مدخل إلى الحكمة البابلية

هذه أوراق — أو بالأحرى رُقُم وألواح — من أدب الحكمة البابلية كُتبت قبل ثلاثة آلاف عام على أقل تقدير. وربما تكون كلمة الحكمة هنا غير دقيقة كل الدقة؛ إذ يختلف معناها في تراث بلاد الرافدين عن معانيها الدينية والأخلاقية التي تدلُّ عليها في بعض أسفار العهد القديم، أو في التراث العقلي والمنهجي واليوناني الذي نُطلِق عليه اسم «الفلسفة»، فالمقصود بكلمة الحكمة «نيميقي» في الأدب البابلي بوجهٍ عام هو البراعة في طقوس السحر والعبادة، والحكيم هو الخبير بالمعارف والشعائر المتَّصلة بهما، وضراعة المعذَّب البار (أو «أيوب البابلي» — كما وصف بذلك عند اكتشافه في أواخر القرن الماضي — ثم اتخذ عنوانه من أول سطر فيه «لامتدحن رب الحكمة أو لدلول-بيل-نيميقي» لإلهه الأكبر «مردوخ») تبدأ بالعبارة التي ذكرناها؛ لأن حكمة هذا الإله تكمن في قدرته على طرد الأرواح الشريرة من جسد المبتلَى بالمرض والعذاب، ومع ذلك فإن مفهوم الحكمة١ في هذا النص وغيره من النصوص التي ستطَّلع عليها في الكتاب الذي بين يديك يمكن أن يتسع لمعانٍ أخلاقية، وتأملاتٍ كونية، ومشكلاتٍ عقلية تنطوي عليها رؤية الإنسان في حضارة وادي الرافدين للوجود والإنسان والمجتمع، وللخير والشر والجدل والمصير. كما أن صفة الحكمة يمكن أن تُطلَق بشيء من التجاوز على مضامينها وموضوعاتها التي تتشابه في بعض الوجوه مع نظائرها في بعض أسفار العهد القديم، ولعلَّ قراءة نصوص الحكمة نفسها بروح الفهم والتعاطف وتجربتها من «الباطن» أن تكون هي خير وسيلةٍ للقرب من الدلالات والإيحاءات المختلفة التي تنبعث من هذه الكلمة العريقة الغامضة.

بيد أنَّ الطريق إلى قراءة النص مليء بالحفر والعثرات، ولا نريد أن نُكرِّر ما قلناه عن مشكلات قراءة النص ومحاولات تحليله وتفسيره وإعادة بنائه واستحضاره كما تثيرها اليوم كتابات البنيويين وأصحاب فلسفة التأويل «الهيرمينوطيقيين»؛ فغاية ما نريده هو تعرُّف العالم العقلي الذي نشأت فيه هذه النصوص القديمة، وقراءتها كما قلتُ بأكبر قدرٍ ممكن من التفهُّم والتعاطف لمعايشة التجارب الأصلية، والظروف والأحوال الاجتماعية والنفسية التي دفعت أصحابها إلى تدوين شكاواهم ومرثياتهم لأنفسهم ولقيم عصرهم، ومحاولة تحسُّس الجذور الدفينة للظلم والاضطهاد والتسلط التي تدور حولها هذه النصوص بمختلف الصور والأشكال والأساليب.

كانت أولى الحضارات العظيمة في أرض الرافدين هي حضارة السومريين الذين جاءوا من منطقة غير معروفة إلى الشرق أو الشمال الشرقي لوادي الرافدين، واستقروا في الجزء الجنوبي منه، ولم يحاول السومريون تجاوز حدود الطرف الجنوبي من وادي دجلة والفرات، كما أن نظام الحكم الذي ساد حياتهم في ظل «دولة المدينة» — التي تذكرنا، على الرغم من الفوارق العديدة، بنظيرتها عند الإغريق — قد حال بينهم وبين التوحُّد من أجل التوسع وإنشاء إمبراطورية مترامية الأطراف. وإذا كانت أصولهم من ناحية العِرق واللغة والمكان لا تزال موضع الخلاف، فالمؤكد أن مشاركتهم في التراث العراقي القديم والتراث الإنساني بوجهٍ عام كانت قبل كل شيء مشاركةً ثقافية. لقد أوجدوا نموذجًا حضاريًّا امتد تأثيره لقرونٍ عدة بعد ذوبانهم في الموجات السامية التي زحفت إلى أرض العراق، وأخذ عنهم البابليون والآشوريون نظام الكتابة بالخط المسماري، كما نقلوا كنوزًا ثمينة من أدبهم وديانتهم وأساطيرهم وتشريعاتهم وأشكالهم الفنية وأجناسهم الأدبية، وعلى الجملة من ثقافتهم التي احتفظت بتفوُّقها حتى بعد زوال دولتهم وتخريب مدنهم واختفاء شعوبهم. وعلى الرغم من هذا التفوق الثقافي الذي استمر تأثيره على امتداد حضارة وادي الرافدين، فإن النصوص الأدبية التي عُثر عليها من العصر السومري الكلاسيكي تُعدُّ نصوصًا قليلة، وإذا لم يكن هناك مجالٌ للشك في أن الأدب قد وُجد في ذلك العصر، فإن المرجح أن الجانب الأكبر منه ظل شفاهًا، ولم تدعُ الحاجة لتدوينه إلا في عصورٍ تالية. ولقد وُجدت شواهدُ أثريةٌ عديدة على مظاهر العبادة في ذلك الحين — كبقايا المعابد وأسماء الآلهة وأنواع التقدميات والقرابين … إلخ — بيد أن قيمتها قليلة في تعرُّف طبيعة التفكير وحقيقة الروح الباطنة التي تهمنا في ميدان «الحكمة» الذي نتحدث عنه. ولم تبدأ الوثائق الأدبية في الظهور إلا بعد سقوط دولة «أكد» السامية، أو «أجادة» كما يسميها الغربيون؛ فقد ثبت مثلًا أن الملك «كوديا» حاكم مدينة «لجش» (أو لكش)٢ في ظل سلالة «أور» الثالثة (حوالي سنة ٢١١٢ق.م.) قد أنفق ببذخ على المعابد — وربما يكون قد لجأ لذلك تعويضًا عن استقلاله السياسي المفقود — كما أخذ يُسجِّل مظاهر ورعه وتقواه على أختامٍ أسطوانيةٍ ضخمة من الآجر تم العثور على اثنين منها. والمهم أن هناك أعمالًا أدبية وصلتنا من هذا العصر السومري الجديد والعصر الذي تلاه وهو عصر أزين-لارسا،٣ وإن كانت — شأنها شأن معظم ما تبقى من الأدب السومري — ألواحًا تم نسخها في عهد الدولة أو السلالة البابلية الأولى. ومن هذه الأعمال الأدبية ضراعات للآلهة، ورسائل ومناظرات أدبية، وأجزاء من مدونتَين قانونيتَين من تشريع «أورنامو» المشهور. والغريب أن أغلب ما عُثر عليه من الأدب السومري التقليدي قد دُوِّن في وقت كانت فيه اللغة السومرية الحية قد ماتت تقريبًا، وأن معظم ألواحه قد اكتُشفت في المكتبات التي وجدت في حفائر مدينتي «نيبور» (نفر)٤ وسيبار.٥

هل يمكننا مع هذه المعلومات والوثائق القليلة من أدب السومريين أن نتمثَّل تفكيرهم أو نُعيد بناءه كما يقال اليوم كثيرًا؟ إن أغلب الباحثين يَشكُّون في هذا ويَعدُّون المحاولة سابقة لأوانها، خصوصًا إذا عرفنا أن اللغة السومرية — على الرغم من التقدم الكبير في دراستها في نصف القرن الأخير — لا تزال كما قدَّمنا في التمهيد تواجه الباحثين بمشكلاتٍ عويصة لا يُستهان بها، ويكفينا في هذا المدخل إلى نصوص الحكمة المنشورة في هذا الكتاب؛ أن نلاحظ أوجه التشابه أو الاختلاف بين تفكير السومريين وتفكير البابليين ابتداءً من الألف الأول قبل الميلاد حتى زوال دولتهم واختفائهم بصورة نهائية. ولا بد أن نؤكد الآن أن الفروق بين وجهتي النظر إلى الحياة والعالم لا ترجع لأسبابٍ عرقية مضللة، وإنما تعود في المقام الأول إلى عوامل التغير والتطور الثقافي في وادي الرافدين، بحيث يصعب تحديد دور العناصر والموجات السامية الوافدة في تشكيل الفكر البابلي، كما يصعب وضع حواجزَ فاصلةٍ بين الثقافتين السومرية والبابلية اللتين ثبت تداخلهما وتأثيرهما المتبادل منذ أقدم عصورهما. وعلينا الآن أن نُقدِّم صورةً إجمالية عن هذا التطور العام، راجين أن تساعد — على الرغم من اختصارها الشديد وتبسيطها المُخلِّ — على إبراز الملامح الرئيسية للحكمة البابلية كما تعكسها النصوص المقدَّمة.

