لأمتدحن رب الحكمة
ليس فينا من لم يسمع عن محنة «أيوب» أو لم يقرأ شكواه المرَّة في السفر الذي يحمل اسمه في التوراة، ولكن ربما لا يعرف الكثيرون أن له أبًا بابليًّا وجدًّا من السومريين «ذوي الرءوس السود». وإذا كان أيوب العبراني يتفوَّق على أسلافه في عمق ألمه، وصدق تعبيره، وحدَّة سخطه الذي يصل به في بعض الأحيان — وهو البارُّ التقيُّ خائف الله — إلى حدِّ الثورة والتجديف، فإنه يشارك صاحبيه القديمين اللذين سبقاه بأكثر من ألف عام في تصوير العذاب الذي يُبتلى به الإنسان بغير ذنب جناه، وتقديم نموذج العادل المستقيم الذين يُمتحَن بالمرض، ويُبتلى بالفقر والاضطهاد، ويصرخ بالسؤال تلو السؤال: لماذا؟ ماذا فعلتُ لكي أستحق هذا العقاب؟ وكيف سمحت عدالة الكون أو الآلهة بهذا الظلم؟
والفكرة الأساسية التي تقوم عليها القصيدة وتدور عليها أقسامها الأربعة دوران الكهارب حول النواة هي محنة الإنسان المعذَّب الذي لا سبيل أمامه — مهما تراءى له أنه لا يستحق ما حلَّ به — سوى تمجيد إلهه الحامي، والتسبيح دومًا بحمده، ومواصلة البكاء والضراعة والاستغفار لعله يستجيب لدعائه ويرفع عنه بلواه، وطبيعي أن الشاعر الذي كتب القصيدة عن نفسه أو عن شخصٍ مجهول لم يذكر اسمه لا يلجأ للتأمل الفلسفي، ولا إلى البحث والجدل اللاهوتي، وإنما يسلك السلوك العملي الذي اتصف به السومريون؛ فيعرض حالة رجل كان غنيًّا موسرًا، وحكيمًا عاقلًا عُرف بصلاحه وتقواه، كان الرجل منعمًا بصفاء العيش مع أصدقائه وذوي قرباه، وفيما هو كذلك أحدقت به المصائب والأسقام على حين فجأة. وتدلُّنا أسئلته المتتالية على حيرته وذهوله مما جرى له، فهل ازدرى عن عمد بالقضاء الإلهي؟ هل كفر وجدف؟ إنه لم يفعل ذلك على الإطلاق، بل توجه إلى إلهه بذلة وخضوع، وناح وذرف الدمع وسكب مكنون قلبه في الصلاة والتضرع، ويبدو من سياق القصيدة أن النهاية السعيدة لم تتأخر عنه طويلًا؛ فقد سُرَّ إلهه وراعيه لذلك سرورًا عظيمًا، ورضي أن يشمله برحمته ويخلِّصه من بليته، ويبدل مرضه وعذابه وشقاءه صحة وفرحًا وسرورًا.
تنقسم القصيدة من جهة بنائها وتركيبها إلى أربعة أقسام، ففي القسم الأول تأتي مقدمةٌ قصيرة — لم يذكرها المترجم لكثرة ما أصابها من تشوهات وفجوات — والمقدمة تدور حول حثِّ الإنسان على الالتزام بتمجيد ربه وابتغاء مرضاته بالتضرع والتوبة والاستغفار. ثم يقدم لنا الشاعر المنكود المجهول الاسم، لقد كان فيما يزعم عن نفسه رجلًا عارفًا مدركًا، حتى إذا حلَّت به النكبة وأضرَّ به السقم لم يعد يلقى الاحترام الذي كان يلقاه. والأدهى من ذلك أن كل من أظهر له الاحترام لم ينجُ من الرقابة والاضطهاد والعقاب. وهكذا ساء الظن به فحولت كلمته الصادقة إلى أكذوبة، واكتنفه المخاتل والمخادع «بالريح الجنوبية»:
ويتوجه الرجل إلى إلهه الشخصي وراعيه العادل فيخاطبه باكيًا متضرعًا نادبًا حظه الذي قسمه له وقدره عليه، ونُحسُّ من بكائه وتضرعه أنه لا يزال هو العبد الخاضع الخاشع، كما نشعر كذلك بنغمة اللوم والعتاب التي خنقتها الحسرة والأنين فلم تتحول إلى ثورة سافرة:
ويعقب هذه السطور بيان «بقوى الشر» التي ساقها عليه هذا الراعي الموكل به، ومعها بيان أكثر تفصيلًا بما لاقاه من ظلم وغدر وهوان على يد الصديق والعدو على السواء:
وبعد أن يندب حظه العاثر ويرثي رثاءً يبدو أنه عجز عن الإفصاح عنه بكلمات تناسبه، أو أن النص نفسه انقطع في هذا الموضوع وساده الاضطراب مثله، إذا بنا نسمعه يتَّجه إلى أهله وذوي قرباه متوسِّلًا إليهم أن يواصلوا ما انقطع من شكواه، بل يتجه بتوسلاته إلى الندابين والمرتلين المحترفين ليشاركوا أمه وأخته وزوجته في الندب والبكاء:
ويختنق المعذَّب بدموعه فيرى النهار المشرق ليلًا أسود، ويطبق عليه الغمُّ من كل ناحية، كأن قدره لم يختره إلا للدموع. غير أن الاسترسال في تصوير الهم والحزن المحدِق به لم يكن إلا نوعًا من التضرُّع والاستعطاف على حاله الذي وصل إلى أسوأ ما يمكن أن يصل إليه بانتشار المرض الخبيث في جسمه:
وينتقل المبتلى الحكيم إلى الحكمة المأثورة أو المثل السائر الموروث، فيقرر على لسان الحكماء البارعين ما سبق أن سجَّلوه في نصوص سومرية أخرى من أن الأطفال أنفسهم لم يبرءوا من الإثم والخطيئة:
وأخيرًا تجيء النهاية السعيدة … فيروي لنا الشاعر كيف استجاب الإله لضراعة ذلك الرجل المبتلى بالمِحن والآراء، ورقَّ قلبه لأنينه وبكائه، «وسحب يده من كلمة الشر» التي نطق بها، وطرد من جسده شيطان المرض الذي تلبَّسه، وبدَّل عذابه وسقمه فرحًا وحبورًا، ووضع بجانبه الملاك الحارس الذي يحميه، حتى يواصل ما لم يقطعه أبدًا من التسبيح بحمد إلهه والإقرار بخضوعه وتسليمه لأمره:
أما عن هذه القصيدة البابلية الشهيرة «لأمتدحن رب الحكمة» أو باختصار «لدلول …» فهي مناجاة (مونولوج) أو حديثٌ فرديٌّ طويل يروي فيه نبيلٌ أو شريفٌ بابليٌّ مثقف عن ابتلائه بكل الرزايا والمحن والأمراض، ثم عودته إلى الصحة والثروة والشفاء ببركة «مردوخ» كبير الآلهة ورب الحكمة. كان النص في الأصل قصيدةً طويلة مؤلَّفة من أربعة ألواح تضم ما بين أربعمائة وخمسمائة سطر، لم يبقَ منها إلا ثلاثمائة وثلاثة وتسعون سطرًا، منها ما يقرب من مائة سطر تتعذر قراءتها إلى حدٍّ بعيد.
