءات أيديولوجية فوقية لا بد أن يكون نوعًا من التبسيط المخل بالعناء الواجب والجهد المضني الذي يتعيَّن بذله للاقتراب من حضارةٍ بعيدة لم نفرغ بعدُ من استيعاب دلالات آثارها ورموزها عند أهلها القدماء، ولم نهتدِ إلى الكشف عن غوامض نصوصها العسيرة بصورةٍ نهائية. وأما عن الأمر الثاني فلا بد أن نسأل أولًا: هل يمكن أن تلقي النصوص ضوءًا كافيًا على هذه الظاهرة المتنوِّعة الوجوه التي نسميها ﺑ «الدين» الرافدي؟ وهل تحمل النصوص المكتوبة وعدًا بالفهم الدقيق لمعنى الدين في زمن أو عصر محدَّد، أو لمعانيه المختلفة باختلاف مراكز العبادة وأنواع الطقوس عبر تاريخٍ امتدَّ أربعة آلاف سنة أو يزيد؟ وهل تستطيع هذه النصوص أن تكشف عن الحقيقة الباطنة للدين في مواقف الموت والألم والمرض وخيبة الأمل التي عاناها الأفراد، أو في كوارث الهزائم وتدمير المدن وتقلُّبات الطبيعة والأوبئة التي واجهتها الجماعات؟ كيف تفاوتت الاستجابات الدينية لهذه المواقف بتفاوت السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي، وكيف قُرئ النص أو كُتب وفُهم في كل سياق محدَّد، سواء أكان هذا النص ضراعة للآلهة، أم أسطورة، أم رقية وتعويذة، أم أغنية أم قصيدة؟ إن النصوص التي توصف عادةً بأنها دينية تنقسم إلى ثلاثة أنواع: التراتيل والصلوات، والأساطير، والنصوص المتعلِّقة بالشعائر والطقوس، وكلها تشارك في تكوين التجربة الدينية وتأدية الفعل الديني، فهل يمكننا أن نستدلَّ من نصوص الأدعية والصلوات على أفكار محدَّدة عن علاقة الفرد بالآلهة، وعلاقته بنفسه وبالمجتمع والكون، وواجباته الروحية والأخلاقية؟ أو هل يمكننا أن نخرج منها بتصوُّرٍ دقيق لمشكلات الموت والخلود والعالم الآخر؟ إن لغة النصوص الأكدية تكاد — من ناحية المعبود — أن تُجمِع على تصوير الألوهية في صورةٍ مخيفة، مع تأكيد النور الساطع الذي يشعُّ من الإله وكل ما هو إلهي، ويبثُّ الإحساس بالرعب في العقول والنفوس، وهي — من ناحية العبد — تلحُّ على طاعة التقيِّ الورع الذي لم يقصِّر في القيام بالطقوس، والوفاء بواجباته نحو خدمة الآلهة وإطعامها؛ انتظارًا للمنفعة المتبادلة التي سترد إليه وإلى أهله، مع حالاتٍ نادرة تردَّدت فيها أصوات الأبرار المبتلين بغير ذنب جَنَوه، وإن عبرت عن سخطهم وذهولهم من الظلم الذي أصابهم أكثر من تعبيرها عن تمرُّدٍ أو تجديفٍ صريحَين.

أما نصوص الأساطير المعروفة التي تروي قصص الآلهة وأعمالهم وصراعاتهم، كما تتناول نشأة الكون وخلق الإنسان وأخبار الهبوط «لأرض اللاعودة» والرجوع منها … إلخ؛ فهي تمثل جزءًا أساسيًّا من الإبداع الأدبي في حضارة الرافدين، لكن هل لها قيمة من الناحية الدينية بجانب قيمتها الأدبية التي لا تُنكَر؟ أم أنها — كما يزعم أوبنهايم — تهمُّ ناقد الأدب أكثر مما تهمُّ مؤرخ الدين، وتُردِّد قصصًا شعرية تغنى بها شعراء البلاط السومريون وقلَّدهم فيها الكتاب البابليون منذ العصر البابلي القديم لإمتاع الملك وحاشيته أو تسلية الجمهور، باعتبارها ذكريات من الماضي البعيد؟

وأخيرًا نأتي إلى نصوص الطقوس نفسها بصيغها التقليدية المحفوظة عن أداء الشعائر، ولوازم التضحية كما كانت تتم في المعابد وفي الاحتفالات برأس السنة الجديدة، وكما كانت تجري على سبيل المثال في معبد «الإيزاكيل» في بابل، بيد أن معلوماتنا عن تاريخ هذه الطقوس وتطورها ومدى ثباتها عبر العصور ومراكز العبادة … إلخ؛ لا تزال شحيحة ولا تكشف عن طبيعة «الحياة الدينية» بمعناها الأصيل، شأنها في ذلك شأن نصوص الطقوس السحرية التي كان الهدف من ورائها هو طرد الأرواح الشريرة أو إيذاء الأعداء وتدميرهم، هذا فضلًا عن استحالة الكلام عن «دين» واحد أو «تجربة» دينية واحدة في حضارة امتدَّ عمرها — كما قلتُ — آلاف السنين، وخضعت لتقلُّبات النشوء والتطور والازدهار والأفول في أماكن وعصور مختلفة، كما تباينت ظواهرها وآثارها الاجتماعية أشدَّ التباين من وجهة نظر الملك والكاهن، والإنسان العادي أو «رجل الشارع» المجهول والمظلوم على الدوام.

لهذه الأسباب كلها يصبح الحذر من التعميم والتفسير الشامل أمرًا يفرضه موضوع البحث المتنوِّع في أبنيته وأبعاده، كما يؤكده تجدُّد البحث العلمي نفسه، ومفاجأته المتوقَّعة وعدم توصله إلى نتائج وأحكامٍ نهائية في فهم النصوص وترجمتها؛ مما يعزز ضرورة إعادة التقويم والتفسير في كل مرة، ومن داخل ظروفٍ ونصوصٍ محدَّدة يمكن أن تثير من الأسئلة أكثر بكثير مما تقدِّم من أجوبة.

(٢) مفهوم الأدب ودور الإبداع أو المبدع فيه

من أصعب الأمور أن يتحدث المرء عن الإبداع في أدب يجهل لغته أو لغاته الأصلية، غير أنني سأقتصر هنا على أقوال بعض الثقاة عنه، راجيًا أن أقترب من جوانب الجِدَّة والأصالة في نصوص الحكمة البابلية بوجهٍ خاص، ومن معنى الحكمة ومغزاها في بعض النصوص الأخرى. ولا بد قبل الحديث عن الإبداع والمبدعين من الإلمام بعدد من الحقائق التي أُجمِلها على النحو التالي:
  • (١)

    تعود بدايات النصوص الأدبية الأكدية (باللغتين البابلية والآشورية) — بعد بدايات أسبق منها بنصوص ووثائق إدارية وغير أدبية بالمعنى الدقيق — إلى نحو منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد توافرت هذه النصوص وتنوَّعت منذ عام ١٨٨٠ق.م. (أي في آخر فترات ازدهار الأدب السومري — بين عامي ٢٠٠٠ و١٨٠٠ق.م. الذي يصعب فصل تراثه عن التراث الأكدي) بحيث يمكن القول إن الإبداع البابلي قد تدفَّق نحو سنة ١٦٠٠ق.م.، ويبدو أن الأعمال الأدبية التي كتبت بعد هذه المرحلة كانت محدودة العدد؛ إذ شحَّت المصادر البابلية أو انعدمت تمامًا فيما يسمى ﺑ «العصر المظلم» الذي امتدَّ من أواخر العصر البابلي القديم إلى الثلث الأخير من الألف الثانية قبل الميلاد. وقد شهد العصر التالي — وهو العصر الكوشي الذي كان عصر التقنين للتقاليد والنماذج الأدبية والعلمية — ظهور سلسلة من الأعمال الأدبية المعبِّرة عن الحساسية الدينية وعن تطوِّر موقف الإنسان من الدين (كالتراتيل ونصوص الحكمة).

    وقد استمر تدوين النصوص السومرية حتى القرن الأول قبل المسيح، أي بعد انقراض اللغة نفسها بقرونٍ عديدة، مع إثبات الترجمة الأكدية في معظم الأحوال بين السطور، كما استمر استخدام السومرية والأكدية في الطقوس والتراتيل الدينية حتى بعد انقراضهما وحلول اللغة الآرامية محلهما؛ أي أن التراث الأدبي ظل حيًّا في عصر الأخمينيين الفارسيين (٥٣٨–٣٣١ق.م.) وعصر المقدونيين والسلوقيين (٣٣٠–٩٦ق.م.).

  • (٢)
    ما زال التأريخ لأدب وادي الرافدين القديم وتتبُّع مراحل تطوره وتحوله يُمثِّل مشكلة تواجهها صعوباتٌ كثيرة؛ فلم تتوافر بعدُ الدراسات والبحوث الكافية عن أجناس هذا الأدب وأساليبه وخصائص نثره وشعره، سواء من ناحية الفن الشعري أو من ناحية العروض، بل إن تمييز الأعمال الأدبية من الأعمال غير الأدبية (الدينية والسحرية والتاريخية والعلمية … إلخ المتداخلة معها) لم يزل كذلك أمرًا شاقًّا لا يخلو من المعضلات، صحيح أن هناك دراساتٍ عديدة عن أعمالٍ أدبيةٍ محددة، كالملاحم والأساطير، وهناك بحوث تناولت جنسًا أدبيًّا معينًا أو ذهبت في التخصص إلى حد تحليل بنية البيت الشعري في النصوص الملحمية مثلًا، غير أن الوقت لم يحنْ بعدُ لتقديم تاريخٍ أدبي بمعناه الشامل والعام.١٦
  • (٣)

    وتواجهنا كذلك مشكلة تعرُّف أصحاب الأعمال التي يمكن الاتفاق على وصفها بأنها أعمالٌ أدبية، وتحديد أسماء مؤلفيها أو «مبدعيها»؛ فقد جرت عادة الدارسين على نسبتها لمؤلفين مجهولين؛ لأن «الشاعر» لم يوقِّع باسمه على هذا العمل أو ذاك إلا في حالات نادرة، وحتى في الحالات النادرة التي توجد فيها أسماء على بعض الألواح، يصعب الجزم بأن الاسم لشاعر أو أديب؛ إذ إن الأرجح في معظم الأحوال أن يكون هو اسم الناسخ الذي دوَّن النص على اللوح الطيني، أضف إلى هذا أن قوائم الأعمال الأدبية وفهارسها المتوافرة بأعداد كبيرة، تنسب هذه الأعمال في كثير من الأحوال لمؤلفين محددَّين، ولكننا نفاجأ في بعض الأحيان بأن أسماء هؤلاء المؤلفين هي في الواقع أسماء آلهة، وبأنها في أحيان أخرى أسماء شخصيات تاريخية أو كتبة ونُسَّاخ سبق تعرُّف أسمائهم من نصوص أخرى، وكثيرًا ما يتعذر على الباحثين تحديد علاقة هؤلاء «المؤلفين» بمعظم الأعمال المذكورة في الفهارس؛ لسبب بسيط هو أن نصوص هذه الأعمال نفسها مفقودة!

    وإذا كان من الصعب تفسير ظاهرة غياب أسماء المؤلفين والأدباء، أو إرجاعها لسببٍ واحد — كالزهد في الشهرة مثلًا أو إنكار الذات والحرص على إخفائها، على العكس من المؤلف والأديب المعاصر الذي طغت عليه النرجسية والتهافت على ذيوع الاسم وبريقه في كل وسائل الإعلام والتوصيل الممكنة والمستحيلة! فلا يجوز أن نستنتج من ذلك أن كل هذه الأعمال الأدبية أعمالٌ جماعية شارك في تأليفها شعراء وأدباء ومنشدون؛ فقد يتَّضح من مضمون النص أن قصيدة أو ملحمةً معينة قد أُلِّفت لمناسبةٍ خاصة أو في موقفٍ محدَّد، وأنها في الحقيقة من وضع مؤلِّفٍ واحد (كما في ملحمة «إيرا» — إله الأوبئة والدمار — المتأخرة التي كُتبت في فترة انتشار الطاعون والاضطرابات في المدن البابلية؛ وذلك لتبشير سكانها بانفراج الشدة وزوال غضب ذلك الإله الذي صمم على القضاء عليهم؛ إذ يذكر المؤلف اسمه في خاتمة القصيدة الملحمية ويزعم أنها أوحيت إليه في الحلم، وأن الإله المخيف — الذي نجح وزيره إيشوم في تهدئة غضبه — سيبارك الإله الذي تُتلى الملحمة في معبده المقدَّس، والملك الذي سيسمعها والمغني الذي سيُنشِدها، والكاتب الذي ستعلمها ويدوِّنها على الألواح …)١٧ ولا يصح أيضًا أن نفهم من تكرار الموضوعات والصور الفنية، والأوصاف والصيغ البلاغية، في أعمال مختلفة تنتمي إلى جنسٍ أدبيٍّ مُعيَّن، أن هذا العمل جزء من تراثٍ شعبي تناقلته الشفاه جيلًا بعد جيل، فعلينا أن نتذكَّر أننا نتعامل مع حضارة قامت فيها الكتابة بدورٍ بالغ الأهمية، وأن القراءة والكتابة كانتا محصورتين في شرائح محدودة من السكان، وبخاصة في طبقة «الكتاب» الذين يفضل تسميتهم «الأدباء» أو «المثقفين». ويمكن أن نتصور أن هؤلاء الكتاب والمثقفين قد تعلَّموا تلك الصيغ والأساليب والموضوعات المكرَّرة ضمن ما تعلَّموه في مدارس التعليم «الأدوبا» أثناء دراستهم للنصوص الأدبية المأثورة وتدرُّبهم على حفظها وتدوينها على الألواح. ولا يصدق هذا على الملاحم والتراتيل الدينية والقصص والأساطير وحدها، وإنما ينطبق كذلك على النقوش الملكية التي اشتملت على «حوليات» الملوك ووقائع حكمهم، وأخبار بطولاتهم وتضرعاتهم للآلهة، والتي ألَّفها الكتاب في العصور اللاحقة (كالعصر البابلي الحديث) متأثرين بالنقوش المدونة في عصورٍ أسبق.
  • (٤)
    وأخيرًا تأتي المشكلة التي أشرنا إليها من قبلُ، وهي افتقاد ما يمكن تسميته «الفن الشعري» في الأدب الأكدي؛ فنحن لا نعرف ما المُثل الفنية التي تطلَّع إليها الأدباء، ولا الغايات التي أرادوا تحقيقها، ومن ثم لا نعرف المقاييس والمعايير التي يمكن أن نزن بها أعمالهم؛ ولذلك يبقى الاختلاف بين العلماء — وبيننا نحن القراء العاديين — على قيمة هذه الأعمال ومستوياتها الفنية أمرًا يحكمه الذوق ويقوم على أسسٍ ذاتية، كما تتفاوت فيه أحكام العلماء والقراء على قدر خبرتهم باللغة الأدبية والإنتاج الأدبي في هذا الأدب وفي غيره من الآداب القديمة. وطبيعي أن يزيد العلم بطبيعة اللغة الأصلية وخصائص الأعمال الأدبية فيها من رهافة الذوق ودِقَّته، ولكن هذا العلم نفسه بالأجناس والنماذج الأدبية، وببنية الشعر وخصائصه وعوامل تأثيره … إلخ؛ لم يزل — كما سبق القول — بعيدًا عن الوصول إلى نتائج نهائية يمكن الإجماع على صحتها، فضلًا عن أن أرض الرافدين المعطاءة لا تزال تدَّخر للباحثين كنوزًا لم يُكشَف عنها بعدُ، وربما تخيَّر من الأحكام السائدة في كثير من هذه الأمور.١٨

    لو أطلقنا اسم «الأدب» على النصوص المسمارية التي لا تنحصر وظيفتها في «الأخبار» والتقرير المباشر، لوجدنا أنفسنا أمام شكلَين من أشكال التعبير يمكن أن يطلَق عليهما ذلك الاسم: الأول شاعري في روحه وأساليبه التي طوَّرتها التقاليد الأدبية وثبَّتتها مع الزمن، والثاني «أدبي» وإن لم تتضح فيه تلك التقاليد بصورةٍ مباشرة أو مقصودة.

ونبدأ بالنصوص المتنوِّعة من القسم الأول فنلاحظ عليها سمات الأداء أو التعبير الشعري، من تشكيلٍ إيقاعي لوحدات جُملها الأساسية والفرعية، أو أبياتها، في مقطوعات يتفاوت طولها بين وحدة من شطرَين أو ثلاثة أو أربعة، أو وحدات يبلغ كل منها عشرة أسطر أو أكثر، والقطع أو تشطير السطر الواحد إلى وحدة مركبة من شطرين، أو مصراعين، يجمع بينهما توازي الأفكار والمعاني وتناظرها أو الترادف والتكرار أو التضاد، واختيار المفردات المنتقاة أو غير الشائعة والموضوعات المتميزة، واعتماد الإيقاع الشعري على تقسيم بنية الجملة إلى وحداتٍ جزئية مكوَّنة من عدد من الكلمات يتراوح بين الأربعة والسبعة، بحيث تؤلِّف خصائصها الصوتية — كما سبق القول — وحدة أو نموذجًا من شطرين يفصل بينهما القطع الذي يدل عليه النساخ في العادة بترك مساحةٍ خالية. والمعروف أن الشعر البابلي يخلو من الروي، ولكن طبيعة النموذج المشار إليه لم تُعرَف حتى الآن ولم تحدَّد بنية أوزانه تحديدًا دقيقًا، كما لم يتأكد بصورة قاطعة إن كان «البيت» يعتمد على النبر أم على طول المقطع أو قصره أو عليهما معًا لترتيب الكلمات ومجموعات الكلمات في داخله، ويبدو — فيما تزعم الأستاذة راينر— أن الوزن لم يكن كميًّا، وأن محاولات تحديد قواعده بعددٍ مُعيَّن من المقاطع أو وحدات النبر لم تسفر حتى الآن عن أي نجاح، ويبدو أيضًا — كما يقول الأستاذ أوبنهايم — أن الربط بين شطري البيت لم يكن يخضع لقواعد الوزن بقدر ما كان يتقيَّد بالتنظيم الشكلي العام من ناحية، وبعلاقات الدلالة والمعنى من ناحيةٍ أخرى،١٩ والمألوف أن تظهر وحدة المعنى لكل بيت في صيغتين متوازيتين يفصل بينهما القطع الذي سبق ذكره، فيتشكَّل معنى الجملة في الصيغة الأولى على نحوٍ إيقاعي مُعيَّن، ثم تأتي الصيغة الثانية لتكرر المعنى نفسه بكلماتٍ مختلفة، تكون في معظم الأحوال أكثر احتفالًا بالصورة والتعبير المجازي بوجهٍ عام، وأكثر ميلًا إلى الصنعة،٢٠ بحيث يتحكَّم نموذج المعنى والدلالة، مع إضافة جُملٍ أخرى إذا اقتضت ذلك ضروراتُ التأثير الأدبي والفني.

ولنأخذ أمثلةً قليلة لتوضيح ما سبق «وتطبيقه» بقدر الإمكان، فالبيت الثاني من «الدوبيت» يجيء مُكمِّلًا أو شارحًا لمعنى البيت الأول، مثل البيتَين الآتيَين من ملحمة جلجاميش:

صرخت عشتار كالمرأة ساعة المخاض،
انتحبت سيدة الآلهة بصوتها الشجي.

وقد يأتي معنى البيت الثاني مغايرًا لمعنى البيت الأول؛ تمهيدًا لتدرج موضوع القصيدة العام، مثل البيتين أو السطرين الأوَّلين من ملحمة الخلق البابلية:

حينما في الأعالي لم تكن السماء قد سميت،
وفي الدنى (في الأسفل) لم تذكر الأرض باسم.

وللتمثيل على وحدة المعنى في الأبيات الأربعة نذكر إحدى «الرباعيات» في ملحمة الخلق أو التكوين السابقة الذكر، وهي على لسان الإله «إبسو» زوج الإلهة «تيامت» أو «تعامة» في تبرير عزمه على القضاء على أبنائه من جيل الآلهة الحديثة التي أقلقت منامه:

أعمالهم آلمتني وأمرضتني،
فلا أستريح نهارًا ولا أطيق النوم مساءً.
لأقضين عليهم وأضع حدًّا لأعمالهم،
لكي يعم الهدوء فننال الراحة.
وأخيرًا يمكن أن نقتبس هذه السطور عن قصة الطوفان البابلية، التي تؤلف معظم اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجاميش،٢١ وكانت أول ما اكتشف منها سنة ١٨٧٢:
حتى الآلهة أصابها الخوف من الطوفان،
تراجعوا ولجئوا إلى سماء «آنو»،
هنالك يرقدون خارج (السماء)، قابعين كالكلاب.
عشتار تُولوِل كامرأة في المخاض
سيدة الآلهة تئنُّ — ذات الصوت المحبوب.

لا شك أنَّ الكثير من أسرار «الشاعرية» في النصوص الأدبية الصريحة للغاتٍ منقرضة، كالسومرية والأكدية؛ لم يزل بعيدًا عن «قبضة» العلم، ولكن يبدو أن «ديناميات» المعنى وسحر الألفاظ يتعاونان على إيجاد ما نسميه اليوم «الوحدة العضوية» التي كان الدور الأكبر فيها للمعنى أو الدلالة التي توجِّه التشكيلات والإيقاعات الصوتية المتنوعة كما سبق القول، ولو سألنا: هل كان هذا «الشعر» مما يُقرأ أو مما يُتلى وينشد في المعابد والقصور والاحتفالات والطقوس بمصاحبة الجوقة والآلات الموسيقية — لما وصلنا لإجابةٍ قاطعة. والمرجَّح أن شكله وتنغيمه كانا أقرب إلى «الخطاب المرتَّل» منهما إلى الإلقاء أو التعبير الدرامي، ولا بد أن هذا الشكل كان يتحكَّم في اختيار الموضوعات والمواقف التي تعد أكثر شاعرية من غيرها. والمهم في النهاية أن شاعرية النصوص — حتى في الترجمات التقريبية التي لجأ إليها أمثالنا من غير المختصين — تتجلى في حالات يمكن أن توصَف بالشاعرية: كالوصف الرائع لصراع مردوخ مع تعامة (في ملحمة الخلق)، والأحداث التي أدت إلى الطوفان الذي قضى على البشر والأحياء باستثناء «أوتونابشتيم» وصحبه في الفلك (سواء في قصة الطوفان كما وردت في اللوح الحادي عشر من جلجاميش أو في ملحمة أتراحاسيس) وبعض القصص البديعة مثل قصتَي آدابا وآيتانا (اللتين سيأتي الحديث عنهما)، وقصة نرجال إله العالم السفلي وزوجته أرريشكيجال وغيرها من القصص الزاخرة بالوصف والتعبير الشاعري الذي كان خليقًا بأن يخلب ألباب المستمعين ويحقق لهم المسرة والمتعة الجمالية (على الرغم من قصورهما الواضح عن وصف تفاصيل الواقع الحي ومفردات البيئة التي تدور فيها الأحداث الأسطورية).

أما عن القسم الثاني من النصوص التي نعتناها من قبلُ بأنها شاعرية بصورةٍ غير مباشرة، فتدخل فيه النقوش الملكية التي وصلتنا من بابل وآشور، بقدر ما تبتعد عن التقرير الرسمي، وتجنح للأسلوب الشاعري في وصف البيئة وبطولات الملوك وتدخُّل الآلهة في المعارك الحربية وصفًا يتسم بالحيوية والتعبير ويتفوَّق في بعض الأحيان على النصوص الشعرية المنظومة، مثل وصف الملوك الآشوريين التالين: سينحاريب (٧٠٤–٦٨١ق.م.) لمعركة هالوله بينه وبين العيلاميين، وسرجون الثاني (٧٢١–٧٠٥ق.م.) لحملته في جبال أرمينيا وغاباتها، وأسرحدون (٦٨٠–٦٦٩ق.م.) لرحلاته الرائعة في الصحاري العربية، وآشور بانيبال (٦٦٨–٦٢٧ق.م.) في حملاته لتأديب بعض قبائل البدو،٢٢ وكلها تؤكد أن النثر الذي كُتبت به هذه النقوش التاريخية يمكن بتوهُّجه وصوره الحية أن يتفوَّق على كثير من الشعر البابلي والآشوري المعاصر له، وهي الحقيقة التي نعرفها اليوم أكثر من أي وقت، هذا الإبداع الأدبي بشعره ونثره يثير التساؤل عن دين البابليين والآشوريين نحو التراث السومري الذي أخذوا عنه معظم موضوعاته ونماذجه وأساليبه الأدبية والفنية،٢٣ وأقاموا على أساسها أدبًا «كلاسيكيًّا» بكل ما تحمله هذه الكلمة الأخيرة من نضج ونضارة، ويكفي أن نطَّلع على أعظم آثار الأدب الأكدي وأكثرها تفرُّدًا، وهي ملحمة جلجاميش؛ لنقتنع بأهمية هذا الإنجاز الأدبي٢٤ (الذي تنسبه بعض الفهارس القديمة لشخص يُدعى «سين-ليكي — أونين» لم يرد ذكره في أي مصدرٍ آخر) ويكفي في هذا السياق أن نتحدث باختصارٍ شديد عن هذا العمل الخالد، بقدر ما يمتُّ بصلة للحكمة البابلية.

أول ما نلاحظه على «جلجاميش» أنها تشبه من بعض الوجوه «الرواية التربوية» التي تتبع سيرة البطل وتقلُّبات حياته وتجاربه التي تؤدي به إلى معرفة النفس والتسليم بالمصير الذي يخضع له سائر البشر. ويلحُّ مؤلف النسخة الأخيرة — أو مؤلفوها — على معنى الخلود الذي راح البطل «المأساوي» يبحث عنه ويطمح إلى تحقيقه من وراء مغامراته المختلفة. ويتضح من قراءة الملحمة أنه لم يلتمسه في الذرية والأبناء — كما يعتقد الناس في الشرق عمومًا — ولا في المنشآت والمباني الضخمة التي سخَّر شعبه لتشييد صروحها — كالسور الهائل المحيط بمدينة أوروك ومعبد إيانا؛ إذ يزهد في النهاية في هذا الخلود بحيث لا يبقى له منه إلا «المجد» والذكر الطيب الذي هو «عُمرٌ ثانٍ» للإنسان (كما عبر شوقي في رثائه لمصطفى كامل). ويتمثل الأمل في هذا النوع من الخلود في وصف العالم الآخر كما يصوَّره اللوح الثاني عشر المضاف إلى الملحمة، حيث يصبح جلجاميش قاضيًا حكيمًا يوجِّه النصح لأرواح الموتى ويحكم على أشباحهم، على نحو ما يحكم رب الشمس «أوتو-شمش» بين الأحياء.

والأمر الثاني الجدير بالملاحظة أن المؤلف يشير إلى حكمة جلجاميش التي اقتنع بها أو استسلم لها بعد أسفاره الكثيرة ومغامراته الخطيرة! عندما يذكر أنه نقش حصاد تجاربه على مسلة حجرية، مما يفهم منه أن الملحمة نفسها ربما كانت هي هذا النقش نفسه الذي ينقله إلى القارئ أو السامع، وسواء أكانت الإهابة بالنقش مجرد حيلة أدبية أم لم تكن (وكأنما تُذكِّرنا بزعم بعض كتاب الرواية الحديثة أنهم ينشرون أوراق البطل ومذكراته أو يثبتون روايات شهود العيان!) فإن دلالتها واضحة على ضرورة تخليد الحكمة في ذاكرة الأجيال عن طريق نقشٍ حجري ينجو من بطش الفناء.

وثالثة هذه الملاحظات أن بطولات البطل — الذي ثلثاه إلهي وثلثه بشري — وكل أمجاده التي توهم أنها حقَّقت له الخلود (كالانتصار على وحش الغابة حواوا أو حمبابا وقتل ثور السماء الذي أرسلته عشتار — ربة الحب المنتقِمة لصدوده عنها — كالعاصفة المدمِّرة على أوروك، ومظاهر العسف والجبروت التي تطالعنا بها بداية الملحمة) لم تفلح في ضمان الخلود، ويبدو أن «وعيه الشقي» بالحقيقة الفاجعة قد بدأ من وعيه بمفارقة اللحظة المأساوية الحاسمة، وهي اللحظة التي أدرك فيها حتمية فناء الإنسان عندما أخذ يُقلِّب جسد صديقه ورفيقه أنكيدو، ويكتشف أنه جامد كالحجر، وميت لم يبق فيه حيًّا إلا الديدان! ولا نريد بهذا أن نقول إن جلجاميش قد سبق أدباءَ وفلاسفةً ومتصوفةً عديدين إلى التنبُّه لقيمة «اللحظة» واعتبارها الخلود الوحيد المتاح للفنانين. ولكن ربما لا نبتعد عن الصواب إذا قلنا إن وعيه المأساوي بحقيقة الخلود قد بدأ من لحظة الموت؛ موت الحب الحقيقي الوحيد الذي جرَّبه مع أنكيدو الذي لم يسبق له أن أحبَّ أو صادق غيره، لا الموت «البيولوجي» الذي طالما لاحظه دون أن يتوقف عنده! ثم ازداد ذلك الوعي عمقًا وإحساسًا بالضياع مع اللحظة الأخرى التي اكتشف فيها أن «الحية الخالدة» قد سرقت منه نبتة الحياة الأبدية «فجلس على الأرض وأخذ يبكي.» صحيح أن مؤلف الملحمة لم يتغلغل في وجدان بطله عن طريق ما نسميه اليوم بالتداعي الحر أو المونولوج الداخلي ليحلل مشاعره أو يسجل مظاهر «التنوير» لديه، ولكنه أول من أشار على كل حال إلى أن حكمة الخلود الوحيدة بالنسبة للبشر هي تقبل «وجودهم-للموت» من ناحية، والتفاني في العمل معهم ومن أجلهم من ناحيةٍ أخرى.