كان السومريون والبابليون يعتقدون أن الكون يسكنه صفنان من الأحياء هما البشر والآلهة، وطبيعيٌّ أن تكون المكانة العليا للآلهة الذين تفاوتت درجاتهم ومستوياتهم، فمن آلهةٍ كبيرة تَكوَّن «مجمع الإلهة» (الأنوناكي)٦ المسئول عن تدبير شئون «العائلة الكونية»، إلى آلهةٍ خاصة تتولى رعاية عائلةٍ بشريةٍ صغيرة أو بيتٍ مُحدَّد في مدينةٍ مُحدَّدة. ووقف الآلهة الثلاثة الكبار — وهم أنو وأنليل وآيا — على رأس السُّلَّم، بينما بقي صغار الآلهة والشياطين في قاعدته. ومن السهل على القارئ أن يتصوَّر أن أكثر هذه الآلهة يُشخِّص قوًى طبيعية أو ظواهر وجوانب مختلفة من الطبيعة، فإلها الشمس والقمر، هما شمش وسين عند البابليين، من أوضح الأمثلة على ذلك، والإلهتان إينانا (السومرية) وعشتار (البابلية) تمثلان قوى الحب والخصب والتجدد، كما أن «أنو» إله السماء يدل اسمه في السومرية على كلمة السماء، و«آيا» (الذي حلَّ محل «أنكي» السومري) هو إله المياه العذبة العميقة في باطن الأرض وإله الحكمة، و«أنليل» الذي يتوسطهما هو إله الهواء والعواصف عند السومريين، وقد حل محلَّه بعد ذلك «مردوخ» إله بابل الأكبر وسيد مجمع الآلهة والإله الثاني بعد آنو إله السماء.٧
تصور السومريون والبابليون أن الآلهة وحدهم هم الذين كانوا في البدء يسكنون الكون، ثم خُلق الإنسان، أو بالأحرى جُبل وسُوِّي من دم وطين كما تروي ملاحم الخلق والتكوين؛ لكي يخدم الآلهة ويقدِّم لهم ما يحتاجون إليه من طعام وشراب؛ ولذلك كان عليه منذ البداية أن يبذل فروض الطاعة والعبادة لآلهته المقدسة، فإن أغضبهم بإهمال طقس من طقوسهم أو اضطهاد أرملة أو يتيم، وقع في «الذنب» وارتكب «الخطيئة» ونزل به العقاب الذي يستحقه. وكثيرًا ما كان هذا العقاب الإلهي يتمثل في مرض أو فقر أو محنة تصيب المذنب الذي لا يلبث أن يرفع صوته بالشكوى من غضب الإله الأكبر عليه، ورفضه لضراعة «الإله الخاص» الذي أرسله ليستشفع له عنده، وكثيرًا ما كان الغضب يحل بمدينةٍ أدار الإله ظهره لها وتخلَّى عنها بسبب فساد أهلها أو ظلمهم للفقراء والأرامل واليتامى؛ فتقع فريسةً في أيدي الغزاة الذين يخربونها ويسفكون دماء أهلها ويملئون بجثثهم طرقاتها وساحاتها وخنادقها المائية.٨ أما أن تتبادل الآلهة أماكنها فيحل إله مكان آخر، أو يبتلع إلهُ مدينةٍ منتصرة إلهَ مدينةٍ مهزومة، أو يرتفع إلى مصافِّ الآلهة الكبار نتيجة شعبيته أو إنجازه أعمالًا بطولية خارقة؛ فذلك شيء اقتضاه التطور التَّاريخي في بلاد الرَّافدين ولا ضرورة للكلام عنه بالتفصيل في هذا المقام.

هكذا كانت الآلهة وكان دورها في تسيير شئون الكون، لكن هذه الصورة لم تلبث أن تغيَّرت في الفترة الواقعة بين الألف الثاني والألف الأول قبل الميلاد، فقد اتخذت الآلهة ملامحَ إنسانيةً واضحة، وبدأت تمد بعضها لبعض يد العون أو تتصارع بأسلحة الحيلة والمكر التي برع فيها البشر، وبذلك أسقط الإنسان تصوراته وقيمه وقوانينه الأخلاقية على الكون في مجموعه. ويتجلَّى هذا التغيُّر في الأدب الملحمي؛ ففي ملحمة الفردوس أو الجنة (وهي ديلمون بالسومرية) نجد «أنكي» إله المياه العميقة يتزوج من الإلهة ننخر ساك (الأرض-الأم) ويسقي تربة ديلمون من مائه، فتتحول إلى جنةٍ خضراءَ مزدهرة بالحقول والأشجار والأثمار، وتولد له ابنة على هيئة إلهة من إلهات النبات، وتروق له الابنة فيُغويها ويتزوجها، وتولد له حفيدة على صورة إلهةٍ أخرى من إلهات النبات، ويُكرِّر أنكي فعلته؛ فتُحذِّر ننخر ساك الجيل الرابع، وتشترط كل عروسٍ جديدة أن يُقدِّم لها هدايا الزفاف نباتات وفواكهَ معينةً لا يتردد الإله النهِم عن تقديمها؛ ليقطف من كل ثمرة ويتذوَّقها جميعًا! وتغضب ننخر ساك وتصب لعنتها عليه: «إلى أن يوافيك الموت، لن أنظر إليك بعين الحياة.» ويشتدُّ المرض عليه وتهاجمه ثماني علل بعدد النباتات التي أكلها، ويأخذ في الذبول والانهيار. وتنزعج الآلهة لما أصابه؛ إذ إن اللعنة على أنكي تعني شُحَّ المياه وغوصها إلى باطن الأرض … ويحار مجمع الإلهة كيف يعالج الأمر، وأخيرًا يتطوع الثعلب للبحث عن ننخر ساك حتى يجدها، ويتمكَّن الإلهة من إقناعها بشفاء «أنكي» من مرضه عن طريق خلق ثمانية آلهة يختص كل إله منهم بشفاء أحد أعضائه العليلة:

ننخر ساك : ما الذي يوجعك يا أخي؟
أنكي : فَكِّي هو الذي يوجعني.
ننخر ساك : لقد أوجدتُ لك الإله ننتول.
ننخر ساك : ما الذي يوجعك يا أخي؟
أنكي : ضرسي هو الذي يوجعني.
ننخر ساك : لقد أوجدت من أجلك الإله ننسوتو.٩

ونظرةٌ واحدة إلى الملاحم البابلية تُبيِّن فضل السومريين الذين سبقوا بالريادة والإلهام. والمثل الواضح على هذا هو أسطورة هبوط عشتار إلى العالم السفلي التي لا تعدو أن تكون صياغة بابليةً حرة، أو كما تقول اليوم إعادة كتابة، لأسطورة هبوط أنانا السومرية. وكم صاغت العبقرية البابلية من الأصول السومرية نسيجًا مطبوعًا بالأصالة والعمق! ولا شك أن ملحمة جلجاميش خلقٌ بابليٌّ فريد لا يُقلِّل من قدره أنه يعتمد على أسطورة البطل السومري ملك أوروك «الوركاء»، والمهم في هذا الصدد أن الآلهة البابلية قد اكتست رداء المهابة والجلال، كما ظهرت لديها النوازع الأخلاقية التي تُميِّز الخير من الشر والمباح من غير المباح، فإله الدمار والهلاك والأوبئة «إيرا» لا يقدم على خطته بإهلاك البشر — كما سبق القول — قبل إقناع مردوخ وبقية الآلهة بضرورتها، و«عشتار» إلهة الحب والخصب والموت، التي أهانها جلجاميش عندما صدَّ عن حبها، تُصمِّم على نزول الثور السماوي إلى الأرض لينتقم لها، ولكنها تلجأ قبل ذلك إلى أبيها إله السماء «أنو» وتشكو إليه همها فيرقُّ لها فؤاده، ولا يأذن لها بالانتقام حتى يطمئن إلى أن الثور الغضوب لن يُهلِك الجنس البشري جوعًا (اللوح السادس من الملحمة). وتتعهد عشتار لأبيها بذلك فيأذن لها بإرسال الثور الرهيب الذي يتصدَّى له جلجاميش مع صديقه «أنكيدو» …

ويطول بنا الحديث لو تتبَّعنا الملاحم البابلية التي تدور حول الصراع الذي نشب بين الآلهة حتى تم القضاء على الأشقياء والمفسدين منهم. فأسطورة «زو» تروي عن هذا الشيطان الفظيع المستهتر الذي سرق لوح القدر أو لوح المصير من الآلهة وهدد الكون بالفوضى والعماء، وملحمة التكوين أو الخلق الشهيرة (وهي المعروفة بكلماتها الافتتاحية في اللوح الأول منها «إينوما إيليش» أي عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض) تُصوِّر آلهة البدء الثلاثة التي كانت تعيش في حالةٍ سرمدية من السكون والصمت (وهو إبسر إله الماء العذب، وتعامة: «تامت» إلهة الماء المالح، وممو إله الضباب المنتشر فوق المياه) حتى بدأ نسلهم من شباب الآلهة في إزعاجهم وسرقة النوم من عيونهم … ويخطط القدامى لسحق النسل الطائش المتوثِّب بالحيوية والنشاط والضوضاء … ويخاف شباب الآلهة فلا ينقذهم منهم في المرة الأولى سوى الإله آيا (أو أنكي) إله المياه العذبة وإله الحكمة، وفي المرة الثانية ابنة مردوخ الذي يختاره مجمع الآلهة للقاء جيش «تامت» المخيف، ويتمكَّن مردوخ من أسرها في شبكته وذبحها وشقِّ جسدها نصفَين يرفع أحدهما فيصير سماء، ويسوِّي الثاني فيجعل منه الأرض، ويعيد تنظيم الكون وإخراجه من حالة «الهيولية» الأولى إلى حالة النظام والحركة والحضارة، واللافت في هذا الصراع أن الآلهة يجتمعون كأنهم لجنة من المواطنين الصالحين لينتخبوا مردوخ لقيادة المعركة، ثم يجتمعون مرةً أخرى للاحتفال بانتصاره وتتويجه سيدًا على الكون الذي أعاد خلقه وتنظيمه.