والفكرة التي تقوم عليها الألواح الثلاثة (على الرغم من ضياع بداية اللوح الأول ونهايته) تتكون من ستة عناصر: تمهيد (لم يبق له أثر)، تخلي الآلهة عن الرواية، انقلاب ذويه ومواطنيه — من الملك إلى العبيد — عليه، الأمراض الجسدية والنفسية التي أصابته، الأحلام الثلاثة التي رآها في نومه وحملت إليه الوعد بالشفاء، ثم خلاصه من كل آلامه وأمراضه على يد رسول من مردوخ.
في اللوح الأول نرى المعذَّب وكيف داهمه الفأل السيئ بأمارات منذرة. وتحقق هذا الفال المنحوس فغضب عليه الملك، وأفلتْ شمس عزته، وفقد مكانته، وطرده المجتمع من حظيرته فأصبح مغتربًا أو «لامنتميًا» بالمعنى الحديث لهذه الكلمة، نبذه أصدقاؤه، وأهانه عبيده، وتنكَّر له أفراد عائلته، وجردوه من كرامته وممتلكاته. والغريب أن مضطهِديه أشخاص معترَف بهم في الحياة العامة؛ ولهذا كانت أي شفقة أو مساعدة له تُقابَل بالجزاء الرادع. لقد اكتملت حلقات اغترابه الاجتماعي والنفسي بمصادرة أملاكه، وحرمانه من مناصبه، وهنا يبدأ في شكواه المُرة التي تنقطع فجأة بانقطاع النص.
ومع اللوح الثالث نصل إلى قلب القصيدة، فالعبارة التي يبدأ بها ذات دلالة كبرى على القصيدة كلها وطريقة فهمها: «كانت يده ثقيلة عليَّ …» ونسأل أنفسنا: يد من هذه؟ وتُكرِّر السطور التالية ضمير الغائب ولا تقدم تفسيرًا. قد نميل إلى الظن بأن الكاتب يشير إشاراتٍ غامضةً إلى كبير الآلهة، بيد أنه لا يُصرِّح أبدًا باسم مردوخ، والغريب هنا أن الكاتب الذي استهل شكواه بالثناء على مردوخ وتمجيده، لم يذكر اسمه مرةً واحدة طوال مائتي سطر أسهب فيها في سرد آلامه وأسقامه بصورةٍ مملَّة قلَّلت من مصداقيتها وعمق تأثيرها المعنوي والوجداني والأدبي. ومع أن «البطل» المبتلى لا يذكر اسم الإله الأكبر، فيبدو أنه كان على يقين من أنه هو أصل بلواه، وأن الذنب في المصائب التي امتحن بها لا يقع في المقام الأول على الملك ورجال البلاط وأفراد عائلته وعبيده، ولا على الأرواح والشياطين الشريرة، وإنما يقع على كبير الآلهة نفسه، وكأن ثورته الجارفة عليه قد حبستها التقاليد الدينية وحاصرت نارها المتأججة في صدره؛ فلم يتجرَّأ حتى على التصريح باسمه.
وتأتي الأحلام الثلاثة فلا نلبث أن نسأل أنفسنا إن كانت أحلامًا، أم رؤًى وتجليات، أم أحلام يقظةٍ وتمنٍّ، أم حالات وتجارب نفسية تملَّكت المعذَّب واستولت على كيانه وأخرجته عن الوعي؟ إن «شوبشي-مشري-شاكان» يخاطب زائرًا طاف به في الحلم، وتتغير صورة هذا الطيف الزائر؛ فهو في المرة الأولى شاب قوي البنية يُبلغه رسالة لم يثبتها في النص، وفي المرة الثانية يتجلَّى له شاب في صورة واحد من أولئك الكهنة «المعزِّمين» الذين يطاردون الأرواح الشريرة بالسحر، ويمارس الكاهن بعض الطقوس ويعلن إليه أنه واحد من قبل «لالوراليما» النفري «أي من مدينة نيبور أو نفر»، ويبدأ الحلم الثالث والأخير بظهور امرأةٍ شابة تتجلَّى له في صورة إلهة، وتستجيب لتوسلاته وتقدِّم إليه التشجيع والمواساة، ثم يظهر في الحلم نفسه رجلٌ ملتحٍ من مدينة بابل هو «أور نند ينلوكا»، نعرف من النص ومن مصادر أخرى أنه كان مشتغلًا بالسحر، ويعلن له الرجل أنه رسولٌ موفَد من لدن الإله الأكبر مردوخ، وأنه يحمل معه الرخاء والشفاء. والمهم في الأمر أن الشخوص الخمسة التي ظهرت للمعذَّب في أحلامه قد تكون أشباح شخصيات ذات مكانةٍ عالية وقفت في صَفِّه، أو تشفعت له عند أصحاب السلطة وذوي المكانة في البلاد والمعبد وأولته الحماية والرعاية. والأرجح أنها كانت شخصياتٍ مرموقة لها شأنها في الحياة الدينية والثقافية في عصر المعذَّب، وقد جاءت تمارس طقوسها الدينية والسحرية لمعاونة المصاب. ولا شك أنها جميعًا علامات دالة على أن غضب مردوخ قد زال؛ فبعد فجوة في النص نجد أن الشر قد بدأ يخفف قبضته عليه، وأن شياطين المرض وأرواحه الشريرة أخذت تغادر جسده واحدًا بعد الآخر. وينقطع النص قبل أن يتحقَّق هذا، وإن كان التعليق الأخير يفيد في تتبُّع النهاية المحتملة، فالمعذب الذي شفي من أمراضه يتجه إلى النهر ويزيل عنه علامة العبودية (وإن كان النص لم يخبرنا قبل ذلك بأنه قد بيع كالعبيد، والأرجح أن يؤخذ كلامه بمعناه المجازي) ثم يمشي في شوارع بابل متجهًا إلى معبد مردوخ «الإيزاكيل»، وهناك يعلن أنه عبرة لكل من أذنب في حق الإله البابلي الأكبر.