ويتجلى فشل جلجاميش الذريع في الوفاء بشروط الخلود — الذي هو من حق الآلهة وحدهم — في إهماله لحكمة «سيدوري» ربة الحانة التي نصحته بأن يحيا في اللحظة ويستمتع بالمتاح فيها فلم ينتصح، وفي دعوة «نوح البابلي» (أوتنابشتيم) له بمقاومة النوم ستة أيام كاملة فلم يصمد للاختبار، ولم يفطن إلى ضرورة الشرب من «نبع الشباب» الذي أشار عليه ذلك «الخالد الوحيد بين البشر» بأن يستحم فيه ولكنه كتم سره عنه. أخفقت إذن كل المحاولات، ورجع البطل الذي أتعبه الطموح والتهالك على الشهرة والمجد لكي يختم «رحلة حجه» إلى الخلود المستحيل بدموع الحسرة والندم، فهل أراد الشاعر أو الشعراء المجهولون أن يُلمحوا إلى اقترابه من حكمة معرفة النفس والوعي بالحدود البشرية، أم تركوا ذلك للقراء على مر الأجيال؟

ونلتقي بموضوع الإنسان الذي أضاع الخلود بغير ذنب منه (والمذنب بغير ذنب هو البطل المأسوي بالمعنى التقليدي!) في القصة الشعرية عن «آدابا» الصياد، ابن الإله «إيا» والموكل بمعبده في أريدو، الذي اتُّهم بكسر جناحي الريح الجنوبية التي قلبت قاربه أثناء رحلة صيده، واستُدعي للمثول أمام الإله الأكبر «آنو» فنصحه أبوه الماكر الحكيم بأن يلبس ثوب الحداد لكي ترقَّ له قلوب حارسي بوابة إله السماء، وأن يمتنع عن تناول خبز الحياة ومائها عندما يقدَّمان إليه؛ وبذلك ضيع على نفسه فرصة الخلود الذي كتم أبوه سرَّه عنه؛ لأن الآلهة وحدها — كما جاء على لسان ربة الحانة في جلجاميش — قد استأثرت بالخلود:

قدموا له ثوبًا فارتداه،
أحضروا له زيتًا فتطيب به،
نظر إليه «أنو» والدهشة تتملَّكه:
تعال يا آدابا! لمَ لم تأكل أو تشرب؟
لن تمتلك الحياة الأبدية أبدًا …

ونجد الموضوع نفسه في قصة «الراعي الذي صعد إلى السماء» وهو «إيتانا» ملك مدينة كيش والثاني عشر في قائمة أسماء الملوك السومريين بعد الطوفان. كان «إيتانا» قد عقم الولد؛ فراح يبحث عن «نبتة الإنجاب» في كل مكان، وهداه رب العدالة شمس إلى حفرة كانت حية قد حبست فيها نسرًا، بعد أن غدرت بعهد الصداقة بينهما والْتهمت صغار، ويطلق الملك سراح النسر الذي يعترف بجميله؛ فينطلق به إلى حيث يجد النبتة المقصودة في السماء، وعندما تغيب الأرض عن ناظري الملك المحروم من الولد يستولي عليه الرعب والقلق؛ فيقرر الكف عن البحث، ويسقط مع النسر على الأرض مع انتهاء النص وقبل نهاية الأسطورة. والظاهر أن «إيكاروس» السومري ثم الأكدي قد انتهت قصته نهايةً سعيدة؛ إذ تذكر قائمة الملوك السومرية اسم ابنه وخليفته «بليخ»، كما يبدو أن بحثه عن نبتة الخلود لم يصدر فحسب عن نزعة البقاء بعد الموت في ولد يحمل اسمه ويرث عرشه، وإنما كان الباعث الأقوى عليه هو حرصه على تحقيق السعادة لشعبه والأمن والقوة لمدينته، على نحو ما نفهم ذلك أيضًا من مخاطرات جلجاميش وسعيه الدائب لإحراز المجد لنفسه وشعبه.

لن نستطيع بطبيعة الحال أن نتعرض بالتفصيل لنصوصٍ أخرى تكشف عن «الخيال المبدع» في الأدب البابلي، وعن تلاحم الخيوط السومرية مع روعة النسيج البابلي، على الرغم مما ينطوي عليه أغلب هذه النصوص من تأملات عن نشأة الكون وخلق الإنسان وتقدير الآلهة (مثل ملحمتي الخلق، إينوما إيليش وأتراحاسيس، أو الرجل الحكيم الذي يتمكن بمؤازرة إله الحكمة «أنكي» من تجنيب البشر غضب الإله «أنليل» عليهم بسبب ضجيجهم الذي لم يبدأ على أيامنا فحسب، إلى أن يُقرِّر أنليل إرسال الطوفان عليهم للخلاص منهم إلى الأبد، بيد أن أتراحاسيس ينجو هذه المرة أيضًا بفضل نصيحة أنكي، إذ يهمس له هذا الإله المتعاطف مع البشر خلال أعواد القصب ببناء سفينة أو فُلكٍ هائل يحفظ روحه وأرواح الأحياء من البشر والحيوان) ومثل قصة الطائر الإلهي العملاق «زو» الذي دفعه طموحه للقوة إلى سرقة ألواح الأقدار من الآلهة وتجريدهم من سلطتهم وتهديد وجودهم، حتى سلطوا عليه إلهًا آخر (لعله هو نينجرسو في الأصل السومري ونينورتا في النص الآشوري) صوَّب سهامه إليه وصرعه، ثم قصة نرجال إله العالم السفلي وزوجته أريشكيجال ملكته الرهيبة، وقصة هبوط عشتار إلى هذا العالم نفسه وحبسها فيه وإنقاذها بحيلة من حيل إله الفطنة والحكمة آيا/أنكي الذي تمكن من إرجاعها من أرض اللاعودة (أرض لاتاري).٢٥
ولو صرفنا النظر عن الضراعات والتراتيل الموجَّهة للآلهة، باستثناء الترتيلة الرائعة للإله شمش في هذا الكتاب، وعن الصلوات التي كان يتلوها الكهنة المختصون بالتعزيم وطرد الأرواح الشريرة؛ لهبوط مستواها الأدبي بوجه عام وخلوها من أي أثر للإبداع، فلا بد من كلمةٍ موجزة نمهد بها لنصوص أدب الحكمة وشروحها التي يضمُّها هذا الكتاب، فشكوى المعذب البار (لدلول-بيل-نيميقي) لم توضع في الأصل لاستخدامها في الطقوس، على الرغم من تعبيرها عن المشاعر الدينية الصادقة، وهي — كما سيرى القارئ بنفسه — تزودنا بفكرةٍ طيبة عن الجو الاجتماعي والنفسي الذي نشأت فيه، وعن علاقة الإنسان بالآلهة، وتكاد في تقديري أن تكون نذيرًا يتردد صداه الرهيب من ظلمات الماضي: لا يتسلط أحد منكم على أخيه! لا يطغَ بعضكم على بعض! ومع أن بعض العلماء (مثل أوبنهايم) يتحفَّظون على القيمة الأدبية والفنية لهذا النص المهم، فهو — في تقديري المتواضع أيضًا — مناجاة شعرية بالغة التأثير والدلالة على أصول الوجدان الحزين وجذور الوعي بالظلم في الطبقة السفلى من الطبقات المتراكمة لشعورنا الجمعي، أما النص الثاني من نصوص الحكمة، وهو الحوار بين المعذب والصديق، فيبدو أنه كان يتمتع بحظٍ أكبر من الشهرة الشعبية في الألف الأخيرة قبل الميلاد، ربما لقدرته على تجسيد تعاسة الإنسان في حوار حي تتهدج فيه أصوات التمرد المختنق بدموع العجز والتسليم،٢٦ ثم نأتي إلى النص الدرامي العجيب المعروف بحوار «التشاؤم»٢٧ الذي تسري فيه مع ذلك روح المرح والعبث والسخرية، وهو الحوار بين السيد والعبد، الذي يعدُّ من أقدم النصوص الدرامية في الأدب العالمي، وسوف أترك للقارئ أن يستشفَّ من نص الحوار والتعليق عليه ما يشاء من تفسيرات يمكن أن تختلف عن تفسيري (الذي لا أُبرِّئه أيضًا من التشاؤم …)

وأخيرًا فإن المناظرات على لسان النبات والحيوان، والأمثال والأقوال السائرة والحِكم الشعبية، يمكن أن تساعدنا على الحياة مع رجل الشارع المجهول، والتعاطف مع همومه ودعاباته اليومية وسط جبال الألواح التي خصصت لأمجاد الأبطال وأعمال الملوك العظام أو الصغار. ولا شك أن هذه النصوص الشعبية تلطِّف كثيرًا من العاطفية المسرفة والإشفاق المهين على الذات اللذَين تتَّضح بهما نصوص الحكمة السابقة، وربما نجد لها أصداء في حكمتنا الشعبية الغنية بالتهكم والمرارة.

هل أكون بهذا قد أجبت عن السؤال المطروح في بداية هذه الفقرة عن الإبداع في الأدب البابلي ودور المبدع فيه؟ لا أظن هذا؛ فالحديث في هذا الموضوع وفي غيره لا يحرص على تقديم الإجابات بقدر ما يحرص على إثارة التفكير والسؤال، ويكفيه أن يعرض قضية الإبداع الأدبي الذي لا شك في وجوده وإمكان الشعور به — على الرغم من كل المشكلات التي تواجهه — من خلال الترجمات «العلمية» الموثوق بأمانتها ودقَّتها لأقصى حدٍّ ممكن … ولستُ أدري إن كان القارئ سيوافقني في النهاية على القول بأن كتابة تاريخ شامل للأدب البابلي لا يزال أمرًا سابقًا لأوانه، ومع أن العروض الجيدة متوافرة يمكن الاستفادة منها، فإن الصعوبات والإشكالات التي تواجه التأريخ الدقيق لهذا الأدب تقتضي قراءة كل عملٍ أدبي وتفسيره وتذوُّقه على حدة، مع مراعاة عوامل التطوُّر والتحوُّل التي طرأت على الدين والفكر وأوضاع السياسة والاقتصاد والأخلاق، والنظر في علاقة الإنسان بالآلهة والكون والحياة بقدر الطاقة، وبقدر ما تسمح به الدراسات التفصيلية القليلة في هذه الميادين، وعسى أن أكون قد حاولتُ شيئًا قليلًا من هذه المهمة الكبيرة، أو أمسكتُ بخيطٍ واحد من خيوط عقدتها العسيرة.

وفي النهاية لا يفوتني أن أؤكد الملاحظات السابقة في النقاط التالية:
  • (أ)

    لم يكن هدف الإبداع الأكدي هو «الفن للفن»، وإنما ظل مرتبطًا بأغراضٍ عمليةٍ عامة، مثل تمجيد الدين والقوى السياسية الكامنة وراءه؛ ولذلك كان أكثر الأعمال الأدبية يُتلى في الاحتفالات و«التمثيليات» الدينية العامة، أو يُخصُّ لتسلية الملك وحاشيته، أو يُرتَل مع طقوس العبادة والتعزيم التي كانت تُقام لطرد الأرواح الشريرة من أجساد المرضى أو تسجيل أعمال البطولة والبناء.

  • (ب)
    كان الأديب والفنان «صانعًا» أكثر من أن يكون معبِّرًا عن وجدانه أو رؤيته الذاتية، لقد التزم بالقواعد والتقاليد الأدبية والفنية الموحَّدة، وكرَّس فنه لتمجيد الآلهة والملوك وأهداف الجماعة، وحرص على التكرار والتماثل والاطراد والبُعد عن التجديد والتحريف، واعتبر نفسه مجرد ناسخ أو جامع أو صانع وهب جهده لتقليد النماذج المكتملة منذ بداية التاريخ الذي نزلت فيه نظم الملك والشرائع والمعايير المقنَّنة من قِبل الآلهة على البشر، وأوقف مواهبه — كما سبق القول — على نسخها وتكرارها، وتدريب المتعلمين عليها، ومحاكاتها بالقدر الذي يُقرِّبها من تلك الأصول الإلهية المقدسة، ولا شك في أن هذا يرجع إلى حدٍّ كبير لارتباط الإبداع الأدبي والفني في حضارة وادي الرافدين بالرؤية الدينية وإمساك الآلهة بخيوطه، وإلغاء دور الإنسان في صنعه أو الإقلال من شأنه إلى أقصى الحدود، وإذا كان قد حدث تغيُّرٌ أو تطوُّر، يفترضه العقل والمنطق في حضارة امتد عمرها عشرات القرون، فقد اقتصر على تكرار البشر للنماذج الإلهية المكتملة منذ البداية، وانصبَّ على درجة تمثلهم لتلك الأشكال غير التاريخية أو على مستوى دقتهم الفنية والحرفية، وربما يكون هذا هو أحد العوامل التي تفسر تبجيل النصوص السومرية إلى حد التأليف بها حتى العصور المتأخرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، كما تلقي بصيصًا من الضوء على ظاهرة اختفاء أسماء «المبدعين» من الألواح إلا في الحالات النادرة كما تقدَّم.٢٨
  • (جـ)
    كان من الطبيعي أن ينعكس هذا على ندرة الإبداع الأدبي المنبعث من القلب أو غيابه في بعض الأحيان، فمن الظواهر الغريبة في الأدب البابلي أننا لا نكاد نملك شيئًا يستحقُّ الذكر من شعر الحب، ولولا أن أحد فهارس الأغنية يورد السطور الأولى من إحدى الأغنيات٢٩ لذهب بنا الظن إلى تصور انعدام الشعر الوجداني، وهو أمر لا يمكن تصوره. وفي انتظار ظهور نصوص من شعر الحب البابلي يمكن القول إن بعضه قد دخل في التراتيل والصلوات التي تُسبِّح بحمد الآلهة، كما أُدمج بعضه الآخر في النصوص الشعرية المؤثرة من الأدب السومري، وهي نصوص البكائيات على المدن والمعابد المدمَّرة، أو في رثاء الموتى لأنفسهم والتحسُّر على حرمانهم من الزوج أو المحبوب.٣٠
  • (د)
    وفي النهاية نذكر ما يمكن أن يسمى بأدب السيرة الذاتية أو أدب المذكرات الذي نلمس فيه على الدوام أصداءً من أصوات القلب الصادقة، ومن الأمثلة عليه سيرة «أدريمي» (من الربع الثالث للألف الثانية) ملك ألا لاخ٣١ (تل عطشانة بالقرب من أنطاكية) التي وجدت مدوَّنة على تمثاله، وسيرة سرجون الأكدي (من أواخر الألف الثالثة ق.م.) التي تروي حكاية ميلاده الخرافي التي تشبه قصة ميلاد موسى عليه السلام، وسيرة أم «نابونيد» (٥٥٥–٥٣٩ق.م.) آخر ملوك بابل الكلدانيين وأوسعهم أفقًا وأتعسهم حظًّا، ثم سيرة مردوخ الإله البابلي الأكبر. وقد لاحظ العلماء أن بعض هذه السير متداخل مع النقوش الملكية التي تحدَّثْنا عنها من قبلُ، ومن النصوص التنبئية والطقوسية، كما يضم حكايات يمكن أن تندرج تحت أدب القصة أو الرواية القصيرة في الأدب الأكدي، مثل قصص «الخوارق» التي تروي عن بعض الملوك فيما يسمى بأدب الفخر «تارو» (كالقصص التي سبق ذكرها عن سرجون الأكدي أو العظيم (٢٣٣٤–٢٢٧٩ق.م.) مؤسس الدولة أو السلالة الأكدية، وحفيده نارام-سين (٢٢٥٤–٢٢١٨ق.م.) وربما تُبيِّن الكشوف المتجدِّدة أن هذا النوع من قصص الخوارق والأعاجيب كان يمثل أشكالًا أو أجناسًا أدبية مستقلة).

(٣) التاريخ: من صنع الآلهة أم البشر الفانين؟

عرفنا من الفقرة السابقة أن «الإبداع» الأدبي والفني في حضارة بلاد ما بين النهرين قد ارتبط بالرؤية الدينية للتاريخ، وأن الأديب أو الكاتب — الذي اعتبر نفسه مجرد ناسخ أو جامع أو صانع — قد انحصر جهده في محاكاة النماذج الأدبية وتكرار التقاليد والمثل الفنية التي نزلت مكتملة منذ بداية الخلق مع ما أنزلته الآلهة على البشر من نظم الملك والحكم، والسنن والقوانين المقدسة. وطبيعي أن ينقلنا هذا للسؤال عن طبيعة التاريخ الإلهي ودور الإنسان فيه، وأن يتطرق بنا للحديث عن نظم الحكم ذاتها، وهل عَرَفتْ شيئًا مما نسميه اليوم بالديمقراطية أو الشورى، أم ظلت ترزح تحت وطأة التسلط من جانب الآلهة الذين أمسكوا بخيوط الحركة التاريخية، والملوك الذين مثَّلوهم على الأرض ونطقوا الأوامر باسمهم؟ ثم كيف انعكست هذه الرؤية الإلهية للأحداث التاريخية على تكوين المجتمع بطبقاته المختلفة، من الملك وحاشيته وكهانه وكبار موظفيه، إلى رجل الشارع والعبد الرقيق؟ وكيف تطور مفهوم العدل والقانون عبر العصور والسلالات المتعاقبة؟ وأخيرًا كيف أصبحت «الطاعة» هي فضيلة الفضائل؟ وكيف ينبغي أن نفهمها على الوجه الصحيح منذ أن بدأت ظواهر الشك والحيرة والتساؤل، وارتفعت أصوات الاحتجاج والتمرد والمقاومة من منتصف الألف الثانية قبل الميلاد على أقل تقدير؟

كان للآلهة في هذه الحضارة سلطان غير محدود على الإنسان، ينضوي تحته الملك — الذي طالما تفاخر بأنه ابن الآلهة، والرجل العادي على السواء. وكان أهم مظاهر السلطة الإلهية أنها مصدر الملكية التي تنزلها على الأرض، وأنها هي التي تُحدِّد مصائر البشر وأقدارهم وتحتفظ بألواحها في «أعلى مكان من سماء آنو». لقد هبطت الملكية إلى الأرض قبل الطوفان وبعده، وكلما خلا كرسي العرش بسبب وفاة الملك أو أي سببٍ آخر، عادت برموزها الدالة عليها إلى السماء لتوضع أمام عرش كبير مجمع الآلهة وأبيهم الأول، حتى إذا بدأ عهد جديد هبطت من جديد راجعة من السماء.

أما عن المصائر فقد كان الآلهة يجتمعون في مجلسهم الخاص لتحديدها وتثبيتها في مطلع كل عام، كما كان إله الكتابة «نابو» هو الذي يدوِّنها على ألواح الطين، وأما موعد هذا الاجتماع فهو عيد مردوخ الكبير الذي يقام في بابل في بداية كل سنة، وذلك بعد مسيرة الموكب إلى المعبد المعروف باسم «أكيتو» والذي يقع خارج المدينة.٣٢ وقد حدث ذات مرة قبل الخليقة أن سرق هذه الألواحَ طائرٌ خرافيٌّ عملاقٌ هو الطائر «زو» الذي عرفنا قصته من قبلُ، وربما كان الباعث على تصوير هذه السرقة الجريئة — على الأقل في أذهان كتَّابها المجهولين أو في نفوس المستمعين إليها — هو الحسد الذي شعر به الناس نحو الآلهة وسلطانهم المخيف، أو هو الرغبة في مقاومتهم وتجريدهم من أسرار قوَّتهم، حتى ولو تم ذلك على مستوى الخيال الأسطوري الخلاق.

مهما يكن الأمر في تفسير الأسطورة، فالمهم في هذا السياق أن الآلهة كانوا يرقبون عن كثب أحداث الساعة وقضاياها البارزة عند قيامهم بالتحديد السنوي لمصير بابل وأهلها، كما كانوا يؤكدون وجودهم الطاغي في كل مكان، وتأييدهم أيضًا للنظام السائد وسلطاته المستمَدَّة منهم، ومن ثم تصبح «الأوامر-الأفعال» التي يتفوَّه بها الملك من نوع الأوامر التي ينطق بها مردوخ نفسه، ويلتزم مجمع الإلهة بتثبيتها وصونها من أي تغيير أو تبديل (والاعتقاد بأن قول الشيء وتسميته يساوي في الحال فعله أمر مشترك بين سكان وادي الرافدين والمصريين القدماء …) ولذلك كان تحديد المصائر وأسمائها خير ضمان لحماية النظام من الفوضى، وتنفيذ الأوامر (الملكية الإلهية) بمجرد النطق بها أو حتى التفكير فيها، وتوجيه شئون الحكم والمجتمع والدين والحياة بعيدًا عن المصادفة، بل ربما كانت — بالنسبة لطبقة الكهنة على الأقل — ضمانًا واقيًا من التسلط الفردي والتعسف المطلق للملك وأعوانه!

وعلى الرغم من وجوه النقص والتناقض والأخطاء والمبالغات التي شابت الكتابة التاريخية عند البابليين والآشوريين، ومن اكتسابها في العصور المتأخرة (في القرنين السابع والسادس أثناء حكم السلالة الآشورية أو السرجونية وفي عهد الإمبراطورية البابلية الجديدة) صبغة روائية جعلتها في كثير من النقوش الملكية أقرب ما تكون إلى أدب الرحلات، فقد عَرف سكان بلاد النهرين منذ أقدم العصور السجلات التاريخية على اختلاف أشكالها، سواء في ذلك الحوليات التي تُدوِّن الوقائع البارزة حسب التسلسل الزمني، أو القوائم بأسماء الملوك وجداول السلالات، أو العروض والتقارير الموجزة عن حدثٍ معيَّن له أهميته، كبناء معبد أو القيام بحملةٍ عسكرية، ولا شك أن هذه الكتابات تُسجِّل أحداثًا صنعها بشر، ولكنها تنصُّ صراحة على أنها قد تمت بأمر من الآلهة، وعلى أيدي نواب الآلهة، كما أن العروض أو التقارير التي ذكرناها كانت تقدَّم للإله المقيم في أحد معابده، من قِبل نائبه الذي يشكره على تأييده ونصره.

هذا الاهتمام بتسجيل الأحداث الماضية والحاضرة في مئات النقوش والألواح التي وصلتنا، شاهدٌ ناطق على امتلاك الحس التاريخي. بيد أن الاعتقاد بأن جميع الأحداث من تدبير الآلهة وتقديرهم، وأن الآلهة هي التي خلقت أصولها ونماذجها المكتملة مع خلق الكون والإنسان؛ قد أدى إلى إنكاره فكرة الزمن المحدود، ورفض تصور التاريخ بمعناه المرتبط بفعل الإنسان ودوره فيه، أو بمفهوم التعاقب والتطور والتقدم التي نألفها اليوم. ولعل هذا الاعتقاد كان يقوم أصلًا على اعتقادٍ أسبقَ منه أو مرتبط به بأن «المعرفة» وحي وإلهام من الآلهة؛ ولذلك فهي مقدسة، ويجب أن تبقى «سرية» ومقصورة على الصفوة الجديرة بها، وفي مقدمتهم الكهان بطبيعة الحال، الذين لا يهبونها إلا لمن يستحقونها من المتمرنين والمتدربين. ولما كان الوحي أو الإلهام ثابتًا لا يتعرض للتغيير أو التطور، فالشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يفعله معه هو أن «يكرره» ويُنسِّقه ويُنظِّمه، وما دام مصدر المعرفة والتاريخ واحدًا، فإن كل تطوير أو تحسين يلحق بهما ليس نتيجة جهد أو اجتهاد فردي، بل مِنَّة من أحد الآلهة — الماثلين في كل شيءٍ طبيعي أو صناعي — على الإنسان، أو هبة وفضل من أحد نوابه المؤتمرين بأمره على الأرض. ويبقى على الإنسان أن يثبت «طاعته» و«خدمته» لهما بمحاكاة هذه المعرفة الموحَّدة في نماذجها الإلهية المثلى، وتسخير «علومه» — كالتنبؤ والتنجيم والكهانة — في اكتنافه أسرارها، وتفسير بشائرها أو نذرها، وتنفيذ أوامرها أو تجنب أخطارها؛ ولذلك كان فعله «التاريخي» الوحيد هو استعادة ذلك الفعل الإلهي، وانصبَّ جهده في «الزمن» على الحنين الدائم لزمن «سرمدي» فوق الزمن، أي لزمنٍ أسطوريٍّ أو ذهبيٍّ مقدَّس أَنزلت فيه الآلهة النواميس والنظم الحضارية على البشر قبل الطوفان وبعده.

تأثر مؤرخ ما بين النهرين بهذه النظرة، ووضعها نصب عينَيه عندما أرَّخ أحداث بلاده ووقائعها المهمة وأسماء ملوكها وحكامها، فبلاد «سومر» وحضارتها قد خلقتها الآلهة في صورةٍ كاملة لا تقبل التغيير، وهي ماثلة في الحاضر كما كانت منذ القدم وكما ستكون في المستقبل؛ لأن فعل الإلهة ثابت لا يزاد عليه شيء ولا ينقص منه شيء.

إنه يستبعد أن تكون سومر قد مرت بأي «تطورات» تاريخية غيَّرت من شكلها الذي كانت عليه عندما خلقتها الآلهة، فحضارتها مزدهرة منذ أن خلقت، وكأنها في النهاية — في نظر ذلك المؤرخ القديم — حضارة بلا تاريخ.٣٣
ومن المرجَّح أنه لم يطرأ على تفكير أعظم المفكِّرين والمثقفين من حكماء سومر أن بلاده كانت في يوم من الأيام أرضًا يبابًا موحشة، مليئة بالأهوار والمستنقعات، وأنها لم تتحول بالتدريج إلى مجتمعٍ آهل بالسكان، إلا بعد أجيال من الصراع والكفاح عن إرادة وتصميمٍ بشري، وخططٍ إنسانية، وتجارب و«اختراعات» واكتشافات، والنتيجة الحتمية لهذا التصور أن المثقف السومري الذي اتخذ هذا الموقف من التاريخ لم يستطع في أحسن أحواله إلا أن يكون جامعًا للوثائق، ومُسجِّلًا للأحداث أو مصنفًا لها، أكثر منه مفسرًا وشارحًا للحقائق التاريخية.٣٤

ويصدق هذا على النصوص المتأخرة التي ترثي المدن السومرية المخرَّبة فيما يعرف بأدب البكاء على المدن. صحيح أننا لا ننتظر من كُتَّابها أن يهتموا بالعوامل التاريخية التي أدت إلى دمار هذه المدن، أو أن يقدموا تاريخًا لهزيمة سومر ومحنتها؛ لأنهم يبكونها وينعونها في إطارٍ أدبي بعيدٍ عن التاريخ السياسي، ولكنهم في نواحهم على مدنهم — مثل مدينة أور التي سقطت في أيدي العيلاميين — لم يشيروا إشارةً واحدة إلى أن هذا السقوط من فعل الإنسان، أو أنه كان نتيجة أسبابٍ تاريخية أو سببٍ واحد على أقل تقدير؛ فلم يكن الجوهر المدمَّر العاتي، بموجب فهم السومري القديم، إلا جوهر «أنليل» إله العواصف الباطشة، ومُنفِّذ الأحكام التي قرَّرها مجمع الآلهة المسيطر على الدولة الكونية، ولم تكن جيوش العدو إلا الثوب الخارجي الذي ارتداه الجوهر ليُحقِّق نفسه. فالجيوش الغازية، بمعنًى أصدق وأعمق، هي ضرب من العاصفة، عاصفة أنليل الذي نفَّذ حكمًا على أور وأهلها نطق به مجمع الآلهة:

دعا أنليل العاصفة
والشعب ينوح
ودعا رياحًا شريرة
والشعب ينوح
والعاصفة التي أمر أنليل في غضبه،
العاصفة التي تأكل الأرض،
غطَّت أور مثل الثوب وكَسَتْها كالدثار.
في ذلك اليوم تركت العاصفة المدينة،
وكانت المدينة خرابًا
والشعب ينوح.

هكذا تناولت هذه النصوص وغيرها أحداثًا تاريخية وقعت في «الماضي»، ولكنها تحدَّثت عن الآلهة أكثر من الحدث التاريخي ذاته، وتجاهلت الأسباب البشرية الكامنة وراءها لتُبرز أفعال الآلهة وتقديراتها.

ورث البابليون والآشوريون هذا الاهتمام بالماضي عن السكان الأصليين لبلاد ما بين النهرين، وربما يبدو ولأول وهلة أن الاهتمام بالماضي يعود إلى دافعٍ سياسي قومي، وهو رغبة البابليين والآشوريين في تسجيل أحداثه ليكون مرحلةً ضرورية من مراحل توحيد عناصر حياتهم، وتحقيق وحدة حضارية لشعوبهم، والاستفادة من «دروس» الماضي بغية التخطيط للحاضر والمستقبل.

غير أن هذا الدافع السياسي — على الرغم من أهميته — لم يكن هو الهدف الأساسي من وراء الانشغال بتأريخ الماضي. لقد كان العامل الأقدم والأهم هو ارتباط الاهتمام بالماضي بالحياة الدينية لشعوب ما بين النهرين؛ فقد حرص البابليون والآشوريون على العلاقات الطيبة مع آلهتهم؛ ولذلك رأوا ضرورة تعرُّف إرادتهم عن طريق تعرُّف التاريخ الإلهي في الماضي؛ لأن النظر في سلوك الآلهة تجاه الإنسان في الماضي يساعد على إقامة العلاقات الطيبة معهم في الحاضر والمستقبل، والفصل فيما يجلب رضاهم أو يثير سخطهم. ولعل هذا هو الذي يُفسِّر سر اهتمامهم بالكهانة والتنبؤ والسحر والتنجيم التي تطورت مع مرور الزمن إلى علومٍ ثابتة ومزدهرة — لا سيما في عهد البابليين الكلدانيين في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد — وارتفاع شأن الكهان والمتنبِّئين والعرَّافين الذين أنيط بهم الاطلاع على المصائر التي قدَّرتها الآلهة، وتفسير الظواهر الطبيعية والفلكية والعلامات والرموز والأحلام التي تسمح للحكام والأفراد بمعرفة نواياها وأغراضها، وطلب مشورتها قبل الإقدام على بناء سور أو معبد، أو اتخاذ قرار في حرب أو سلم، أو طرد الشياطين والأرواح المؤذية من أبدان المصابين أو من بيوتهم.٣٥

التاريخ إذن يعيد نفسه، وما من جديد فيما يحدث فيه، ويمكن التنبؤ بمستقبل الأحداث إذا عرف ماضيها معرفةً كافية؛ فالكون يسير وفق نظام لا يتغير، والحياة الإنسانية يسودها هذا النظام نفسه، ويضفي على أحداثها الاطراد الدقيق الذي يترتب عليه تكرار الظواهر وتكرار نتائجها في المراحل الزمنية المتعاقبة، ولما كان مصير الأرض وأقدار الناس فيها بيد الآلهة، فمعرفة إرادة الآلهة في الماضي تفيد في التكهن بما تريده في المستقبل. وإذا كان تاريخ بلاد ما بين النهرين قد بدأ في صورةٍ مكتملة مع بداية الخلق، كما بدأت معه الحضارة — هبة الآلهة للبشر — في صورةٍ مكتملة أيضًا مع نزول نظم الحكم أو المُلك من السماء إلى الأرض، فقد ارتبط التاريخ والحضارة بنظام الحكم الذي تعلمه الملوك الأوائل، قبل الطوفان وبعده، من الحكماء السبعة (وهم الآلهة السبعة المقرِّرة للمصائر في مجموع الآلهة)، فالحكم هو الذي أدى إلى ظهور الحضارة، وهو الذي يضمن استمرارها، ودونه تُدمَّر وتنقلب إلى فوضى كما حدث قبل الطوفان عندما تمرَّد البشر على الآلهة وتقاعسوا عن تقديم فروض الطاعة والخدمة لهم؛ فقرروا القضاء عليهم والعودة بهم إلى حالة الفوضى الكونية التي سبقت الخَلْق، ومع ذلك فإن رحمة الآلهة بهم لم تشأ أن تقضي عليهم قضاءً تامًّا؛ فقررت الإبقاء على فئةٍ قليلة تكون بمنزلة بذور للحضارة الجديدة بعد هلاك البشرية الآثمة. وتُحدِّثنا المصادر السومرية بأن الملكية هبطت مرةً أخرى بعد انحسار الطوفان، وأن مملكة «كيش» (تل الأحيمر حاليًّا) وسلالتها الأولى في العصر المعروف بفجر السلالات — في وقتٍ مبكر من الألف الثالثة قبل الميلاد — هي أولى ممالك ما بعد الطوفان، كما كان الملك الراعي إيتانا — الذي سبق الحديثُ عنه — هو أول الحكام التاريخيين بعد الطوفان.