وأخيرًا يتجلَّى تغير صورة الآلهة في نظرة البابلي خلال الألف الثاني قبل الميلاد إلى الآلهة الخاصة والشياطين الشريرة التي كان في العصور السابقة لا يأمن على نفسه من أذاها؛ فقد صار يعتقد أن إلهه الخاص الذي يرعى بيته وأسرته يمكنه أن يحميه من شر هذه الشياطين في مقابل تقديم خدماته وأضحيته له. لقد كان أصل البلاء الذي حل بالمعذب البار أو «أيوب» البابلي هو أن إلهه الخاص قد نبذه وتخلَّى عنه، وأن روحه أو ملاكه الحارس قد أخذ يبحث عن غيره (انظر السطور الأولى من اللوح الأول من «لدلول» أو لأمتدحن رب الحكمة) وتنهال عليه المصائب والآلام والأسقام من كل نوع، ويقاسي الأمرَّين من غدر الصديق والعدو، حتى يرى في الحلم رسل مردوخ الذين يحملون إليه بشائر الإنقاذ والشفاء والتوبة عليه، ومع أن هذا الإله الخاص أو الشخصي كان بالضرورة إلهًا صغيرًا، فقد كان في استطاعته أن يحمل مظلمة صاحبه إلى الآلهة الكبرى، وأن يتشفَّع له عندهم ويسألهم الرضا عنه والرأفة به؛ ولهذا يختم المعذب (في اللوح الأخير من النص الآخر وهو الحوار بين المعذَّب والصديق) شكواه الطويلة بهذه الضراعة:

ليت الإله الذي نبذني يساعدني.
ليت الآلهة التي تخلَّت عني تشملني برحمتها.
لاحظنا التغير الأساسي الذي طرأ على طبيعة الدور الذي كانت تقوم به الآلهة في تدبير شئون الدولة أو العائلة الكونية، كما طرأ على سلوك الآلهة وتصرفاتهم بعضهم مع البعض بعد أن اكتسبوا طبائع البشر أو بعد أن «أسقطها» البشر عليهم، ثم لاحظنا قدرة الآلهة الخاصة على التدخُّل لحماية أصحابها من الشياطين والأرواح الشريرة، والتوسط بينهم وبين كبار الآلهة، وقد تم هذا التغيير أو التطور في الديانة السومرية قبل تأسيس الدولة أو السلالة البابلية الأولى، في الوقت الذي كان فيه السومريون أنفسهم في سبيلهم إلى الانقراض، وكان أدبهم ولغتهم يفسحان الطريق للغةٍ أخرى وأدبٍ جديد، بعد أن ألْقَوا البذور الثقافية الخصبة، وأرسَوا الأسس التي سيرتفع فوقها البناء. والواقع أن ديانة السومريين — كما صوَّرتها أقدم الملاحم والأساطير — مرآةٌ أمينة تعكس صورة العالم الذي عاشوا فيه، فقوى الطبيعة يمكن أن تكون وحشية عنيفة باطشة، وكذلك كان الآلهة التي تُشخِّصها، والطبيعة لا تعرف الرحمة، وكذلك كانت الآلهة، أما البابليون فقد تحسَّسوا الواقع وتعاملوا مع مفرداته الحية تعامل البشر؛ ولذلك حاولوا وضع العناصر والقوى المتصارعة في داخل كلٍّ كونيٍّ متجانس، وتصوَّروا آلهتهم على صورتهم، وأخضعوا العالم للقوانين الأخلاقية النابعة من ضميرهم وتجربتهم، وكان من الطبيعي أن يؤدِّي هذا إلى ظهور المشكلات العقلية والأخلاقية التي لا بد من قراءة نصوص الحكمة البابلية على ضوئها.١٠

وقبل الحديث عن الأدب البابلي الكلاسيكي لا بد من وقفةٍ قصيرة عند فترة الانتقال التي انتهت بتأسيس الدولة «أو السلالة» البابلية الأولى ومدِّ سيطرتها على جنوب وادي النهرين بأكمله، وهي الفترة التي عصفت فيها الاضطرابات السياسية واستمرت من حوالي سنة ١٩٠٠ إلى سنة ١٧٠٠ قبل الميلاد.

كان شعب السومريين قد اختفى على وجه التقريب، بعد أن خلَّف وراءه تراثًا ثقافيًّا عظيمًا، وكانت حياة الفكر والمفكرين يتوزعها تياران أحدهما محافظ والآخر متطلع للتغيير، أما التيار الأول فكان ممثلوه مستقرِّين في أحياء الكُتَّاب أو الكتبة والنُّسَّاخ في المراكز السومرية القديمة، ومن أهمها مدينة نيبور (نفر) التي عاش فيها معظم مثقفي العصر وعلمائه، ويبدو أنهم كانوا يحتكرون العلم والتعليم مع التلاميذ الذين تلقَّوا تدريبهم في «الأدوبا» (أو بيوت تعليم الكتابة على الألواح الطينية وتلقين المعارف المتاحة في مختلف فروع «العلم» والعمل) وأصبحت الثقافة وقفًا عليهم. ونحن لا نعلم شيئًا عن علاقة هؤلاء الكتبة بالمعابد، ولا ندري إن كانوا قد تولَّوا مناصب الكهنة. والمهم أنهم كانوا حرَّاس التراث السومري، وأن فترة حكم سلالة أور الثالثة (من حوالي ٢١١٢–٢٠٠٤ق.م.) والعصر المعروف بعصر إيزين-لارسا (من حوالي ٢٠١٧–١٧٦٣ق.م.) يشهدان على أنهم لم يكونوا حرَّاس قبور ولا ورثة عظام بالية! فقد عثر على أعمال أدبية يُرجَّح أنها أنشئت في هذه الفترة، كما دونت وروجعت أعمالٌ تقليدية ربما ظلَّت حتى ذلك الحين تراثًا تتناقله الشفاه، حتى أقبل المثقَّفون و«العلماء» السومريون على تسجيلها خوفًا من الضياع أو توقُّعًا لكارثةٍ مجهولة كانت نُذُرها تحوم في الأفق (على نحو ما فعل الكُتَّاب والعلماء الموسوعيون وفقهاء اللغة والدين وحفظه التراث في العصور التي ذبلت فيها قوة الإبداع والتجديد كالعصر السكندري والعصر المملوكي …).

تراجع السومريون إذن أمام الساميين (الذين تعايشت أقوام منهم منذ البداية في سلام مع السومريين، ويُحتمل أن يكونوا قد ساهموا في تطور أدبهم)، وتدفق تيارٌ جديد تمازجت فيه عناصرُ ساميةٌ قديمة وحديثة، وظهرت فيه النزعة القوية للتغيير والتطوير في الأدب، وجاءت الدفعة الأولى نحو الإبداع السامي من الدولة أو السلالة الأكدية التي عممت استخدام اللغة الأكدية بدلًا من السومرية في النقوش الملكية. ويبدو أو هذه السلالة قد أثَّرت تأثيرًا عميقًا في التطور اللاحق للفن في أرض الرافدين، ولا بد أن الأدب والفكر قد تأثرا كذلك بهذه الدفعة القوية، وإن كانت النصوص القليلة التي عُثر عليها من الأدب البابلي القديم توحي بنضجٍ شديد يدلُّ على أن تطورها قد يرجع إلى بداياتٍ أسبقَ من عهد تلك السلالة البابلية الأولى. ولا شك في أن فتوح الملكَين الأكديَّين الشهيرَين سرجون (حوالي ٢٣٣٤ق.م.)١١ ونارام-سين (٢٢٥٤ق.م.)١٢ قد ساعدت على نشر الثقافة الأكدية القديمة في المناطق العليا من دجلة والفرات، وأن مدينة «ماري» في أواسط الفرات قد كانت لها قبل ذلك لهجتها الأكدية القديمة الخاصة بها ومدرستها الفنية المحلية.
وبدأت موجة هجرةٍ ساميةٍ جديدة في حوالي سنة ٢٠٠٠ق.م. فقد تحرك الغزاة الذين يسمون «بالأموريين» إلى الجنوب من وادي الفرات، نحو مراكز الثقافة الأمدية القديمة مثل مدينة «ماري»،١٣ وربما يكونون قد توغَّلوا أيضًا في المراكز السومرية القديمة. ويبدو من أسمائهم أنهم كانوا يتكلمون لهجةً ساميةً شديدة القرب من الكنعانية المبكِّرة، كما يبدو أن هؤلاء الغزاة كانت لهم حضارة خاصة بهم في مناطق الفرات العليا، وأنهم تأثروا بعض التأثير بالسومريين، وعندما وصلوا في حركتهم المتدرجة البطيئة إلى الجنوب كانوا قد تخلَّوا عن لهجتهم الكنعانية وبدأوا يتكلَّمون بلهجةٍ بابلية قديمة، والمهم أن هذه الفترة الغامضة التي لم تصلنا منها أي وثائق مكتوبة باللغة الأمورية كانت بالغة الدلالة على تطور اللغة والأدب والفكر البابلي، وأن الكتابة الأكدية القديمة كانت أول محاولةٍ رائدة في استخدام نظام الكتابة السومرية (بالخط المسماري) للتعبير عن لغةٍ مختلفة تمام الاختلاف عن اللغة السومرية، والدليل على ذلك أنَّ الثَّقافة البابلية القديمة — بعد أن ارتفع قليلًا ستار الغموض الذي حجب تفاصيل هذه الفترة — لم تلبث أن ظهرت في ثوبٍ ناضج، بلغ فيه الخط المسماري الذي كتبت به الأعمال الأدبية البابلية مستوًى عاليًا من الإتقان والكمال.١٤

والأدب البابلي القديم أدبٌ كلاسيكي بكل معنى الكلمة؛ ففيه قوة وعمق ونضارة ونضج يندر أن نجدها في مراحله المتأخرة، ويكفي أن يطَّلع القارئ على ملحمتَيه الخالدتَين (وهما ملحمة الخلق أو التكوين — إينوما إليش — وملحمة جلجاميش) أو على بعض الأعمال التي لم يتوخَّ فيها الكاتبون شروط الجمال وبلاغة الأسلوب وشاعرية اللغة: كالتراتيل، والضراعات للآلهة، والمناظرات الأدبية، والنصائح، والأقوال السائرة، والأمثال الشعبية؛ التي تجد نماذجها في هذا الكتاب. ولا بد أن نتوقف هنا لنسأل: إذا كانت معظم روائع هذا الأدب قد نمت من بذورٍ سومرية، وتفرَّعت عن أصول غرسها السومريون، ففيمَ تختلف نظرة المفكِّر البابلي عن النظرة السومرية؟ وإذا كانت قد تعرضت لتغيرات كبيرة، فإلامَ ترجع هذه التغيرات؟