ويختتم التعليق بالقول بأن مردوخ قد شرع في سحق أعدائه.
وُجدت القصيدة في مكتبة آشور-بانيبال الكبرى (حكم بين عامي ٦٦٨–٦٢٧ق.م.) التي عُثر فيها على تسع «مخطوطات» لها بجانب الشرح والتعليق. وهناك نسخٌ آشورية وجدت في خرائب مدينتي آشور وسلطان تبة (في تركيا) تؤكد أن القصيدة كانت تُعدُّ قطعة من الأدب البابلي الكلاسيكي في القرن السابع قبل الميلاد. والمرجَّح لدى العلماء أن «لدلول» أُلِّفت في العصر الكشي لا في عصرٍ سابق عليه، تدل على ذلك لغة النص التي تكشف عن مستوى «العلم» الذي بلغه ذلك العصر بفنون السحر وطقوسه التي كانت في النهاية هي لب الحكمة وسرها. والواقع أن بنية النص وصورته هما موضع الأصالة الأدبية فيه، أما مادته فهي تقليدية؛ إذ إن النصوص التي تحمل تراتيل البابليين أو رسائلهم إلى الآلهة شيءٌ مألوف في تراثهم الديني، وجزء لا يتجزأ من رصيدهم الأدبي. وقد أصبحت «لدلول» نصًّا كلاسيكيًّا في الأدب العالمي، ودأب الكثيرون — منذ اكتشاف الجزء الأكبر منها وفك معظم رموزها في أواخر القرن الماضي — على مقارنتها بسفر أيوب، ووصف المعذب بأنه «أيوب البابلي». ويصدق هذا بوجهٍ خاصٍّ على اللوح الثاني الذي يسوغ هذا الوصف، ومع ذلك فقد بدأ العلماء يَعدِلون عن هذه التسمية بالنسبة للقصيدة ككل؛ إذ أن القسم الأكبر هنا يتناول الأعمال التي يقوم بها مردوخ لشفاء عبده وردِّ اعتباره، بينما يشير القسم الأصغر لأسباب المحنة التي أصابته، وكان الكاتب يتعمد الابتعاد عن ذكرها خوفًا مما ينطوي عليه ذلك من تجديف على الملك والسماء. لا شك أن في «لدلول» شيئًا من أيوب (أو إن شئنا الدقة فالعكس هو الأصح!) ولكن ربما جاز وصفها بأنها «رحلة حاج» بابلي إلى «كعبة» الإيمان واليقين للتطهُّر من الشك والقنوط، أو بأنها عودة «ابنٍ بابليٍّ ضال» إلى رحاب التوبة والهداية. والحقيقة أن المعذَّب قد ابتُلى ببلاء أيوب، وأن مشكلته في تصميمها هي مشكلة أيوب؛ فمردوخ هو الإله الذي ينتظر منه عبيده العدل، وهو نفسه مردوخ الذي يسمح بأن يعذب أخلص عبيده. ومؤلف «لدلول» لا يجد جوابًا على هذا السر الغامض — الذي يكتنف الحرية والإرادة الإلهية، ويتعالى على أفهام البشر الفانين — سوى هذه العبارة التي يمكن أن تُلخِّص موقفه من السر والمفارقة، وتُعبِّر عن جوابه الوحيد عليها: «إن كان الإله هو الذي يجرح، فالإله وحده هو الذي يشفي.»
لأمتدحن رب الحكمة
اللوح الأول
اللوح الثاني
اللوح الثالث
ظهر اللوح الثالث٥٨
اللوح الرابع٦٢
المعذب والصديق٦٨
القصيدة — كما قدمت — حوارٌ شعري بين معذَّبٍ جنى عليه الظلم المستشري في عصره، وصديقٍ عالم مُتَّزن، يعبر عن التقاليد والسلطة الدينية والأخلاقية السائدة، ويحاول أن يلتمس الأعذار والمبررات للوقائع والجرائم المنكَرة التي راح يسردها المعذب المضطهَد، وذلك على ضوء الأفكار والقيم والمعتقدات الموروثة عن عدالة التنظيم الإلهي للعالم، والتنظيم الاجتماعي الذي أقامته الآلهة كذلك بأنفسهم، وأنزلوه على البشر في صورة مؤسسات وتشريعات مقدَّسة.
تبدأ القصيدة بمخاطبة المعذَّب لصديقه بلهجة تنمُّ عن الأدب والاحترام الذي سيحافظ عليه الطرفان إلى النهاية، ويشرع المعذب في رواية سيرته المفعَمة بالمحن والكروب. لقد كان آخر طفل وُلد لأبويه اللذين لم يلبثا أن ذهبا إلى الأرض التي لم يرجع منها أحد، وتركاه لليتم والضياع. ومع هذه البداية تتخلق ملامح الموضوعات الأساسية أو بالأحرى ملامح الأشكال والأسئلة الرئيسية التي يدور حولها الحوار: لماذا لا تحمي الآلهة أولئك الذين يعجزون عن حماية أنفسهم؟ ولماذا يعمد الأقوياء والأغنياء وأصحاب السلطة والنفوذ إلى ظلمهم واضطهادهم، بل لماذا يتلذذون بهذا الظلم والاضطهاد؟ ولماذا يُدلَّل الابن البكر ومعه كل المزايا التي تجعله يتفوَّق على سائر الأشقَّاء ويُعفى من حمل النير الذي يعانون سخرته؟ ولماذا يُضطهَد الخيِّر الأمين ويشقى الصالح البار الذي أدَّى فروض الطاعة للآلهة ولم يرتكب شرًّا ولا إثمًا في حق البشر، بينما يحظى الجبار الظالم ومُحدَث الثروة الوقح بكل ما ينعم به من رخاء وهناء وقوة وسلطان عند الآلهة وعند الناس؟!