الواقع أن الاعتقاد بتكرار التاريخ الإلهي الذي أُلغي فيه دور الإنسان إلى أبعد حد، لم يمنع مؤرخ وادي الرافدين من إدراك المتغيرات التي أصابت الملوك والممالك والآلهة نفسها، وميزت عصورًا تاريخية على عصورٍ أخرى، وقرَّبت إليه حقيقة الصعود والهبوط السريعين في مصائر الشعوب والحضارات. فقد لاحظ تكرار ظاهرة زوال الأمم والممالك — شأنها شأن زوال الأفراد — وظهور أممٍ وممالكَ جديدةٍ في مراحلَ متعاقبةٍ من الزمان المحدود، وربط هذه الدورات المتتالية لنظم الحكم بما لاحظه في الطبيعة ودوراتها المنتظمة؛ فهنا تجدُّدٌ بعد موات، وخصوبةٌ بعد جفاف، وهناك صعودٌ بعد هبوط ثم انهيارٌ بعد ازدهار، وكما تُبعث الطبيعة حية من الموت بمشيئة الآلهة، كذلك يخضع التاريخ البشري بدوراته المتعددة لإرادتها.

ويبدو أن كُتَّاب ملحمة «جلجاميش» أو جامعيها قد وعوا هذا الدرس التاريخي أو هذه الحقيقة المُرَّة، فالبطل الذي زلزله من الأعماق موت صديقه أنكيدو لم ينطلق بعد ذلك في مغامراته بحثًا وراء الخلود لنفسه وحده، أو رغبة منه في قهر موته الشخصي فحسب، بل لعله قد شعر بأنه إذا تحقق له ذلك فربما يتحقق أيضًا لمملكته؛ فتنجو من المصير الحتمي الذي تنتهي إليه حياة الأفراد والممالك،٣٦ غير أن كل ما لقيه في مغامراته قد أقنعه بعجز الإنسان أمام الموت «فنحن البشر أيامنا معدودات وأعمالنا نسمة ريح.» والحياة الأبدية التي راح يلهث في طلبها لن يجدها؛ لأن الآلهة حين خلقت البشر قدرت الموت عليهم واستأثرت بحياة الخلود، والظاهر من الملحمة أنه قد «عرف» في النهاية أن «صنع الحضارة» هو سبيله الوحيد لتجاوز مصيره الحتمي، وأنه إذا كان قد قضى عليه بالموت «الزمني» أو «التاريخي»، فسوف تسنح له فرصة الخلود الحضاري ببناء أو إنجاز باقٍ، يحفظ ذكره، و«يرفع» وجوده الفردي الفاني — كما سبق القول — في الوجود الجمعي المستمرِّ. وكأنى بجلجاميش — الذي صورت له بطولاته وانتصاراته الهائلة أنه صنع التاريخ وكان له دور فيه — قد سلَّم في النهاية (وبخاصة في حديثه للنوتي أورشنابي بعد ضياع نبتة الخلود الشائكة من يديه) أن تلك البطولات التاريخية زائلة وزائفة، وأن صنع الحضارة هو العلاج الوحيد المتاح لمشكلة الموت. والنتيجة التي نخرج بها من الملحمة التي عرضنا لها من قبل هي أنه لا وجود للتاريخ دون حضارة، وأن الديمومة والاستمرار للحضارة على التاريخ، فكأن التاريخ مُجرَّد، مقدمة للحضارة، بحيث تزول المقدمة وتبقى النتيجة، وكأن الملحمة تتويج للأدب والتاريخ الأسطوريين اللازمنيين، اللذين غابت عنهما الحركة التاريخية والدور الإنساني في التاريخ، كما أنها في الوقت نفسه تحدٍّ لهما ومحاولةٌ مستميتة لانتزاع دور تقوم به الإرادة البشرية وتحاول تثبيته في الزمن المحدود الذي أمسكت الآلهة بخيوطه، فهي تنتهي بالإعلاء من شأن الفعل الحضاري الذي استخلصه الإنسان في مغامرته المأساوية من دورة التاريخ الطبيعية والإلهية التي أنكرته، ولعلها في النهاية أن تكون أول محاولة في تاريخ البشرية لإثبات أن التاريخ المقترن بالحضارة لا يمكن أن يستغني عن الإنسان، وربما أشارت من بعيد إلى المقولة التي نردِّدها اليوم كثيرًا، وننسبها حينًا إلى ابن خلدون (١٣٣٢–١٤٠٦م)، وحينًا آخر إلى فيكو (١٦٦٨–١٧٤٤م) ومابهس (١٨١٨–١٨٨٣م) من بعده، وهي أن التاريخ من صنع البشر.
قد يوحي الانطباع العام الذي نخرج به من الحديث السابق عن السلطات غير المحدودة للآلهة والملوك بأن الحياة في بلاد الرافدين قد خلت في عصورها القديمة مما نسميه اليوم ﺑ «الديمقراطية» أو حكم الشورى، لكن التسرع بالتعميم هنا غير جائز، فهناك مصادر كثيرة تشير إلى أن هذه الحضارة قد عرفت صورًا من هذه النظم في فجر حياتها التاريخية والسياسية،٣٧ ويعتقد بعض المؤرخين أن هذا قد تم نحو منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، عندما تزامن فهم النظام الكوني بوصفه نظامًا من الإرادات الفردية المعبِّرة عن القوى الطبيعية في صورة مجمعٍ إلهي أو «عائلة» أو دولةٍ كونية مع بداية فترة الكتابة الأولى، وظهور الشكل الأساسي للحضارة في جانبها الاقتصادي، واتساع القرى القديمة وتحوُّلها إلى دول-مدن موحَّدة حول المعبد، وبرز نظامٌ سياسي جديد على صورةٍ ديمقراطية بدائية أو مشاعية، محورها مجلس عام من جميع الأحرار البالغين الذين تركزت فيهم السلطة السياسية العليا، فضلًا عن مجلس شيوخ يدير شئون الحياة في الفترات العادية، ويسلم السلطة المطلقة في أوقات الحروب والأزمات لملك أو حاكم ديني (كان يطلق عليه لقب إين ثم إنسي) ويمكن عند الضرورة أن يسحبها منه.
ويبدو أن هذا النظام «الديمقراطي» قد مر بأول أزماته في ظل مملكة «كيش» أولى ممالك ما بعد الطوفان، وفي عهد ملكها الأسطوري «إيتانا» الراعي الذي سبق ذكره (في مرحلةٍ مبكرة من الألف الثالثة قبل الميلاد)، إذ نزلت «الملكية» مرة أخرى على هذه المدينة بعد أن كانت الآلهة الغاضبة قد سلبتها منها وسلطت عليها الطوفان، وتتجلَّى مظاهر هذه الأزمة التاريخية في السلطة المحدودة التي سمحت بها الآلهة لهذا الملك، وغياب مجلس الشيوخ الذي كان يضفي على الحكم تلك الصبغة الديمقراطية التي عرفتها المدينة من قبلُ. ولما كان التاريخ — تكرارًا مستمرًّا للأحداث والأزمات على السواء، فقد كان الضمان الوحيد لاستمرار الحضارة بعد ذلك هو إنشاء هيئة تشترك مع الملك في الحكم؛ حتى لا ينفرد بالسلطة المطلقة التي ينتج عنها الفوضى وتمرُّد البشر على الآلهة، ومن ثم تسليط الطوفان عليهم! ولذلك كان تصور الكون بوصفه دولة أو مجمعًا عائليًّا، وفهم الدولة الأرضية باعتبارها صورة من الدولة الإلهية، من أقوى الأسباب التي ربطت سلطة الحاكم الأرضي بالسلطة الإلهية المسئول أمامها، وأخضعت حكمه الأرضي لسلطة مجلسٍ جديد هو مجلس الشيوخ الذي يحدُّ من سلطانه المطلق ويكون رقيبًا عليه.٣٨ ويكفي أن نتذكَّر في هذا الصدد تحذير شيوخ أوروك (الوركاء حاليًّا) لجلجاميش من مغبَّة الإقدام على مغامراته الخطيرة بقتل حواوا أو خمبابا حارس غابة الأرز الرهيب، ومحاولاتهم قبل ذلك (في القصة السومرية جلجاميش وأجا — أو أكا) لثني عزمه عن الانتقام من «أجا» ملك مدينة كيش ومقابلة تهديداته بإخضاع «أوروك» بالتعقل وإيثار السلامة بدلًا من الحرب. ويغتاظ جلجاميش من موقف مجلس الشيوخ؛ فيلجأ إلى مجلس المحاربين الشبان ويعرض عليهم ضرورة القتال وأخذ الثأر، فيؤيد المجلس رأيه. ويبدو من سياق القصة أن جلجاميش نجح بحكمته السياسية في مصالحة ملك كيش وفك الحصار الذي كان قد ضربه حول أوروك، وأن هذا النجاح كان من أسباب ارتفاعه في نظر الأجيال التالية إلى مصافِّ البطل الأسطوري الذي تشهد عليه الملحمة الشهيرة.٣٩

هل خلت الحياة، فيما تلا ذلك العهد القديم، من صور الشورى التي عرفناها؟

يبدو أن أزمة الحكم الفردي وجبروت التسلُّط المطلق للملوك أصحاب الإمبراطوريات الكبرى بعد ذلك لم تكن في أحد جوانبها إلا انعكاسًا لأزمة الحكم الإلهي نفسه وتضاؤل حظ الآلهة في مجمعهم من الديمقراطية؛ فقد زالت المساواة التي تمتعوا بها بعد اضطرارهم إلى تفويض «مردوخ» القوي الشاب بالدفاع عنهم وحمايتهم من قوى الظلم والعماء (راجع ملحمة الخلق البابلية)، ثم تتويجهم له بعد انتصاره؛ مما ترتب عليه انفراده بالسيطرة المطلقة، وتحوله من بعدُ إلى الإله البابلي الأكبر أو الإله القومي للإمبراطورية (منذ عهد السلالة البابلية الأولى ١٨٩٤–١٥٩٥ق.م.)، وانفراد الملك البابلي تبعًا لذلك بالحكم، واستغناؤه عن أصحاب الشورى ومجلسهم. وقد تكرر الأمر نفسه في فترة ازدهار الدولة الآشورية وانفراد إلهها آشوري بالسيطرة على الآلهة المحليين، بحيث لم يكتفِ بأن يكون هو الإله القومي لآشوري، وإنما أصبح هو الإله الخالق، أبا الآلهة جميعًا وواهب الملك والرخاء والانتصارات المدوِّية في الحروب الوحشية (وبخاصة في عهد الإمبراطورية الآشورية الحديثة، وفي ظل السلالة «السرجونية»، في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد حتى القضاء عليها نهائيًّا بسقوط نينوى سنة ٦١٢ق.م.).

بيد أن هذا النظام التعسفي في جوهره لم يخلُ في الحقيقة من بعض مظاهر حكم الشورى، ولن يتسع المقام لتتبُّع هذه المظاهر في العهود المختلفة منذ العصر البابلي القديم أو عصر سلالة حمورابي. وحسبنا أن نقول: إنَّ حُكَّام الأقاليم وكبار الموظفين الإداريين الذين كان يُعيِّنهم الملك، كانت توجد إلى جانبهم جمعيات إقليمية أو مجالس بلدية مؤلَّفة من أعيان البلاد وشيوخها الذين يُسدُون النصيحة إلى هؤلاء الحكام، وربما تمكَّنوا من إيقافهم عند حدودهم إذا تجاوزوها، أو على الأقل من شكواهم إلى الملك. وقد استطاع هؤلاء أن يحتفظوا للولايات البابلية بقسطٍ لا بأس به من الحكم المحلي حتى في أيام سيطرة الآشوريين.٤٠ ويمكننا أن نتصور أشكال الحكم الملكي المطلق، بما حوته من مظاهر التعسُّف والظلم والحرمان مما نسميه اليوم بالعدل أو المساواة في الحقوق. إذا نظرنا في تكوين «البنية» الاقتصادية والطبقية والاجتماعية التي قام عليها حكم ملكي مطلق تسنده الامتيازات الإقطاعية والثروة التجارية، ويحميه توزيعٌ حكيم للقوة القانونية. ولا بد أن كبار الملاك، ومَن حلَّ محلَّهم بالتدريج من التجار الأثرياء وكبار الكهنة المستثمرين لأراضي المعبد وأملاكه وأمواله، هم الذين أعانوا الدولة على الاحتفاظ بنظامها الاجتماعي، كما كانوا هم الواسطة بين الشعب ومَلكه. ومع أن هذا كله يحتاج إلى دراساتٍ أعمق وأكثر تفصيلًا ليس هذا هو مكانها، فيمكننا أن نتصوَّر ثقل جبال الظلم والمعاناة التي رزحت فوق صدور طبقتي «المساكين» (المشكينو) والعبيد الأرقَّاء ومعهم «رجل الشارع» العادي الذي ودع كل أمل في هذه الدنيا تحت وطأة الطبقة العليا (الأحرار ومن فوقهم من الكهنة والحاشية والبلاط)، كما يئس من كل أمل في آخرةٍ سماها «كور» و«أوراللو» و«أرصتو لاتاري»، أي أرض اللاعودة التي ستعيش فيها روحه في عذاب مُقيم، وجوعٍ وظلام لا تنفذ فيه بارقة أمل أو رجاء.٤١

وحتى لا نتصور أن حياته على الأرض كانت تحت رحمة الظلم المطبق عليه من كل ناحية، فينبغي علينا الآن أن ننظر في مفاهيم الحق (كيتو) والعدل (ميشادو) والقانون التي تطورت هي الأخرى تطورًا ملحوظًا، ربما لم يؤدِ هذا التطور المقترن بالجهود الجادة في سبيل الإصلاح القضائي والاجتماعي إلى إزالة الشعور العام بالكآبة أو الاكتئاب الذي يخامرنا ونحن نتابع الكثير من مشاهد الحياة اليومية في بلاد بابل وآشوري (كما عرضها الاشتاذج، كونتينو في لوحاتٍ نابضة بالحياة)، ولكنه سيساعدنا على تأمُّل قضية العدل بصورةٍ بعيدة عن التحيُّز والتسرُّع والتعميم.

(٤) العدل والطاعة والميزان

إذا كان «الحب» هو غاية سعي الإنسان في الغرب، «فالعدل» هو مطلب الإنسان الشرقي ومنتهى أمله، وإذا نحن قلنا «الحب» فقد أشرنا ضمنًا إلى البذرة التي غرسها شعب الإغريق العجيب في تربة الحضارة الغربية؛ فنمت شجرتها، وأزهرت، وأثمرت حرية وفكرًا عقليًّا وعلمًا منهجيًّا وشغفًا بالمعرفة لذات المعرفة، وقلقًا دائمًا ومغامرة لا تهدأ ولا تتوقف عن البحث عن الحقيقة. أما إذا قلنا «العدل» فقد وضعنا أيدينا على أصل الشقاء المتجدِّد في نشدان الأمل البعيد، ولمسنا جذور الشجرة اللعينة التي لم نزل في الشرق نبلو المر من ثمرها منذ آلاف السنين: قهر الحاكم للمحكوم وخوف المحكوم من الحاكم، غدر بعضنا ببعض وتسلُّط بعضنا على بعض، حلمنا الأزلي بالحق وفشلنا في التوصل إلى «حقنا» في حياةٍ كريمة أو سوية تليق بالإنسان (ولا أقول حياةً حرة أو مبدعة!) …

طبَع القلقُ والشك والتشاؤم روحَ الإنسان وشخصيته في أرض النهرين وعلى مدار تاريخها المدوَّن الممتد لما يقرب من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد (مع استثناءاتٍ قليلة تتجلَّى في صورٍ نادرة من الفن الساخر والأدب الهازل، ولا تقلل بحال من ذلك الانطباع الدرامي أو المأساوي …) ويرجع هذا — في أحد أسبابه القوية على أقل تقدير — إلى الشعور المستمر بالخطر والإحساس بالتهديد الذي لازم الإنسان في دويلات المدن المتصارعة، وتعرُّضه للهجرات والغزوات المتلاحقة من الشرق (سامية) أو من الشمال والشرق (إسبانية وهندوأوروبية) وتقلُّبات البيئة التي لم تكن فيضانات نهرَيْها الخالدَين ولا رياحها وعواصفها المخيفة رحيمة به، بجانب التعدُّد والتنوُّع الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي لم يسمح بالاستقرار والتطور المطَّرد المتجانس بالقياس إلى حضارة وادي النيل (التي غلب على تاريخها السياسي وجود حكومةٍ مركزية صرَّفت شئون البلاد من أقصاها إلى أدناها، ومن دولتها القديمة إلى دولتها الحديثة، باستثناء فترةٍ محدودة من عمرها الطويل (٢١٨٥–٢٠٤٠ق.م.) تزعزعت فيها أركان الدولة والمجتمع، وتُركت للمفسدين واللصوص والمجرمين، قبل قيام الدولة الوسطى (٢٠٤٠–١٧٦٥ق.م.)، وذلك في أكبر ثورة عرفها التاريخ المكتوب وجاءتنا منها أجمل نصوص الأدب المصري القديم مثل شكاوي القروي الفصيح، ونذر الحكيم أيب أور، وحديث المتعَب مع الحياة مع روحه …) ولم يقف الأمر — بالنسبة للإنسان العادي — عند الشعور بالخطر والتهديد من جانب البيئة والحكام والآلهة، وإنما تعدَّاه إلى الإحساس بالظلم في حياته وبعد موته، وفقدان الأمل في سيادة قيم الحق والعدل في هذا العالم أو في العالم السفلي (ومن ثم الاندفاع وراء اللذة في بعض الفترات التاريخية على الأقل لا سيما في القرون المتأخرة التي شهدت مجد «بابل» وازدهارها مع انحلالها وغرقها في الموبقات، وكأن انتهاب اللذات والمباهج — استجابة للنصيحة القديمة من ربة الحانة سيدوري لجلجاميش المعذب بطموحه للمستحيل — هو الوجه الآخر لليأس من معنى الحياة وعدالتها).٤٢

غير أن هذا الإحساس بالخوف واليأس والظلم لا ينبغي أن يخفي عنا الحقيقة، والحقيقة أن هذه الحضارة العظيمة قد عرفت جهودًا صادقة في إقامة العدل والقانون، وكفِّ المظالم عن البسطاء والمساكين، والانتصاف للفقير والأرملة واليتيم من عدوان القوي والمستغلِّ اللئيم. وأول الأسماء الجديرة بالإشادة بها هو اسم «أوركاجينا» إنسي أو حاكم مدينة لجش السومرية (تقع بالقرب من تلو واسمها الحديث هو الهباء) من أواخر القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، الذي تتمثل فيه النزعة الإنسانية الحقَّة لأول مرة في تاريخ البشرية، حرص هذا الرجل على رفع المظالم التي حاقت بالناس «منذ القدم في سالف الأزمان» على أيدي الموظفين «البيروقراطيين» الذين استغلُّوا مناصبهم في فرض الضرائب الباهظة على أبناء لجش؛ إذ كان جباة الضرائب منتشرين في كل مكان، «من حدود نينجرسو — وهو إله هذه المدينة وحاميها — حتى البحر.» كما استحلُّوا لأنفسهم كل ما وقعت عليه أيديهم دون وازع من ضمير ولا خوف من عقاب. وها هي بقايا النصوص التي وصلتنا من تشريع «أوركاجينا» تنطق بما اقترفت أيدي أولئك الموظفين: «كان الموكَّل بالملاحين يسرق السفن، ورئيس الرعاة يسرق الحمير والأغنام، والموكَّل بمصايد الأسماك يسرق الأسماك، وإذا ابتعت أغنامًا كان المتنفِّذ يأخذ أحسنها لنفسه، وإذا حفر ابن رجلٍ فقير حوض سمك، كان المتنفِّذ ينهب سمكه وينجو من العقاب.» والأدهى من ذلك أن الضرائب التي حاصرت الإنسان في حياته لاحقته بعد مماته؛ إذ كان يحرم على أهل الميت أن يواروا جثمانه التراب قبل أن يؤدُّوا للموظفين مقادير من الشعير والخبز والجعة تترك بيته ينعى من بناه.

استيقظ ضمير العدل لأول مرة على يدِ هذا المُصلح النبيل، ولا ندري إن كان قد استطاع أن يحقق ما زعمه عن تحرير أبناء «لجش» من الربا والاحتكار والجوع والسلب والقتل، وتنفيذ العهد الذي قطعه على نفسه في حضرة إلهة «ننجرسو» بألَّا يقترف رجلُ سلطةٍ إثمًا قط في حق أرملة أو يتيم. فالمهم أن الوعي بالظلم والقلق في سبيل العدل الإلهي والكوني والاجتماعي قد أخذت ناره المجيئة في التوقد والاشتعال في تشريعاتٍ متتالية وسلالات وعصورٍ متعاقبة، من تشريع «أورنمو» (٢١١٢–٢٠٩٥ق.م.) حاكم مدينة أور٤٣ إلى تشريع «لبيت عشتار»٤٤ (حكم من نحو ١٩٣٤–١٩٢٤ق.م.) حاكم مدينة إيسين في العصر المعروف بعصر إيسين-لارسا (نحو ٢٠١٧–١٧٦٣ق.م.) إلى قوانين إيشنونا٤٥ التي ترجع إلى نحو سنة ١٨٥٠ق.م.، إلى شريعة حمورابي الشهيرة،٤٦ وبالأخص قانون القصاص الذي ظهر فيه لأول مرة (النفس بالنفس والعين بالعين — راجع المدخل إلى الحكمة البابلية في هذا الكتاب). ونظرةٌ واحدة إلى مواد هذه الشريعة (التي بلغت ٢٨٢ مادة) تُبيِّن صدق المثل القائل إن العبرة بالتطبيق، فمعاملة العوام — في قانون القصاص — مختلفة كل الاختلاف عن معاملة السادة الأحرار، كما أن معاملة العبيد والأرقَّاء أدنى وأسوأ:
إذا فقأ سيدٌ حرٌّ عينَ سيدٍ آخرَ حرٍّ، تفقأ عينه،
إذا كَسر عظمةَ سيدٍ حر تُكسَر له عظمة،
وإذا فقأ عينَ رجلٍ من العامة أو كسر له عظمة،
فعليه أن يدفع «مينا» من الفضة.

(المينا يساوي ٦٠ شاقلًا أو ما يعادل كيلوجرامًا واحدًا.)

صحيح أن قوانين هذه الشريعة قد صانت معظم حقوق «رجل الشارع» العادي من الطبقة المتوسطة بين الأحرار والعبيد، ولكن الشكوى لم تنقطع من فساد المحاكم والقضاء والقضاة، ولم تتوقف نصائح الحكماء بعدم التردد على المحاكم، وإطفاء لهب الخصومات وتجنب «سفرها المغطاة» … (راجع نص النصائح الحكيمة في هذا الكتاب، من سطر ٣١–٤٨). ولم تترسخ فكرة العدالة باعتبارها حقًّا من حقوق الناس بغير تفرقة بينهم في الجزاء والعقاب تبعًا لوضعهم الطبقي والاجتماعي، بل إن «الظلم الأكبر» الذي سيطر على نفس الرافدي منذ أقدم العصور وحاول جلجاميش ملك أوروك (حكم نحو سنة ٢٦٧٥ق.م.) أن يقهره بسعيه الخائب إلى الخلود؛ هذا الظلم الأكبر قد تراجع أو تضاءل بالقياس إلى نوعٍ آخرَ من الظلم الذي استفحل خطره منذ أواخر الألف الثانية قبل الميلاد (أي أثناء وما بعد العصر الكاشي من نحو ١٥٧٠–١١٥٧ق.م.) الذي كان على الإجمال عصر بؤس وقنوط وتزمُّت «سلفي» في كل الميادين … وشهدت عليه أروع نصوص أدب الحكمة البابلية (التي يُرجَّح أن تكون قد نشأت في حدود هذا العصر أو دُوِّنت فيه على أقل تقدير) وهي نصوص تصرخ بمشكلة الذنب والعقاب الذي يتحمله الأتقياء البررة بغير ذنب يستحقون عليه ذلك العقاب، ووصل الأمر إلى حد فقدان معنى الحياة والسخرية من كل القيم التي انتفت قيمتها، بل أوشك أن يقع في هوة التجديف على الآلهة نفسها وتحميلها مسئولية الظلم الذي فُطِر عليه الإنسان عندما سوَّته وجَبَلت طبيعته من الطين ودم إلهٍ مذبوح، ومن الشر والكذب والعدوان، حتى لقد ترددت هذه العبارة السومرية الأصل في نصوص بابلية عديدة: لم يولد لأمٍّ طفلٌ بغير إثم أو خطيئة …

غير أن هذا القلق بقضية العدل والظلم لم يستطع أن يهز أركان الإيمان بالحكمة الإلهية الخافية عن عقول البشر ومداركهم المحدودة، ولم يزعزع من اعتقاد الإنسان بضرورة التسليم بإرادة الآلهة، ولا من الواجب الذي يفرض عليه خدمتهم وتقديم القرابين لهم، والالتزام بالعقد أو العهد القائم بينه وبينهم منذ الخَلق الأول.

وبقيت «الطاعة» هي القيمة الكبرى، والفضيلة العليا، والمبدأ الأسمى الذي يوجه حياته وتفكيره وسلوكه، ويسري في أقواله وتضرعاته وأمثاله وحكمته الرسمية والشعبية، ولم يتخلَّ الإنسان عن واجب الطاعة حتى في أوقات المحن الفردية والجماعية التي دفعته إلى التشكك واليأس، وصوَّرت له أن الآلهة الكبرى أو الآلهة الخاصة قد تخلَّت عنه وعن عائلته، وهجرت مدينته و«ضربتها بقبضتها»، وتركتها نهبًا للصوص والمجرمين أو للغزاة المتوحشين. وإذا كان قد رفع صوته بالاعتراض والاحتجاج — على لسان بعض المثقفين الحساسين أو «المغتربين» — فقد كان لا يلبث أن يعترف في النهاية بأن الإله الأكبر — سواء أكان هو أنليل أم مردوخ أم آشور — قد رضي عنه وقبل توبته ورفع قبضته عنه.

لنتوقف هنا قليلًا ونسأل: هل صحيح أن الطاعة هي «القدر» الذي أطبق على السومريين، وطوَّق الأكديين الساميين طوال العصور المتعاقبة، وأنها لم تزل — على حدِّ تعبير أحد مفكرينا المعاصرين — هي «المرض العربي»٤٧ الذي لم ننجُ منه إلى اليوم، ولا يُنتظَر أن ننجو منه قبل أن يتغير وعينا وشروط حياتنا وأوضاعنا المادية والمعنوية ونتعلم أن التمرد وقول «لا» هو القيمة الحقيقية والفضيلة العليا والأساس الذي لا غنى عنه للحياة الحرة المستنيرة؟ وإذا كان «ميزان» العدل قد اختل واضطرب في أيدي الآلهة والملوك والحكام والقضاة المهيمنين على أقدار سكان وادي الرافدين القدماء، فلماذا لم يظهر هذا الرمز المرتبط بالعدل في حكمتهم وأدبهم وسائر الشواهد الباقية على حضارتهم بصورةٍ كافية؟

نبدأ بالسؤال الثاني فنقول إنه وجد بصورة ضمنية في إقرار عددٍ كبير من الملوك والحكام بتكليف الآلهة لهم بسنِّ التشريعات والقوانين الكفيلة بإقامة العدل بين الناس، وتحميلهم مسئولية رعايتها والسهر على حمايتها وتنفيذها، فها هي ذي الإلهة السومرية «نانشة» إلهة مدينة «لجش» تقول إنها:

تواسي اليتيم ولا تهمل الأرملة،
تعرف ظلم الإنسان للإنسان
أم اليتيم التي تعنى بالأرملة،
وتنشد العدل لأفقر الناس
الملكة التي تأخذ اللاجئ إلى حجرها،
وتجد ملجأً للضعيف.٤٨

بل إن النصوص لتذكر أنها كانت تقوم في ليلة رأس السنة من كل عام بمحاسبة البشر، وتصبُّ جام غضبها على وجه الخصوص على:

كل من سلك سبيل العدوان واغتصبت يده ما ليس له … (؟)
من تخطَّى حدود النظم المقرَّرة ونقض العقود والعهود،
من نظر بعين الرضا إلى مواطن الشر،
من بدَّل بالوزن الكبير الوزن الصغير،
من بدَّل بالكيل الكبير للكيل الصغير،
من أكل ما ليس له ولم يقُلْ «أكلته»،
من شرب ما ليس له ولم يقُلْ «شربته»،
من قال لآكلن ما حرم،
من قال لأشربن ما حرم …

وبقيت فكرة الوزن والميزان مرتبطة بالشئون العملية والتجارية، ولم تصبح رمزًا من الرموز العقلية والحضارية حتى بعد أن أوكلت مسئولية العدالة لإلهها الأكبر وراعيها الأول، وهو إله الشمس «أوتو-شمش» الذي كان أحد الآلهة الكونية (الفلكية) الكبرى عند البابليين، وواهب النور وكاشف الضر والسر، وراعي الفقراء والتائهين والمعوزين وكل ذي نفس بلا استثناء … لقد كان ضوء «شمش» يراقب القضاة ولا يرحم المرتشين والذين يحيدون عن جادة العدل في أحكامهم (راجع نص الترتيلة للإله شمش):

تجعل القاضي الخرب الذمة يرسف في القيود والأغلال،
والذي يقبل هدية ولا يقيم العدل تُنزل به العقاب.
أما من يرفض هدية، وعلى الرغم من ذلك يقف في صف الضعيف،
فإن شمش يسعد به وسوف يطيل حياته.
والقاضي النزيه الذي يصدر الأحكام العادلة،
يسيطر على القصر ويحيا مع الأمراء.٤٩
ويتابع «شمش» التجار وينذر المطففين في الكيل والميزان:
إن التاجر الذي يلجأ للغشِّ في الميزان،
ويستخدم نوعين من الموازين (أو الأثقال) فيخفض من (…)
يخيب أمله في الكسب ويضيع [رأسماله]
والتاجر الأمين الذي يزن بالقسط
يقدم له كل شيء بالحق (…)
والتاجر الذي يغش في وزن الغلة،
ويقرض [الغلة] ويطفِّف في الوزن إلى الحد الأدنى،
ومع ذلك يطالب بالثمن الباهظ
ستنزل عليه لعنة الشعب قبل أن يحلَّ أجله،
وإذا طالب بتسديد الثمن قبل الموعد المتفق عليه
فسوف يؤخَذ بذنبه
لن يملك وريثه حق التصرف في ملكه،
ولن يستطيع إخوته أن يضعوا أيديهم على ضيعته.
 [أما] التاجر الأمين الذي يعدل في وزن «الغلة» ويضاعف من إحسانه،
فسوف يُسرُّ به شمش ويطيل عمره،
ويزيد من أفراد عائلته ويضاعف ثروته
ومثل مياه ربيع لا يتخلف لن تفشل ذريته.
(من سطر ١١٢–١٢١)

هكذا اتفق شمش ونانشة — على الرغم من البون الشاسع بين إله يفيء السماوات ويبدد ظلام المناطق العليا والسفلى، وإلهة دويلةٍ صغيرة محدودة المساحة والقدرة — على حماية الأرملة واليتيم والمستضعف الفقير، وإنزال العقاب بالظالمين والقضاة المرتشين والتجَّار المنحرفين، أي على تحقيق العدل — ولو من الناحية النظرية — لكل الناس. لكنهما وغيرهما من الآلهة الكبرى والآلهة الخاصة أو الشخصية التي تتولى حماية الأفراد، لم يمسكوا بميزان العدل والحقيقة في أيديهم، واكتفوا بمراقبة الموازين في أيدي الناس. ومثلما بقيت عدالة الأرض مهدَّدة على الدوام بمظالم القضاة وفساد الحكم والكهنوت والإدارة، ظلت عدالة السماء كذلك أبعد ما تكون عن العدالة المطلقة في نظر البابلي القديم، وألحَّ عليه هذا الشعور بعد أن أصبح اضطهاد البررة الصالحين أمرًا متكررًا كل يوم. وإذا أضفنا إلى هذا أن الأمل المؤجَّل والعزاء المرتجى من هذه العدالة في حياةٍ أخرى لم يكن أفضل حالًا من الأمل والرجاء في هذه الحياة، فلم يقلل إيمانه الغامض بالحياة الأخرى من قسوة الإحساس «بالظلم الأكيد»؛ لأن صورة هذه الحياة قد ظلَّت كما رأينا صورةً مشوشة مختلطة، وبقيت مصدر الاكتئاب والقلق والرعب الفظيع. ومما زاد من خوفه تلك الصور التي اطلع عليها «أنكيدو» في حلمه الذي رواه لصديقه جلجاميش ولازمته فيما يبدو جيلًا بعد جيل: «دار الظلمة، البيت الذي لا يخرج منه من دخله، الطريق الذي لا يرجع منه من سلكه، المنزل الذي حرم ساكنوه النور، التراب طعامهم والطين قُوتهم، ويُكسون كالطير بأجنحة من الريش …» وإذا كانت تظهر في بعض النصوص إشاراتٌ مبهمة إلى وجود نوع من المحاكمة للموتى، كانت تتم في قصر «أريشكيجال» ذي البوابات السبع، فإننا لا نجد أية تفصيلات لهذه المحاكمة، ولا نعثر على ميزان للعدالة في يد آلهة العالم السفلي أو في أيدي قضاتها. ثمة إشاراتٌ أخرى إلى أن الإله شمش كان يحاسب الموتى باعتباره راعي أرض اللاعودة وحامي حمى العدالة، ولكن تنقصنا التفصيلات الدقيقة مرةً أخرى، كما نفتقد الإشارة إلى الميزان. وإن كان لنا أن نفترض على أية حال أن من يصدر الحكم في صالحه يثاب على ذلك بأن تنعم روحه بحياةٍ راضية، وتنال ما تشتهي من مأكل ومشرب.