الإجابة عن الأسئلة السابقة تكمن فيما سبق أن قلناه عن التغير الذي طرأ على تصور البابلي للآلهة، فعندما بدأ عقله في «تأنيس» الكون وإضفاء الغايات والقيم الأخلاقية والنزعات البشرية عليه، نشأت المشكلات والأسئلة العقلية النهائية (أو بشيء من التجاوز المشكلات «الميتافيزيقية» و«اللاهوتية») ومن أهمها مشكلة العدل الإلهي. سأل المفكر البابلي نفسه قائلًا: إذا كان الآلهة الكبار في مجمعهم المقدس يحكمون العالم بالعدل وليس مجرد تشخيص أو تجسيد لقوى الطبيعة وظواهرها، فلماذا يقع الظلم على رأس الإنسان؟ وإذا كانوا قد أرادوا الخير وقدَّوا السعادة للإنسان منذ البداية في «ألواح المصائر»، فلماذا جبلوا طبيعته على الشر والغدر والإثم والخطيئة؟ ولا بد أن المشكلة قد استفحلت بعد تطوُّر الشرائع والقوانين منذ تشريع «أورنامو» في عهد سلالة أور السومرية الثالثة إلى قوانين «أشنونا» البابلية التي ترجع إلى عام ١٨٥٠ قبل الميلاد، إلى تشريع حمورابي الشهير وبالأخص قانون القصاص الذي ظهر فيه لأول مرة، ولم يقتصر في روحه على ردِّ الأذى البدني بأذًى بدني مماثل (على نحو ما نجد بعد ذلك في سفر الخروج التوراتي، الإصحاح ٢١–٢٣)،١٥ كما لو يسوِّ بالعدل في تطبيقه على جميع المواظبين. وإذا كان البابلي في معاملاته وأحواله الشخصية قد استطاع أن يلجأ إلى القضاء ويأخذ حقَّه من المحكمة، فلماذا استحال عليه — على المستوى الكوني — أن ينتصف لنفسه من الآلهة؟ لقد كان بينه وبينها عهد أو عقد، وشكواه في معظمها تنصبُّ على إخلال الآلهة الكبرى والصغرى بهذا العقد وتخليها عنه. لقد تعهد بخدمتها، وتقديم الطعام والشراب لها، وتحمُّل أعباء العمل في مزارعها، ووعدته هي أيضًا بالرخاء والسعادة في بيته وحقله، والعافية في نفسه وبدنه، فلماذا انهالت الكوارث والمحن على بيته ومدينته؟ ولماذا يعاقَب على ذنب لم يقترفه أو لم يعرفه؟

وكيف يُفسَّر بيت الشعر المشهور الذي يبدو أن الألسنة ظلت تتناقله قرونًا طويلة وردَّده الأدباء والكتاب في ألواحٍ كثيرة: لم يولَد طفل بغير إثم (أو بغير خطيئة)؟

هكذا نشأت مشكلة «الذنب»، ومن ثم العقاب الذي لم يستحقه الإنسان التقيُّ البارُّ، وارتفعت شكوى المضطهد المعذَّب الذي تفانى في أداء فروض العبادة والطاعة؛ فلم يلقَ غير الغدر والجحود وخيبة الأمل. والظاهر أن مشكلة المعذَّب الصالح كانت موجودة بصورةٍ ضمنية في حضارة وادي الرافدين منذ عهد سلالة أور الثالثة وعصر إيزين-لارسا؛ فهنالك اسم أكدي من ذلك العهد لشخص يدعى «مينا-أرني» ومعناه «ما ذنبي؟» والتسمية نفسها تدل على المنحى الفكري فيها: إذا كنت أتعذب، فلا بد أنني قد أخطأت، لكن ما خطئي؟! وثمة نصٌّ سومري آخر يتعرض للمشكلة بصورةٍ مباشرة، وإن كانت ترجمته لا تزال تمثِّل معضلة غير هينة.١٦ يضاف إلى ذلك نصان دينيان وُجدا على ألواح كتبت في عهد سلالة بابل الأولى، وكلاهما يدور حول موضوع المضطهِد العادل أو المعذَّب البريء. والنص الأول بين رجل وإلهه يقول فيه الرجل: «إنني لا أعرف الجريمة التي ارتكبتها.» أما النص الثاني الذي كتب بالسومرية والأكدية البابلية معًا فيخطو خطوة أبعد؛ حيث يقول على لسان المتكلم: «لقد عوملتُ معاملة رجل اقترف ذنبًا في حق إلهه.» والمعنى واضح، فهو لا يعترف بذنب جناه، وإن كان قد عوقب عقاب المذنبين. ومع أن هذه النصوص تُثير مشكلاتٍ عديدة لا يصح أن يتعرض لها غير المختصين في اللغات التي كتبت بها، فإنها — في تقدير مؤرِّخ الفكر وناقده — تُبيِّن أن قضية اضطهاد الصالحين وتعذيب الأبرياء، والافتراء كذبًا على الصادقين، وتسليط إرهاب «الأقوياء» المستغلِّين على الضعفاء المساكين، قضية قديمة في أرض الرافدين قدمها في الشرق بوجهٍ عام، وأنها نشأت فيها نشأةً أصيلة ومستقلة عن التأثر بأي مصدرٍ خارجي.

إذا كان الإنسان في حضارة وادي الرافدين قد اشتاق إلى العدل وجأر بالشكوى من الظلم، فيبدو أن الموت كان بالنسبة إليه هو الظلم الأكبر، والسبب في هذا بسيط سبق أن ذكرناه، ولا بأس من تكراره: فلم يكن لدى سكان وادي الرافدين — على العكس من المصريين القدماء مثلًا — تصوُّرٌ واضح عن العالم الآخر، ولم يتوقَّعوا جزاءً ولا ثوابًا من رحلتهم المحتومة إلى العالم الأسفل أو «الأرض التي لا رجعة منها»، والأساطير السومرية والبابلية المختلفة عن الهبوط إلى هذا العالم تُصوِّره في صورةٍ بشعةٍ مخيفة. ولعل البابلي أن يكون قد سأل نفسه هذا السؤال الساذج المحزن: إذا كان الآلهة يتمتَّعون بالخلود، فلماذا حُرم البشر منه؟ وأعظم آثار الأدب البابلي القديم، وهي ملحمة جلجاميش، تدور حول هذا السؤال. والمعروف أنها استمدت مادتها الأصلية — كما سبق القول — من قصصٍ سومريةٍ عديدة عن جلجاميش، ثم أضافت إليها ونسجت خيوطها في نسيجٍ رائع يشهد على أصالة العبقرية البابلية. وإحدى هذه القصص السومرية، وهي جلجاميش وبلاد الأحياء، تُصوِّر كيف تعذَّب البطل الإلهي-البشري معًا بفكرة الموت، وكيف تاق إلى بلوغ الشهرة وخلود الذكر عن طريق عملٍ خارق. والأهم من ذلك أن الكاتب السومري القديم الذي أضاف إلى الموضوع الأساسي قصصًا خرافية أخرى مجهولة الأصل قد بثَّ في عمله روح الخوف من الموت؛ فبعد فجيعة جلجاميش في موت صديقه «أنكيدو»، وبعد مغامراتٍ عديدة مع الوحش «حواوا» و«ثور السما»، يضطر البطل إلى الاعتراف بالموت، ويتلقى نصيحة سيدوري صاحبة الحانة أو ساقيتها بمواجهة الحياة والاغتراف من نبع اللحظة الراهنة أو التشبُّث بعرف فرسها الجميلة العابرة ومعرفة قيمتها كما عبرت عن ذلك الأسطورة الإغريقية وأحد الحكماء السبعة (انظر اللوح العاشر من الصياغة البابلية القديمة):

جلجاميش، إلى أين تندفع مسرعًا؟
إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها؛
لأن الآلهة عندما خلقت البشر
حكمت على الناس بالموت،
واحتفظت لنفسها بالحياة.
أما أنت يا جلجاميش فاملأ بطنك،
وكن سعيدًا بالنهار والليل،
وتمتع باللذَّة كل يوم.
ارقص وابتهج ليل نهار،
ارتد الملابس النظيفة،
اغسل رأسك واستحم في الماء،
تأمل الصغير الذي يمسك يدك،
وأسعد زوجتك على صدرك …

ومن الواضح أن نصيحة صاحبة الحانة لا تنطوي على كلمةٍ واحدة تشير إلى الدين، وإذا جاز القول بأنها تعبر عن «فلسفة» فهي لا تخرج عن الرضا بالواقع وتقبُّل الطبيعة، على نحو ما فعل الشُّكَّاك القدماء عند الإغريق مثل بيرون أو فرون (٣٦٠–٢٧٠ق.م.)، والشكاك المحدثون مثل مونتني (١٥٣٣–١٥٩٢م). ولا بد أن الكاتب القديم كان يكظم في نفسه رغبةً دفينة في تحدِّي الآلهة والتجديف عليها، ظهرت في ذلك العصر في بعض الرسائل التي كتبها البابليون إلى آلهتهم الخاصة وكأن لسان حالهم يقول: إن تحققوا مطالبنا فسوف ننبذكم ونحرمكم من الشعائر والقرابين التي لم نقدمها لكم عبثًا! ثم ظهرت بعد ذلك بصورةٍ أوضح وأشد إيلامًا في مناجاة المعذَّب البار لنفسه وفي حوار المعذِّب المضطهِد مع صديقه «العالم» الحكيم في النصَّين اللذين سيرد الحديث عنهما بشيء من التفصيل. ولسنا ندري شيئًا عن مدى انتشار هذه النغمة المتمرِّدة في ذلك العصر المتأخِّر من عصور التاريخ والحضارة في العراق القديم «إذ إن النصوص الثلاثة التي ستطلع عليها ترجع على أرجح الآراء إلى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد أو أوائل الألف الأول.» ولكن المؤكد أنها كانت نتيجة مترتِّبة على التصوُّر الجديد للعدل الكوني والإلهي، ولهفة الإنسان على استغلاله لصالحه أو فشله في إدراك حقيقته وسوء فهمه له.