ويحاول الحكيم أن يُعزِّي صديقه عزاءً نشعر أنه غير ضروري وغير مُقنع؛ فهو يواسيه بأن موت أبويه لم يكن إلا قضاءً وقدرًا اشتركا فيه مع البشر جميعًا في مصيرهم المحتوم، ثم يؤكد للمعذب في المقطوعة الثانية أن حياة الضنك والشظف التي عاشها تقابلها حياة اليسر والرخاء التي هي نتيجة مترتِّبة على التقوى والطاعة والصلاح، ويُجيبه المعذَّب «في المقطوعة الثالثة» إجابة تدل على أن صديقه لم يستطع أن يُقدِّر حاله أو يدرك مدى البؤس واليأس الذي انحدر إليه. ويكرر الصديق «في المقطوعة الرابعة» مقالته السابقة مؤكدًا أن حياة التقوى والصلاح لن تنقضي دون مكافأة من الآلهة، ويرد عليه المعذب فيؤيد حجته بأمثلة مختلفة من الجرائم التي ترتكب في حق الأخيار الطيبين، سواء في المجتمع الإنساني أو في مملكة الحيوان. ويرجع الصديق الحكيم «في المقطوعة السادسة» إلى التراث التربوي والديني السائد فيُنبِّه صديقه إلى أن العقل الإلهي بعيدٌ موغِل في بُعده عن البشر، وأن حكمته خافية على عقولهم المحدودة، وأن المجرمين ينتهون في بعض الأحيان نهايةً مفجعة؛ ومن ثم يحذِّر المعذَّب ويُنبِّهه إلى ضرورة مقاومة إغراء الجريمة ورعاية حقوق الآلهة. غير أن هذا التفسير أو التبرير لا يُقنع المعذب؛ ولذلك يفاجئ صديقه — في المقطوعة السابعة — بأن الحياة التي قضاها في التدين والعبادة هي التي أدَّت به في النهاية إلى المصائب التي يُكابِدها في حالته الراهنة! ويَعتبر الحكيم ذلك كفرًا وتجديفًا من صديقه (المقطوعة الثامنة)، ويؤكد له من جديد أن من الصعب إدراك كنه الحكمة الإلهية.
وينقطع النص تمامًا ليبدأ مع المقطوعة الثانية عشرة بمحاولة الصديق الحكيم أن يبين النعم والمزايا التي تتحلَّى بها حياة التقوى وأداء الفروض الواجبة نحو الآلهة والبشر. ويرد المعذب الذي غلبه القنوط من رحمة الآلهة ومن عدالة البشر فيهتف بأن كل ما يتمناه هو أن يفرَّ من الحياة المستقرة ويحيا حياة المتشردين الهائمين على وجوههم، أو حياة المتوحدين والمغتربين كما نقول اليوم (المقطوعة الثالثة عشرة). ويعود النص إلى الانقطاع، ولا يكاد يبدأ مع المقطوعة السابعة عشرة — حيث يؤكد المعذب أن من السهل أن يغير الأغنياء والفقراء مواقعهما — حتى ينقطع في المقطوعتين التاليتين اللتين تصعب متابعتهما، وبعد هذه الفجوة يستأنف الصديق الحكيم حديثه في المقطوعة العشرين؛ فيكرر قوله بأن التقوى لا بد أن تكافأ في النهاية، وأن عليه أن يثوب عن غيه وضلاله، ويؤدي الطقوس ويُقدِّم القرابين. ويبدو أن المعذب ضاق صدره بالحجج المملَّة، فزفر زفراتٍ باكية لم تبقَ منها إلا أصوات كلمات ربما كانت في الأصل صرخاتٍ راجفة: «الأوغاد الغشاشون المزوِّرون! إنهم يكدِّسون الثروات! …» ويجيب الصديق بأنهم يلقون جزاءهم العادل في النهاية فتزول عنهم الثروة ويعاجلهم سهم الموت، لكنه يتراجع على كل حال عندما يصرُّ على أن الذين يخشون الآلهة لا يموتون جوعًا، وإن اعترف بأنهم قد لا يجدون الطعام الوفير الذي يكفيهم إلى حد الشبع (المقطوعة الثانية والعشرون).
بيد أن المعذَّب الجريح — أو المتمرد العنيد الذي ينتفض في صدره — لم يقتنع بما سمعه أكثر من مرة؛ ولهذا يواصل المجادَلة ومقارَعة الحُجَّة الدينية بحُجةٍ نافذة في لحم الواقع اليومي وعظمه؛ فهو يقدِّم أمثلةً صارخة تشهد على المزايا التي يتمتع بها الطفل الأول المدلل — أو المتنطِّع — بالقياس إلى إخوته الذين يصغرونه في السن، ويختم كلامه بأن يؤكد ما سبق تأكيده من أن حالته المنكدة هي نتيجة بِرِّه وصلاحه وتقواه (المقطوعة الثالثة والعشرون). لكن يبدو أن الصديق الحكيم لم يستنفد حججه والتي تؤيِّد رأيه، كما تستند إلى الرأي التقليدي بأن الحكمة الإلهية تظلُّ خافية على من يكتفي بالنظرة السطحية ولا يحاول أن يسبر غورها ويدرك كنهها؛ فالمولود الأول دائمًا ما يكون أضعف من إخوته من الناحية الجسمانية؛ وبذلك تنقلب المزايا إلى مضار (المقطوعة الثالثة والعشرون). وطبيعي أن الصديق لا يملك البراهين المستمَدَّة من علوم الحياة ووظائف الأعضاء والوراثة لتأييد حجته الدامغة التي ربما أيَّدتها الملاحظة المباشرة أو الطب التجريبي الشعبي في عصره نتيجة الزواج المبكِّر للمرأة في الشرق الأدنى القديم والحديث؛ ولذلك يبدو أن الطرفين قد قبلا الحجة التي لم يعودا لمناقشتها، وإن رجع المعذب للضرب على وتره الحزين بسرد الحالات التي يعتمد فيها الأغنياء والأقوياء سحق الفقراء والمستضعفين (المقطوعة الخامسة والعشرون). ويضطر الصديق الحكيم — ربما تحت ضغط الظلم الاجتماعي الذي كان يجتاح الناس في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد أو أوائل الألف الأولى — يضطر إلى إقرار صديقه على ما يقول، وأن يتقمص دور الشارح المطَّلع؛ فأخذ يُفسِّر ذلك بأن الكذب وشهادة الزور جزء لا يتجزَّأ من الطبيعة البشرية التي سوَّتها أيدي الآلهة (المقطوعة السادسة والعشرون). ولعله لم يفطن إلى التجديف الذي تنطوي عليه شهادته في حق الآلهة، أو لعل الكاتب أو الكُتاب الأصليين قد أحجموا عن الخوض في هذا الكفر الصريح؛ ولهذا نجدهم — على لسان المعذب — يسارعون بالتضرُّع إلى الآلهة أن يمددوا عليه ظلال رحمتهم، وإلى الصديق الحكيم أن يتدبر حاله وينظر بعين العطف إلى بؤسه وشقائه (المقطوعة السابعة والعشرون).