ولكن لماذا نفتقد رمز الميزان؟ وما الداعي للبحث عن شيء لم يوجد على الحقيقة في هذه الحضارة؟ الواقع أنه لو قُدِّر للميزان أن يتحوَّل من أداة قياس أو حساب تجارية إلى رمزٍ ذي أبعاد ودلالاتٍ شاملة — كما حدث في حضارة مصر القديمة التي ارتبط فيها لمئات السنين وفي مختلف النصوص والصور والنقوش «بماعت» أو «ماعتي» رمز العدل والصدق والاستقامة، والحق والقانون الذي يقوم عليه الوجود، والنظام الذي يُوجِّه حركته — لقدم للناس عزاءً عن قسوة الموت وظلمه، وأملًا في عدالة لم تعرفها دنياه. وليس هذا من قبيل المقارنة بين الحضارات؛ لأن مثل هذه المقارنة فاسدة أصلًا كما أكدتُ أكثر من مرة، وإنما هو نوع من التوضيح لحقيقةٍ أكبر من أن تكون مجرد شعورٍ غامض، وهي أن عذاب الشك والقلق والتشاؤم الذي سيطر على حياة الناس في أرض الرافدين منذ منتصف الألف الثانية على أقل تقدير — لم يكن ليسمح بوجود رمز الميزان أو غيره من الرموز المشعَّة بمعاني الأمل والاستبشار، فضلًا عن الصورة المخيفة لأرض اللاعودة، والإحساس الملازم بالإثم أو الخطيئة «الأصلية» التي تحمل الآلهة مسئوليتها منذ أن سَوَّوْا طبيعة الإنسان، وحمل هو نفسه كل تبعاتها وآلامها.

وأما عن السؤال الثاني الذي طرحناه فالجواب عنه قريبٌ ميسور؛ فالدين يقوم على طاعة المخلوق للخالق، والطاعة تقوم على الثقة والإيمان والاطمئنان لرحمته وعدله، ولو رجعنا إلى أصل الكلمة لوجدناها تدلُّ على الدينونة للديَّان، والإقرار له بالتعظيم والإجلال والحمد والعرفان، كما تدل في أصلها اللاتيني الذي اشتُقَّت منه في اللغات الأوروبية الحديثة على «إعادة الربط» religio-religare؛ ربط النسبي بالمطلق، والأرضي بالسماوي، والمتناهي المحدود بالأزلي الأبدي، أو توثيق علاقة الجامح الضال، والتائه السائب من جهة بالأصل والأساس، والسبب والسند من جهة أخرى، وذلك عن رضًا واقتناع واختيار، لا عن خوف أو طمع أو اضطرار. وطاعة من هذا شأنه لا يمكن أن تكون عبودية بل تعبُّدًا، ولا إفناءً بل تفانيًا، ولا خنوعًا بل علوًّا، ولا إلغاءً للذات بل تأكيدًا لهويتها وحُرِّيتها وحقيقتها؛ بهذا تصبح الطاعة أداء لواجب مُحبَّب، وآية على الشعور بالاحترام والالتزام، ودليلًا على العلو والتحرر، والرقي والتحضر. وفي هذه الحالة لا يجوز القول إن الطاعة مرضٌ عربي؛ لأن الطاعة — منذ عهد البابليين والكنعانيين والمصريين القدماء وعرب الجزيرة إلى يومنا الحاضر — قد كانت ولم تزل هي مكمن قوة العربي، والمصدر الأكبر لقوَّته الحقيقية، لكن العبارة المذكورة تكون صادقة كل الصدق إذا قُصد بها الطاعة القائمة على الخوف والطمع، لا على الثقة والإيمان، وإذا أريد بها الإقرار بالعبودية لشخص أو شيء أو وضعٍ زمنيٍّ محدود بحكم طبيعته؛ هنا يصح القول إن التمرد والاحتجاج وقول «لا»٥٠ هي القيم العليا والفضائل الكبرى التي لا غنى للعربي عن الإيمان والعمل بها، إذا أراد أن يُغيِّر نفسه وظروف حياته وواقعه، التي أصبحت أزماتها ومشكلاتها حديث كل لسان، وفي هذه الحالة يمكن القول إن الطاعة الخائفة ليست مرضًا عربيًّا وحسب، وإنما هي المرض ذاته، والرذيلة والخطيئة التي لا تُقاس بها رذيلة أو خطيئة.

(٥) الأسطورة في أرض النهرين وتفسير متجنٍّ

على الرغم من أن الكاتب السومري والبابلي كان شديد الحرص — كما رأينا من قبلُ — على إخفاء اسمه وشخصه، فلا نستطيع أن نتصور أن ذلك كان زهدًا منه في كل رغبة في الوصول إلى القراء من جيله والأجيال التالية؛ فالكتابة مفهوم متضايف مع القراءة، ولو أخذنا «الكتابة» بمعناها الأصيل لوجدناها «معاصرة» على الرغم من ألوف السنين التي تفصلنا عنها، يستوي في ذلك أن نقرأ لكُتَّاب يعيشون معنا ونعيش معهم، أو لكُتاب فارقونا قبل قرون وقرون … ﻓ «الكلمة» حاضرة، أو ينبغي أن تكون حاضرة عند من يعرف كيف يقرأ (يستوي في ذلك أيضًا أن يكون ما يقرؤه كتابة على الطين، أو نقشًا في الحجر، أو حروفًا مدونة على بردية أو مطبوعة في كتاب …) وماذا نقرأ في الكلمة قديمة كانت أو حديثة، أسطورية أو عقلية أو تقريرية؟ نقرأ فيها «نفسنا البشرية» بصورة من الصور، فهمنا للعالم والآخرين «من أشباهنا وإخوتنا» كما يقول بودلير، تصوُّرنا لذواتنا وعلاقتنا بها وبما طبعته أختام الزمن «الأسطوانية» وغير الأسطوانية عليها، نقرأ فيها ما أردناه نحن البشر وما نريده على الدوام؛ تجاربنا في الماضي، همومنا في الحاضر، أحلامنا الشاخصة لمدن المستقبل، حسراتنا على ضياع الجهد والتعب، وإصرارنا على مواصلة السير رغم العثرات. كل الكلمات التي نستخرجها من ذاكرة الزمن قد نقش عليها أثر الإنسان وظله، ليس مهمًّا أن تكون هذه الكلمات قد كُتبت بالصورة أو بالصوت أو بهما معًا، ولا فرق بين أن تكون بالخط المسماري (الإسفين) الهيروغليفي، بالآرامي أو الإغريقي أو المسند والنبطي، وأن تُكتب من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين — بل ليس من الضروري أن تكون كتابة بالصورة أو الحرف، فقد تكون نقشًا أو رسمًا على جدار، تمثالًا أو نحتًا بارزًا أو قليل البروز، هرمًا أو مصطبة أو معبدًا أو سورًا أو قصرًا أو حتى مقبرة حُفظت فيها الجثث والكنوز، فهذه كلها «كلمات» أو بالأحرى «رموز» (والمعرفة والكتابة لم تفقدا أبدًا طابع «السرية» و«الرمزية» في حضارات الشرق القديم) وهي تخاطبنا وتسألنا، وربما تتحدانا وتدعونا أن نعرفها كما نعرف أنفسنا، يصدق هذا على كل كتابة في كل حضارة، فما بالك إذا كانت الحضارة حضارتنا، والكُتَّاب أسلافنا وأجدادنا، بحكم الانتماء العرقي والتاريخي والجغرافي والحضاري؟ إن ما كتبه هؤلاء «الأجداد» في حضارة منطقتنا «يقول» لنا شيئًا أو أشياء، وكثيرًا ما يتعلق هذا القول بالموضوعات والأفكار نفسها التي ما زالت تشغل عقولنا أو تؤرق ضمائرنا بصورٍ وصيغٍ مختلفة، والقول يجيئنا عبر السنين الطوال من وراء «حُجُب» تغطيه، صور واستعارات ورموز وتركيبات لغوية ودلالية معقَّدة، وأسماء وأحداث مجهولة تحفل بها الأساطير والملاحم وحكايات الحيوان والنبات، والتراتيل والأغاني والترانيم، والحِكم والأمثال والرسائل والسجلات التاريخية والنقوش الملكية والوثائق والعقود والبيوت … إلخ، وجميعها تُعبِّر بمختلف الأساليب عن «قول» الإنسان في سياقٍ تاريخي واجتماعي وفكريٍّ معين، أي عن تصوُّره للعالم والمجتمع، وفهمه للذات والآخرين، ومعرفته وتعبيره عن هذه المعرفة. وكل تحليل للغة هذا القول ومضمونه — على صعوباته وغوامضه التي لا حصر لها، وبخاصة حين يكون النص قديمًا وبلغة منقرضة — هو في الحقيقة النهائية تحليل وفهم لأنفسنا ووعينا في طبقاته وأقنعته وأشكاله المختلفة. والهدف الأخير هو «معرفة أنفسنا» معرفةً أعمق، وهي معرفة لن يُتاح سرها — الذي لا يستنفد أبدًا — إلا لمن يُقبل عليها بغير «قبليات» مسبقة، ويتعاطف معها ويستحضر أو يستقرئ ما تقوله عن طبيعة أنفسنا وغاية إنسانيتنا منذ أقدم عصورها، لعلها تكشف عما أردنا أن نعرفه عنها عبر الزمن وفي ثنايا الوعي الدفين (بشرط واحد هو امتلاك الأدوات الضرورية لهذا التحليل والتفسير).

كل ما سبق يدعونا لدراسة الأسطورة — هذا الموضوع المشتبك مع الدين والفن والحياة الاجتماعية والثقافية في شتى مظاهرها — بوصفها وسيلة للمعرفة والفهم والتفسير العقلي للعالم، لا بوصفها حكاياتٍ شعريةً وتفسيراتٍ خرافيةً سابقة على العقل والعلم والمنطق، أي تحليل ونقد «العمل المعرفي» الذي تحقَّق في الأسطورة وتحولاتها المختلفة في الدين — الذي تُمثِّل مركز الثقل فيه — والأدب والفن والعلم نفسه (الذي كاد يتحول منذ بدايات العصر الحديث إلى أسطورة تصورت خطأ أنها صفَّت الأسطورة، ولم تفطن — إلا بعد أن استيقظت على إنجازات التقنية وأخطارها — إلى أنها قد بعثت أسطورة من نوعٍ جديد …).

هكذا تصبح الأسطورة شكلًا ضروريًّا للتفكير في كل العصور، يدخل في جدل أو حوار مستمر لا ينفصل عن أشكال التفكير العقلي والعلمي (يكفي مثلًا أن نتأمل أسطورة جلجاميش أو بروميثيوس وامتداد نماذجهما الأولية والجمعية في أشكالٍ معرفية مختلفة إلى يومنا الحاضر …)، وهكذا تنفتح أمامنا آفاقٌ جديدةٌ واسعة في حوارنا مع الإنسان، أعني مع أنفسنا وما تريده وما أرادته على الدوام من معرفتها بذاتها وبالعالم ومحاولات تغييرها، ويبقى الماضي حاضرًا فعَّال الأثر في حاضرنا ومستقبلنا لو أحسنَّا «تذكُّره» وتجربته واستحضاره، هي مهمةٌ علمية وحضارية في وقتٍ واحد، بغيرها لن يتسنى لنا أن «نعرف» الذات الممتدة في أغوار الماضي-الحاضر، والغافلة فيما يبدو عن المستقبل الذي يندر أن تُفكِّر فيه وتعمل له؛ لأنها تتركه للمصادفة التي تأتي أو لا تأتي بالوعود أو الكوارث. إن هذه الذات «الماضية» تظلُّ حاضرة في كل أبعاد الزمن وأقنعته ومراياه، ولو أهملناها لكان شأننا شأن من يحاول أن يعرف الشجرة والثمرة قبل أن يعرف البذرة والنواة — وكيف لنا أن نعرف ما نحن عليه وما سوف نكونه بغير أن نعرف ما كُنَّاه؟

الحوار إذن مع الأسطورة في تاريخنا الحضاري هو حوار مع «تحولات» ذاتنا و«ثوابتها» وتصوراتنا لها عبر الأديان والنظم والعصور، ولا بأس علينا أن نراها في مرايا «الآخر» الذي سبقنا إلى تحليلها والكشف عن أسرارها، سواء بعلمه اللغوي والتاريخي والأثري الدقيق، أو بتفسيراته الفكرية والفلسفية المتباينة، ولقد أشرتُ من قبلُ إلى أمثلة من هذا التفسير، وأستأذن القارئ في عرض تفسيرٍ معاصر أعتقد أنه — على الرغم من شموله ونفاذه — قد حاد عن جادة الحق والإنصاف.

إذا كانت الأساطير الإغريقية قد أضفت على معظم آلهتها ملامح إنسانية، انعكس عليها تعاطفهم مع البشر أو عداؤهم لهم، وإذا كنا نعترف بأن بعض أبطال هذه الأساطير قد جسَّد «الوجه والقلب الإنساني» بكل عذابه أو بكل حنينه (كما نرى في الثائر «نصف الإلهي» بروميثيوس الذي تمرَّد عليها ثم عوقب أشنع العقاب باسم الإنسان ومن أجله، أو في الشاعر الأسطوري «أورفيوس» الذي تغنَّى بأشواقه لزوجته وحبيبته، وحمل لهفته عليها إلى العالم السفلي ليفقدها بسبب هذه اللهفة نفسها) إذا صح هذا في جملته، فربما نميل إلى الظن بأن آلهة الحضارات القديمة في الشرق الأدنى (المصرية والرافدية والسورية والحيثية … إلخ، كما نقرأ عنها في الأساطير ونتأمل صورها وتماثيلها وأطلال معابدها وأبنيتها الضخمة …) قد فقدت كل ملامح الإنسان حتى أصبحت غير إنسانية، وتعالت عليه بجبروتها وقسوتها وجموحها وشهوتها للانتقام حتى صارت فوق الإنسانية.

والمفكر الذي نتناول تفسيره في هذا الحديث٥١ يزعم أن الآلهة المصرية والبابلية تبدو فوق الإنسان؛ لأنها على التحديد غير إنسانية، وسواء أكانت برءوس حيوانات أو اتخذت هيئة الكواكب، فقد احتقرت لحم الإنسان ودمه وتجرَّدت منهما: ﻓ «الشكل الشرقي القديم كله قد سُوِّي من الخارج، والمضمون كله قد غُرس من أعلى، لا سيما المضمون الفلكي والأسطوري المقدَّس؛ ولذلك لا يعلن أصحابه عن وجههم الإنساني إلا حين يغترب، إذ يبقى الشكل مُغطًّى وراء حجاب كثيف …».

إن صورة الموت المتكرِّرة على الدوام في مصر، برموزها المعمارية والهندسية «البلورية»، قد استقرت في النهاية في قبضة «رع» إله الشمس، و«أوزير» رب الأرض الأصلي، وهيمنتهما تكرار في الزمان وجمود متعالٍ في المكان، وكما تولد الشمس نفسها كل يوم، يمدُّ أوزير في الحياة البشرية القصيرة المتغيرة ليحوِّلها إلى خلود وثبات، فآلهة الطبيعة المصرية تجلب السعادة بصفتها آلهة التكرار المستمر، وفوق كل تغيرٍ حي يحكم الموت الذي قدَّرته السماء شفاءً ونجاة، كما تحكم هندسةٌ مفعمة بالأمل في المصير الذي سوف يتصل اتصال الخلود، وفي سكينة المستقبل الذي يحمل كل سكون الماضي وثباته ويتخطى عالم الإنسان، وفي سماءٍ صافية تمثل الصورة الأولية الكاملة للنظام الأرضي الملبَّد بسحب الحزن والتقلُّب. ولم تكن مصر كما تصورها «هيجل» على مثال الهيولى الإغريقية هي دين اللغز الذي يمثله أبو الهول (وهو لغز السؤال عن الحرية والوعي الذاتي كما يُعبِّر عنهما الوجه الإنساني الذي يحاول أن يرتفع فوق الحسِّ ويتجرَّد من الطبيعة المحسوسة)، وإنما كانت هي دين «الاغتراب» في أقصى حالاته، والصمت «البلوري» الذي يجسِّد — بجلاله ونظامه المتصلِّب — ماهية عمارتها الخاضعة لأمر إله الموت أوزيريس، أو بالأحرى إله الحياة في الموت.

إذا كان «البلور» هو رمز الحضارة والديانة المصرية القديمة الذي يقف على شاطئ النيل على شكل هرم يرقد في مركزه جثمان الفرعون الإلهي، فإن «الزقورة» أو برج المعبد ذا الأطباق المتصاعدة إلى الأعلى هي الرمز المجسَّد على شاطئ الفرات للديانة البابلية التي أهدته للكواكب السبعة والبروج التي تتحرك الشمس في «بيوتها» … هناك تجلى أيضًا معلمو هذه الدورات الفلكية الثابتة في ضوءٍ ساحرٍ بعيد ومخيف، وهنا ظهروا في أشكالهم الغليظة وأجسادهم الخشنة، مُحنَّطين بكل ما هو وحشي وغير إنساني من صنوف الطير والزواحف والحشرات والعفاريت، وعندما توحدت الآلهة البابلية الفلكية أخيرًا في المشتري كوكب السعادة والانتصار — أي في الإله الذي يمثله «مردوخ» ذابح تنين الهاوية ورمز العماء والهيولى الأصلية «تعامت» لم ينجُ من الغربة في أساطير الديانة الرافدية إلا البطل «المغترب» الذي اكتسى ملامح الوجع الإنساني وهو جلجاميش، فعلى الرغم من تمثيله في الأختام الأسطوانية بقرون — ترمز لكونه الحاكم الديني «أنسي» الذي يقبض على السلطتين الدينية والسياسية — وعلى الرغم من تأليهه في حياته وبعد موته، فقد تجلَّى وجهه البشري في مواقفَ إنسانيةٍ عديدة، وكأنه قد خلع قناع الإله والكاهن الأكبر والمعلم الفلكي. لقد انتصر مع صديقه «أنكيدو» على وحش الغابة وعلى الثور السماوي، ووصل إلى ماء الحياة والشباب الأبدي واستحمَّ فيه وغاص في أعماقه ليحصل على نبتة «الخلود» الشائكة، غير أنه أضاعها — كما رأينا — بعد عودته للأرض، وعانى آلام الموت الذي لم يكترث بأعماله وأمجاده، وأغمض عينَيه — كما أغمضها الملايين في حضارتها السومرية-الأكدية على مر القرون — بلا أمل في البعث ولا رجاء في حساب أو ثواب، ربما بقي له أملٌ وحيد في نوع من الخلود البشري الذي يبلغه بناة الحضارة كما سبق القول، لكن المؤكد أن تحدِّيه لقدر الموت (أو ظلمه الأكبر!) المكتوب على البشر قد أكسبه بعض ملامح وجه بروميثيوس الذي أعلن ثورته بعده بقرون. لا شك أن مغامرات جلجاميش تنطوي على شيء من الأمل «الإنساني» في المستقبل، على الرغم من ضياع كل أمل في الخلود أو في النعيم الأخروي في أسطورته وفي ديانة بلاد الرافدين القديمة بوجهٍ عام، لكن الدورة الفلكية والطبيعية التي «أدارت» الديانة والتاريخ والأدب والفن وحياة الإنسان ومصيره في التصور الرافدي، قد أخرجتها في الوقت نفسه من دائرة الإنساني والزماني، وربطت «الأمل» و«الإنقاذ» بالإله المهيمِن على تلك الدورة المتكررة ذاتها، فمردوخ إله السنة الجديدة والربيع وتخليص البشر من البؤس والقحط والمرض، هو نفسه الذي يُكرِّر الماضي مع بداية كل سنةٍ جديدة يحتفل فيها بانتصاره على تعامة أو بتتويج ملكٍ جديد، وهو نفسه الإله — المشتري — المرتبط ببرج آشور الذي وقفت فيه الشمس منذ تأسيس بابل نحو عام ٢٨٠٠ق.م.، وهو الذي يدمج ذلك الأمل في نوع من الساعة الفلكية الثابتة، وكأن الذات البشرية في هذه الديانة الفلكية والأسطورية قد حوَّلت نفسها إلى «موضوع» يلفُّ ويدور في هذه الدورة الأزلية. لقد كان «كتابها المقدس» منقوشًا في السماء ومودعًا في قبضة الآلهة الكبرى (وخصوصًا أنليل الذي سبق أن عرفنا قصة الطائر العملاق «زو» أو «أنزو» معه، ومحاولته الجريئة لسرقة ألواح المصائر منه أثناء انشغاله بالاستحمام!) وأقصى ما بقي من إنسانيتها مبذول في التضرع لهذه الآلهة انتظارًا لحسن الطالع، أو خوفًا من غضبها ولعنتها وعنف انتقامها، أو أملًا ضعيفًا في رحمتها وعفوها «ورفع قبضتها» عنها، وكأن الطريق الغامض — هنا وفي مصر القديمة — يسير من داخل الذات إلى خارجها، حيث يستقر في الحجر أو في الطبيعة، دون أن يفكِّر في الرجوع إلى الذات البشرية أو الاتجاه إليها. بذلك اختفت «الذاتية الدينية» من الأسطورة الفلكية، فالعالم «تحت» كالعالم «فوق»، والإنسان نفسه صورة أو نسخة من العالم العلوي والخارجي عنه. لقد حُرم في هذا النظام الفلكي الأسطوري من الحرية، وظل دوره مقصورًا على اتقاء غضب الآلهة عليه وعلى أهله ومدينته، أو في التماس رضاها عنه ولطفها به وبعائلته، كما بقي ضوءها المخيف يسطع دائمًا من فوقه ومن خلفه … «وحتى عندما يغيب أي كلام عن الكواكب وأقدارها، تبقى بابل نوعًا من طبلة التكرار الدائرة، مجوَّفة وفارغة من الكائنات البشرية، غريبة عن التاريخ، وتظل تحدد الإنسان من فوقه ومن خارجه.»٥٢
ربما يتفق القارئ مع «بلوخ» في حكمه العام على الديانة البابلية وآلهتها التي تحوطها هالةٌ مخيفة من القِدم والجبروت والرهبة، وهو حكم قد يرضي أولئك الذين يكتفون بالانطباعات العامة عن حضارةٍ معينة دون الدخول في التعقيدات والتفصيلات المرهِقة عن تطور النظم والمفاهيم واختلافها باختلاف أماكن العبادة وعصورها ومراحلها المتعاقبة، ويقعون في أخطاء التعميم والتفسيرات المسبقة التي ينزلق إليها كثير من فلاسفة التاريخ وكتابه المبسطين منذ عهد «هيجل» إلى «ديورانت» وغيرهما، أضف إلى هذا أن «تفسير» بلوخ للحضارة الرافدية جزء صغير من محاولته الكبرى لتتبع «مبدأ الأمل» أو مبدأ «اليوتوبيا» — المحرك للوجود المادي والتاريخي والعقلي حركةً جدليةً مستمرة — في مختلف الحضارات، وشتى مظاهر الوعي التاريخي والفكري والأدبي والفني عبر التطور البشري في الشرق والغرب، لإثبات أنه لم يتحقق في صورته الحية الفعالة إلا في الماركسية «الإنسانية» التي أدخل فيها عناصرَ مثاليةً وصوفية و«مسيحانية» خالصة و«قبالية» لا يوافقه عليها الماركسيون «العلميون» أو «الحرفيون». ومهما يكن الرأي في هذه المحاولة الضخمة، فلا شك في أنها كانت وراء الأحكام القبلية والتعميمية التي وقع فيها هذا الفيلسوف الأديب عندما تعرض لحضارة ما بين النهرين وعرَّض بها (كما فعل مع الحضارة المصرية وغيرها من الحضارات الشرقية القديمة والحضارة الإسلامية) ويمكن الردُّ عليه بأن موضوع الأسطورة موضوعٌ معقَّد ومتداخل مع الدين والحياة العقلية والاجتماعية والعلمية منذ القِدم، وأن الدراسات المتزايدة التي كتبت عنه في نحو الخمسين عامًا الأخيرة من وجهات نظر مختلفة وبمناهج وأساليب نظرية وتطبيقية متنوِّعة، تحتم التدقيق والتأنِّي في إصدار الحكم على أساطير بلاد ما بين النهرين أو غيرها من الأساطير، أضف إلى هذا أن نصوص الأساطير المكتَشفة لم تكتمل بعدُ؛ فإلى جانب النصوص المعروفة التي لا تخلو من النقص والغموض والفجوات العديدة، يفاجئنا علماء الآثار دائمًا بالجديد الذي يفرض على الباحثين مراجعة آرائهم، كما أن الدراسات المتعمِّقة والمقارِنة لكثير من الأساطير السومرية والأكدية لم تتوافر بعدُ بصورةٍ مُرضية، ولم يحدد الكثير من صفات الآلهة وظائفهم ومراتبهم وتغيُّر المفاهيم والتصورات المرتبطة بهم بتغير العصور والسلالات والأوضاع التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية تحديدًا كافيًا.٥٣ ثم إن بلوخ يجمع الآلهة الرافدية تحت عنوانٍ واحد، هو آلهة الأفلاك والكواكب وآلهة «عبادة الطبيعة»، متناسيًا أن هنالك عددًا كبيرًا من الآلهة الكبرى والصغرى التي لا تندرج تحت ذلك العنوان العام، مثل آلهة الأمومة والطب والحكمة والكتابة والأوبئة والحب (الذي تمثله آيتانا في مجمع الآلهة السومرية، وعشتار في مجمع الآلهة الأكدي بحيث تتعدد صفاتها ووظائفها بين الحب والإخصاب من ناحية، والحرب والتدمير من جهة أخرى، كما تمثل كوكب الزهرة البديع من جهة ثالثة!) وكل هذا بجانب الآلهة الخاصة أو الشخصية التي كانت بمنزلة الأرواح أو الملائكة الحارسة للإنسان الفرد، وتتشفَّع له عند الآلهة الكبرى في أوقات الشدة والمرض، ناهيك عن عددٍ ضخم من «العفاريت» والأرواح الشريرة التي كان الفرد يشعر بأنها تحيط به من كل جانب، ويستعين ﺑ «علوم» السحر والتنجيم، والكهانة وتفسير الأحلام وطقوسها لكي يتجنَّب شرَّها وأذاها.

لقد تطور مفهوم الألوهية ببطء شديد في ديانة أرض النهرين، وبعد أن كانت العبادة مقرونة بالخوف ومرادفة له، اتسع معناها فصارت تمجيدًا للإله وثناءً عليه وتسبيحًا بحمده، بل أصبح من الممكن أن يحبَّه العابد، أو بالأحرى يحب خوفه منه ويجد فيه فرحه وسروره (راجع نص المعذب البار-لدلول، ونص الحوار بين المعذب والصديق) وظلَّت الآلهة تمارس سلطاتها الرهيبة التي ارتجَّت في تصوُّر سكان بلاد الرافدين القدماء بأبشع ألوان الضعف البشري — من عنف وقسوة وفظاظة وشراهة إلى الطعام والشراب وحقد وانتقام، حتى تحوَّلت أو تحوَّل بعضها على أقل تقدير — منذ منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، وفي العصريين البابلي والآشوري المتأخرَين بوجهٍ خاص، في زمن «السلالة السرجونية» من القرن الثامن إلى أواخر السابع قبل الميلاد، واكتسبت خصال الرحمة والحب والعطف، والخير والعدل الرادع للمفسدين والمجرمين والمستغلين الظالمين، وقد كان ذلك فيما يبدو نوعًا من الاستجابة للتطلُّع الغامض نحو التوحيد (إذ كادت الآلهة البابلية تتوحَّد في شخص مردوخ، والآلهة الآشورية في شخص الإله القومي آشور …) كما كان تعبيرًا عن أمل أو شوقٍ غامض أيضًا إلى «ديانة خلاص» لم تتوافر شروطها أبدًا في حضارة ما بين النهرين، ولم تتحقق إلا بعد الفتح الإسلامي. وليس من الممكن بطبيعة الحال أن نُجرِّد شعوبًا كاملة في عصور وعهودٍ متتابعة على مدى ثلاثة آلاف عام أو يزيد من التاريخ المكتوب قبل الميلاد، ليس من الممكن أن نجرد أفرادها من كل علاقة حميمة بإله أو أكثر من عشرات الآلهة التي يزخر بها تراثهم الديني؛ بحجة أن «الذاتية الدينية الحقيقية» لم توجد إلا في ظل الديانة الإغريقية والديانات السماوية. ودليلنا على هذا هو التراتيل والضراعات العديدة لمردوخ وشمش وغيرهما، والنصوص الدينية والأدبية العديدة — مثل نصوص الحكمة — التي تشهد شهادة صادقة على العلاقة الحميمة التي كانت قائمة بين الإنسان الفرد وإلهه الخاص الذي اعتقد أنه يحميه من السوء ويتشفع له عند كبار الآلهة.