كان عهد حمورابي (١٧٩٢–١٧٥٠ق.م.) هو قمة المجد السياسي الذي بلغته الدولة أو السلالة البابلية الأولى، غير أن توحيد المدن القديمة تحت سقف الإمبراطورية القوية قد كان من أهم العوامل التي أدت إلى القضاء على التنوع الثقافي في بلاد الرافدين. والمرجح أن ذلك التطور قد تمَّ بصورةٍ تدريجية لا نعلم تفاصيلها، فعندما انتهت الدولة البابلية الأولى نهاية لا تزال غامضة وبدأ العصر الكشي (من حوالي ١٥٧٠ إلى حوالي ١١٥٧ق.م.) بداية لا تزال كذلك غامضة، وجدنا المدن السومرية القديمة (مثل نيبور (أو نفر)، وأوروك (أو الوركاء كما تسمى اليوم)) تقود زمام الحياة الثقافية بالاشتراك مع مدينة بابل، وأصبحت الثقافة السائدة بابلية، دون أن يمنع هذا من أن تبقى في التراث السومري بقية أو بقايا من حياة؛ فقد واصل الكتبة نسخ النصوص السومرية القديمة، مع إضافة الترجمة البابلية في معظم الأحيان، بل يقال إن عددًا من النصوص السومرية الجديدة قد نشأ في تلك الفترة.

كان عصر الملوك الكشيين هو عصر الازدهار الثاني والأخير في تاريخ الأدب البابلي، والنصوص الرائعة التي يُرجِّح العلماء أن تكون قد أنشئت فيه أو بعده بقليل تزيد من أسفنا لقلة المعلومات المتوافرة عنه، ومع ذلك فإن القليل الذي نعرفه يوحي بأن البلاد قد سقطت على عهد أولئك الملوك في قبضة الفقر والحاجة، وبأن لم يكن لهم حظ من مجد حمورابي ولا من عظمة الدولة البابلية الأولى وثرائها. وإذا كان عصرهم قد امتد لفترة تقرب من أربعة قرون، فربما يرجع ذلك لقدرتهم السياسية كحكام أجانب، أو لتفشي البؤس والشعور بالقهر والقنوط بين المحكومين. وتشهد بعض النصوص الأدبية على كل حال على وجود نظامٍ إقطاعي على عهدهم، وحصول النبلاء وكبار الموظفين والمنفِّذين في البلاد والمعبد على أراضٍ وضياعٍ واسعة، بحيث يمكن القول بأن العصر الكشي قد كان في التاريخ البابلي أشبه ما يكون بالعصر الأوروبي الوسيط، وإذا كان الركود السياسي قد ران في أثنائه على بلاد الرافدين، فإن بعض التغيرات الاجتماعية قد تمخَّضت فيما يتصل بالأدب عن ظهور عائلات احترفت مهنة الكتابة والنسخ أبًا عن جد. وهنالك شواهد تؤيد بقاء أسماء عدد من أفرادها ممن كانوا يعيشون في مدينتي أوروك وبابل حتى العصر السلوقي «ابتداءً من ٣١١ق.م.» والبارثي أو الفرثي المتأخر،١٧ مما يدل على تواصل التراث الثقافي بفضل تلك العائلات التي قامت على رعاية المهنة وتعليمها، وشغل علماؤها من القرن التاسع حتى القرن الثاني قبل الميلاد وظائف الكهنة وسدنة المعابد الذين يتعهدون تراثهم ويضيفون إليه. والظاهر أن هؤلاء العلماء المحترفين كانوا — كما سبق القول — أشبه بالفقهاء المتأدِّبين الذين عرفتْهم عصور الانحطاط والتدهور الحضاري والثقافي في العصرين الهللينستي والمملوكي والعثماني، فقد نجحوا في خلق لغةٍ أدبية «رسمية» اعتمدوا فيها على اللهجة البابلية الوسطى، ودبَّجوا بها أعمالًا اختلفت في روحها عن الأعمال الأدبية من العصر البابلي القديم؛ إذ اتسمت بالعناية الفائقة بالصنعة، والولع بالصيغ والكلمات النادرة. والمهم أنها تكشفت من الناحية الفكرية عن وعي كُتَّابها بالمشكلات الكامنة في النظرة القديمة إلى الكون، وعن تمكُّن نزعة الشك واليأس من أصحابها وضعف ثقتهم في أنفسهم. أما عن الأمر الأول فقد حافظوا على إيمانهم بعدالة الآلهة الكبار في حكمهم للعالم، وبأن المحن التي تصيب الإنسان هي عقاب على تقاعسه عن تقديم فروض الطاعة والعبادة؛ ولذلك يمكن أن يتدخلوا بأنفسهم لإنزال ذلك العقاب بالعصاة والآبقين، أو يوعزوا للآلهة الخاصة بالتخلي عن حماية العبد المذنب؛ فتحلَّ الشياطين والأرواح الشريرة في جسده، وتبتليه بالسهر والحمى والصداع وشتَّى الأمراض المهلكة. وقد كان من الطبيعي أن يحافظ مثقفو العصر الكشي على نظام السحر المعمول به، وأن يبرعوا في ممارسة طقوسه لطرد هذه الأرواح من جسد المؤمن المصاب. ويبدو أن هذا المنحى الفكري لم يكن يسبب لحكماء ذلك العصر أية أزمة أو مشكلة أخلاقية؛ فالحكيم أو العالم — كما نراه في نص الحوار بين المعذب وصديقه الحكيم — مطمئن إلى عدالة الآلهة وقدرتهم، على الرغم من تعاطفه الواضح مع صديقه، وهو مؤمن في الوقت نفسه بأن قدر الإنسان في يديه، فإن اهتدى إلى طريق السماء وآثر التقوى والصلاح لم يصبه أذًى من الأرواح والشياطين، ومهما بكى وشكا من تخلِّي الآلهة عنه ففي إمكانه على الدوام أن يتوب عن ذنبه ويثوب إلى الطاعة والتسليم. ولعل هؤلاء الحكماء لم يفطنوا إلى المأزق الذي أوقعتهم فيه «فلسفتهم» في التاريخ؛ إذ كيف يمكن التوفيق بين «الجبر» أو التقدير الإلهي العادل وبين حرية الصالح المبتلى في توجيه قدره بنفسه؟!

على أن فكرة التقوى — من حيث هي ضمان لصحة الفرد ويُسر أحواله — كانت أكثر تعرضًا للاهتزاز من فكرة العدالة؛ فقد كان ابتلاء الأبرار حدثًا يوميًّا متكررًا — كما هي الحال في زماننا ومجتمعاتنا — وكان عذاب الصالحين واضطهادهم حقيقةً واقعية لا تنكر أو ترد، والنَّصَّان اللذان نقدمهما من أدب الحكمة البابلية يعالجان من زاويتين مختلفتين هذه المشكلة التي حيرت الإنسان في الحضارات المختلفة، لا سيما في العصور التي اشتد فيها الظلم الاجتماعي والاضطراب السياسي والاقتصادي.

لقد كان كاتب المناجاة أو الشكوى الشعرية التي تُعرَف على سبيل الاختصار باسم «لدلول» (أو لأمتدحن رب الحكمة) عبدًا مخلصًا لكبير الآلهة البابلية «مردوخ»؛ ولذلك ظل سؤاله الأساسي طوال القصيدة هو كيف يسمح مردوخ بأن يحدث له ما حدث؟ إنه لا يهتم كثيرًا بالقوى والأشخاص الذين تسببوا في محنته (كالآلهة الخاصة، والشياطين، و«المعذبين» في الأرض — بكسر الذال وتشديدها — من الملك وأعوانه إلى الخدم والعبيد) وكان لا ذنب لهم ولا مسئولية تقع على أكتافهم فيما أصابه. أما المعذب (بفتح الذال) في حواره مع صديقه الحكيم فيتحدث بالتفصيل عن المسئولين عن اضطهاده، بحيث يُعدُّ النص وثيقة أدبية وتاريخية بالغة الدلالة على الظلم الاجتماعي في الفترة التي كُتب فيها.

إن النصين المذكورين — بجانب نصوصٍ أخرى يرجع تاريخ تأليفها أو انتشارها للعصر الكشي — يقدمان الإجابة عن الأسئلة العقلية والمشكلات الفكرية التي أرَّقت ضمير الإنسان في ذلك العصر البائس، خصوصًا بعد أن احتدم في نفسه الصراع بين إحساسه بأنه يعاقَب على ذنب لا يستحقه، وبين اعتقاده التقليدي الذي لم تزعزعه الأحداث بأن حكم الآلهة للكون حكمٌ عادل، وأن حكمتهم خافية ومتعالية على عقول البشر، ولو أمعنَّا النظر في «لدلول» لأخذتنا الشفقة على المؤلف المجهول الذي يُضني نفسه بمحاولة الإجابة عن الأسئلة التي أثارها، ولشعرنا نحوه بالإعجاب لأنه قد تجرَّأ على تجاوز الرأي الشائع بأن الإنسان لا يمكنه أن يتعلم الخير والشر والصواب والخطأ إلا إذا كشفت له الآلهة عنهما. فهو يؤكد أن الإنسان لن يستطيع أن يميز الخير من الشر؛ لأن الآلهة بعيدة أو مفارقة، ولا بد أن يكون التفسير «المنطقي» الذي اعتمد عليه ضمنًا هو أن المعايير الأخلاقية بالنسبة للآلهة على العكس تمامًا مما هي بالنسبة للبشر، ويكفي أن نقرأ معًا هذه السطور الدالة من اللوح الثاني للقصيدة (من ٣٤ إلى ٣٨):