ليست قصيدة «المعذب والصديق» دراسةَ فلسفةٍ ولا بحثًا في اللاهوت أو علم أصول الدين البابلي؛ فلو نظرنا إليها هذه النظرة لحمَّلناها في الحقيقة أكثر بكثير مما تحتمل، ولأخطأنا فهم النص وغاب عنا الصراع الوجداني المحتدم وراء صوره وتعبيراته الشاعرية، ومع ذلك فإن هذا لا يمنعنا من القول بأنها تدور حول العدالة الإلهية، وتدين المظالم الاجتماعية على شكل حوار يذكِّرنا بتقليدٍ أدبي أو جنسٍ أدبي قديم هو المناظرة الأدبية التي تتم بين أشخاص أو حيواناتٍ أسطورية أو أنواعٍ متنافسة من النبات (وتجد نماذجها الباقية في هذا الكتاب). وإذا كانت القصيدة تتَّخذ شكل الحوار أو الجدل بين طرفين متخاصمين في الفكرة والرأي فإنها تتناول موضوعًا أسمى وأخطر من موضوع الخصومة بين شخصياتٍ أسطورية أو حيواناتٍ خرافية، وتنتقل بنا من عالم الحكاية الخيالي البديع إلى عالمٍ تُلقى فيه الأسئلة النهائية الكبرى عن العدل والظلم المقدَّر على البشر، وعن الخير والشر وحرية الإرادة، وتطرح فيه المشكلات — على الحدود الدقيقة الفاصلة بين الإيمان المطمئن المريح وبين التساؤل القلق المخيف — عن المسئولية الإلهية عن سعادة البشر وشقائهم، وعن مصيرهم المكتوب في «ألواح المصائر»، ومدى قدرتهم أو حريتهم في التردد عليه أو على الأقل في مناقشته — على لسان هذين المثقفين المهمومين بهموم العدل في الأرض والسماء — وعن جذور الظلم الضارب في طبيعة البشر والمجتمع أو في طبيعة الآلهة أنفسهم. بل إن المعذَّب ليشهد في هذا العصر المتقدم على ما نسميه اليوم — حسب تعبير نتشه — بانقلاب القيم، وربما يكون قد جرَّب — على طريقته ووفق ظروف عصره وبيئته ووعيه وثقافته — ما حاوله فيلسوف الإنسان الأعلى وإرادة القوة فاصطدم رأسه المتعب بسور التديُّن البابلي الشائك، وألجمه طوق التقاليد الحديدية التي فَرضت على الجميع الطاعة المطلقة للآلهة والملك، ولخدمهم وأتباعهم من «أولي الأمر» المنفِّذين لأحكام السلطة الدينية والاجتماعية.
إن أحد المتحاورين «وهو المعذَّب» يمثل وجه المثقف الثوري و«اليوتوبي» القلق على الدوام، والآخر ينطلق بلسان المثقف المسوغ للنظام القائم والتقاليد والموضات السائدة. إنهما يمثلان نمطَين يعيشان بيننا إلى اليوم بصورة ربما تكون أكثر تعقيدًا، ولكنها في جوهرها هي الصورة نفسها، وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن نرفع المعذَّب إلى مستوى المجادِل النزيه في المشكلات الدينية والميتافيزيقية الأساسية — لأن ثورته لا تخلو من قدر من النفعية، وخيبة أمله في الحياة والناس لا يمكن تجريدها من قدر من الطموح العملي إلى المكانة والسلطة — كما لا نستطيع في الوقت نفسه أن ندمغ الصديق الحكيم على طول الخط بالرجعية ومجاراة الأوضاع السائدة، ولا أن نُجرِّده من الصدق والأمانة، فلا شك عندي أن الصراع المحتدم بينهما يدل على استمرار هذا الصراع الذي لم يوجد له حل حتى الآن ولا يُنتظر أن يحل ما بقي الفكر الحقيقي الذي لا ينفك يتجاوز الواقع والوضع القائم، وينقد القيم والمفاهيم المستقرة، ويتجه دائمًا نحو التغيير والمراجعة والتقويم وإعادة النظر في كل شيء، ومن الطبيعي أن يلجأ الطرف المبرِّر — الذي لا أشك كما قلتُ في تديُّنه وصدق إيمانه بعدالة النظام الطبيعي وثبات التقدير الإلهي — إلى الحجة التي يلجأ إليها أمثاله، وهي حجة الجهل البشري بالعلم والتقدير الإلهيين، وقصور الرؤية ومحدودية الخبرة عند الفانين.
وفي النهاية يلقي المتمرد المتشائم أسلحته، ويستسلم يائسًا أو راضيًا لتعالي الحكمة الإلهية الخافية وضعف الطبيعة البشرية، ولا يبقى أمامه سوى أملٍ واحد هو انتظار الرحمة الإلهية والعون الإلهي. ومع أن القصيدة — كما قلت — ليست رسالة في اللاهوت ولا في الفلسفة، فإنها ذات قيمة كبيرة في تعرُّف الرؤية الدينية والفلسفية للمثقفين القدماء في وادي الرافدين، وتعرُّف جذور الظلم والتسلط في ثقافتنا وتراثنا الذي لا يجوز أن نُسقط منه التراث البابلي العريق بدعوى النكوص إلى النعرة الإقليمية أو بأي دعوى أو ادعاء آخر؛ وهي لذلك (أي القصيدة) أثرٌ مهم من آثار الحكمة البابلية لا نستطيع أن تتكرر رواسبه المغروسة في أعماقنا أو المؤثرة في تفكيرنا وسلوكنا؛ هذه الحكمة التي لم تكن على الإطلاق حكمةً راكدة ولا مستكينة، وإنما عرفت الصراع والقلق إزاء مشكلات الاختيار والتقدير والحرية والظلم والعدل التي لا تزال تُضني الإنسان الشرقي والعربي بوجهٍ خاص إلى اليوم.