وأخيرًا فإن الأسطورة قولٌ شعري سجلت فيه الذات الإنسانية — كما رأينا في بداية هذه الفقرة — تفسيرها وفهمها للكون وظواهره، وعلاقتها بالعالم وبنفسها، وسعيها الدائب إلى معرفتهما وتغييرهما، أو التصالح معهما والخروج من «الاغتراب» عنهما، ولا بد من الانطلاق من نصٍّ محدَّد في سياقٍ زمني وديني واجتماعي محدد قبل الخوض في ذلك الفهم أو تفسير تلك العلاقة، ولا مفر من النظر في بنيته اللغوية الأصلية وسائر العوامل والقوى المؤثرة في «النص» قبل التسرع بإطلاق الأحكام العامة عليه ووضعه في قوالب وأطر غريبة عنه.

ويبدو هنا، وفي حالات ومجالات أخرى، أن الفيلسوف ينبغي عليه أن يتعلم درسًا في التواضع والاحتراس والموضوعية من علماء الآثار واللغة والتاريخ والدراسات الدينية والأنثروبولوجية والإثنية المقارنة قبل الاسترسال في حكمته وأحكامه العامة عن الذاتية والموضوعية، والقدرية والحرية، أو عن مبدأٍ كليٍّ — مشكوكٍ فيه من نواحٍ عديدة — عن الأمل أو اليأس، ولو تسنَّى للفيلسوف الأديب الذي عرضنا رأيه أن يطبع على نصوص الحكمة البابلية التي يضمُّها هذا الكتاب لعرف دلالتها الواضحة على الذاتية الدينية المتألمة والمحتجة أيضًا إلى حد الشك والتساؤل والتمرد والمقاومة.٥٤

(٦) هل من تفسيرٍ ممكن؟

هل من تفسيرٍ ممكن؟ وهل يمكن المجازفة بتفسير حضارةٍ قديمة — يصفها الكثيرون في العادة، بأنها «منقرضة» أو «ميتة»، على الرغم من العقبات والمحاذير التي تحول دون هذا التفسير؟ وهل تستطيع محاولات التأريخ الشامل لمثل هذه الحضارة، والاجتهادات في تفسير نصوصها اللغوية وظواهرها وآثارها وشواهدها المختلفة، أن تمدَّنا بالبصيرة اللازمة لفهم حقيقة حاضرنا التي تتمثل في النظم والقيم والظواهر التي نعايشها، مع التسليم بتطور هذه الظواهر وتعقُّدها بما لا نهاية له، ومن تغيُّر بنية «الوعي» وتراكم «طبقات» متلاحقة عليه عبر مئات السنين والأحداث والتحولات التي تفصلنا عن القدماء، بحيث تحتاج «طبقات الوعي» بدورها إلى نوع من «الآثاريين» الذين لا يقلون مهارة ودقة وتفانيًا عن علماء الآثار؟ وهل يمكننا أخيرًا أن نُحقِّق — في بعض الأحوال على الأقل — تلك «التجربة الخلاقة» التي تتمخَّض عن اللقاء الحي بالنصوص اللغوية والشواهد الحضارية والفنية القديمة، بحيث نخرج من هذا اللقاء ونحن أوسع أفقًا، وأكثر حرية وإنسانية ومعرفة بأنفسنا (أي بما كُنَّاه — نحن أبناء هذه الحضارة وأحفادها — وما نكونه وما سوف نكون عليه في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا).

لنبدأ بالعقبات والمحاذير التي تقف في سبيل «التأريخ» و«الفهم» والتفسير، ولنُجمِل ما أشرنا إليه من قبلُ في الملاحظات التالية:
  • (أ)

    لحضارة الرافدين القديمة وفكرها وحكمتها وجوه متعددة، تشير إلى ملامحها أعداد هائلة من النصوص والحقائق التي حفظتها الرُّقُم والألواح، والصور والنقوش والأطلال، والكتابات المسمارية على الطين والحجر والخشب والمعدن … إلخ، وتعاون الأثريون والمؤرخون وعلماء اللغة على فكِّ رموزها وجمعها وتصنيفها وشرحها وتفسيرها بمختلف الطرق والأساليب. وقد رأينا أن النموذج العقلي (المنطقي القياسي) كأن نعرف تطوره منذ الإغريق، يمكن أن يضم أجزاء الحضارة والحكمة البابلية في نسقٍ تصوري، ولكنه نسق لا يساعد على فهمها من الداخل، بل يختزلها في صورٍ باهتة، ومقولاتٍ جافةٍ نابعة من التفلسف الغربي وتابعة له، أي يعكسها على مرآة أو مرايا غريبة عنها.

    ورأينا كذلك نموذجًا من التفسير «الخارجي» الذي قدَّمه مُفكِّر جدلي يوتوبي معروف، وناقشناه بالقدر الذي يسمح به هذا التمهيد العام، ولا شك أن من أصعب الأمور أن نحاول تجربة التفسير القائم على التفهُّم الحميم لروح حضارةٍ دينيةٍ قديمة، تفصلنا عنها فجوةٌ زمنية اتسعت وامتدت لأكثر من خمسة وعشرين قرنًا، وترسَّبت فيها — كما سبق القول — تراكماتٌ وطبقاتٌ عديدة فوق الوعي التاريخي والديني الذي تغيَّر تغيرًا جذريًّا بعد الانضواء تحت لواء الإسلام والاهتداء بهديه.

    أضف إلى هذا أن المحاولة تفترض شروطًا لا غنى عنها — من علمٍ واسع باللغات الأصلية، وإلمامٍ شامل بالتاريخ الحضاري للشرق الأدنى القديم في مجموعه ومشكلاته الكثيرة التي لم تُحلَّ بعد، وتمرُّس على أساليب البحث العلمي المتخصص — وهي شروط ومهام يعجز عن الوفاء بها كاتبٌ بعيدٌ عن التخصص الدقيق، يحاول استعادة جانبٍ واحد من تجربة هذه الحضارة أو «إعادة بنائه» كما يُقال كثيرًا في هذه الأيام. وإذا كان بعض كبار الباحثين يعترف بأنه لا يدعي ملكيتها بالنسبة لأية حضارةٍ قديمة وغريبة عنه، فكيف بمن لا يمتلك شيئًا منها، ويقف جهده على التفكير في تفكيرها، ومحاولة فهمه وتجربته تجربةً حية قبل السعي إلى تفسيره؟٥٥

    إنَّ تكوين صُورةٍ شاملة ومركبة لهذا الفكر مطلبٌ مشروع وضروري، لكنَّ السُّؤال يطرح نفسه بعد الجهود المضنية التي انقضى عليها زهاء قرن ونصف قرن من الزمان، منذ بداية البحث العلمي والأثري الدقيق وفك رموز الكتابة المسارية: هل أصبحنا اليوم في وضع يسمح بتكوين هذه الصُّورة المركَّبة التي تربط بين الآلاف المؤلَّفة من النصوص والمعلومات والقيم المتنوعة، ثم تفسيرها تفسيرًا يكشف عن «روح العصر» أو «روح الشعب» (على حد تعبير هيجل وفلاسفة النزعة التاريخية من بعده) ويتيح لنا فهم «شخصية» هذه الحضارة وحكمتها المتغلغلة فيها؟ وهل يمكن أن يبرأ هذا الفهم من الأحكام والافتراضات المسبقة التي تُمليها — عن قصد أو غير قصد — نماذج التفكير الغربي المتأخر عنها من ناحية، والمشكلات والأزمات والهموم الحاضرة التي تميل «لإسقاطها» عليها من ناحيةٍ أخرى؟ ثم كيف السبيل إلى الوصف والفهم الخالص لهذه النصوص التي لم تُكتب ولم تُنطق في الأصل لنا، وهل يمكن أن يكون «محايدًا» أو أن يخلو من «ذاتيتنا» القارئة والمفسِّرة؟ إن هذه «الذاتية» — كما سنرى بعد قليل — تُلازِم بالضرورة قراءة النصِّ وفهمَه وتفسيره عند أصحاب المدارس والاتجاهات الجديدة في التاريخ والنقد الأدبي وفلسفة التأويل (الهيرمينوطيقا)، فما العمل إذا كان التراث الحضاري الضخم (الذي نتصدى لفهم جزءٍ ضئيل منه) لم يصل إلى وعي الأغلبية الساحقة من ورثته — بحكم الانتماء التاريخي والجغرافي والعرقي — ولا دخل في كثير من الأحيان في مناهج التعليم والتربية فيها، باستثناء نخبةٍ محدودة من العلماء المشتغلين بدراسته، أو من المثقفين المهتمين بالتراث الحضاري القديم؟ وأخيرًا هل يمكن الاطمئنان إلى أي تفسير أو تأويل، مع كثرة المشكلات التي لا تزال تواجه علماء هذه الحضارة في جوانبها المختلفة، ومع توقُّع ظهور نصوص أو لُقًى جديدة يمكن أن تجود بها أرض النهرين كل يوم، كما يمكن أن تغير الكثير من فروضنا وتفسيراتنا السابقة؟

  • (ب)
    على الرغم من وجود قدرٍ كبير من النصوص السومرية والأكدية التي رأت النور، ونُشرت في طبعاتٍ محققة، وتُرجِم معظمها ترجماتٍ مختلفة إلى اللغات الأوروبية الحديثة وبعضها إلى اللغة العربية، فينبغي ألا ننسى الأعداد الهائلة من الألواح المتناثرة في شتى متاحف العلم في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكشف الأستار عن نصوصها بعد، ولم يتوفر العلماء — لأسبابٍ لا حصر لها — على قراءتها وإكمال نواقصها، وبعض هذه النصوص — وبخاصة الرسائل وسجلات الحياة اليومية، بجانب عدد من النصوص الأدبية التي لم تدرس بعدُ دراسةً وافية — يمكن في مستقبل الأيام أن يشعَّ منه ضوءٌ خاطف يبدد الظلام المحيط بعصرٍ تاريخي معين، أو نظام اجتماعي أو اقتصادي أو حرفي؟ أو مدينة من المدن (كما حدث لحسن الحظ مع بعض المدن مثل نفر وأور وسيبار ونينوى)، كما يمكن — إذا ساعدت الحظوظ والمصادفات أيضًا — أن يلقي بصيصًا من الضوء على مساحاتٍ مكانية وفتراتٍ زمنية، لا تزال غارقة في ظلمات الصمت والغموض، أضف إلى هذا أن أغلب نصوص أدب الحكمة التي تهمنا في هذا الكتاب قد خلا من أي إشارةٍ واضحة إلى «الخلفية التاريخية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية» التي كانت وراء نشأته وتطوره ومراحل تدوينه، ربما لحرص الكاتب أو الناسخ — كما سبق القول — على إخفاء اسمه وشخصه وآرائه ومعتقداته، أو خوفه من التعبير عنها في ألواحٍ كتبت لكي يقرأها أو يسمعها الملك و«علية القوم» في القصر والمعبد ومراكز الحكم والإدارة والقضاء، أو لتلاوتها مع طقوس العبادة وممارسات السحر وطرد الأرواح الشريرة، ناهيك عما جرى عليه العُرف آنذاك من استخدام تلك الألواح لأغراض التعليم والتدريب على الكتابة وحفظ التراث والتقاليد «المقنَّنة» للأجيال التالية. صحيح أن بعض النصوص — مثل نصوص الحكمة بوجهٍ خاص وبعض القصص الشعرية والحكايات والأمثال الشعبية — قد أفلت من القيود والاعتبارات السابقة؛ فلمسنا فيها أشواك السخط والاحتجاج، وتشاؤم «المغتربين» أو الحساسين للمحن الحضارية، وهبَّت علينا منها رياح النقد الاجتماعي والديني التي أوشكت في بعض الأحيان أن تتحوَّل إلى عواصف شك وتمرد وتجديف، لولا التفاف سلطة التقاليد حولها! ولكن يجب مع ذلك ألَّا نبالغ كثيرًا في شأن هذه النصوص، ولا نسارع باستخراج الأفكار العميقة منها، أو استخلاص «المذاهب» و«النماذج» الكونية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية … إلخ، فمن الخطأ أن ننظر إليها بمعزل عن التراث التقليدي الذي تحتل مكانها فيه، أو عن ظروف الكُتَّاب الذين أبدعوها ودوَّنوها وحفظوها، والقراء والمستمعين الذين كُتبت لهم ووُجِّهت لخدمة أغراضهم الدينية والعملية والسحرية. وإذا تذكرنا قلة الدراسات الجزئية والبحوث التفصيلية الدقيقة في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأسس «المادية» لحياة المجتمع القديم في مختلف عهوده ومراكزه، من دراسة لأدوات الإنتاج وعلاقاته، وقوى السلطة صاحبة المصلحة فيها … إلخ، فقد أضفنا إلى الصعوبات السابقة صعوباتٍ أخرى تتصل بنقص الدراسات التاريخية لمعناها الاجتماعي الحديث الذي تُطالب به وتجتهد فيه بعض المدارس والحركات المعاصرة بصورةٍ مذهلة في التدقيق والتفصيل والاهتمام بكل الجزئيات الممكنة في الحياة اليومية (كما نجد لدى ممثلي حركة التاريخ الجديد أو مدرسة الحوليات الذين يطبقون المناهج والأساليب الاقتصادية والإحصائية والديموجرافية والأنثربولوجية واللغوية والتحليلية النفسية … إلخ)، وإزاء هذه الصعوبات لا يملك مؤرخ الحضارة، ومن ثَم مُفسرها ومُؤول نصوصها، إلا أن يسأل نفسه: هل أقنع بتفسيرٍ جزئي ومؤقت أستند فيه إلى البحوث التفصيلية المدققة في نصٍّ بعينه أو مجموعة من النصوص المترابطة بسياقٍ تاريخي أو معنويٍّ محدد، انتظارًا لمستقبلٍ بعيد تنتظم فيه التفسيرات الجزئية في نسق شامل؟ أم أخاطر بتقديم تفسيرٍ كلي، تسوغه الحاجة الدائمة إلى العروض الشاملة في كتب التاريخ العام أو في الكتب التعليمية، وتدفع إليه الرغبة في التبسيط إرضاءً لعامة القراء وإشباعًا للفضول الثقافي؟٥٦
  • (جـ)
    ولو قلنا: لندع النصوص تتكلم بنفسها فلن يكون في هذا ضمانٌ كافٍ للموضوعية و«العلمية»؛ ذلك لأننا لا نرجع دائمًا إلى النصوص بلغاتها ولهاجتها الأصلية، كما أن القادرين على قراءتها لا يفتئون يواجهون مشكلات لا يُستهان بها في فهم معاني كثير من الكلمات و«العلامات» المجهولة حتى الآن، وتَعرُّف حقيقة الأحداث والوقائع والتقاليد والأسماء والأشياء التي لم يتيسَّر معرفتها، أضف إلى هذا مشكلة الترجمة نفسها، وبخاصة حين تتم عن نصوص قديمة للغات «منقرضة»، وبالأخص عندما تكون نصوصًا شعرية، مع كل مشكلات ترجمة الشعر ترجمة «مكافئة» أو معادلة بقدر الإمكان من لغة إلى أخرى، فما بالك إذا كانت الترجمة عن لغةٍ قديمة ولشعرٍ قديم لم تُعرف كل خصائصه الفنية بعدُ كما أسلفنا القول؟٥٧ ويزيدنا إحساسًا بهذه المشكلة — نحن الذين نعتمد على الترجمات المنقولة إلى لغاتٍ أوروبية حديثة — أن الثقاة في الأكديات والآشوريات يؤكدون وجود فروقٍ كبيرة بين ترجمة وأخرى، بحيث تكاد الترجمات تتعدد بتعدد القائمين بها، ويتعذَّر وجود نصَّين مترجمَين متفقَين تمام الاتفاق على فهم الكثير من المفردات والمعاني، بحيث يخطر المترجمون في معظم الأحوال إلى الحدس أو التخمين بمعنى السياق وتركيب العبارات الناقصة؛ كي لا تصبح ترجماتهم كشباك الصيادين المليئة بالثقوب والفجوات.

    وإذا تذكرنا حقيقة ارتباط الفكر باللغة، فلا مفر من القول إن حكمة حكماء بابل قد ارتبطت كذلك باللغة التي فكروا وكتبوا بها، كما ارتبطت باللغة (السومرية) التي نقلوا عنها مباشرة أو أخذوا عنها، وحاكوا نماذجها وصيغها وتقاليدها، أو استوحوها واستلهموها على أقل تقدير، وحتى لو استهنا بكل هذه الصعوبات، فما الذي يدرينا أنهم «عبَّروا» عن كل ما فكروا فيه، ولم يعملوا ألف حساب للسلطة السياسية والدينية القائمة؟ ألا تدعو كل هذه الاعتبارات والإشكالات إلى زيادة نصيب «الذاتية» و«التحيز» في كل تفسير نُقدِم عليه، بصرف النظر عن الذاتية والتحيُّز اللذين لا تخلو منهما أي ترجمة، ناهيك عن ترجمة عن ترجمة؟!

  • (د)

    وأخيرًا تأتي أعوص المشكلات التي تواجه من يتصدَّى لدراسة الماضي القديم تمهيدًا لفهمه وتفسيره، ألا وهي الشك في جدوى معرفة الماضي بالنسبة لمن يعيش في الحاضر ويتطلَّع إلى المستقبل، ولكن هل المشكلة هنا تتعلق بمعرفة الماضي في ذاته، أم بكون معرفتنا به وبأدق تفصيلاته غير كافية، ولا تساعد على محاولة شمِّه وتفسيره (مع العلم بأن بعض مدارس البحث التاريخي الحديثة تُنكِر ضرورة التفسير أصلًا وتتَّهم الفلاسفة بإفساد التاريخ وفرض قوانينهم هم عليه).

    إذا كان هدف المؤرِّخ هو أن يعرف حقيقة ما حدث فعلًا في الماضي (كما تقول عبارة المؤرِّخ ليوبولد فون رانكه الشهيرة)، وإذا كان معظم الناس يتفقون اليوم على أن الماضي هو مفتاح فهم الحاضر ورؤية المستقبل (إذ لو أمكننا أن نعرف من أين جئنا، لأمكننا أن نعرف أين نحن وإلى أين نحن ذاهبون — كما يقول سنتايانا ١٨٦٣–١٩٥٢ في كتابه حياة العقل). وإذا عرفنا أن الذين لا يمكنهم تذكُّر الماضي واستيعابه، مقضي عليهم بتكراره بكل أخطائه ومآسيه، وإذا وافقنا أخيرًا على أن التاريخ كله «حاض» بصورة من الصور (كما يقول هيجل وكروتشه) فلا عجب أن تثير فينا دراسة حضارةٍ ماضية همومًا وأفكارًا لا تزال فعالة ومؤثرة، وتلقي على آلام الحاضر وآماله أضواءً كاشفة لبعض «ثوابته» التي تُحتِّم ضرورات الحاضر أن تتبدَّل وتتحول، هذا إذا استطعنا أن «نستحضرها» في وعينا بعد تحقيق كل وثائقها وأسانيدها، والعلم بكل أسسها وشروطها وجذورها (كالعقلية العامة، وأنماط العادات والتقاليد والمشاعر والقيم والمعتقدات والميول التي تمثل البنى الثابتة لمئات السنين بل آلافها تحت مدِّ الأحداث وجَزرها العابر). وطبيعي أن الدراسة التفصيلية للعوامل المحركة للتاريخ، ومن أهمها الجوانب الاجتماعية والاقتصادية التي ما زالت مفتقَدة إلى حدٍّ كبير فيما يتوافر اليوم من دراسات للتاريخ والحضارة في بلاد ما بين النهرين كما سبق القول؛ طبيعي أن دراسة هذه العوامل يمكن أن تُفسِّر الكثير من الظواهر والنظم والأنساق والأحداث الاجتماعية والسياسية والفكرية التي ما زالت تعمل عملها في الحاضر، «فالظواهر الآنية» نتاج ماضٍ يختلف طولًا وقصرًا حسب اختلاف الأحوال، والتحول وراء الظاهرة يرجع إلى عواملَ قويةٍ تكمن في بناء النظم القائمة أو بنية المجتمع، وتضرب بجذورها في الماضي، وعدم فهم هذه العوامل الصميمة هو سبب عدم فهم بعض الظواهر الحادثة الآن فهمًا كاملًا، على نحو ما يُعبِّر بعض ممثلي حركة التاريخ الجديد أو مدرسة الحوليات.٥٨

    إن من الواجب أن نبتعد في كل الأحوال عن تقديس الماضي وعبادته، أو حتى الزهو به (وإن كان الزهو بالتراث وأمجاده حقًّا مشروعًا تلجأ إليه الشعوب في أوقات الشدائد)؛ فالتاريخ نفسه موجود، والاهتمام بالماضي ودراسته وإحياؤه جزء من إنسانية الإنسان ومن تكوين شعوره وشخصيته، ومهما أنكر بعض الناس تأثير الماضي في الحاضر وقدرته على تسليط الأضواء على ظواهر الواقع الراهن ومشكلاته وأزماته، مُحتجِّين بأن عمل المؤرخ — كما سبق — هو «معرفة حقيقة ما حدث بالفعل» وحسب، فإن تفسير الحاضر على ضوء ما حدث بالفعل في الماضي أمر يصعب أن يَفلِت منه أحد، مهما بدا من بُعده عن النزعة العلمية الصارمة، وأقل ما يمكن أن يقال عنه إنه يُرضي رغبةً عميقة لمعرفة جذورنا، فضلًا عن ارتباطه ﺑ «تاريخية» الإنسان التي أصبحت بديهية في الوجدان المعاصر، وما فتئ يؤكدها معظم فلاسفة العصر (باستثناء بعض فلاسفة «البنية» أو البنيوية وعلمائها).

من هذا «المنظور التاريخي» إلى الوجود والذات بدأ لقائي بنصوص الحكمة وغيرها من النصوص في أدب وادي الرافدين القديم، ومنذ البداية أيضًا لم يفارقني اليقين بأنها يمكن أن تساعدنا على فهم الماضي وتفسيره، كما تساعدنا على صياغة مشكلات الحاضر واقتراح الحلول لها بصورةٍ موضوعية وبعيدة عن التحيز (بقدر ما تسمح به القراءة والفهم والتفسير التي لا تخلو أبدًا — في نظر النقد الحديث — من تحيُّز القارئ والمفسِّر وذاتيتهما …) ومن الطبيعي أن يكون التذوُّق الشخصي الغامض هو بداية اللقاء، وأن يكون الانطباع الأول مزيجًا من أشعة الفنية التي ترجع دائمًا إلى نوع من الشعور بالحرية، تتخلَّله مشاعر أخرى من الدهشة والحيرة والافتتان، هذا التذوق هو المقدمة الضرورية للفهم والتفسير والتقييم، أي للطريق المتعرِّج الطويل الذي يقطعه علماء اللغة والأسلوب، ونقاد الأدب والإبداع، هبوطًا وصعودًا من سياق إلى سياق، ومن وحدات إلى وحدات، ومن فجوات وهزات إلى نوع من السكون والاستقرار عند السياق الأكبر، والوحدة الكلية، والقيمة الجوهرية التي ألَّفت بين جميع المستويات والتشكيلات والوحدات والجزئيات.

هذه القراءة «الإبداعية» التي تبدأ بالمتعة المختلطة بالتردُّد والحيرة، والإعجاب والانجذاب، قد تبدأ في الوقت نفسه في الدخول في علاقةٍ حميمة مع النص الذي نشعر شعورًا أوليًّا بقيمته الفنية لحظة أن نجرب ما يمكن أن نسميه «اللحظة الجمالية» وهذه اللحظة الجمالية تطالب بدورها القارئ — المستمتع الحائر — بالمزيد من الاندماج والانصهار في أعماق النص وفي أعماق ذاته في آنٍ واحد، أي تطالبه بما يصفه أحد فلاسفة التفسير المعاصرين — كما سنرى بعد قليل — «بتداخل الآفاق» واندماجها وانصهارها (أفق القارئ مع أفق النص، لا سيما إذا كان هذا النص قديمًا ينتمي إلى تراثٍ بعيد من الماضي، أو أجنبيًّا من تراثٍ ثقافيٍّ غريب). لا شك أن شعورنا بالقيمة الفنية يتفاوت من عمل إلى عمل؛ «فحين نشرع في قراءة عملٍ أدبيٍّ جديدٍ نكون مقبلين على تجربة نختبر فيها العمل ونختبر أنفسنا معه، ونظل غير واثقين من حصولنا على ثمرة القراءة — وهي اللحظة الجمالية — إلى أن نشعر بالعمل الأدبي قد اكتمل في داخلنا نحن، وأنه غسلنا وطهَّرنا، أو أضاء ركنًا في نفوسنا كان مظلمًا.» وهذا الشعور يمكن أن يحدث أو لا يحدث، ويمكن أن يحدث بدرجاتٍ مختلفة، ومهمة الناقد — الذي يبدأ قارئًا ثم ينتقل إلى اختبار قيمة العمل الأدبي — هي تفسير قراءته له وترجمتها إلى خبرة لها قيمة.٥٩ لقد وقف مثلنا حائرًا أمام حشد من الأنساق والسمات اللغوية والمعلومات التاريخية التي أخذ يشعر بالحيرة تجاهها مع شعوره بالعلاقة الحميمة مع النص، لكن حيرته لم تطُل كثيرًا، إذ أعانته خبرته ومزاجه وثقافته ورصيده المخزون من مناهج المعرفة والتفسير والتقييم على قطع الطريق المضني الذي وصفناه من قبل، وعند ذلك رأى النص فجأة وقد شمله نورٌ منبعث من مصدر ما، وتبين له أن كل تلك الجزئيات قد تجمَّعت في نظام.٦٠

قراءة النص إذن نشاط أو فعلٌ إبداعي، وهي تجربة تتم في الزمان، أي علاقة بين القارئ والنص؛ ولذلك ينفتح على إمكاناتٍ معنوية ووجودية غير محدودة، ولا داعي للدخول في تفصيلات مرهِقة عما تسمِّيه بعض مدارس النقد الحديث — أو نقد النقد، وبخاصة من التفكيكيين (مثل دريدا وبارت) — «تداخل النص» وسياقاته التي لا تنتهي، ولا ضرورة كذلك للتعرض لمشكلات قراءة النص عن التقليديين أو المجدِّدين (من شرح يراد به الفهم الحرفي للنص ومعرفة معاني كلماته وجمله وارتباط بعضها ببعض، وتفسير يُقصَد منه معرفة دلالة النص، جملة، وأجزاءً، على أمورٍ أخرى خارجةٍ عنه، كالحالة الاجتماعية أو السياسية أو الحالة النفسية للقائل) فالنصوص التي نقرؤها هنا مكتوبة بلغةٍ أصلية لم نتعلمها، ولم نتصل بها إلا عن طريق وسيطٍ تقريبي هو الترجمة بلغةٍ أخرى حديثةٍ مختلفة من كل ناحية، كما أننا لا نعرف إلا أقل القليل عن منشئها وظروف نشأتها، والسياقات الحضارية والاجتماعية المحيطة بها، والمهم أننا حاولنا — رغم كل المصاعب والمحاذير التي أشرنا إليها — أن نتصل بها اتصالًا حميمًا، وأن نربط تجربتنا بها بتجربتنا بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وفي كل تجربة اتصال أو تواصل — كما يعلم القارئ — مغامرة، وفي كل مغامرةٍ فشلٌ أو نجاح، وربما تطغى احتمالات الفشل على فرص النجاح، فما الذي شجعنا على المحاولة؟

الواقع أن هناك عوامل كثيرة أوجزها في ثلاثة: فأما الأول فقد ألمْحتُ إليه في بداية الحديث عن لقائي بهذه النصوص، وانجذابي إليها وحيرتي وذهولي إزاءها، ولستُ أحب الخوض في حديثٍ يتصل بأزماتي الشخصية وطبيعة كتاباتي الأدبية والفلسفية في الفترة الأخيرة من حياتي. وأما الثاني فيرتبط بإحساسي بمحنةٍ حضارية تتجاوز أشخاصنا الفانية، ولا يمكن تجاهلها ببساطةٍ بدعوى أنها وليدة تشاؤمٍ فطري، أو حساسية مفرطة؛ ذلك لأن الشعور بهذه المحنة أمر يتعلق بالذاتية المشتركة — على نحو ما يعبر فلاسفة الظاهرية أو الفينومينولوجيا — ويشارك فيه ملايينُ غيري، سواء أكانوا من البسطاء أم من أصحاب الرأي والقلم، وهي في كل الأحوال محنة لها حضورها الضاغط على أنفاسنا، سواء واجهها بعضنا باليأس العدمي، أو بالتحدي والأمل والعمل المخلص الدءوب كلٌّ في ميدانه، أو بالاستغلال والمزايدة الانتهازية، وهي تلقي على زماننا — ماضيه وحاضره ومستقبله — ظلالًا قاتمة، وتعمِّق اغترابنا عنها ومنفانا فيها: في ماضٍ نكاد نجهله كل الجهل ولا نحترمه الاحترام الكافي، وحاضرٍ ضعيفٍ مُترنِّح يدَّخر لنا المصائب كل يوم، ومستقبل نرفضه لأن غيرنا يجرنا إليه، أو نخافه ونشفق منه ولا نعدُّ العدة له. وردُّ الفعل الطبيعي لاختلال الشعور بالزمن هو العودة للماضي بحثًا عن الجذور تأكيدًا للهوية (وهو ما يعبر عنه جانبٌ كبير من نتاجنا الفكري الذي يطغى فيه الغثُّ الثرثار على العلمي الأصيل). وأما ثالث هذه العوامل فهو انشغالٌ استمر عدة سنوات بالفلسفة الظاهرية وفلسفات الوجود والتفسير (أو التأويل) التي خرجت من «معطف» منهجها، وقد رافق ذلك الانشغال اقتناع أساسي بأننا لن نستطيع فهم القديم إلا إذا نظرنا إليه بعيونٍ معاصرة واستخدمنا وسائل الفكر المعاصر، ولن تكون نظرتنا إليه حية ومبدعة حتى نكون في الوقت نفسه على وعيٍ بمشكلات الحاضر وأزماته، وبمطالب المستقبل وتوجهاتنا إليه. ولن يتم شيء من ذلك كله حتى نمتلك الحس التاريخي الواضح المتَّزن الذي يُهيِّئ لنا «الحضور» المبدِع الحر في أبعاد الزمن المختلفة (التي هي في الحقيقة حاضرٌ متصل في الشعور الحي الخلَّاق، لا في الشعور الصوفي أو المتعالي وحده).