إن ما يحبه المرء يثير سخط الإله،
وما يبدو لقلبه خليقًا بالاحتقار مُحبَّب للإله.
من ذا الذي يعلم إرادة الآلهة في السماء؟
ومن يفهم خُطط الآلهة التي تعيش في العالم السفلي؟
وأين يعلم الفانون طريق الآلهة؟

وقد وردت مثل هذه الإجابة «الحكيمة» التي تدل على يأس البابلي المقهور، أو على تسليمه واستسلامه، في ضراعة تقول بعض سطورها مع شيء من التصرف:

جنس البشر، ومهما كثرت أعداد الناس،
مَن منهم يعرف شيئًا من نفسه؟
مَن منهم لم يتعدَّ الحد؟
ومن لم يظلم أحدًا؟
 [مَن منهم قد سلك الدرب؟]
ومَن عرف طريق الله؟

ومع ذلك كله يبدو من قراءة نص «لدلول» أن كاتبه يُقدِّم هذه الإجابة التقليدية الحكيمة بغير تحمُّس، وأنه يكاد أن ينفض يديه ويدير ظهره للإشكال كله وينصرف بائسًا من التوصل إلى إجابةٍ نهائية أو حلٍّ شافٍ. وإذا كنا نجد في ختام القصيدة ما يشبه الحل أو الإجابة، فقد جاءا في اتجاه لم يقصده الكاتب: إن الزمن قد شفى الآلام وأبرأ العلل، وشمل الإلهُ عبده في النهاية برحمته. ولعل الردَّ الضمني على السؤال الأزلي أن يكون في تقديره هو هذا: أن عذاب الصالحين مؤقت، وهو ردٌّ شبيه بما قاله كاتب «المزامير في التوراة» من أن مجد الأشرار ونعمتهم موقتة: «هو ذا هؤلاء هم الأشرار ومستريحين إلى الدهر يكثرون ثروة. (… …) حتى دخلت مقدس الله وانتبهت إلى آخرتهم، حقًّا في مزالق جعلتهم، أسقطتهم إلى البوار، كيف صاروا للخراب بغتة، اضمحلُّوا، فنوا من الدواهي، كحلم عند التيقُّظ، يا رب غد التيقظ تحتقر خيالهم.»

أما عن الصديق الحكيم في حواره السابق الذكر فهو لا يملُّ القول لصديقه المنكوب بأن التقوى تجلب الخير والصحة والرخاء، وهو على العكس من أصحاب أيوب التورائي يرفض اتهام صديقه بأنه لا بد أن يكون قد اقترف جريمةً خفية (وإن كانت كل الدلائل تؤكد أنه قد أقدم على ارتكاب خطأٍ كبير أو إثمٍ منكر!) فالواقع أن المتحاورَين يحافظان حتى النهاية على الاحترام المتبادَل بينهما، كما أن الحوار ينتهي نهايةً مفتوحة، وكأنما يترك الفرصة للمعذَّب لكي يراجع ثورته العارمة، ويتبصَّر بعدالة الآلهة البعيدة من ناحية، وبقصور إدراكه لحكمته الخافية من ناحيةٍ أخرى. بيد أن الإيمان العريق بهذه الحكمة كان يستند من الوجهة المنطقية على رأيٍ أقدمَ من الذنب والخطيئة، يرجع لشكوى معذَّب من سلالة أور السومرية الثالثة من أنه لا يعرف ما هي الجريمة التي عوقِب بسببها، أضف إلى هذا أن الضراعات والتراتيل الدينية منذ العصر السومري كانت تؤكد هذه الحكمة الخافية للآلهة البعيدة. ويبدو أن رجال الدين في العصر الكشي قد كوَّنوا من كل هذا عقيدةً تذهب إلى أن الإنسان لا يملك البصيرة التي تساعده على إدراك معنى الذنب والخطيئة، وأن الآلهة وحدهم هم القادرون على كشف الغطاء عن بصره؛ لذلك شاعت الخطايا الناجمة عن الجهل، وساد الاعتقاد بأن الإنسان الذي لا يعرف ذنبه أو لا يعي أنه مُذنِب يمكن مع ذلك أن يقف موقف المتهم أمام الآلهة ويتألَّم ويتعذَّب. ولعل السطور التالية المقتطفة من نصوص متفرقة — يُرجَّح أن تكون مقطوعات من ضراعة لمردوخ — لعلها أن تلقي شيئًا من الضوء على هذا «المذهب» عن الذنب والخطيئة:

الجنس البشري أصم ولا يعرف شيئًا.
أية معرفة يملكها أحد منهم؟
إن الإنسان ليجهل إن كان صوابًا
ما قد قدَّم من خير أو شر.
أين الحكيم الذي لم يقترف إثمًا [ولم يأتِ] مكروهًا؟
أين ذلك الذي راجع نفسه ولم [يرتد]؟
أين ذلك الذي راجع نفسه ولم يقترف إثمًا؟
إن الناس لا تعرف (… هم) الذي لا يصح أن يُرى.
وأن إلهًا يكشف عما هو خير أو شر،
من يستمسك بإلهه تُمحَ ذنوبه،
ومن لا إله له تكثر مظالمه.١٨

وأخيرًا فإن المشكلة التي صوَّرها مؤلف هذا النص المُحيِّر أعمق بكثير من الإجابة التي قدَّمها الصديق الحكيم الملتزم بظاهر النص الديني وحرفيته. فالمشكلة القديمة المتجددة أبدًا هي هذه: لماذا يعمد بعض الناس إلى اضطهاد غيرهم من الناس؟ واللافت للنظر أن المعذَّب المضطهد في هذا الحوار يصر على ثورته اليائسة، رافضًا الفكرة التي تقول: إنَّ الإله الخاص أو الشخصي يمكن أن يقدِّم له الحماية والأمان. والأخطر من هذا أن المعذَّب وصديقه الحكيم يتفقان في الرأي على أن الآلهة قد جبلت طبيعة البشر على الكذب والظلم، ولا شك أن هذه هي أغرب الأفكار التي انحدرت إلينا من حضارة وادي الرافدين وأشدها جسارة وتمردًا. والذي يجعلها كذلك هو أنها تنفي الفرض القائم على الطاعة المطلقة والتسليم التام بعدالة الحكم الإلهي للكون. ولقد انقطع النص عندما وصل إلى هذه الفكرة، ولا بد أن المؤلف — أو المؤلفين المجهولين — قد فزعوا من النتائج المخيفة المترتِّبة عليها، وأحسُّوا أنهم أضعف من مواجهة السلطة الدينية والإلزام الاجتماعي.

بقى أن نقول: إنَّ هذا العمق النادر في التفكير، والدقة الغريبة في البحث، والشجاعة والحرية في التساؤل العقلي واستنباط الأجوبة الممكِنة أثناء العصر الكشي، لم يكن من الممكن أن تتم بغير ذلك الجو الكئيب الذي وجد المثقف فيه نفسه في حالٍ مختلفة كل الاختلاف عن حال أجداده الذين عاشوا في ظل الدولة البابلية القديمة؛ في جو آخر صوَّرته صاحبة الحانة في جلجاميش — على نحو ما رأينا — في هذه النصيحة العدمية الحكيمة والمُريبة معًا: عش وتمتع ليل نهارك! ولا شك أن الاكتئاب إلى حد القنوط والاستسلام لم يكن غريبًا على بلد تسلط على أقداره حكامٌ أغراب، ورزح تحت نير الفقر والتخلف والركود. وقد يتصادف أن نجد فيه نصًّا متشائمًا وساخرًا إلى حد «العبثية» أو المحال بالمعنى الحديث، مثل الحوار بين السيد والعبد الذي تجده في هذا الكتاب، لكن هذه السخرية المُرة لا تتعارض — في تقديرنا على الأقل — مع العدمية القائمة التي يُعبِّر عنها النص في مجموعه، كما لا يتنافى مع القدرة على تحدي «موت القيم» في عصور الاحتضار والانهيار، ولا مع التشبث بالأمل والإصرار على العمل المبدع في انتظار الإنقاذ … (ولا ننسَ أن نصَّين من النصوص الثلاثة قد كُتبا على هيئة حوار، والحوار بطبيعته دليلٌ حي على الحرية واحترام الآخر …) ومع ذلك يبدو أن الانطباع العام الذي نخرج به من قراءة هذه النصوص — بعيدًا عن الاجتهادات والتخريجات والتأويلات التي تستوجب الحذر في كل الأحوال، وتقتضي الدقة التامة في توثيق النصوص وتحقيقها — هو الاستسلام والتسليم بالأوضاع البائسة التي قدَّرتها الآلهة على البشر في لحظةٍ حرجة من تاريخهم. ولأن البشر — كما توحي بذلك النصوص — يستحقُّون في النهاية ما يجري لهم بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها في حق الآلهة وفي حق أنفسهم، فإن التسليم بمشيئة الآلهة يقتضي المزيد من الطاعة والخضوع لإرادتهم، والقيام بشعائر العبادة والخدمة لهم، ومعظم النصوص من العصر الكشي يضرب على هذا الوتر الذي تتردد أنغامه في عهود التأزُّم والتردِّي والانكسار، وإن كان يعزف أيضًا — في أحوالٍ نادرة — على وتر التمرد والتحدي، ويصرخ صرخة الغضب والتحذير مما يلمسه على مستوى الفرد والمجتمع من تردد وتخاذل واندحار أو انتحار (نكاد نلمس آثارها في الحوار بين المعذب والصديق عندما يُقرر الأول التخلي عن مسئولياته الاجتماعية، والانطلاق إلى حياة الاغتراب والتشرد والضياع، كما نحسها في حوار السيد المتشائم مع عبده الذي يمكن أن يوحي كما قلت بعدمية القيم — أي فقدان كل القيم قيمتها — وبأن الانتحار بدق العنق أو الغرق هو المخرج الباقي والخلاص الوحيد).