المعذب «١»
الصديق «٢»
المعذب «٣»
الصديق «٤»
المعذب «٥»
الصديق «٦»
المعذب «٧»
الصديق «٨»
الصديق «١٢»
المعذب «١٣»
الصديق «١٤»
المعذب «١٥»
الصديق «١٦»
المعذب «١٧»
المعذب «١٩»
الصديق «٢٠»
المعذب «٢١»
الصديق «٢٢»
المعذب «٢٣»
الصديق «٢٤»
المعذب «٢٥»
الصديق «٢٦»
المعذب «٢٧»
حوار السيد والعبد
تقديم
ماذا يفعل الإنسان عندما يجد أن القيم قد فقدت قيمتها، بعد أن كانت حية ومؤثرة على عهد الأجداد والأسلاف؟ وكيف يتصرف وهو يرى حضارته المأزومة تتحشرج في صدرها الأنفاس الأخيرة، ويتزاحم عليها النمل والسوس الذي ينخر في أصلها وجذورها، والجراد الذي يلتهم الخضرة من فروعها وأوراقها، فلا تملك الطيور المبدعة إلا أن تهجر الأعشاش التي بنتها، وتأوي — يائسة أو مترفِّعة — إلى حزنها وصمتها؟ وعندما ينظر هذا الإنسان — الذي تحوَّل إلى شاهدٍ أمين على زمنه وأهله — فيهوله الاضطراب والخلل في كل شيء، ويُفزعه خلو الساحة لعقارب الخسة والغدر، وكلاب السلب والنهب، وقرود الوصولية والانتهازية، أيبقى أمامه إلا أن يصرخ ويحذر وينذر، أو يسقط في الهاوية التي تتعطل فيها إرادة الحياة، وتُشَلُّ القدرة على الاختيار والمبادرة والفعل الحر؟ وهل نعجب عندئذ حين نجده غارقًا في القنوط والتشاؤم، أو سادرًا في العبث والسخرية، أو فاتحًا ذراعيه لاحتضان الموت الذي يلتمس فيه المعنى الأخير بعد أن غاب المعنى عن كل شيء؟
ذلك هو؛ فمضمون هذا النص المذهل المحيِّر الذي انحدر إلينا من بابل القديمة (نحو الألف الأول قبل الميلاد)، ربما لم يقصد الكاتب الذي دوَّنه أو نسخه إلى هذه المعاني التي أشرت إليها. وربما أكون قد تسرعتُ بتأويله وتفسيره — وفي كل تفسيرٍ شيءٌ من ذات المفسِّر ووجهة نظره ووقع عصره وبيئته وحياته على شخصيته، ولكنك ستخرج من قراءته بأن هذا الكاتب أو الناسخ المجهول شديد الحساسية لمحنة تاريخه وحضارته، وأن هذه الحساسية المفرطة قد انعكست على الحوار الذكي البديع بين السيد البابلي وعبده، بحيث جعلت منه نصًّا دراميًّا فغرقا في التشاؤم والقتامة أو في الدعابة والسخرية.
لنبدأ الآن في عرض هذا النص قبل الحديث عن عصره وظروف نشأته، والنصوص التي تتصل به من قريب أو من بعيد، والدلالات والمعاني التي يمكن أن نستخلصها منه.
-
(١)
ها هو ذا السيد — بعد أن استولى عليه الملل أو خيَّم عليه الصمت — يتخذ قراره المفاجئ فيهتف بعبده أن يجهِّز مركبته ليتَّجه إلى قصره، ولسنا ندري في الحقيقة شيئًا عن هذا السيد المجهول، ولا نستطيع أن نقطع بأنه كان أحد النبلاء الإقطاعيين، أو أحد رجال السلطة أو البلاط، أو مجرد كاتب أو ناسخ لوثائق القصر الذي يسكنه الملك الذي كان نائب الإله على الأرض، وكل ما نعلمه من قراءة النص أن العبد المطيع يُسرِع إلى موافقة سيده على قراره، ولا يكاد يمضي لإعداد المركبة حتى يستوقفه السيد الذي عدل فجأة عن القرار كما اتخذه فجأة! والمهم أن العبد المسكين يصادق في الحالين على رأي سيده، ويزين له محاسن أو مساوئ فعله وعدم فعله:– أيها العبد، انصت إليَّ.– ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.– أسرع وأحضر المركبة وأعدَّها لأذهب إلى القصر.– اذهب يا سيدي، اذهب، سأكون تحت تصرفك.– لا أيها العبد، لن أذهب للقصر، لن أذهب أبدًا.– لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.
ربما يرسلك … (نجواك بالنص ويحتمل أن تكون الكلمة أو الكلمات الناقصة عن إلهٍ معين).
ربما تسير في طريق لا تعرفه، وربما تتألم [أو تندم] على ذلك ليل نهار.
-
(٢)
ويتراجع السيد عن عزمه على الذهاب إلى القصر، لعله قد فكَّر فيما قاله عبده المخلص وتذكَّر ما سبق أن عاناه من متاعب لا نعرف طبيعتها، أو تذكَّر ندمه على زياراته للقصر وتجاربه مع صاحبه وأعوانه وجلسائه وخدمه وحشمه؛ فشحبت خدود عزيمته، وانتقل إلى رأيٍ آخر تحت تأثير جوعه وعطشه:– أنصت إليَّ أيها العبد.– ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.– أسرع بإحضار الماء لأغسل يدي حتى أتناول غدائي.– تَغَدَّ يا سيدي، تناول طعامك مرة ومرة؛ فذلك يريح الذهن من متاعبه.و«شمش» نفسه يرعى من يطهر يديه.– لا يا عبدي. لا. لن آكل، لن أغسل يدي.– لا تأكل يا سيدي، لا تأكل.الجوع والأكل، العطش والشرب، ماذا أفاد منها الإنسان؟
-
(٣)
لم يستطع السيد أن يُنفِّذ رغبته في الأكل والشرب؛ إذ يبدو أن فراغ سأمه كان أكبر من فراغ جوفه! بل إن إهابة العبد البارع باسم «شمش» — وهو إله الشمس والعدل الذي كان مقرَّبًا من قلوب الناس، كما يقال إنه هو الذي أوحى لحمورابي (من نحو ١٧٩٢ق.م.–إلى نحو ١٧٥٠ق.م.) بتشريعه المشهور — لم تقوَ على إقناعه بالإقبال على الطعام الذي تهيأ العبد لإعداده، بل لعل العبارات الأخيرة التي خرجت من فم هذا العبد الحكيم أن تكون قد ثنته عن عزيمته المتخاذلة وغذت نار تردده بوقودٍ جديد؛ ولهذا يثب وثبة جديدة ليقتنص خاطرة جديدة يمكن أن تُحرِّره من القعود في بيته فريسة للملل الذي استبدَّ به ومنعه من سد حاجته الضرورية لإشباع وحش الجوع، فإلى أين تؤدي به الوثبة الجديدة؟