هذا الالتزام المنهجي بما سميته «المنظور التاريخي» يُحتِّم علينا أن نبتكر الحلول المناسبة لمشكلاتنا، بقدر ما يحتم علينا أن نستلهم تراثنا وتجارب الثقافات المعاصرة لنا؛ لأن النقطة التي نقف عليها والتي نسميها حاضرنا أو واقعنا ليست إلا نقطة وهمية في امتداد الزمان والمكان.٦١ ويبدو لي الآن، بعد أن فرغتُ من قراءة النصوص ومحاولة فهمها وتفسيرها بقدر طاقتي وعلمي المحدودَين، أن النظرة التاريخية للوجود والذات كانت وراء هذه المحاولة، كما كانت — عن غير قصد في معظم الأحوال — هي المسئولة عن أسلوب التعاطف الحميم الذي غلبني أثناء تناول هذه النصوص. وهنا أجد من الضروري أن أقف وقفةً قصيرة عند «فلسفة التفسير» وأحد أعلامها المعاصرين الذين تأثَّرتُ بهم، وعذري في ذلك هو ندرة الكتابات العربية عنهما، وحاجتنا للاطلاع عليهما والتزوُّد منهما في محاولاتنا المختلفة في الأدب والفكر والعلوم الإنسانية (شريطة أن يتم هذا على أساس الحوار النقدي الحر لا على أساس النقل والاتباع والتقليد).

(٦-١) فلسفة التفسير

مشكلة فهم النص وتفسيره (أو تأويله) مشكلة لها تاريخٌ طويل، سواء في تراثنا القديم٦٢ أو في التراث الغربي قديمه وحديثه، ويكفي في هذا المجال المحدود أن نشير إلى تطوِّرها من تفسير النص الأدبي والتاريخي والديني بوجهٍ خاص في العصرين القديم والوسيط، إلى بدايات أخرى أولية لوضع نظريةٍ عامة لفهم معنى النصوص بتأكيد الجانب التاريخي للوعي والفكر والنص نفسه (في عصر التنوير عند كرستيان فولف ١٦٧٩–١٧٠٧ وفي ظل الرومانتيكية والمثالية الألمانية عند فريدريش شليجل ١٧٢٢–١٨٢٩ وهيجل ١٧٧٠–١٨٣١ وبعض فلاسفة اللغة «الإنسانيين» الجدد مثل هامان ١٧٣٠–١٧٨٨ وهيردر ١٧٤٤–١٨٠٣ وفيلهلم فون همبولت ١٧٦٧–١٨٣٥) حتى أصبحت على يد إشلاير ماخر (١٧٦٨–١٨٣٤) علمًا أو فنًّا يضع قواعد فهم النص وتفسيره من جانبيه اللغوي والنفسي؛ إذ جعل المحادثة والتفاهم بين البشر من أهم أسس الفهم، وحصر الهيرمينوطيقا٦٣ في تأويل العلامات اللغوية، وميَّز بين التفسير النحوي الذي يشرح معنى النص أو القول شرحًا لغويًّا، والتفسير النفسي الذي يعيد بناء مقاصد المؤلف وتصوراته الأصلية، مما كان له أكبر الأثر على تطور فلسفة التفسير عند روادها المعاصرين الذين أعادوا اكتشافه واستقوا من منبعه.
بيد أن الفضل الأول في تطور هذا الاتجاه وتحوله اليوم إلى فلسفةٍ متكاملة لا تقتصر على مناهج التفسير إنما يرجع لفيلهلم دلتاي (١٨٣٣–١٩١١) الذي جعلها جزءًا من فلسفته في الحياة القائمة على التجربة الحية؛ فقد ربط مشكلات الفهم بالتصورات التاريخية والفلسفية التي أشاعها في ذلك الحين أصحاب النزعة التاريخية (من أمثال المؤرخ ي. ج درويزين ١٨٠٨–١٨٨٤) وبأفكار هيجل عن تطور الوعي (العقل الكلي أو الروح المطلق) على نحو ما قدَّمها في كتابه «ظاهرات الروح»، وأصبحت «الهيرمينوطيقا» عند «دلتاي» هي منهج العلوم الإنسانية (أو العلوم الاجتماعية والتاريخية كما سُمِّيت في ذلك الحين، وعلوم الروح كما سمَّاها هو نفسه) الذي تتميز به عن العلوم الطبيعية، فإذا كانت العلوم الأخيرة تعتمد المنهج العلمي أو السببية في تفسير الظواهر الطبيعية والمادية، فإن الأولى تقوم على تجربة الفهم أو التفهم الحي لموضوعاتها الفردية والمتفرِّدة، وقد حدَّد هذا التفهم في بداية الأمر تحديدًا نفسيًّا ووصفه بأنه نوع من الاندماج (التقمص أو التعاطف) في الأحداث والعمليات الذهنية التي تتم في وجدان المؤلف أو الذات التاريخية، ثم ابتعد عن هذا المدخل النفسي إلى الظواهر التاريخية والإنسانية وجعل مفهوم «التعبير» هو أساس المنهج في علوم الروح التي يتعيَّن عليها في رأيه أن توضح علاقة الترابط بين الحياة والتعبير والفهم. فالتعبير (كما يتمثل في الأعمال الفنية والأدبية والتنظيمات الاجتماعية والتاريخية) ليس مجرد مظهر لتجربة الحياة الفردية أو المتفردة لدى مبدعٍ أو ذاتٍ تاريخية بعينها، وإنما هو دائمًا تجسيدٌ موضوعي للروح العامة لعصرٍ مُعيَّن (أو للروح الموضوعية كما سماها هيجل)، وقد كان لتصور «دلتاي» عن الهيرمينوطيقا بوصفها نظرية في التفهم ومنهجًا متميزًا لعلوم «الروح» والإنسان أعظم الأثر في جميع الجهود النظرية التي دارت حول تحديد طبيعة هذه العلوم وتمييزها عن علوم «الطبيعة»، وهي جهود لا تزال مستمرة إلى يومنا الحاضر في كل ما يدور من مناقشات حول «المنهجية» في هذه العلوم،٦٤ وقد تابع تلاميذ دلتاي طريق أستاذهم، وبرز منهم أمثال هانز ليبز، وجورج ميش، وأريش روتاكر، وتيودور ليت، وإدوار شبرانجر و أ. ف. بولنو، كما تأثر به «هيدجر» الذي يمثل منعطفًا مهمًّا على طريق الفهم والتفسير؛ إذ أضفى عليه طابع الكلية والشمول، وجعله أحد المقومات «الأنطولوجية» الأساسية لوجود الإنسان «الفعلي» ولمعنى هذا الوجود، ثم ما لبث بعض تلاميذ هيدجر أن تأثروا به وبدلتاي من قبله، وطوروا فلسفة التفسير وأضافوا إليها، ومن أهمهم وأشهرهم اليوم جورج جادامر صاحب الكتاب المعروف «الحقيقة والمنهج»،٦٥ بجانب عددٍ آخر من الفلاسفة الألمان والإيطاليين والفرنسيين نذكر منهم كارل أوتوآبيل ويورجين هابرماس، وإميليو بيتي، وبول ريكير.٦٦

بعد هذه المقدمة الموجزة أعود إلى بعض الأفكار التي استرشدتُ بها بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة في تفهُّم هذه النصوص البابلية ومحاولة قراءتها محاولةً أولية (لا تحول بطبيعة الحال دون قراءتها قراءاتٍ أخرى على يد باحثين آخرين …) ولقد كان «جادامر» هو أكثر من تأثرتُ بهم من أصحاب الأسماء السابقة؛ لأنه أشدهم اهتمامًا بالبعد التاريخي والحضاري في فهم معاني الخوص القديمة التي تنتمي إلى ماضٍ بعيد أو إلى حضارةٍ «غريبة» … وسوف أسوق بعض هذه الأفكار، لعلها أن تعين القارئ على المشاركة في التذوق والفهم، أو تُلهِم من يتصدَّى لغير هذه النصوص من الإخوة الباحثين في تراثنا القديم والوسيط والحديث.

إذا كان البحث الفلسفي الحديث قد أكَّد «تاريخية» الوعي والتفكير الإنساني — بما في ذلك التفكير الفلسفي نفسه — منذ عصر التنوير والمثالية الألمانية والرومانتيكية كما سبق القول، فإن من أهم النتائج التي توصل إليها أن من الضروري التفرقة بين منهج الفهم أو التفسير وبين منهج الشرح أو التعليل، فالأول يصلح للتطبيق على ظواهر الحياة النفسية والعلوم التاريخية والإنسانية، ويتوخَّى إدراك «الفردي» الذي لا يتكرَّر، ويساعد برؤيته الحدسية الوجدانية وأسلوبه في «تقمُّص» الظاهرة الفريدة وإعادة بنائها وإحيائها؛ على التبصر بجوانبها الإبداعية العصية على التشريح والتحليل والتعليل. أما المنهج الثاني فهو يلائم العلوم الطبيعية؛ إذ يرد الظاهرة الجزئية إلى القوانين الضرورية العامة عن طريق التفسير السببي أو العِلِّي، والنتيجة الثانية هي أن الجزئي أو الفردي لا يفهم إلا في وحدته الحية في إطار الكُلِّي، كما أن الكُلِّي لا يمكن فهمه إلا ابتداءً من الفردي (وهذا تعبير عما يسمى دائرة الفهم التي لم تزل مشكلةً عويصة عند أصحاب هذا الاتجاه).

التقط هانز جورج جادامر (ولد سنة ١٩٠٠) هذه الإشكالية وأقام فلسفة «عملية» متكاملة للتفسير الفلسفي، وهو ينطلق من المبدأ الأساسي الذي تأكد بالتدريج منذ «شلايرماخر» و«درويزين» حتى «دلتاي» و«هيدجر»، وهو ضرورة فهم الجزئي أو الفردي من خلال سياق المعنى الكلي، وفهم الكلي ابتداءً من الفردي والجزئي، وقد رجع إلى مفهوم «دائرة الفهم»٦٧ الذي طرحه هيدجر ليزيد فكرة الفهم أو الحكم المسبق توضيحًا، ويضفي عليها معنًى إيجابيًّا جديدًا. فهو يحاول أن يخلص الكلمة الأخيرة من معانيها السلبية التي اكتسبتها منذ عصر التنوير إلى «ظاهريات» «هسرل»؛ إذ قصد بها تحاشي كل افتراض أو حكمٍ مسبق للوصول إلى الوصف الخالص للماهيات الحية في الوعي أو الشعور. ويؤكد «جادامر» أن تلك الفكرة تمثل مشكلةً تاريخية لم توضح بعدُ بصورةٍ علمية وموضوعيةٍ كافية، وإن كانت لا تزال فكرةً خصبة لا غنى عنها في أي تفسيرٍ منهجي، فضلًا عن الدور المهمِّ الذي تؤدِّيه في تمكيننا من فهم «الآخر» البعيد عنا والغريب علينا.
لقد نبَّه أصحاب فلسفة الفهم والتفسير إلى ضرورة الاندماج في «الآخر» ووضع أنفسنا في مكانه لكي يتسنَّى لنا فهمه وفهم الظواهر والمواقف والقيم والمعاني، والأشكال التاريخية والفنية والأدبية والاجتماعية فهمًا صحيحًا، حتى أصبح منهج التفسير المتفهم عند «دلتاي» أشبه بمنهج الأديب الذي يروي سيرته الذاتية، أو الكاتب الذي يستحضر وقائع حياته،٦٨ وكان المبدأ الضمني الذي قام عليه هذا المنهج كما يلي: كلما زاد التوحُّد بالآخر، أمكن فهمه بصورة أفضل، وكلما زاد الاختلاف عنه، قل الفهم وتضاءل. ويعترض «جادامر» على هذا المبدأ، مؤكدًا الوظيفة التفسيرية للبُعد الزمني الذي فصلنا عن الآخر؛ فالعبارة، أو النص المكتوب، أو الحدث التاريخي، لا يمكن أن يُكشَف عن معناه الكامل إلا عن طريق مسافة البعد الذي يفصلنا عنه، أي من خلال الأُفق الأوسع الذي تم فيه فعله وفهم فيه نفسه، بل إننا لنستطيع اليوم أن نفهم دلالته خيرًا مما فهمه أصحابه القدامى الذين انخرطوا فيه، وقُرَّاؤه أو سامعوه الذين تَوجَّه إليهم بخطابه، عندئذٍ تصدق عبارة «شلايرماخر» التي يكثر اقتباسها عن إمكان فهم مؤلف من الماضي خيرًا مما فهم نفسه. ويقترح «جادامر» مصطلح «انصهار الآفاق» (أو تداخلها) بديلًا عن مصطلحَي «الاندماج» و«وضع أنفسنا» موضع المؤلف أو الحدث والظاهرة الأصلية — إذ إن ذلك الاندماج وهذا الوضع مستحيلان وغير ضروريَّين أيضًا — مستحيلان لأننا لن نستطيع أن نقفز فوق ذواتنا وعالم فهمنا أو نخرج منهما، وغير ضروريين لأننا إذ نضطر حتمًا للانطلاق من عالمنا فما نريد أن نفهم الآخر من حيث هو «آخر»؛ حتى يتسنى لنا أن نفهم ما يميزه عنا وما يجمعنا به. ولا بد إذن أن يتلاقى العالمَان المختلفان من الناحية التاريخية والحضارية، أي الأفقان الغريبان أحدهما عن الآخر في التجربة والفهم، بحيث يرتبطان في النهاية ويتَّحدان، ويقتضي هذا أن أفهم الآخر دون أن أتخلَّى عن فهمي لذاتي وعالمي، أي يقتضي أن أستوعب أفق الآخر الغريب أو الأجنبي في أفق فهمي لأجل أن أفهمه على الحقيقة، بحيث ينصهر الأفقان (أو يتداخلان) أحدهما في الآخر، ويتسع أفقي أنا «الحاضر» هنا والآن ويزداد ثراءً.
لا شك أن «جادامر» قد قدم بهذا بُعدًا جديدًا يسهم في إلقاء الضوء على عمليات الفهم للأحداث والشخصيات التاريخية والقيم والشواهد الحضارية، وعلى مهمة الترجمة من لغةٍ قديمة إلى لغة حديثة (والترجمة — كما يدل معنى الكلمة في اللغة الألمانية — هي في تصميمها عملية نقل أو توصيل من أفق إلى أفق، أي عملية فهم وتفسير، لا سيما إذا كانت ترجمةً مكافئة أو مبدعة بقدر الإمكان للنصوص الأدبية والشعرية،٦٩ تحقق عملية التواصل الثقافية والحضارية، وتغلغل الذات في الآخر، وتجددها الروحي والحضاري من خلاله) غير أن فكرة انصهار الآفاق وتداخلها تثير من الأسئلة والمشكلات ما لا يقل عن فكرة الاندماج التي انتقدتها، ولا مفرَّ لكل من يدرس حضارةً قديمة أو يترجم نصوصًا عن إحدى اللغات التي توصف بأنها «ميتة»؛ من الاعتراف بأن الانصهار التام غير ممكن وليس ضروريًّا: غير ممكن لأنني لن أستطيع — مهما أوتيت من أدوات البحث الدقيق وملكات الفهم العميق — أن أستوعب كل مضامين التجربة التي تُكوِّن ذلك الأفق الغريب بصورةٍ كافية، وهي كذلك غير ضرورية؛ لأن فهم مشكلةٍ محددة أو عبارةٍ معينة لا يتطلب في كل الأحوال فهم الأفق الشامل لذلك العالم الغريب، وإنما يحتاج وحسب إلى فهم كلماته ومعانيه ومضامينه الجزئية. ومع ذلك فإن هذا الاعتراض وغيره مما يوجه لفلسفة التفسير في مجموعها (من اهتمامٍ زائد بذات القارئ أو المفسر على حساب ضلعَي المثلث المشهور وهما النص نفسه والمتلقي، ومن اتهام باللاعقلانية وغياب النظرة النقدية والعجز عن الوصول إلى مستوى النظرية العلمية والموضوعية ذات القواعد والمعايير المحدَّدة لعمليات الفهم والتفسير وعناصرها وشروطها … إلخ) أقول إن مثل هذه الاعتراضات المنهجية التي لا تزال موضع جدل ونقاش لا تغضُّ بحال من قيمة الأفكار التي قدمها جادامر وتراث هذه المدرسة قبله وبعده.
والحق أن هذا الفيلسوف يُنبِّهنا إلى أن انصهار الآفاق يفترض ما يسميه تاريخ الفاعلية أو التأثير الفعال للكلمة المنطوقة أو المكتوبة في الماضي البعيد، والأثر أو الشاهد الموضوعي على حضارة قديمة، فلا بد أن يكون كلاهما قد أثَّر في التاريخ اللاحق، ومن ثم فسَّر نفسه من خلال ذلك التأثير الفعال، وكشف من خلاله عن معنى ما قيل أو كُتب أو وقع في الماضي البعيد. لقد بقيت له رواسب وأصداء يمكن ملاحظتها في آفاق الفهم الحاضرة، خاصةً عند أبناء الماضي البعيد وورثة الحضارة القديمة التي لا يصح لهذا السبب أن نصفها بأنها ميتة أو منقرضة كما يفعل الغرباء عنها في كثير من الأحيان (ويكفي أن نتذكر عنوان كتاب أوبنهايم السابق الذكر) وفي هذا يختلف جادامر عن أستاذه هيدجر في الاهتمام بتاريخ التأثير لا بتاريخ الوجود، ويتخلَّى عما سماه الأخير بتكشف قدر الوجود الذي «يحدث» في الزمان على نحوٍ غامض، كما يتجنب كل محاولة لتأسيس الوجود على أسس أنطولوجية أو ميتافيزيقية، أضف إلى هذا أنه يختلف عن أستاذه في قضية أخطر؛ فقد أكد هيدجر أن «مشروع» المستقبل هو مشروع إمكانات وجودي الفردي الذي لا ينفصل عن ماضيَّ المنقضي،٧٠ بينما أكد جادامر أن الماضي هو التراث التاريخي الذي يضعنا داخل سياق التأثير التاريخي الفعَّال. ولعل الفيلسوفين لا يتناقضان في هذه القضية بقدر ما يتكاملان؛ فالتراث يطبع أصحابه من ناحية تأثيره التاريخي الفعال، كما يحدد «مشروعهم» نحو إمكانات مستقبلهم أو نوع إرادتهم وفهمهم لوجودهم في المستقبل، وهو في الحالين تأكيد للذات التاريخية الحرة التي تنفتح على القديم فتجدده، وتلتقي في حاضرها بالماضي البعيد فتجد نفسها فيه، وتبدعه كما تبدع ذاتها وحقيقتها إبداعًا جديدًا، وإذا كنا لا ننتظر هذا التفتُّح أو الإبداع من الإنسان العادي الذي تستهلكه حاجات الحاضر وضروراته، فممن نتوقعه إلا من الشاعر والفنان المتفتِّح والمبدع بطبيعته؟ وإذا كان قد حاول أن يصل أفقه بأفق أسلافه وينصهر في تراثهم، فكيف كانت طريقته في ذلك؟ ماذا كانت نتيجة تجربته؟ هل فهم وتعلَّم وتجدَّد حين حاول أن يخرج من حدود شخصيته وعصره ليدخل في حدود شخصيةٍ أخرى أو عصرٍ آخر؟ وماذا كان هدفه من «توظيف» التراث واستدعاء معانيه ورموزه وأساطيره وأحداثه وشخصياته؟ وإلى أي حد تصدق عليه عبارة هيدجر: «إنَّ الأصل الذي ننحدر منه، يظل على الدوام هو المستقبل الذي نتجه إليه»؟

هذا هو الذي يتعيَّن علينا أن نختم به هذا التمهيد.

(٧) استلهام تراث وادي الرافدين عند الشاعر العربي المُجدِّد

استلهام التراث موضوع ضخم، له أبعاده الفنية والثقافية والدينية والنفسية والاجتماعية والسياسية والفلكلورية … إلخ، وسوف نقتصر في هذا المجال المحدود على النظر في مدى إقبال الشاعر العربي المجدِّد على استلهام التراث الأدبي والفكري في حضارة وادي الرافدين، ثم نضيِّق من دائرة النظر فنكتفي بحديثٍ موجز عن استدعاء بعض شخصيات هذا التراث وأساطيره ورموزه عند واحد من أبنائه العظام، وهو بدر شاكر السياب، أحد رواد شعرنا العربي الجديد (١٩٢٦–١٩٦٣)، ويحسُن بنا قبل البدء في هذا الحديث أن نجمل ما بسطناه على الصفحات السابقة عن تجربة الاتصال بالتراث وطبيعتها ودورها في حياتنا؛ لأن قضية الوعي التاريخي الحي ليست في الحقيقة هي قضية الشاعر والأديب والفنان والمؤرِّخ وحدهم، وإنما هي قضية الإنسان العربي الراسف في أغلال التخلُّف وأزماته المزمنة.

إن الإنسان بطبيعته كائن تراثي-تاريخي، ولغوي-حضاري، وهو ينتمي للتراث شاء ذلك أو لم يشأ، وليس التراث في كل ميادينه مخزن «أشياء» صامتةٍ خرساء، وإنما هو وجودٌ حيٌّ متجدد؛ لأنه تجربة وجود شعب من الشعوب، وأسلوب حياته ونظرته للعالم والزمان، وموقفه من الحياة والإنسان.

وكل قراءة للتراث هي في الحقيقة — كما أكدنا من قبلُ — قراءة للحاضر في الماضي، كما هي تفسير لأنفسنا وفهمنا للحياة من خلال تفسيرنا وفهمنا لتراث الماضي؛ فالتراث ليس مطلقًا، ولا يتحرك في مطلقٍ مجردٍ ناءٍ، وإنما هو «عينانيٌّ وآنيٌّ ومُشخَّص قبل كل شيء.»٧١ ويتجلَّى تأثيره في المواقف السياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية، وتتجدَّد حياته وحياتنا معه بالاتصال به سلبًا أو إيجابًا، رفضًا أو إحياءً، وذلك بصنع تراثٍ جديد يتجاوزه ويُغيُّره، ثم يضاف إلى تياره المتدفِّق بعد وقت يطول أو يقصر، فيصبح موجة من أمواجه، وجزءًا حيًّا من وحدة تركيبه الحي …

والتراث في مجموعه — باستثناء الوحي المقدَّس الذي يتعلَّق بأصول العقيدة — مُبدَعٌ إنسانيٌّ صرف، وإنجازٌ زمانيٌّ عرضي يورثه إنسان لإنسان، فهو ظاهرة طبيعية ممتدة في التاريخ، ذات عناصر تاريخية تتشكَّل وتُشكِّل، تسكن وتتحرَّك، تسقط منها أشياء وتبقى أشياء، ومن ثم فهو الذي شكَّلنا أيضًا تاريخيًّا وحضاريًّا، وهو الذي صاغ كياننا لغويًّا وثقافيًّا ووجوديًّا. والأمر يتوقَّف علينا وعلى اختيارنا: هل نكون به أحرارًا؟ أم نكون له عبيدًا؟ وعلاقة العربي المعاصر بتراثه الديني والقومي والإنساني يترتَّب عليها الامتداد في التاريخ وفي التجربة بالكون والوجود، والالتزام بتجاوز حاضر التخلُّف الشامل، بغية الوصول إلى الوجود والوعي العربي المطلق من إسار الوهم والخرافة، وأغلال القهر والعقم. وليست مهمة الإنسان العربي — ولا الشاعر والأديب العربي بطبيعة الحال — هي «إحياء» التراث الرافدي القديم أو غيره وبعثه بكامل سحنته وهيئته ليكون محركنا المركزي أو المحوري، ففي هذا تنكُّر لفرديتنا الذاتية الراهنة، ولروح زماننا وعصرنا، ولقدرتنا الثابتة على إبداع أعمالٍ جديدة و«تراثٍ» جديد، كما أنها ليست في انتقاء عناصر منه هنا أو هناك من أجل تقمُّصها من جديد؛ فهذا أمر مصطنع، يقوم على خداع الزمن والذات، ويوهم باحترام التراث وتوقيره، بل إنها ليست في استلهام وجوه منه تروق لنا وتحلو في أعيننا في هذه اللحظة الزمنية أو تلك. إن الأمر في الواقع أخطر من هذا بكثير؛ لأنه يتعلق «بتحذير» هويتنا ووعينا وتجديدهما في آنٍ واحد، بحيث تتجسد كينونتنا الفاعلة المبدعة فيما ننشئه من أعمال في الفن والأدب والعلم والحياة السياسية والاجتماعية واليومية.

وإذا كنا جادين حقًّا في «إحياء التراث» — في إمداداته المختلفة ومنتجاته وأنماط الوعي والوجود المتعارضة فيه على مدى حقبه المتتالية — على أساس من احترامه والعلم به والنظر إليه نظرة تاريخية مُتَّزنة، فلا بد أن نخرجه من دائرة «الاختصاص» إلى دائرة «التثقف» التراثي العام، أي لا بد من تحويله إلى ثقافةٍ عامة معيشة، مع التنبُّه الدائم لشروطه أو ظروفه الموضوعية والمعرفية والتاريخية والاجتماعية الخاصة به، وبعناصر الاتصال والانفصال بينها وبين شروط وجودنا وظروفه «وينبغي الاعتراف هنا بأن الوعي بأصولنا وجذور تكويننا في حضاراتنا القديمة — رافديةً كانت أو مصريةً أو سوريةً وكنعانيةً — لم يزل بعيدًا عن المثقف والإنسان العادي، ولم يزل محصورًا في القِلَّة القليلة من علمائنا ودارسينا المختصِّين وبعض الهواة المطَّلعين والمبدعين الموهوبين …»

إن دور التراث — قديمه ووسيطه وحديثه — في حياة الفرد والأمة دورٌ خطير؛ لأنه يدخل في المركب الحي الذي يشكلهما نفسيًّا واجتماعيًّا وقوميًّا، ويحدد موقفهما الآنيَّ المتَّزن أو المتشنِّج من «الماضي» و«المستقبل»، والمنظور التاريخي الذي أكدناه على الصفحات السابقة — أو «تاريخية» التراث — يُحتِّم علينا أن نكون على وعيٍ تامٍّ بأن الذي يدخل في هذا المركب الحي ليس هو كل التراث؛ إذ تسقط منه كما سبق القول أجزاء على جنبات التاريخ وينبغي «تعليقها» أو «وضعها بين قوسين»؛ لأنها كفَّت عن الوجود الفعلي واتخذت مكانها في سجلات التاريخ أو متاحفه، كما تبقَّى منه أجزاء تؤدي غرضًا أو تلبي حاجة أو تعبر عن مقومات ومكونات وقيم لا يتنازل عنها إلا من يتنازل عن ملامح وجهه ووحدة شخصيته، وهذه الأجزاء يمكن دمجها دمجًا ماديًّا في حياتنا، أو استلهام عناصرها الجمالية والفنية والفكرية، بحيث ينتج عن هذا الدمج والاستلهام «تراث» يتصل «بتراث» (مهما أعلن أصحابه القطيعة والمخالفة أو أطلقوا صيحات التقويض والهدم كما سبقت الإشارة؛ لأن الانقطاع أو المخالفة تظل في النهاية نوعًا من أنواع الاتصال والتواصل، على نحو ما يبقى الصمت نوعًا من أنواع الكلام والتعبير …).