وينبغي ألا يغيب عنا في النهاية أن هذه النزعات المتطرفة إلى اليأس الفردي والجماعي لم تكن عامة ولا شاملة؛ فربما اقتصرت على عدد محدود من المثقفين الحساسين الذين تميزوا في كل العصور والحضارات ﺑ «قرون استشعار» مرهفة ومتطرفة، وسارعوا إلى البكاء والنحيب على أنفسهم ونعي حضارتهم المنهارة وزمانهم الفاسد عند كل أزمةٍ عارضة! (لنتذكر مثلًا قول شاعر الإغريق المتشائم هزيود من القرن السابع قبل الميلاد في قصيدته «الأعمال والأيام»، إنه يحيا في أسوأ العصور وهو العصر الحديدي، بعد أن ولَّى العصر الذهبي حين كان الإنسان سعيدًا ويعيش كالآلهة، ومن بعده تولى العصر الفضي ثم النحاسي) والأمر يتوقف بعد كل شيء على مذاهبنا في قراءة النص الأدبي القديم، وقدرتنا على تجربته ومعايشته واستخراج شتى إمكاناته الدلالية الكامنة فيه، فإذا خرجت من قراءة هذه النصوص بنتيجة تؤكد يأس البابلي القديم وعدميته (خصوصًا في خلال الألف الأول قبل الميلاد أو حولها)، فلا تنس أن النصوص نفسها يمكن أن تعطيك معاني ودلالاتٍ وإيحاءاتٍ أخرى مختلفة. فالصديق الحكيم — في الحوار الذي سبق ذكره أكثر من مرة — يؤنِّب صديقه المعذَّب على حزنه واكتئابه ويكاد يتهمه بالضلال واضطراب العقل، كما يتهم يأسه وتشاؤمه بأنه تجديف على الآلهة الحكيمة (وهي تهمة لم يكن في مقدور الشرقيِّ ولن يكون في مقدوره أن يتحمَّلها!) وهو يلومه ضمنًا على القرار الذي صمم عليه بأن ينبذ المجتمع الذي سبق أن نبذه، مؤكدًا له أن نظمه ومؤسساته التي ينوي أن يهجرها إلى حياة التشرد ليست من صنع البشر، وإنما هي نظم ومؤسسات مقدسة، أنزلتها الآلهة أو أوقفتها عليهم، وتشهد على رحمتهم وعنايتهم بهم، ولا بد أن يكون التنكُّر لها من أكبر الكبائر وأفدح الذنوب والآثام.١٩
ربما كان آخر سطر أو آخر بيت في الحوار بين المعذَّب والصديق هو خير ختام لهذا المدخل القصير إلى الحكمة البابلية؛ فهذا الإنسان المعذب يبتهل إلى الآلهة قائلًا: «ليت الآلهة التي تخلَّت عني تشملني برحمتها.» ثم يستغيث في ضراعته الأخيرة بالإله «شمش» إله الشمس والعدل والحياة الأخلاقية الطيبة الذي كان أقرب الآلهة إلى قلوب عامة الناس، ومع أن هذا الإله لم يتربع قط على قمة الآلهة، فقد ظل اسمه يتردد طوال عصور التاريخ والأدب البابلي، ويتمتع باحترام الإنسان العادي الذي لم يؤرِّقه شيء في هذه المنطقة من العالم كما أرقه الشوق إلى العدل. ويكفي أن نخرج من هذا العرض الإجمالي لأدب الحكمة البابلية بأن العدل قد كان ولا يزال هو مطلبنا الأساسي في أوقات المحن والأزمات. وإذا كان التسليم بمشيئة الآلهة هو لب هذه الحكمة وقلبها النابض عبر العصور، فلا يمكن القول بأنه هو الكلمة الأخيرة في فصول تلك الحكمة (اللهم إلا أن يكون لوجه الله الواحد الذي اقتربت منه الحضارة البابلية المتأخرة بعد زوال العصر الكشي)، أما رسالة هذه الحكمة الخالدة فتبلغنا عبر نصوص حضارة الشرق الأدنى وشواهدها ونقوشها وآثارها، سواء في أرض الرافدين أو في مصر القديمة وسوريا، وهي رسالة لا تقتصر على دعوتنا للحرص على هذه الآثار ورعايتها واستيعاب دلالاتها في وعينا التاريخي والجمالي والأخلاقي والقومي، وإنما تحثنا قبل كل شيء على تحدي عوامل التردي والفساد وانهيار القيم المقومة لشخصيتنا، والتشبث بالأمل الذي لا يمكن أن يموت في صدر الإنسان؛ الأمل في بعث القيم الحية وعلى رأسها قيمة العدل، والإيمان بأن التدهور ليس قدرًا حتميًّا سلَّطته قوًى غيبية غامضة على الفرد والجماعة والحضارة، وبأن فضل الحكمة — كما يقول شاعر حكيم من حضارةٍ أخرى وعصرٍ آخر٢٠ — هو أنه لا يستحق الحرية ولا الحياة والعدل إلا من «يغزوها» ويقتحمها ويكافح في سبيلها كل يوم.
١  يلاحظ علماء «الأكدية» أن للحكمة كلمة تدل عليها وهي «نيميقي»، كما أن لها صفاتٍ مختلفةً تدلُّ على الحكيم وهي «أنقو»، مودو خاسو، ويندر أن تستخدم جميعها بمعنًى أخلاقي أو بمعنى التقوى والطاعة الذي نجده في أسفار أيوب والأمثال والجامعة من التوراة.
٢  من المدن السومرية المهمة، واسمها الحديث هو الهباء، تقع على مسافة ثلاثين كيلومترًا تقريبًا إلى الشرق من الشطرة، كان إلهها الرئيس هو ننجرسو، ومعبده إينونو أي «معبد الخمسين».
٣   نسبة إلى مدينتين من أهم مراكز الحضارة السومرية، وقد بدأت هذه السلالة حكمها حوالي سنة ٢٠١٧ق.م.، على يد مؤسسها أشبي-إيرا بعد انتهاء حكم سلالة أور الثالثة (من حوالي ٢١١٢ق.م. إلى حوالي ٢٠٠٤ق.م.) وسقوط أور ودمارها على يد الأموريين والعيلاميين، وانتهت (أي سلالة إيزين-لارسا) على يد حمورابي (١٧٩٢–١٧٥٠ق.م.) حوالي سنة ١٧٦٣ق.م.، ومن أهم ما يُذكَر لها صدور تشريع لبت عشتار الذي نَصَّ على تحقيق العدالة والرخاء. تُعرَف إيسين اليوم باسم إيشين أو بحريات، وتقع على مسافة ١٨ كم جنوبي «نفر» وتعرف لارسا باسم السنكرة، وتقع حوالي ٢٠ كم جنوب شرقي الوركاء (أوروك).
٤   من أهم المدن السومرية القديمة، وكانت مقر عبادة الإله أنليل وبها معبده الأشهر المعروف باسم إيكور (أي البيت الجبل) ويبدو من أحد النصوص التاريخية المطوَّلة هو (لعنة أكد-إيكور يثأر) أن أحد الملوك الأكديين أساء لهذا المعبد؛ فحلَّت اللعنة على الدولة الأكدية على يد الكوتيين البرابرة، وهي قبائل كثرت غاراتها على المدن السومرية والأكدية.
٥   سيبار (وتُعرَف في الوقت الحالي باسم أبو حبة) وتقع خرائبها على قناة سبار الأثرية (شيش وبار الحالية) جنوب مدينة اليوسفية بحوالي أربعة كيلومترات.
٦   تطلق هذه التسمية بوجهٍ عام على جميع الآلهة، ثم أصبح الاسم في الفترات المتأخرة يدل على آلهة السماء، على العكس من آلهة «الإيجيجي» (أو الإيكيكي) الذين كانوا يمثِّلون آلهة الأرض. ويلاحظ أن «الإيكيكي» كانت تطلق في العهد البابلي القديم على آلهة السماء أيضًا.
٧  عن الآلهة السومرية والبابلية والكنعانية راجع: فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، دراسة في الأسطورة، سورية وبلاد الرافدين، دمشق، العربي للطباعة والنشر، ١٩٧٨، ص٣٤٩–٣٩٥؛ وكذلك قاموس الآلهة والأساطير في بلاد الرافدين وفي الحضارة السورية، تأليف د. أ. إدزارد وم. ﻫ. بوب وف. رولينغ، وترجمة محمد وحيد خياطة، حلب، دار مكتبة سومر، ١٩٧٨.