– عبدي، انصت إليَّ.– ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.– أسرع، أسرع، أحضر المركبة وأعدها للرحيل.أريد ان أمضي للخلاء، للريف المفتوح.– اذهب يا سيدي، اذهب.فالصياد يملأ جوفه.وكلاب الصيد ستكسر عظام الفريسة.وصقر الصياد سيهبط عليها (…)والحمار الوحشي سيعدو مسرعًا (…)– لا يا عبدي، لا …– لن أمضي للخلاء، لن أمضي للصيد.– لا تفعل يا سيدي، لا تفعلإن حظ الصياد متقلب،كلب الصيد ستنكسر أسنانه.وصقر الصياد سيرجع إلى [عشه].والحمار الوحشي سيهجع [أو يأوي] إلى حظيرته في الجبال. -
(٤)
هل أقنعه العبد بعبث الفكرة وبطلان المحاولة؟ وهل أفلح في تجريد متعة الصيد التي طالما اندفع إليها من كل قيمتها؟ إن صح كما قلنا أنه كان من النبلاء البابليين الذين يقضون أوقات لهوهم وفراغهم في التلذُّذ بها لا بد أن عبارة العبد الساخر لم تصل به فحسب إلى حد الزهد في هذه المتعة، بل أوقفته على شفا حفرة العدمية التي تزول عندها قيمة كل القيم، حتى ليوشك على السقوط فيها لولا أن يتدارك نفسه ويفكر في فكرة طارئة ربما تنجح في انتشاله منها، ولكن هل تنقذه هذه الفكرة حقًّا أم توشك بدورها على رميه في حفرة أخرى؟
– أيها العبد، انصت إليَّ.– ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.– قررت أن أُكوِّن أسرة وأنجب أطفالًا.– افعل يا سيدي، وليكن لك أطفال؛ فالرجل الذي يبني بيتًا [أو يكون أسرة] إنما (… فجوات واضطرب شديد في النص). -
(٥)
تخلى السيد المتردد عن عزمه على تكوين الأسرة وآثر السلامة في أحضان العزوبة، بعد أن قلَّب المسألة على وجوهها، وتراءت له في لمح البصر الأخطار المخيفة التي كاد أن يتردَّى فيها؛ ولهذا نراه يُسرع بالرد على عبارة عبده والاعتراف بصدق حكمته وبُعد نظره:– إن الباب سيسمى الفخ!والإنسان الذي يتزوج يلقي بنفسه بين أحضان جلاده [أو معذبه ومضطهده] ولا بد أن يستسلم … ويرضى.– إذن فاستسلم يا سيدي.كوِّن أسرة وابنِ بيتًا.– لا، لن أفعل، لن أبني بيتًا.– لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.فمن يسر على هذا الطريق يهدم بيت أبيه (؟).وتنقطع تحذيرات العبد وتنبؤاته السوداوية التي توقعنا أن يسترسل فيها، كما انقطع من قبل سيل كلماته الذي بدأ يتدفَّق لتشجيعه على الزواج. ويرجح الأستاذ «لامبرت» أن يكون النص قد سقطت منه عبارات عن اللجوء للمحاكم بسبب المشكلات الزوجية، كما يقدم بديلًا عن الحوار المبتور هذه السطور التي جاءت في لوحٍ آخر على هذا النحو الذي لا يضيف شيئًا مهمًّا ولا جديدًا:– الزم الصمت يا سيدي، الزم الصمت.– لا يا عبدي، لن أصمت، لن ألزم الصمت.– لا تصمت يا سيدي، لا تصمت.إلا إذا فتحت فمك فسيقسو عليك مضطهدوك.
-
(٦)
ويبدو أن السيد لم يقتنع في هذه المرة بنصيحة عبده الماكر أو الحكيم … فكيف يرضى بالسكوت ويلوذ بالصمت إزاء أسراب العصافير أو الغربان التي تناوشه وتلحُّ عليه مناقيرها الخضراء أو الصفراء بأفكار جديدة؟ وكيف ينفض يديه من كل فعل، مع أن ضميره يفور كالأتون الملتهب، ويحور بخواطر تنهال عليه أو تتصاعد شراراتها التي تحثه على الفعل؟ إن الإخلاد إلى الصمت لا بد أن يكون مهينًا إلى أبعد حد، فليكسر شوكة هذا الصمت المهدِّد كالموت، بالفعل الوحيد الذي يوقفه ويرد إلى نفسه الثقة المفتقدة والعزم الجبار على الإقدام على أخطر فعل ممكن، نعم! فليقدم على الثورة، وليقُدْ هذه الثورة المدمِّرة بنفسه:– أنصت يا عبدي، أنصت.– ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.– سأقود ثورة.– قُدْ ثورة يا سيدي.إنك إن لم تفعلفمن أين تأتي بملابسك؟من يساعدك على ملء بطنك؟!– لا يا عبدي، لن أقوم بثورة.لن أفعل أبدًا.– لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.فالثائر [من يقود ثورة] إما أن يُقتَل أو يسلخ جلده.أو تسمل عيناه.أو يلقى القبض عليه.أو يُرمى في السجن.
-
(٧)
لا شك أن القارئ الحديث ستصدم مشاعره في هذه الثورة العجيبة التي تقف عند حد الحصول على الملبس وملء المبطن! فالثورة في المفهوم الحديث انقلاب جذري في البناء الاجتماعي والاقتصادي الشامل وما يسمى بقوى الإنتاج، يتبعه بعد أجل قصير أو طويل انقلاب آخر في علاقات الإنتاج وما يسمى بالبناء الفوقي من قيم ونظم أخلاقية وقانونية ومعرفية وأدبية وفنية … إلخ. ولما كان النص لا يسمح بتكهن أسرار تلك الثورة التي أزمع السيد على قيادتها، فإننا مضطرون إلى الوقوف أمامها حائرين، ولعل السيد نفسه قد عدل عن مشروعه الجسور وقدر مخاطره المهلكة التي أفصح عنها العبد بعباراتٍ واقعية لا تخلو من التشاؤم والسخرية معًا. ولعله بعد أن هدأت ثورته الانفعالية العابرة أن يكون قد عاوده الحنين إلى صدر الحبيبة أو المعشوقة؛ ليطفئ فيه همومه، ويستعيض به عن اللجوء إلى حضن الزوجة الذي يمكن أن ينبت أشواك المشاكل والخصومات أمام المحاكم:– أنصت يا عبدي. أنصت.– ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.– سأعشق امرأة يا عبدي.– اعشق يا سيدي، اعشق؛فالعاشق ينسى الحزن ويطرد خوفه.– لا يا عبدي، لن أعشق امرأة.– لا تعشق يا سيدي، لا تعشق؛فالمرأة جحر أو حفرة،هاوية، فخ، مصيدة.المرأة خنجر حديدي مسنون يقطع رقبة الرجل.