ولا بد أخيرًا من التحذير من المعاني السلبية لاستلهام التراث؛ حتى لا يصبح عملية توسيع مصطنعة نلجأ إليها ذرًّا للرماد في العيون، أو لونًا من ألوان التباهي والتفاخر وإيهام الذات والتعويض عن فقر الواقع وجدبه، أو عملية التفاف حول التراث وليِّ عنقه للتمويه بالحداثة والمعاصرة وخداع النفس في الوقت ذاته بأنها «تنهل من منابعها»، بينما هي في الحقيقة تهرب إليها من تبعات حاضرها الجسيمة، وتتسلَّل من زمانها لتحيي زمان غيرها، والحق أن الشاعر والفنان بوجهٍ عام، مثله في هذا مثل أي إنسانٍ آخر، «لا يتوقف ذهنيًّا وعمليًّا إلا ضمن الشروط المشخصة المباشرة لوجوده الراهن.»٧٢ ولا يستلهم تراث الماضي إلا لكي يزداد حياةً وتجددًا وحضورًا، ويزيدنا كذلك إن نحن أحسنَّا قراءته وفهمه ومشاركته … إنه كذلك يصنع منه تراثه الخاص نتيجة تجربته الخاصة به وعلى قدر موهبته، وبقدر ما يكون حظُّه من التوفيق في صياغة هذه التجربة، يكون تراثه الجديد جزءًا من التراث الأدبي والجمالي العام، وهنا تصدق مقولة الشاعر الناقد «إليوت» في مقاله عن «التراث والموهبة الفردية» من أن الحاضر ينبغي أن يغيِّر الماضي بمقدار ما يوجِّه الماضي الحاضر، وأنه ليس لشاعر أو فنان في أي نوع من الفنون قيمته الكاملة بنفسه، وإنما تترتب قيمته على أساس علاقته بالسلف من الشعراء والفنانين؛ ولذلك كان خير ما في عمل الشاعر وأكثر أجزاء هذا العمل فردية هو التراث الذي يثبت فيه أجدادُه الموتى خلودَهم.
وعلى الرغم من أن العبارة الأخيرة تقوم على التسليم بأن التراث والإبداع نقيضان متلازمان، فإن تصحيح النظرة إلى التراث شرطٌ لازم للإبداع الفردي الذي «يرفع» هذا التناقض، ولا خطر من القول — على لسان ناقد مبدع٧٣ — بأن النظرة إلى التراث هي من نوع الأساطير الجماعية التي تَخلق بها الشعوب وجودها، ومن خلال هذا الوجود فقط يمكن أن تنفتح الأساطير الفردية وتزدهر … وسوف نحاول الآن أن نقف وقفةً قصيرة عند الأسطورة الفردية لواحد من أهم شعرائنا المجدِّدين، اتصل بالأساطير الجماعية في تراثه، واستطاع من خلال تجربته الحية به — برغم تسرُّعها الشديد وتنقُّلها تنقُّل النحل أو الفراش بين أساطيرَ جماعيةٍ أخرى في أكثر من تراث — استطاع أن ينضج أسطورته الخاصة التي تنضح بالمرارة والألم، كما نجح في العثور — بلغة «إليوت» أيضًا — على «المعادل الموضوعي» لتجربته الذاتية في بعض الأساطير والشخصيات والرموز التي استدعاها من منجم وجوده وتاريخه الماضي لأسباب نفسية وسياسية واجتماعية. وقبل الانتقال إلى بعض النماذج من شعر السياب لتأمُّل تجربته، أرى من الضروري أن أبدأ بطرح بعض الأسئلة عن موقف الشاعر العربي المجدِّد من تراثه؛ لعلها أن تحفز القارئ على المزيد من التفكير في هذه القضية التي لن يتسع هذا التمهيد المحدود لمناقشتها بصورة وافية:
بأي عين نظر الشاعر العربي المعاصر إلى رموز تراثه وأساطيره وشخصياته ونصوصه الباقية؟ هل وقف منه موقف العبادة للماضي أم موقف الرفض له، وكلاهما عاجز عن إدراكه إدراكًا منصفًا أم استطاع أن يتجاوز الموقفين فيُجرِّبه تجربته الخاصة التي لا تتشنَّج بالتعصب له أو عليه، ولا تحاكي تجربة «الآخر» الغريب فتغترب عنه؟ هل اكتفى بالرجوع إليه والتعبير «عنه» كما فعل آباؤه من جيل الإحيائيين أو الكلاسيكيين الجدد، أم راح «يوظِّفه» ويعبر «به» عن موقفه من الوجود والإنسان والزمان ماضيه وحاضره ومستقبله؟٧٤ هل اقتصر جهده على استعداء هذا التراث وإسقاط همومه عليه، أم حاول أن يكتشفه ويستوعبه تمهيدًا لتغييره وتحويله، أي إبداعه بشكلٍ من الأشكال، وصنع تراثٍ جديد يصبُّ في نهره المتدفِّق بعد أن يثير أمواجه، وينضم في النهاية إلى سياق وحدته الحية بعد أن يتمرَّد عليه؟ لقد لجأ الأديب الغربي لتراثه، وأدخله في أطوار حياةٍ جديدة، وأنطقه بلسانه ولسان عصره — وما أكثر ما استهلم «أوديسيسوس» و«أوديب» و«إلكترا» و«أنتيجونا» و«فاوست» و«دون جوان» وغيرها في أعمال روائية ومسرحية وشعرية وموسيقية وتشكيلية يزخر بها تاريخ أدبه وفنِّه الحديث — فكيف نظر شاعرنا المجدِّد إلى تراثه الخاص، كيف استلهمه؟ هل عرفه أصلًا معرفةً كافية لأن يتصل به؟
وإذا كان قد فعل هذا في حالاتٍ قليلة، فهل حاول أن يبثَّ أنفاس الحياة في قيمه الباقية، أم أكد رفضه له وقطيعته معه؛ ليكون «مستقبليًّا» بحقٍّ ويُثبت معاصرته له وحداثته بكل سبيل؟ ألم يؤدِّ هذا إلى جرِّ ذلك التراث الماضي إلى الحاضر، إلى الجديد وحلم المستقبل، بحيث لم يعد له من وجود في ميزان الحداثة إلا كوجود الأشباح (هذه الحداثة التي يلغو بها الكثيرون في هذه الأيام عن غير علم لا بتراثهم الذي يثرثرون عنه أو يعلنون القطيعة معه، ولا بالتراث الغربي الذي يقصدونه في الغالب عندما يتكلَّمون عن الحداثة دون علمٍ حقيقي أيضًا!) وهل وقف الجدل الشعري المعاصر مع التراث عند التغيير أو حتى التحوير والتحريف المشروع لقيمه ورموزه وأساطيره، أم بلغ عند البعض حد إسقاطه والتجنِّي عليه؟ ألم يتمخَّض الأمر في النهاية عن نماذج شعرية يمكن أن نعتزَّ بها ونطمئن إلى «حداثتها» العربية الحقة، كما يمكن أن نقول — على ضوء ما سبق — إن الشاعر فيها قد «تداخل أُفقه» وانصهر مع أفق الأسطورة أو الشخصية أو الدلالة التراثية، فجدَّد تراثه، وفهمه وتعلَّم منه، كما جدد شاعريته وإنسانيته ووسع أُفقه وأفقنا معه وعَمَّقه وأغناه؟!٧٥
يمكننا القول على ضوء الأسئلة السابقة إن الشاعر يستخدم أسطورةً معينة تلبية لحاجةٍ فنية وشعورية لا يتم لتجربته التشكُّل والنضج إلا من خلالها، أما محاولة التلفيق المصطنع بين التجربة وأية أسطورة لا توائم حاجتها التعبيرية فهي جناية على الأسطورة والتجربة معًا، ومن حق الشاعر بطبيعة الحال أن يتصرَّف في شخصياته ورموزه الأسطورية كما تشاء تجربته الشعرية والشعورية، بحيث يضيف إليها ملامحَ أسطوريةً لا صلة لها بالحقيقة التاريخية أو التراثية التي تنطوي عليها النصوص الأصلية — كما فعل البياتي مع شخصية أورفيوس، أو علي أحمد سعيد «أدونيس» مع مهيار الدمشقي وصقر قريش، أو صلاح عبد الصبور مع الحلاج وبشر الحافي، أو محمد عفيفي مطر مع أنبادوقليس، أو خليل حاوي وغيره من الشعراء مع السندباد، أو السياب مع شخصية أدونيس السورية والفينيقية التي تسرَّبت إليها عناصر مصرية «أوزوريس» ورافدية «دي موزي وتموز» ويونانية «أتيس» أو توحَّدت مع شخصية المسيح في قصيدته الشهيرة «المسيح بعد الصلب» — ومن الواضح أن الشعراء الذين تناولوا شخصية «أدونيس» أو تموز وعشتار — قاصدين دلالتها على البعث والتجدد — كانوا يستندون إلى وجود هذه الأسطورة في الضمير الثقافي والجمعي العام عند قرائهم، ولكن ندرة استخدام الشخصيات والأساطير الرافدية الأخرى إلى حد غيابها في معظم الأحوال يمكن تفسيره بغيابها عن وعي المتلقي العربي، أو بإحساس الشاعر نفسه بغرابتها وغربتها عن وجدان المتلقي، وذلك بالقياس إلى غيرها من الأساطير والشخصيات الدينية والتاريخية والأدبية العربية والعناصر الفلكلورية التي لجأ إليها بكثرة، بل بالقياس إلى الأساطير اليونانية التي أسرف بعض شعرائنا في استخدامها مع البدايات الأولى للشعر الجديد، حتى لجئوا في بعض الأحيان إلى أساطير من آدابٍ أخرى بعيدة (كما فعلت نازك الملائكة مع شخصياتٍ هندية مثل بوذا في قصيدتها صلاة إلى الأشباح، وهندو-أمريكية في قصيدتها هياواثا، وكما فعل السياب نفسه مع شخصيات من المأثور الصيني في قصيدته عن رؤية فوكاي). وربما يُفسِّر لنا هذا لغز تجاهل شخصيةٍ ملحمية وأسطورية بالغة الأهمية مثل شخصية «جلجاميش» التي لم تجد — على قدر علمي — من يستوحيها في عملٍ شعريٍّ خلَّاق،٧٦ بيد أن اللوم ينبغي ألا يقع على المتلقِّي وحده؛ إذ لو كان الشاعر العربي قد بذل جهدًا كافيًا في تعرُّف تراثه السومري والبابلي والآشوري والسوري والمصري القديم، لساعد من جانبٍ أكبر مساعدة في تثقف جماهير القراء بهذا التراث، ولشجَّع المختصِّين من العلماء والدارسين على تبسيطه ونشره بينهم (وهو أمر لم يقصروا فيه كل التقصير).

مهما يكن الأمر فإن السياب في قصيدته «مدينة السندباد» (١٩٥٨) قد صوَّر القهر والطغيان (أثناء حكم عبد الكريم قاسم) في مقاطعها الخمسة، واستدعى — في هذه القصيدة وحدها — شخصياتٍ تراثية من حضاراتٍ وعصورٍ مختلفة مثل لعاذر والمسيح وأدونيس وعشتار وتموز وقابيل:

أهذا أدونيس … هذا الخواء؟
وهذا الشحوب؟ وهذا الجفاف؟
أهذا أدونيس؟ أين الضياء؟
وأين القطاف؟
مناجل لا تحصد
أزاهر لا تعقد
مزارع سوداء من غير ماء …

ثم تنفرد عشتار ربة الخصب والحب بالمقطع الخامس الذي تتحول فيه عن وظيفتها المعروفة في أسطورتها المتناثرة في بعض قصائد السياب الأخرى (مثل قصيدته مدينة بلا مطر، ١٩٥٧):

عشتار عطشى، ليس في جبينها زهر،
وفي يديها سلةٌ ثمارها حجر،
ترجم كل زوجة بها، وللنخيل
في شطها عويل …

وعندما يستدعي السياب أيضًا شخصية أيوب وتجربته في قصائده عن «سفر أيوب» وقالوا لأيوب «من ديوانه منزل الأقنان» وفي قصيدة أخرى سبقتها هي «أمام باب الله»، نجده يعتمد على صورة أيوب في السفر المعروف باسمه في التوراة «وبخاصة في الإصحاحين ١٦ و١٩» أو على الآيات التي يرد فيها ذكره في القرآن الكريم (سورة الأنبياء: ٨٣، وسورة ص: ٤٤) فهو حين يقول في القصيدة الأخيرة:

يا رب أيوب قد أعيا به الداء
في غربة دونما مال ولا سكن،
يدعوك في الدجن،
يدعوك في ظلمات الموت، أعباء
ناء الفؤاد بها …

أو حين يقول في أبياته المشهورة من «سفر أيوب»:

لك الحمد أن الرزايا عطايا،
وأن المصيبات بعض الكرم.
لك الحمد مهما استطال البلاء،
ومهما استبد الألم.

فإنما يجعلنا نتمثل صورة «المعذَّب البار» في النص المعروف ﺑ «أيوب البابلي»، على الرغم من أننا نشكُّ في أن الشاعر نفسه قد عرف هذا النص أو فكَّر في استدعائه حتى ولو كان قد عرفه؛ ذلك أن صورة أيوب في التوراة والقرآن الكريم، وربما في المأثور الشعبي أيضًا، هي التي استقرت في وجدانه وألحَّت عليه أثناء مرضه الطويل، ومع أن المرض والعذاب قاسمٌ مشترك بين أيوب البابلي وأيوب العبري، فمن المشكوك فيه، كما قلتُ، أن يكون الأول خطر على بال الشاعر، فهل يكفي أن نُفسِّر ذلك باغترابه عن تراثه الخاص ولجوئه إلى تراثٍ آخر، أم نبرره بتغلغل مأساة أيوب التوراة والقرآن الكريم في الوجدان البشري العام، ودلالتها القوية على التمرُّد والعجز الإنساني، لا سيما في حالة السياب الذي صارع المرض القاسي وصبر عليه صبر أيوب الذي طال أكثر من صبر أيوب البابلي؟

مهما يكن الأثر في اختلاف الأجوبة الممكنة عن هذه الأسئلة، فلا بد أن يستخدم الأديب كما سبق القول أسطورةً معيَّنة تُلبِّي حاجةً فنية وشعورية لا يتم لتجربته التشكُّل إلا من خلالها. وقد استطاع السياب أن يخلق أسطورته «الأيوبية» الخاصة التي شاركه فيها بالتعاطف والإكبار كل فن قرأ له، كما استطاع أن يتحدَّى بها الأسطورة الجماعية في فترة من أحلك الفترات سوادًا في تاريخ بلاده، وأن يُثبت قدرة الشعر على الانتصار على القهر. وإذا كنا نفتقد لديه صورة أيوب البابلي الذي لا يقلُّ عن نظيره العبري في تحمُّل العذاب والظلم والغدر، فربما نستطيع كذلك أن نتلمس له العذر، متمنين للشاعر العربي المجدد أن ينفتح على تراثه ليبدع أسطورته الخاصة التي تجدد حياته وحياة الشعر والواقع … وهذا بالطبع أمرٌ متروكٌ لتجربته وموهبته وثقافته وانتمائه لجذوره.

إن عصرنا ليس عصر شك واختبار ومراجعة فحسب، ولكنه عصر يتطلَّب من الإنسان أن يفكك كل ما حصله في تاريخه من خبرات، ويشحذ كل ما أوتيه من الذكاء والوعي والصدق، ليعيد بناء نفسه وحضارته في عالم يكاد يختلف اختلافًا جذريًّا عن ذلك الذي تعهدناه منذ نصف قرن أو حتى ربع قرن لا يزيد.

وإذا كان غياب الوعي أو الحس التاريخي من أقوى أسباب محنتنا العربية الراهنة، فإن تجديد هذا الوعي بتجديد صلتنا بالماضي من أهم العوامل التي تساعدنا على تجاوز المحنة. ولا يصح أن نتشاءم أو نكتفي بإطلاق صيحات الرفض والقطيعة، وصرخات الشكوى والتحسُّر؛ لأننا نعيش اليوم عصر انتفاضة «الحجر» الذي يصرخ في يد الطفل والمرأة والشاب الأعزل في وطننا المحاصر السليب، هذا الحجر لا يكتفي بلطم وجه عدو لا حد لأطماعه اللاتاريخية واللاإنسانية، وإنما يضرب مستنقع وجودنا الآسن ووعينا الراكد الذي «نتصادم في حدسه» على حد قول أبي العلاء المعري. وأقصى ما يطمح إليه هذا الكتاب هو أن يكون كذلك حجرًا يُحرِّك مياه هذا الوعي، ولبنةً متواضعة تُضاف إلى لبناتٍ أخرى طيبة في بناء «هويتنا» العربية. إن الفكر العربي المعاصر لن يستطيع عبور محنته الراهنة وتخطِّي أوضاعه السائدة حتى يصبح فكرًا حرًّا، ومن مقومات هذه الحرية أن يتجرَّأ على الكشف عن جذور «لا حريته» وأصول أزماته الممتدة في تراثه الماضي ومظاهرها المختلفة الغالبة على حاضره والمعوِّقة لمسيرة مستقبله، وأن يبرز للنور إيجابياته وقيمه المضيئة التي يمكن أن تكون مصابيحَ هاديةً. وفي سبيل هذه الحرية وهذا الوعي الحر وضع هذا الكتاب.