٨  كان إله المدينة المهزومة لارك في المحنة التي أصابتها بالدمار والخراب. والمرثيات السومرية للمدن تُسجِّل ذلك بصورةٍ فاجعة، ومن أمثلتها ما جاء في إحدى هذه المرثيات التي تخاطب المدينة المدمَّرة: «شكواك المرة! إلى متى ستُحزِن إلهك البادي؟ شكواك المرة، إلى متى ستُحزِن إلهتك تانا الباكية؟» ومن أمثلتها أيضًا ما كتبه أحد مواطني «لكش» الأوفياء بعد تخريب مدينته بأيدي جيرانهم من سكان مدينة «أوما»، فهو يقول بعد أن ينعى الخراب الذي حل بالمدينة: «أما عن لوجال ساجيزي، حاكم أوما، فلتحمل إلهته يندابا في عنقها ذنب جنايته.» ويُرجِّح عالم السومريات صمويل نو أ كريمر أن هذا النص المهم قد كتبه كاتب لاهوتي من مدينة لكش بأمر من حاكمها المهزوم «أوركاجينا»، الذي يوجد ما يحمل على الاعتقاد بأنه سلم من الكارثة. والفقرة التي يختتم بها النص تكشف عن إيمان أوركاجينا بعدالة الآلهة إيمانًا ربما جعله لا يحاول مقاومة زميله السومري المعتدي من «أوما»؛ إذ كان واثقًا بعدالة الآلهة وبالعقاب الذي ستوقعه «بفاعل الشر» ثقةً لا حدَّ لها. والمهم أن هذا المسالم لم يترك وراءه فتوحات عسكرية، وإنما ترك إصلاحاتٍ إنسانية واجتماعية وخلقية تعدُّ أول إصلاحات في التاريخ المدوَّن لضمير الإنسان، وربما تسمح بأن نُطلِق عليه اسم أول داعية للسلام بين البشر (كريمر، السومريون، ترجمة المرحوم الدكتور فيصل الوائلي، ص٧٦-٧٧، وانظر ترجمة النص المذكور في الملحق رقم ﻫ من الكتاب نفسه). وعندما ضرب الآشوريون مدينة بابل في مرحلة متأخرة من تاريخ بلاد ما بين النهرين، ترك لنا الملك الآشوري توكولتي — نينورتا الأول (من حوالي سنة ١٢٤٤–١٢٠٨ق.م.) تقريرًا عن ذلك الحادث في صورة ملحمةٍ تاريخية، بدأها كاتبها بتصوير غضب آلهة المدن البابلية على الجرائم التي ارتكبها الملك الكاشبي كاشتلياش؛ مما جعلها تهجر تلك المدن وتتركها بغير حماية، الأمر الذي أدَّى إلى انتصار الآشوريين وتدمير بابل والتفاف الآلهة حول توكولتي-نينورتا. كذلك دمَّر الملك الآشوري سينحاريب (٧٠٤–٦٨١ق.م.) مدينة بابل بوحشية، ووصف خليفته أسرحدون هذه الكارثة أو بالأحرى سوَّغها على النحو التالي: «لقد اضطهدوا الضعيف (يقصد سكان بابل) وأسلموه للقوي، وفي المدينة ساد الطغيان وعمَّت الرشوة، ولم يتوقفوا يومًا واحدًا عن نهب بعضهم ممتلكات البعض، راح الابن يلعن أباه في الطريق، وأقسم العبد أن يتخلَّى عن سيده، والأمة لم تسمع كلام سيدتها (… …) كفُّوا عن تقديم الأضحيات وحاكوا المؤامرات، وضعوا أيديهم على الأملاك الموقوفة على «إيزاكيل» معبد الآلهة، وباعوا الفضة والذهب والأحجار الثمينة لبلاد عيلام … وغضب مردوخ — أنليل الآلهة — وإله العواصف الجبار، وأمر أن يكتسح الشرُّ البلاد ويدمِّر العباد.» تلك أمثلة من شكاوى المهزومين، ومن أحكام الآشوريين على البابليين. ويُحتمَل أن يكون البابليون أنفسهم قد ارتضوا هذه الحكم وإن رفضوا الاعتراف بالجرائم التي اتُّهموا باقترافها؛ ففي ملحمة إيرا «إله الطاعون والأوبئة الفتاكة لديهم» يقنع هذا الإله كبير الآلهة مردوخ بأن يهجر مقامه العليَّ قبل أن ينفذ خطته بتدمير الجنس البشري، كما نجد الملك البابلي المتأخر نابونيدوس يتحدَّث عن غضب الآلهة على بابل، وعلى الغضب الذي تمثل في انصرافها عن المدينة وتغيبها عن مقر إقامتها فيه.
٩  فراس السواح، مرجع سابق ص٢٢٢-٢٢٣، وكذلك ﻫ. فرانكفورت وزملاؤه، ما قبل الفلسفة، ص١٧٠–١٧٤.
١٠  و. ج. لامبيرت، أدب الحكمة البابلية، أكسفورد، دار نشر كلاريندون، ١٩٦٧، ص٧.
١١   هو سرجون الأكدي أو سرجون العظيم مؤسس السلالة الأكدية، وقد كان يحكم أول الأمر في مدينة كيش القريبة من بابل ثم انتقل إلى عاصمته الجديدة أكد (أجادة).
١٢   هو حفيد سرجون الأكدي، كشف عن قصره في تل يراك، وكانت بناته من الكاهنات الرفيعات في مدينتَي ماري وأور. عُثر على المسلة المعروفة باسمه في سوسة، عاصمة العيلامين، وهي محفوظة في متحف اللوفر (عن أندري بارو، سومر حضارتها وقوَّتها — فهرس الأعلام).
١٣   ماري «تل الحريري» حاليًّا، وتقع على بعد نحو أحد عشر كيلومترًا شمال غربي بلدة بوكمال السورية عند الحدود العراقية السورية في منطقة الفرات الأوسط، وعلى بعد ٢٫٥ كيلومتر غربي نهر الفرات — كانت عاصمة دولة العموريين (الأموريين) السامية التي ظهرت في شمال وادي الرافدين، كما كانت مركزًا للفن والحضارة من الألف الثالث إلى الألف الثاني قبل الميلاد — هزم حمورابي ملك بابل (١٧٩٢–١٧٥٠ق.م.) آخر ملوكها زمرليم (١٧٩٠–١٧٥٩ق.م.).
١٤  هنالك بعض الشواهد التي تدل على أن الأدب البابلي القديم نشأ نشأةً مستقلة عن مراكز الثقافة السومرية وتقاليدها الموروثة؛ فقد عثر في مكتبة تل حرمل (شادوبوم) الواقعة في منطقة ديالى (المعروفة الآن باسم تل محمد جنوب شرقي بغداد) على ألواحٍ أدبية عديدة كتبت باللغتين البابلية والسومرية، وقورنت بألواحٍ أدبية عُثر عليها في حفائر مدينة نيبور «نفر» السومرية القديمة، وثبت أن تلك الألواح قد كُتبت باللهجات البابلية المحلية في منطقة ديالى وفي مدينتي ماري وبابل، كما ثبت كذلك أن التجار الآشوريين من كابادوقيا البعيدة (إلى الشمال الشرقي من آسيا الصغرى على سواحل البوسفور وشمال الأناضول) كان لهم قبل ذلك بقرن أو قرنين أدبٌ مكتوب باللهجة الآشورية القديمة، وكل هذه شواهد على أن الآداب البابلية والآشورية القديمة بلغت مرحلة من النضج في الكتابة والتعبير، وأنها تطوَّرت: خصوصًا في المناطق والمدن المتطرِّفة مثل ماري وأشنونا وعيلام ثم بابل؛ تطورًا مستقلًّا إلى حدٍّ كبير عن مراكز الثقافة السومرية، وإن لم يمنع هذا بطبيعة الحال من أن تأخذ منها بعد ذلك أهم بذورها وأشكالها وعناصرها الأصيلة في الدين والأدب.
١٥  «وإن حصلت أذية تعطي نفسًا بنفس وعينًا بعين وسنًّا بسن ويدًا بيد ورِجلًا برِجل وكيًّا بكيٍّ وجرحًا بجرح ورضًا برضى … إلخ» (الخروج، ٢١).
١٦  نَشر هذا النص عالم السومريات صمويل نوح كريمر في ملاحق العهد القديم، المجلد الثالث، ص١٧٠–١٨٢ (عن و. ج. لامبيرت، المرجع السابق، هامش ص١٠ من المقدمة).
١٧   نسبة إلى القبائل والجماعات الإيرانية التي زحفت من منتصف القرن الثالث قبل الميلاد من المناطق الواقعة شرقيَّ بحر قزوين وتحرَّرت بقيادة أرساكيس الأول من حكم السلوقيين، وأسست فيما بين ميديا وباختيريا في آسيا الصغرى دولة استمرت ما يقرب من خمسمائة سنة، وبلغت في ظل ميتراداتيس الأول (١٧٤–١٣٦ق.م.) أوج عظمتها؛ إذ قضى على السلوقيين حوالي سنة ١٤٠ق.م. ثم لقَّب نفسه — بعد إتمام سيطرته على ميديا وبابل وما بين النهرين — «ملك الملوك» حتى أخضعها أردشير الساساني سنة ٢٢٧ ميلادية.
١٨  لامبيرت، المرجع السابق، ص١٦.
١٩  يرجع الأساس النظري لهذا الموقف الأخلاقي إلى العصر السومري؛ فثمة نصوصٌ عديدة تؤكد بوضوح أن نظم الحكم والحياة الاجتماعية من صنع الآلهة وتقديرهم، بل إن التاريخ ليبدأ — حسب قائمة الملوك السومرية — بإنزال النظام الملكي من السماء إلى الأرض، ثم إنزاله مرةً أخرى بعد الطوفان رحمة بالبشر، هذا فضلًا عن أن إحدى الأساطير السومرية تدور حول احتيال «أنانا» إلهة «أوروك» على الإله «أنكي» الذي زارته وخدعته بالطعام والشراب حتى غاب عن وعيه، فتمكَّنت من سرقة النظم والقوانين التي كانت في حوزته، والهرب بقاربها عائدة إلى أوروك. لقد كان ما سرقته منه هو النظم الاجتماعية التي أرادت أن تقدِّمها هدية لشعبها. ومغزى هذه الأسطورة الطريفة — كما يُفهم أيضًا من نصوصٍ سومرية وبابلية أخرى مثل نصائح المتشائم والنصائح الموجَّهة لأحد الأمراء والمواعظ الدينية والمتضمَّنة في بعض التراتيل — أن الكاتب ينصح قُرَّاءه أو مستمعيه بألا يهملوا مزارعهم وعائلاتهم وآلهتهم، كما ينهاهم أيضًا عن الزنا والنصب والاحتيال والتزوير والافتراء كذبًا على الناس وظلم الفقراء والأرامل والأيتام؛ لأن ذلك يثير سخط الآلهة، على الرغم من تسليمه في كثير من الأحوال مع سليمان الحكيم بأن الكل باطل وقبض الريح.
٢٠  الشاعر الحكيم هو يوهان فولفجانج جوته (١٧٤٩–١٨٣٢)، وقد جاءت هذه السطور القليلة — مع شيء من التصرف — على لسان فاوست في الفصل الخامس من القسم الثاني من هذا القصيد الدرامي الخالد (الأبيات رقم ١١٥٧٤–١١٥٧٦).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