القاهرة والكويت
في شهر إبريل ١٩٩٢
١  يُشكِّل السومريون والأكاديون الساميون الأرضية الحقيقية لحضارة ما بين النهرين، والسومريون شعبٌ هاجر إلى أرض الرافدين بعد أن غادر وطنه الأصلي الذي يقع في مكان ما في آسيا، لم يحدِّد موضعه بالضبط حتى اليوم، والموطن الذي استقرَّ فيه السومريون بعد هجرتهم من موطنهم الأصلي يُعادل ثلثي المنطقة الواقعة جنوبي بغداد، والمحصورة بين مجرى نهري الفرات ودجلة، وقد سُمِّيت سومر أو شومر. وقد استطاع هذا الشعبُ الفذُّ أن ينخرط مع السكان الأصليين منذ هجرته إلى أرض الرافدين نحو منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وبقي تأثيره الحضاري من حيث اللغة والدين والكتابة المسمارية (أو الإسفينية التي يرجع لهم الفضل في اختراعها) مستمرًّا خلال جميع العصور التاريخية حتى ساعة انطفاء الومضة الأخيرة من حضارة الكتابة المسمارية في الشرق القديم.
٢  فالفلسفة الصينية التقليدية التي ظلَّت بعض مدارسها حية حتى أوائل القرن العشرين يُكتفى بذكر أبرز اتجاهاتها كالكونفوشيوسية (عند مؤسسها كنج-فو-تسو ٥٥١–٤٧٩ق.م. وتابعَيه الكبيرَين المتعارضَين منشيوس ٣٧٢–٢٨٩ق.م.، وهسين-تزو ٢٩٨–٢٣٨ق.م.) والطاوية غر مؤسسها لاو-تزو ٥٧٠–٥١٧ق.م.، وشاعرها وفيلسوفها المثالي العجيب تشوانج تزو ٣٩٩–٢٩٥ق.م.، وبعض المدارس الأخرى وفي مقدمتها مدرسة الشرائع التي دعت للقوة والسلطة الشمولية (ولذلك كانت أقرب المدارس القديمة إلى النظام الشيوعي الحديث)، ومدرسة الحب الكلي أو الموهية نسبة لمؤسسها مو-تزو ٤٧٩–٣٣٨ق.م.، ومدرسة الأسماء الجدلية التي بالغت في السفسطة والاهتمام بتعريف الأسماء، ومدرسة الين واليانج التي تقوم على المبدأ الجدلي الصيني الشهير عن قوة السلب والهدم وقوة الإيجاب والبناء على الترتيب. أما الفلسفة الهندية فربما اكتفى الكتاب من مدارسها واتجاهاتها الفكرية التي تراكمت جبالًا فوق جبال عبر عشرات القرون بالكلام عن منابعها الكبرى وهي كتابات إلفيرا والبراهمانا والأوبانيشاد، وملاحمها الشعرية الهائلة كالمهابهاراتا (التي تضم ملحمة البهاجافادجيتا والرامايانا)، وربما اقتصرت كذلك على الكلام عن أنساق الفكر الهندي الستة فيما يُدعى بعصر السوترا (بين ٦٠٠–٢٠٠ق.م.) وهي السامخيا واليوجا (بثنائيتهما عن الذات واللاذات وتدريباتهما الروحية في التأمل والتركيز)، والنيايا والفايشيتكا (بنظرياتهما المنطقية والمادية أو الذرية التعددية وآرائهما في الخلاص والتحرر من آلام الميلاد المتجدِّد) والميمامسا والفيدانتا بأفكارهما الواحدية وتجاربهما المتعالية، وجميعها شروح مختلفة على معاني الكتابات المقدسة للفيدا والبراهمانا … ومن الواضح أن هذه كلها قطرات شحيحة من بحور هذه الفلسفات الشرقية العميقة … راجع St. Elmo NAuman, JR., Dictionary of Asian Philosophies, London, Routledge & Kegan Paul, 1979.
٣  من مقدمة الأستاذ ماسون-أورسبل لكتابه «الفلسفة في الشرق»، راجع الترجمة العربية للمرحوم الدكتور عمر يوسف موسى، القاهرة، دار المعارف، ص١٦. ويؤسفني القول إن هذه الترجمة، رغم الجهد الكبير الذي بُذل فيها، تفتقر إلى الدقَّة، وتقع في أخطاءٍ كثيرة في كتابة أسماء الأماكن والسلالات والأشخاص، راجع كذلك الأصل الفرنسي: Masson-Oursel, Paul, La philosophie en Orient (Fascicule Supplementaire de l’histoire de la pholosophie par E. Brehier), Paris preses univ. de france, 1984 preface p. 1. v.
٤  المرجع السابق نفسه، الترجمة العربية ص٧–١٥، والأصل الفرنسي ص٥.
٥  الإنسي واللوجال كلمتان سومريتان تعنيان الحاكم أو الملك الكاهن الذي يجمع بين السلطة الدنيوية والدينية.
٦  على حد تعبير الأستاذ علي حسين الجابري في كتابه: «الحوار الفلسفي بين حضارات الشرق القديمة وحضارة اليونان»، بغداد، سلسلة كتب آفاق، العدد ١٢، ١٩٨٥، ص٢٧ والكتاب بأكمله.
٧  هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ — الجزء الثاني، العالم الشرقي، ترجمة وتقديم وتعليق الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، دار الثقافة، ١٩٨٦ (راجع مقدمة المترجم من ص٧–٥٢).
٨  لوسيان ليفي-بريل (١٨٥٧–١٩٣٩)، فيلسوف اجتماعي وإثنولوجي فرنسي من مدرسة «كونت» و«دوركايم»، اشتهر بمؤلفاته عن التفكير «السابق على المنطق» عند من سمَّاهم بالبدائيين. من أهم كتبه: الوظائف العقلية في المجتمعات الدنيا (١٩١٠)، العقلية البدائية (١٩٢٢)، الروح البدائية (١٩٢٧)، الأساطير البدائية (١٩٣٥)، التجربة الصوفية (١٩٣٨). ويُعدُّ ليفي بريل من الرواد الممهِّدين للبنيوية.
٩  ﻫ. فرانكفورت، ط. أ. فرانكفورت، جون ولسون، ثوركيلد جاكوبسن: ما قبل الفلسفة، الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى — ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، مراجعة الدكتور محمود الأمين — بغداد، منشورات دار مكتبة الحياة، طبعة ١٩٦٠ وطبعات أخرى تالية (راجع الخاتمة عن انعتاق الفكر من الأسطورة، ص٢٦٣–٢٩٠).
١٠  علي حسين الجابري، المرجع السابق، ص٣٦-٣٧.
١١  المرجع نفسه، ص٣٩.
١٢  نفسه، ص٨٨–٩٢.
١٣  د. حسام محب الدين الألوسي، من الميثولوجيا إلى الفلسفة عند اليونان — أو بواكير الفلسفة قبل طاليس، الكويت، مطبوعات جامعة الكويت، ١٩٧٣ — راجع الفصلين الأول والخامس، وبخاصة من ص١٥ إلى ص٤٤.
١٤  المرجع السابق، ص٨٣-٨٤.
١٥  Oppenheim A. Leo, Ancient Mesopotamia: portrait of dead civilization Chicago 1964, pp. 172ff.
١٦  وهذا هو رأي الأستاذة أريكا راينر في دراستها عن الأدب الأكدي، المنشورة في المرجع الجديد عن علم الأدب، المجلد الأول عن آداب الشرق القديم، فيسبادين، المطبعة الأكاديمية، ١٩٧٨، ص١٥٢ وبعدها: وهو كذلك رأي الأستاذ ليو أوبنهايم في كتابه السابق الذكر، انظر: Erica Reiner: Neues Handbuch der Literaturwissenschaft: Bd. 1 Altorientalische Literaturen, Wolfgang Röllig (Hrsg.), Akad verlag, 1978 S. 152ff.
١٧  راينر، أريكا، المرجع السابق، ص١٦٦-١٦٧.
١٨  يقدِّر بعض الدارسين ألواح النصوص الأدبية التي وُجدت في مكتبة آشور بانيبال — آخر ملوك آشور العظام — في «نينوى» وفي مكتباتٍ أخرى بمدن وأقاليمَ مختلفةٍ — ومن بينها مكتبات «النساخ والكتبة أنفسهم» — بعدد يتراوح بين أربعمائة وخمسمائة لوح، وذلك بعد طرح ألواح النصوص العلمية (في الفلك والرياضيات والصنائع … إلخ) وألواح «الموسوعات» و«معاجم» الألفاظ والعلامات المسمارية (راجع أريكا راينر، المرجع السابق، ص١٥٦-١٥٧) مع ملاحظة أن الكثير منها قد وصل إلى أيدي الأثريين في نُسخٍ مختلفة — ربما بلغت مع النصوص السومرية خاصة الخمسين نسخة — فضلًا عن كسر الألواح والذرات غير المكتملة التي يبذل العلماء جهودًا مضنية في تحقيقها وضمِّها لأصولها، ناهيك عن الفجوات والثغرات وأخطاء التدوين التي يكاد لا يخلو منها واحد من تلك الألواح.
١٩  أوبنهايم، أ. لبو، المرجع السابق الذكر، من ص٢٥٠-٢٥١ وبعدها حتى ص٢٧٥.
٢٠  من الأمثلة على الصنعة التي أخذ الناظمون في العصور المتأخرة لحضارة وادي الرافدين يتفنَّنون فيها، إيجاد ضرب من القصائد الشعرية إذا أخذت فيها المقاطع الأولى من كل بيت في القصيدة وجمعت بعضها إلى بعض، كوَّنت جملةً ذات معنًى، وقد تتضمن هذه الجملة اسم الشاعر — أو الجامع والناسخ — أو دعاءً خاصًّا لإله مُعيَّن، أو غير ذلك من المقاصد. وتُعرَف هذه الصناعة الشعرية في اللغات الأجنبية بمصطلح «أكروستيك Acrostic» راجع للمرحوم الأستاذ طه باقر مقدمة ترجمته لملحمة جلجاميش، ص١٢.
٢١  للملحمة ترجمات مختلفة باللغة العربية واللغات الحديثة أكتفي بذكر أحدثها وأشهرها: ملحمة جلجاميش من ترجمة طه باقر عن النص الأصلي، وكذلك ترجمة الدكتور سامي سعيد الأحمد، وكنوز الأعماق، قراءة في ملحمة جلجاميش مع دراسة مطوَّلة وترجمة النص للأستاذ فراس السواح (دمشق، العربي للطباعة والنشرة، ١٩٨٧) ومن الترجمات الإنجليزية المشهورة ترجمة شبايزر ضمن كتاب جيمز بريتشارد المعروف نصوص قديمة من الشرق الأدنى متعلقة بالعهد القديم، من ص٧٢–٩٩، وترجمة ألكزندر هايديل (١٩٤٦)، وأحدثها وأجملها ترجمة الأستاذة ن. ك. ساندارز التي ظهرت آخر طبعاتها سنة ١٩٧٢ في مكتبة «بنجوبن» الشهيرة للنصوص الكلاسيكية. أما في الفرنسية فهناك ترجمة ج. كونتينو، وفي الألمانية ترجمات عديدة، تُعد ترجمة شوت هي الترجمة المعتمدة (ترجع لسنة ١٩٣٤ ولها طبعاتٌ تالية وبخاصة في سلسلة ريكلام المشهورة) — أما ملحمة الخلق أو الخليقة البابلية فيمكن الاطلاع على ترجمة الأستاذ فراس السواح (عن الإنجليزية) في كتابه السابق الذكر (مغامرة العقل الأولى، من ص٥٥–٨٥، وكذلك نص قصة الطوفان عن اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجاميش من ص١٥٢–١٥٨) بجانب دراسة وتفسير للملحمة للدكتور محمد خليفة أحمد حسن (لم أتمكن من التوصل إليها).
٢٢  راجع معظم هذه النصوص التاريخية منذ السلالة البابلية الأولى حتى العصر السلوقي في الترجمة الإنجليزية للأستاذ أوبنهايم ضمن الكتاب السابق الذكر الذي أشرف على تحريره جيمس بريتشارد، ص٢٦٥–٣١٧ (الطبعة الثانية، ١٩٥٥–١٩٦٢) وارجع كذلك إلى نصوص الملاحم والأساطير والقصص المذكورة في الكتاب نفسه (ص٦٠–١١٩ ومن ترجمة الأستاذ شبايزر).
٢٣  لا أقصد إثارة قضية «قصيدة النثر» ولا الدفاع عنها؛ فهي تدافع عن نفسها في نماذجها الرائعة (عند محمد الماغوط مثلًا)، وإنما أؤكد حقيقة يلمسها قارئ التراث قديمه وحديثه، إذ يكفي على سبيل المثال أن يتذكر صفحات من النثر تفيض شاعرية عند الجاحظ (في كتاب الحيوان)، وأبي حيان التوحيدي (في الإشارات الإلهية)، وابن حزم (طوق الحمامة)، وابن شهيد (التوابع والزوابع)، وصفحات هي الشعر في جوهره النقي عند الصوفية (الحلاج والنفري بوجهٍ خاص، وابن عربي والسهروردي المقتول). أما في الحديث فهي أكثر من أن تُحصى (من الرافعي والزيات وطه حسين والمازني إلى جبران وميخائيل نعيمة وحسين عفيف الذي يندر اليوم أن يتذكر أحد شعره الدري المنثور)، بل إنك لتقع في الكتابات العلمية والفلسفية نفسها على نصوص يتوارى أمامها ويخجل منها ركام المنظوم الذي يرزح على كاهل الشعر العربي والغربي، والأمثلة على ذلك يصعب حصرها (من هيراقليطس إلى شوبنهور ونيتشه وكيركجور، إلى برجسون وكامي وهيدجر وليفي شتراوس وأرنست بلوخ وغيرهم)، وهل يمكن أن تغيب شاعرية طبيب عظام مثل عمر كامل حسين (قرية ظالمة) أو فيلسوف مثل زكي نجيب محمود (الشرق الفنان، وشروق من الغرب، وغيرهما) أو جغرافي فنان مثل جمال حمدان عن قلب القارئ العربي وذوقه الجمالي؟!
٢٤  توصَّل العلماء لآخر وأكمل نسخ الملحمة بين ألوف الألواح التي عُثر عليها في مكتبة قصر الملك الآشوري «آشور بانيبال» في نينوى، ووجدت تحت هذا العنوان «هو الذي رأى كل شيء» المستمَدِّ من الكلمات التي يبدأ بها اللوح الأول … وتتألف الملحمة من اثني عشر لوحًا، أثبت العلماء (الأستاذان جاد وكرامر) أن أطولها — وهو الثاني عشر الذي يتكون من أكثر من ثلاثمائة سطر — ترجمة حرفية للقسم الثاني من أسطورة سومرية، ويصوِّر هبوط أنكيدو — صديق جلجاميش أو تابعه — إلى العالم السفلي لإحضار الطبلة والعصا السحريَّتَين (البيكو والميكو) اللتَين ضاعتا من سيده جلجاميش. ويُرجَّح أن تكون الملحمة قد كُتبتْ حول الألف الثانية قبل الميلاد أو قبلها بقليل، وقد اكتشفت في بوغاز كوي-وير (قرية تركية صغيرة شمالي هضبة الأناضول وبالقرب من حتوشة عاصمة الإمبراطورية الحيثية) شذرات وكسر تعود لمنتصف الألف الثانية قبل الميلاد من الأصل الأكدي وترجمته الحيثية والحورية، وجلجاميش — أو كلكاميش كما يُكتَب أحيانًا بالكاف الفارسية — هو الملك الخامس من سلالة إرك أو أوروك (الوركاء)، وهي المدينة التي حكمتها هذه السلالة بعد الطوفان، وأعقبت السلالة الأولى التي حكمت في مدينة كيش كما عاصرتها بعض الوقت. وجلجاميش — كما عرفه الأدب العالمي وأثَّر فيه منذ العصور القديمة — هو البطل المغامر والطاغية المخيف الذي يتحول إلى حكيمٍ تعس أرَّقه موت الإنسان وعذَّبه البحث عن الخلود حتى يئس منه وآمن في النهاية — كما سيأتي بعدُ — بأن العمل الحضاري النافع هو (الخلود) الوحيد المتاح للبشر. وقد استمدَّ البابليون مادة الملحمة من خمس قصص سومرية يرجع زمن تدوينها للعصر البابلي القديم، وعُثر على معظم ألواحها في حفائر المدينة السومرية القديمة «نيبور أو نفر». ومن أهم هذه القصص التي تجد ترجمتها الإنجليزية في كتاب «بريتشارد» السابق الذكر (من ص٤٤–٥٢) جلجاميش وأجا (وهو ملك كيش الذي ينتهي حصاره لأوروك بالصلح بين الملكين) وجلجاميش وأرض الأحياء (عن صراعه وصديقه أنكيدو مع الوحش حواوا حارس غابة الأرز) وموت جلجاميش (وتضم الأجزاء الباقية منها البكاء على البطل الذي أصبح ملكًا أو قاضيًا للموتى في العالم السفلي)، وقد نسج البابليون من هذه الأصول المتفرقة عملًا مبدعًا بحق، بحيث صارت الملحمة مثلًا على الاستلهام الخلاق.
٢٥  تجد الترجمة العربية لملحمة الخلق وأساطير البعث والهبوط وقصة الطوفان في كتاب فراس السواح السابق الذكر، كما تجد لها ولمعظم القصص المذكورة تلخيصًا وافيًا في بعض الكتب الجامعة مثل كتاب حضارة العراق، لنخبة من العلماء، الفصل الخاص بالأدب للدكتور فاضل عبد الواحد علي — ولها ترجمات إنجليزية متعددة تجد معظمها بقلم الأستاذ أ. شبايرز في كتاب بريتنارد (من ص٦٠–ص١١٩).
٢٦  يلاحظ أن الأستاذ روبرت بفايفر قد ترجم النص للإنجليزية تحت هذا العنوان الدال: «حوار عن البؤس الإنساني»، وذلك في كتاب بريتشارد (من ص٤٣٨–٤٤٠).
٢٧  قد لا يوافق بعض القراء على إطلاق هذه التسمية عليه؛ ولذلك يقترح الأستاذ لامبرت وصفه بالحوار الساخر المتشائم معًا، كما تُحبِّذ الأستاذة إريكا رايتر ضمه للأدب الساخر (المرجع السابق الذكر، ص٢٠١) ويجعل منه في الدارسين أول تمثيلية مرحة في تاريخ المسرح، مثل الأستاذ أ. هوفر-هيلزبرج في مقال عنه بعنوان «أقدم نص مسرحي في الأدب العالمي وتأثيره» مجلة المسرح العالمي الألمانية، العدد ٣-٤، ١٩٣٧، ص١–١٦ (وهو مقال لم أستطع للأسف أن أتوصَّل إليه) ويتناوله أحد الباحثين من وجهةِ نظرٍ فلسفية، وذلك في مقال الأستاذ جان بوتيرو «حوار التشاؤم والعلو» بمجلة اللاهوت والفلسفة، العدد ٩٩، ١٩٦٦، ص٧–٢٤، ويرجِّح بعض الباحثين كذلك وجود قطعٍ أدبيةٍ ساخرة من نوع الحوار بين السيد والعبد في الأدب السومري، من أشهرها حكاية الرجل الفقير من نيبور (نفر) وهي التي يذكرنا موضوعها بحكايات شعبية مشابهة (سواء في حكايات ألف ليلة أو في حكايات الشطار المتأخرة)، وتعتبر الحكاية الوحيدة التي تجد فيها البطل رجلًا بسيطًا من سواد الشعب، يثأر لكرامته من عمدة مدينته المتسلِّط، ويردُّ له الضربات التي كالها له مضاعفة. وربما كان الهدف من كتابتها هو النقد الاجتماعي، أو السخرية بأحد الموظفين المتعنتين أو المغضوب عليهم من القصر أو الشعب، أو مجرد تسلية الملك وحاشيته بقصة تحتوي على «مقالب» طريفةٍ وكمائن وخدعٍ بارعة … والغريب في أمر هذه الحكاية الشعبية أنها هي الحكاية الوحيدة التي وصلتنا من الأدب السومري.
٢٨  ساباتين موسكاتي، تاريخ وحضارة الشعوب السامية، زيوريخ وكولن، ١٩٦١، ص٧٨ (المرجع السابق الذكر بالألمانية لتعذُّر الوصول إلى الترجمة العربية الممتازة للمرحوم الدكتور السيد يعقوب بكر) وكذلك الدكتور محمد خليفة أحمد حسن، دراسات في تاريخ وحضارة الشعوب السامية القديمة — القاهرة، دار الثقافة، ١٩٨٥، ص١١٤.
٢٩  أوردت الأستاذة أريكا راينر مختارات منها في دراستها السابقة الذكر (ص١٨٧) جاء فيها: ابتعد أيها النوم (أريد أن أعانق حبيبي) أيها الشاب، منذ أن رأتك عيناي … آه يا حبيبي، لقد أرقتُ الليل كله من أجلك/عيناي الملوَّنتان امتلأتا بالنوم. وقد ترجم عالم السومريات الأستاذ كريمر أغنية حب وجَّهتها إحدى الكاهنات من فئة اللوكور إلى شو-سين رابع حكام سلالة أور الثالثة (من نحو سنة ٢٠٠٠ق.م.) واكتشف اللوح الذي دوَّنت عليه رابع الأغنية في حفائر مدينة نيبور (نفر)، ويرجع زمن كتابته للنصف الأول من الألف الثانية، وتثني الكاهنة — التي يبدو أنها مارست معه طقوس الزواج المقدس — على أمه الملكة أبسميتي التي أنجبت رجلًا في مثل نقائه وحسنه، وعلى زوجته داباتوم التي ربما كانت كاهنة تزوَّجها الملك الذي تفيدنا القصيدة أنه ابن الملك المشهور شولجي. تقول أغنية الحب في بعض رباعياتها التي يمكن قراءتها: لأني نطقتها، لأني نطقتها، أهداني مولاي هدية/لأني نطقت بصيحة الفرح أهداني مولاي هدية/قرطًا من ذهب، خاتمًا من لازورد، أعطيناهما هدية/حلقًا ذهبيًّا، حلقًا فضيًّا أهدانيهما مولاي/آه يا مولاي، هديتك مترعة ﺑ … ارفع وجهك (أو عينك) نحوي/آه يا شو-سين، ارفع وجهك نحوي/كسلاح …/ترفع المدينة يدها كالمشلولة، يا مولاي شو — سين/تركع عند قدميك يا ابن شولجي/كما يركع شبل/آه يا مولاي، حلو من يد الساقية هو نبيذها (المعصور) من البلح/وحلو مثل نبيذها … … حلو هو شرابها المصفى، هو نبيذها/آه يا شو-سينو يا من آثرني بحنانه/يا حبيبي شو-سين الذي تعطَّف عليَّ ودللني/يا ملكي شو-سين الذي حنَّ عليَّ/يا حبيبي ومحبوب «أنليل»/يا ملكي وإله بلاده/إنها أنشودة (بالبال) كافة الإلهة «باو» (ربما كان المعنى المقصود بهذا السطر الأخير أن المُحِبة أنشدت القصيدة الغنائية تقرُّبًا من الإلهة باو (أو بابا) التي كانت تعمل في خدمتها). ويلاحظ بوجهٍ عام أن شعر الحب نفسه لم يخلُ من «غرضٍ عام» هو الثناء على الملك وتمجيد ذكره وقُوَّته؛ ولذلك لم يكن صوتًا خالصًا من القلب … ومع ذلك فلا بد من الحذر والبعد عن التعميم؛ إذ ربما تكشف الحفريات عن نماذج من شعر الحب السومري والبابلي تُغيِّر من أحكامنا المؤقتة (راجع نص القصيدة والتعليق عليها في كتاب بريتشارد، ص٤٩٦).
٣٠  وقد نشر الأستاذ س. أ. سترونج في كتاب «بحوث في الأكديات» ص٦٣٤، النص الآشوري لقصيدةٍ بديعة تبكي فيها المتيَّمة حظها فيما يشبه «العديد» المعروف في الريف المصري … (عن أ. راينر، مرجع سابق، ص١٨٧).
٣١  وهي المعروفة اليوم باسم تل عطشانة بالقرب من أنطاكية في تركيا، وقد اكتشف فيها عالم الآثار ليونارد وولي (من ١٩٣٦–١٩٤٩) نقوشًا إدارية وقانونية وأدبية مهمة بالأكدية — وأدريمي هو أحد ملوك الآلاف من الربع الثالث للألف الثانية قبل الميلاد، وقد عُثر على وثيقةٍ مهمةٍ نُقشت على تمثاله، وفيها تقرير عن فترة شبابه وصعوده إلى العرش وأعماله السياسية والعسكرية، ونشرها العالم سيدني سميث.
٣٢  جورج كونتيو، الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور، ترجمة وتعليق سليم طه التكريتي وبرهان عبد التكريتي، بغداد، وزارة الثقافة والإعلام، الطبعة الثانية، ١٩٨٦، ص٤٤٤.
٣٣  د. محمد خليفة حسن أحمد، دراسات في تاريخ وحضارة الشعوب السامية القديمة، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ١٩٨٥، ص٦٩–١١٨.
٣٤  ص. ن. كريمر، التاريخ يبدأ في سومر، نيويورك، ١٩٥٩، ص٣٥ (عن المرجع السابق الذكر ص٧٢)، وكذلك المؤلف نفسه، السومريون، تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم، ترجمة فيصل الوائلي، الكويت، وكالة المطبوعات، ص٤٥-٤٦، ص١٨٩–١٩٢ بالإضافة إلى الكتاب المعروف: «ما قبل الفلسفة»، الفصول الخمسة بأرض الرافدين للأستاذ ثروكلد جاكوبسن، ص١٦٤–١٦٧.
٣٥  د. محمد خليفة حسن أحمد، المرجع السابق، ص٨٢–٨٦ وتجد به مراجع مختلفة عن الروايات ونصوص التنبؤات والأحلام لعدد من المؤلفين المعروفين مثل أوبنهايم (بلاد الرافدين القديمة، ص٢٠٩)، وهيلمر رنج جرين (ديانات الشرق الأدنى القديم، ص٩٣–٩٦)، وجيمس بريتشارد (نصوص من الشرق الأدنى القديم مرتبطة بالعهد القديم، ص ﻫ ٤٥) وجرايسون ولامبرت (التنبؤات الأكادية، مجلة الدراسات المسمارية، ١٩٦٤، ص٧–٣٥).
٣٦  تلمس هذه الرغبة الدفينة في قول جلجاميش لأورشنابي الملاح عن نبتة الخلود: «يا أورشنابي» إن هذا النبات عجيب، يستطيع به المرء أن يستعيد نشاط الحياة، لأحملنه معي إلى حد أوروك ذات الأسوار، وأشرك معي الناس في الأكل منه، وسيكون اسمه «يعود الشيخ إلى صباه كالشباب» (ملحمة كلكاميش، ترجمة المرحوم طه باقر، ص١٤٩) وكذلك آخر سطور الملحمة في قول جلجاميش لأورشنابي: اعْلُ يا أورشنابي وتمشَّ فوق أسوار «أوروك»، وافحص قواعد أسوارها وانظر إلى آجر بنائها، وتيقن أليس من الآجر المفخور، وهلَّا وضع الحكماء السبعة أسسها … (ص١٥١ من الترجمة نفسها).
٣٧  راجع عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل: طه باقر، مجلة سومر، ١٩٥١، ص٢٣ وما بعدها؛ وث. جاكوبسن، مجلة دراسات الشرق الأدنى، ١٩٤٣، المجلد ٢، العدد ٣، ص١٩٥ وبعدها؛ وس. فرانكفورت وزملاءه، ما قبل الفلسفة، ص١٤٨-١٤٩ (أرض الرافدين — الكون كدولة)؛ وص. ن. كريمر، من ألواح سومر، ١٩٥٦، ترجمة طه باقر ومراجعة أحمد فخري، الفصل الرابع.
٣٨  د. محمد خليفة حسن أحمد، المرجع السابق نفسه، ص٩٢–٩٤، وانظر كذلك نص قصة «جلجاميش وأجا» (من ترجمة الأستاذ كريمر في كتاب بريتشارد السابق الذكر ص٤٤–٤٧) وهي إحدى القصص السومرية الخمس التي تناولت موضوع الملك الخامس من السلالة الحاكمة لمدينة أوروك (الوركاء) — وهو جلجاميش — في صورٍ مختلفة، وكذلك العمود الثاني من اللوح الثاني واللوح الخامس من الملحمة البابلية.
٣٩  د. فوزي رشيد، السياسة والدين في العراق القديم — بغداد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دار الحرية للطباعة، ١٩٨٣، ص٦ وما بعدها.
٤٠  ويل ديورانت، قصة الحضارة، الشرق الأدنى، الجزء الثاني من المجلد الأول، ترجمة محمد بدران، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر (١٩٧١)، ص٢٥٧.
٤١  كان الهبوط إلى هذا العالم هو المصير الحتمي لكل إنسان، ملكًا كان أو عبدًا أو واحدًا من عامة الشعب. وهو عالمٌ سفليٌّ مظلم، يلفُّه الغبار الخانق، وينعدم فيه الهواء، وينقصه الطعام والشراب (إلا مَن تذكَّره أهله الأحياء على الأرض بالنذور والتضحيات، أو من أبلى في حياته في الحروب بلاء الأبطال؛ فأولئك يأكلون الخبز ويشربون الماء العذب ويجدون آباءهم بجانبهم …). أبوابه السبعة كأنما نقشت فوقها العبارة المكتوبة على بوابة جحيم دانتي: أيها الداخل، ودِّع كل أمل! يقف عليها حارس قاسٍ (نمتار) يأمر بتجريد الزائر من زينته وملابسه حتى يصبح عاريًا كما سقط من رحم أمه (على نحو ما جرى لعشتار في أسطورة هبوطها إليه)، سكانه من الموتى طيور مجنَّحة برءوس بشرية، أو مسوخ من أفاعٍ وأسود وطيور وثيران تختلط فيها أطراف الحيوان بأعضاء الإنسان (كما في رؤيا الأمير الآشوري الذي زاره في الحلم)، خبزهم تراب وشرابهم أُجاج، وحولهم وفوقهم الظلام والعجاج (كما جاء في اللوح السابع من جلجاميش وفي حلم أنكيدو في اللوح الثاني عشر)، تحكمه الإلهة الرهيبة أريشكيجال وزوجها نرجال، ويساعدهما قضاة العالم السفلي من الملوك والأبطال وكبار الموظفين السابقين، من لم تجد جثته على الأرض «قبرًا» تُدفَن فيه تُردُّ إليها روحه فتهيم هناك مُلحِقة الأذى بالأحياء، ناشرة الأوبئة بينهم، ليس للمعذبين من أمل في حساب ولا في نعيم أو ثواب، مع أن الآلهة تحاسب الأحياء على الأرض، فتُقصِّر أعمارهم أو تصيبهم بالمرض أو تتخلَّى عنهم وعن بيوتهم ومدنهم؛ فيقعون فريسة للعفاريت والأرواح السبعة الشريرة! ألا إن حياتهم بعد الموت لأكثر شقاءً من حياتهم على الأرض!
٤٢  لم تنقطع الشكوى من الظلم ولا توقفت أصوات الاحتجاج والشك في صورها الصريحة والضمنية في النصوص الأدبية المختلفة، سواء في نصوص الحكمة أو الضراعات للآلهة (وبخاصة لشمش ومردوخ) أو الحكم والأمثال والأقوال السائرة، أو في أكثر من الأساطير والملاحم والقصص، ويكفي في هذا السياق أن نذكر المثل التالي من ضراعة إلى الإله مردوخ: يا مردوخ الشجاع، يا من غضبه غضب بركان/ونعمته نعمة أب عطوف/ما من أحد يسمع ندائي: هذا هو ما يحزنني/ما من أحد يُصغي لصراخي؛ هذا هو سبب عذابي/القوة غادرت فؤادي؛ وها أنا ذا مثل عجوز هرم في الحضيض/أيها الرب العظيم مردوخ، أيها الرب الرحيم/ما بقي الناس على الأرض، فمن ذا الذي يهتدي وحده إلى الصواب؟/من لم يذنب منهم؟ من لم يقترف إثمًا؟/لقد أخطأت في حقك وتعديت الأوامر الإلهية/فاصفح عن ذنبي الذي أعرفه، واغفر ذنبي الذي لا أعرفه/ليخلُ قلبك من الغضب/خلصني من الذنب، حررني من الخطيئة (النص عن كتاب ساباتين موسكاتي، تاريخ وحضارة الشعوب السامية، زيوريخ، دار نشر بنزيجر، ١٩٦٤، ص٤٣-٤٤).
Geschichte und Kultur der semitischen Völker Zurich-Koln Benziger verlag Einsiedeln, 1961, S. 43-44.
٤٣  مدينة سومرية تعرف في الوقت الحاضر بأور الكلدانيين أو أور المقير، وتقع على بُعد خمسة عشر كيلومترًا إلى الجنوب الغربي من مدينة الناصرية، وكانت مركز عبادة إله القمر ننار (سين بالأكدية)، وأرنمو هو مؤسس سلالة أور الثالثة، وكان مركز حكمها في مدينة أور.
٤٤  هو الملك الخامس من ملوك سلالة إيسين، وتعرف إيسين حاليًّا باسم إيشان البحريات، وتقع بالقرب من موقع نفر (نيبور القديمة) — وتعرف لارسا حاليًّا باسم السنكرة، وتقع على نحو ٢٠ كم إلى الجنوب الشرقي من موقع الوركاء الأثري (أوروك السومرية) وكانت مركزًا لسلالة لارسا من نحو ٢٠٢٥ — أطلي نحو ١٧٦٣ق.م.، وتجد نصوص القوانين البابلية والآشورية في كتاب بريتشارد السابق الذكر (ص١٥٩–١٩٨).
٤٥  تعرف حاليًّا باسم تل أسمر، وهي من مواقع منطقة ديالى شرقي بغداد ونحو ٢٥كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة بعقوبة، كانت عاصمة لمملكة إشنونا التي ازدهرت قبل العصر البابلي القديم وفي أثنائه (٢٠٢٠–١٧٦١). من بين الألواح التي عثرت عليها بعثة المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو لوحان نشرهما العالم «ألبرينت جوتزه» سنة ١٩٥١-١٩٥٢ باسم قوانين إيشنونا [راجع كتاب دوروني مكاي، مدن العراق القديمة — ترجمه وشرحه وعلق عليه يوسف يعقوب مسكوني — بغداد، مطبعة شفيق، الطبعة الثالثة، ١٩٦١ …].
٤٦  راجع بشيء من التفصيل: مسلة حمورابي، للدكتورة بهيجة خليل إسماعيل، بغداد، دار الحرية للطباعة، ١٩٨٠.
٤٧  د. فؤاد زكريا، خطاب إلى العقل العربي، الكويت، كتاب «العربي»، الكتاب السابع عشر، أكتوبر ١٩٨٧، ص٧٧–٨٣.
٤٨  د. جاب الله علي جاب الله، العدل والميزان بين فكر بلاد الرافدين والفكر المصري في العصور القديمة، محاضرة ألقيت في الموسم الثقافي لكلية التربية الأساسية بالكويت لسنة ١٩٨٨-١٩٨٩، ص١٠ من المخطوطة.
٤٩  أي يحتل مركزًا مرموقًا في القصر، راجع نص الترتيلة من سطر ٩٧–١٠٢.
٥٠  انظر مقالة الكاتب: «لا» عن صعوبة الاحتجاج وضرورته في القرن العشرين، في كتابه: مدرسة الحكمة، القاهرة، دار الكاتب العربي، ١٩٦٧، ص١٠٤–١٣٠.
٥١  أرنست بلوخ، مبدأ الأمل — ترجمة نيفيل بليس وستيفين بليس وبول نايت، أكسفورد، بلاكويل، ١٩٨٦، المجلد الثالث، ص١١٢١ وبعدها، وص١٢١٦ وبعدها.
Ernest Bloch, the principle of hope, vol 3, translated by Neville Plaice, Stephen and Paul Knight Oxford, Blackwell 1986, p. 1112ff, 1216–1220.
٥٢  أرنست بلوخ، المرجع السابق نفسه، ص١٢٢٠.
٥٣  قاموس الآلهة والأساطير في بلاد الرافدين (السومرية والبابلية) وفي الحضارة السورية (الأوغاريتية والفينيقية) من تأليف د. إدزارد، م. ﻫ. بوب، ف. روليغ، وترجمة الأستاذ محمد وحيد خياطة (راجع المقدمة ومادة آلهة بوجهٍ خاص)، حلب، دار مكتبة سومر، ١٩٨٧.
٥٤  ويكشف التحليل والتفسير المتأني لبعض النصوص الأسطورية الأخرى عن غامر الاحتجاج والشك والتحدي الكامنة في تلك الحكمة المأسوية، ونخص بالذكر ملحمة أتراحاسيس، وقصص إيتانا الراعي وآدابا ونرجال وأريشكيجال، وقصة الطائر العملاق «إنزو» أو «زو» التي سبق الحديث عنها، راجع دراسة الأستاذة أريكا رايتر التي أشرنا إليها من قبلُ (ص١٦٢ وبعدها) وكذلك الفصل الخاص بالأدب في كتاب حضارة العراق، الجزء الأول، بغداد، ١٩٨٥، ص٣١٩–٣٨٥، ص٣٥٧-٣٥٨، للدكتور فاضل عبد الواحد علي — وثمة نصوص أخرى تضعها الأستاذة رايتر ضمن الأدب السياسي أو الأدب الدعائي — الذي نجده أيضًا بصورةٍ إخبارية أو تقريرية في النقوش الملكية، وهي «مرآة الأمير» و«رؤية آشوري للعالم السفلي» (وقد وردت ترجمة في كتاب بريتشارد (ص١٠٩-١١٠) وقصيدة هجاء لأعمال نابونيد المنكرة، وقد أشارت إلى أنها تعبر عن نوع من المقاومة لإساءة استخدام السلطة السياسية، ولكنها لم تُحلِّلها لقلَّة المعلومات التاريخية عنها (ص١٨١)).
٥٥  ليو أ. أوبنهايم، وادي الرافدين القديم، لوحةٌ حضارة ميتة، شيكاغو، مطبعة جامعة شيكاغو، ١٩٦٨، ص٢، ص١٧-١٨.
٥٦  مع العلم بوجود عروض وتفسيرات جيدة لم تمنع الصعاب والمحاذير السابقة الذكر من وجودها، ولا تمنع أيضًا من الاستفادة منها والاستمتاع بقراءتها: عند مؤرخين وعلماء عرب وأجانب مثل الأساتذة والدكاترة: طه باقر وأحمد فخري ونجيب ميخائيل إبراهيم ونور الدين حاطوم وفاضل عبد الواحد علي وفوزي رشيد وغيرهم، ومثل برستيد وديلابورت وكونتينو وأوبنهايم وموسكاتي وفون زودبن وإيبيلنج وهنري فرانكفورت وكريمر وجاكوبسن وغيرهم.
٥٧  عن مشكلات ترجمة الشعر بوجهٍ خاص، راجع لكاتب هذه السطور: ترجمة الشعر، مع نماذج من شعرنا العربي الجديد المترجم إلى الألمانية — مجلة فصول، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، المجلد الثامن، العدد الثاني، ١٩٨٩، ص١٧٩–٢٢٠.
٥٨  د. مصطفى العبادي، تأملات حول التاريخ والمؤرخين، عرض وتحليل لكتاب تيودورس هيمرو، مجلة عالم الفكر، المجلد العشرون، العدد الأول، إبريل-مايو ١٩٨٩، ص٢٧٣.
٥٩  د. شكري محمد عياد، دائرة الإبداع، مقدمة في أصول النقد، القاهرة، دار إلياس العصرية، ١٩٨٦، ص١٥٤.
٦٠  د. شكري محمد عياد، اللغة والإبداع، مبادئ علم الأسلوب العربي، القاهرة، إنترناشونال برس، ١٩٨٨، ص١٣٠.
٦١  د. شكري محمد عياد، المرجع السابق، ص٧.
٦٢  وذلك على مستوى تفسير النص القرآني بين أصحاب التفسير بالمأثور عند أهل السنة والسلف الصالح، والتفسير بالرأي أو التأويل عند الفلاسفة والمعتزلة والشيعة والمتصوفة، انظر للدكتور نصر حامد أبو زيد، الهرمينوطيقا ومعضلة تفسير النص، مجلة فصول، سنة ١٩٨٧، ص١٤١–١٥٩؛ وانظر كذلك للمؤلف نفسه فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي، بيروت، دار التنوير، ١٩٨٣؛ وكذلك دراسته عن المجاز عند المعتزلة عند الناشر؛ راجع أيضًا العدد الخاص عن الهيرمينوطيقا والتأويل من مجلة «ألف»، مجلة البلاغة المقارنة، العدد الثامن، ربيع ١٩٨٨ (تصدر عن قسم الأدب الإنجليزي، الجامعة الأمريكية بالقاهرة)؛ ومقال الدكتور حسن حنفي عن قراءة النص بالعدد نفسه.
٦٣  يرجع أصل مصطلح الهيرمينوطيقا إلى كلمة هيرمانيا Hermeneia اليونانية، ومعناها الشرح أو التفسير، وقد ظهر لأول مرة في مطلع العصر الحديث (نحو عام ١٦٢٩-١٦٣٠) في كتابات الفيلسوف واللاهوتي كونراد دانهاور الذي عاش وعلَّم في ستراسبورج، وحاول أن يؤسس أسلوبًا علميًّا يتجاوز منطق أرسطو وخطابته ويساعد العلوم الأساسية في ذلك الحين في الكليات العليا (وهي كليات الحقوق واللاهوت والطب) على تأويل الأقوال المدوَّنة تدوينًا دالًّا وصحيحًا. ولا ينفي هذا وجود نظريات أقدم في تفسير النصوص، إذ اتبع علماء الإسكندرية في العصر الهلينيستي المنهج المجازي في تفسير الشعر والأساطير، كما مهَّد علماء اللاهوت في العصر الوسيط للتأويل الصحيح للكتاب المقدس، كما نرى مثلًا في كتاب القديس أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠م) عن العقيدة المسيحية. ثم استمرت المحاولات في العصر الحديث، وبخاصة في اللاهوت وفقه اللغة والقانون، ونشأت قواعد وأساليب لتفسير معاني النصوص المختلفة لأغراض تعليمية، إلى أن ظهرت البدايات الحقيقية لمناهج الفهم والتفسير في عصر التنوير وفي ظل الرومانتيكية والفلسفة المثالية الألمانية على ما هو مُبيَّن في المتن بإيجاز.
٦٤  فيلهلم دلتاي، دراسات عن أسس علوم الروح — نشرت في المجلد السابع من أعماله الكاملة، ليبزج وبرلين، ١٩٢٧، ص٣–٧٥، وانظر له في المجلد نفسه: بناء العالم التاريخي في علوم الروح، ص٩٩ وبعدها.
Dilthey, Wilhelm; Studien zur Grundlegung der Geistes Wissen schaften, In: Ders, Gesammelte schiften Bd.
Vii. Leipzig/Berlin, 1927, S. 3–75; Ders, Der Aufbau der ses-chichtlchen Welt in den Geistes Weissenschaten, In: Ders., Gesammelte Schriften, Bd. VII, S. 99ff.
٦٥  هانز جورج جادامر، الحقيقة والمنهج، معالم فلسفة ظواهرية للتفسير — توبتجين، ١٩٧٥، ص٣٦١–٣٧٣، ص٤٤٩ وبعدها.
Gadmar, Hans Georg; Wahrheit und Methode, Grundzuge einer phanomenologishen Hermenentik, Tubingen 1975, S. 361–373, 449ff.
٦٦  مارتن هيدجر، الوجود والزمان — توبنجن، ١٩٧٩، ص١٤٢ وبعدها — وانظر كذلك لكاتب هذه السطور: نداء الحقيقة، مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر — القاهرة، دار الثقافة، ١٩٧٧.
Heidegger, Martin; sein and zeit. Tubingen, 15 te Auflage, 1979, S. 142ff.
وقد تحاشيتُ الحديث عن فهم وتفسير الكتاب المقدس عند كلٍّ من كارل بارت (١٨٨٦–١٩٦٨) ورودولف بولتمان (١٨٨٤–١٩٧٦) على الرغم من أهميتها بغية التركيز على السياق الذي نحن بصدده.
٦٧  يعبر الفيلسوف أوتو فريدريش بونو (١٩٥٣–…) عن دائرة الفهم هذا التعبير الدقيق: «لكي نفهم شيئًا، فلا بد أن نكون قد فهمناه من قبلُ بصورة من الصور، إن كل تقدم في المعرفة ينطلق في البداية من فهمٍ غير محدد، ثم يسعى بعد ذلك في تحديده تحديدًا أدقَّ.» — راجع كتاب كورت سالومون، ما الفلسفة؟ نصوص جديدة لفهمها، توبنجن، مور، ١٩٨٦، الطبعة الثانية، ص٩٦.
Salamun, Kurt (Hrsg); was ist philosophie? Neuere Texte zu ihreni, Sellestvestaduis, 2., erweiterte Auflage, Tubingen, Mohr, 1986, S. 96.
٦٨  هابرماس، يورجين، المعرفة والمصلحة، فرانكفورت iA! (الفصل الخاص بدلتاي).
Habermas, Jurgen; Erkenntnis und Interesse, Frankfurt, 1968.
٦٩  الترجمة Uber-Setzug، أي عملية النقل من جهة إلى أخرى، بحيث تتدخل الجهتان أو الأفقان ويتفاعلان وينتج عنهما في النصوص الأدبية عامة والشعرية بوجهٍ خاص عملٌ جديد ومستقلٌّ يُمكن أن يضاف إلى تراث لغة الهدف أو اللغة المنقول إليها عندما توفق الترجمة في الحالات النادرة وتجد المترجم الأمين المبدع في وقت واحد. راجع مقال كاتب هذه السطور السابق الذكر عن ترجمة الشعر.
٧٠  هيدجر، على الطريق إلى اللغة — بفولنجن، ١٩٦٠، ص٩٦.
Heidegger, M.; Unterwegs zur sprache, Pfullingen 1960. S. 96.
٧١  د. فهمي جدعان، نظرية التراث ودراسات عربية وإسلامية أخرى، عمان، دار الشروق ١٩٨٥، ص١٥ وبعدها، وقد استرشدتُ بهذا الكتاب القيِّم الذي يعدُّ في تقديري (مع كتاب «المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، عند الناشر نفسه، ١٩٨٩») من الكتب النادرة التي تتسم بالرصانة العلمية في دراسة التراث العربي الإسلامي، بعيدًا عن الثرثرة والأدلجة وليِّ أعناق النصوص لقسرها على الدخول في أُطرٍ نظرية غريبة عليها، مع تحليل النص تحليلًا دءوبًا في سياق شروطه التاريخية والاجتماعية والثقافية.
٧٢  فهمي جدعان، المرجع السابق نفسه.
٧٣  وهو الدكتور شكري محمد عياد، المرجع السابق نفسه ص١٣٨-١٣٩.
٧٤  لمزيد من التفصيل راجع الكتاب القيم للدكتور علي عشري زايد: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، طرابلس، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلام (ج ع ل ش أ)، ١٩٧٨.
٧٥  من أمثلة هذه النماذج الموفقة مأساة الحلاج ويوميات الصوفي بشر الحافي ومذكرات الملك عجيب ابن الخصيب لصلاح عبد الصبور، والمسيح بعد الصلب ومدينة السندباد وسفر أيوب لبدر شاكر السياب، ووجوه السندباد والسندباد في رحلته الثامنة لخليل حاوي، والبكاء بين يدي زرقاء اليمامة لأمل دنقل، وغيرها الكثير لغيرهم من الشعراء … راجع الكتاب السابق الذكر لعلي عشري زايد.
٧٦  باستثناء المسرحية الشعرية «هو الذي رأى» للشاعر عبد الحق فاضل، وهي عملٌ أدبي يستحق دراسة يضيق عنها هذا التمهيد الذي اقتصرتُ فيه على الشعر الغنائي أو الذاتي عند شاعرٍ واحد هو السياب. وجدير بالذكر أن هناك أعمالًا مسرحيةً عديدة استلهمت التراث الرافدي، منها على سبيل المثال لا الحصر مسرحية جلجاميش في العالم السفلي للشاعر يوسف أمين قصير (بغداد، ١٩٧٢، مطبعة شفيق) ومسرحيتا السيد والعبد ورؤيا ننجال أو أبدًا لن تسقط أور لكاتب هذه السطور في كتابه القيصر الأصفر، القاهرة، كتاب الهلال يوليو ١٩٨٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