-
(٨)
هكذا ضاع الأمل في الحب والعشق المشروع وغير المشروع؛ فسرعان ما يرجع السيد من حلمه بالراحة على صدر الحبيبة، أو المتعة بين ذراعي المعشوقة، إلى هجير يأسه وقلقه وتردده. هل يمكن أن يُنقذه من لفح الهجير إلا مظلة الإيمان؟ وإلى أين يثوب «الابن الضائع» إلا إلى رحمة الإله؟ لقد عرفت الحضارة البابلية في تاريخها الطويل فترات من الشك واليأس، كان فيها البابلي الممتحن بالأمراض والأرزاء يتصوَّر أن الآلهة الكبرى قد هجرت مدينته أو غضبت عليها، وأن «إلهه الخاص» الذي كان يبارك بيته ويرعى أهله وذويه قد أعرض عنه لذنب جناه أو لذنب لا يعرفه؛ ولهذا كان يسارع إلى استرضاء آلهته وتقديم التضحيات لها، واثقًا من أنها ستلطف بعبدها المطيع الذي لم يقصر في خدمتها وتقديم الطعام والشراب إليها. والذي لا يفهم حكمتها الخافية ولا يطلع على أسرارها، بيد أن هذا العبد الخاشع الخاضع كان في بعض الأحيان يوشك على الثورة على آلهته ويعلن — إلى حد التجديف — عن سخطه وغضبه لأنها أنزلت به عقوبة لم يستحقها، وجازته على صلاحه وتقواه بألوان المرض والفقر والبلاء التي لم يقترف في رأيه جرمًا يبررها، وقد يبلغ التجديف والثورة في لحظات اليأس الفردي والجماعي إلى حد أن يتصور أن الآلهة نفسها محتاجة إليه كما هو محتاج إليها، وأنها يمكن أن تركض وراءه لتسترضيه، وتتوسل إليه أن يتذكرها بتقدماته حتى لا تهلك جوعًا وعطشًا! ومن الضروري أن نعرف شيئًا عن هذا كله — قبل أن نفاجأ بصدور هذه العبارات البشعة من العبد الذي خرج فجأة عن حكمته، وراح يتكلم عن الطاعة والعبادة كلام تاجر يبادل صفقة بصفقة! فلنسمع ما يقوله السيد قبل أن يرد العبد عليه.
– أنصت لي يا عبدي، أنصت لي.أسرع أسرع، أحضر ماءً لأغسل يدي حتى أضحي لإلهي.– ضحِّ يا سيدي، ضحِّ وقدِّم قربانك لإلهك.– إن من قدم الأضاحي لإلهه سيُسرُّ للصفقة التي يقوم بها،إنه يبادل قرضًا بقرض،ويردُّ دَينًا بدَيْن.– لا يا عبدي، لن أضحي لإلهي.– لا تضحِّ يا سيدي، لا تضحِّ.على إلهك أن يسعى وراءك كالكلب سواء سألك أن تُقدِّم له الطقوس أو طلب منك أن تؤدي له الفريضة أو أي شيء. -
(٩)
والظاهر أن السيد كان أكثر اعتدالًا من عبده، فلم يمضِ في التجديف إلى الحد الذي صوره له، ولم يشأ لصوته أن يشرد في كل درب تاه فيه صداه؛ ولهذا نلمس بقية من تدينه في اتجاهه إلى الأرض والناس بعد أن تصور أن السماء والآلهة قد حوَّلت قلوبها وعيونها عنه، وإذا كان قد تردَّد عن مبادلة إلهه الخاص قرضًا بقرض، فهو يفكر الآن في إقراض الناس والتصديق عليهم، هل كان المساكين الذين ينوي أن يُحسِن إليهم من سكان ضيعته والعاملين فيها؟ أم كان ينتظر من عطائه لهم أن يُعوِّضه ويعزيه عن العطاء الذي ضنَّ به على الآلهة؟ وهل نفهم من هذه الصدقة المفاجئة أنه كان بخيلًا على هؤلاء المساكين أو قاسيًا في معاملته لهم شأن أي إقطاعي مستغِل على مر التاريخ؟ أيًّا كان قراره كما فعل أكثر من مرة، كما أن العبد البصير بطباعه أو الساخر منها مُرَّ السخرية يذهب معه في كل اتجاه إلى أقصى مداه:– أنصت يا عبدي.– ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.– سأقرض الناس يا عبدي [سأعطي المساكين].– أقرض يا سيدي، أقرض.فالمحسن [أو المقرض] يبقى قمحه هو قمحه [تزداد غَلَّته] ويربو مكسبه.– لا يا عبدي، لن أقرض أحدًا.لن أفعل هذا أبدًا.– لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.فالإقراض [أو الإحسان] كالعشق،واسترداد القرض مثل إنجاب الأطفال.سيأكلون قمحك ويصبون اللعنات عليك،ويسلبون الفوائد التي جنيتها.
هناك قراءة بديلة لحوار الأخير لا تختلف عنه في المعنى العام وإن أوضحت بعض ما غمض فيه وأشارت إشارةً محددة إلى قرية — أو ضيعة — وإلى فقرائها الذين لا يفترقون في جحودهم عن الناس المذكورين في النص السابق، وتقتضينا الأمانة إيراد هذه القراءة البديلة.
– أنصت لي يا عبدي، أنصت لي.– ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.– سأتصدق بالطعام على أهل قريتي [ضيعتي] الفقراء.– تصدَّقْ يا سيدي، تصدق.مَن يتصدقْ يزددْ محصوله في الغلة.– لا يا عبدي، لن أتصدق على فقراء القرية.– لا تفعلْ يا سيدي، لا تفعل، سيأتون على قمحك ثم يصبون اللعنات على رأسك. -
(١٠)
وتأتي الفقرة التالية من الحوار مختلفة عما سبقها من فقرات؛ فالسيد لا يتراجع تمامًا عن قراره الأخير، أو على الأقل لا يكتفي به، وإنما يوسع من دائرته ليمتدَّ العطاء إلى بلده بأكمله ولا يقتصر على أهل قريته أو ضيعته، ولا نكاد نسأل أنفسنا: كيف تحوَّل من البخل والشح إلى الكرم والإيثار، حتى يرجع إلى عادته القديمة ويقرر — إن صح أنه قادر على اتخاذ قرار — أن يمسك يده عن العطاء، كما يكتشف أن هذا «العمل الوطني» شأنه شأن غيره من الأعمال التي لم يرَ فيها نفعًا ولا قيمة، ولم يشعر أنها تستحق منه غير الإهمال:– أنصت لي يا عبدي، أنصت لي.– ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.– سأقدِّم خدمةً [عامة] إلى بلدي.– قدِّمْ يا سيدي، قدِّم.من يفعل ذلك يبارك مردوخ عمله [حرفيًّا: توضع أعماله في حلقة مردوخ].– لا يا عبدي، لن أُقدِّم خدمة إلى بلدي.[أو لن أتبرع لبلدي بشيء].– لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.اصعد فوق أكوام الخرائب، وتمشَّ هناك وانظر إلى جماجم الأعلين والأدنين.من كان الظالم منهم [أو المسيء]؟ومَن المظلوم [أو المحسن]؟من كان الشرير؟ ومن كان الطيب؟
-
(١١)
هكذا وصل العبد إلى الغاية من حواره مع سيده، وبلغ ذروه اليأس من أن يستقرَّ على قرار أو يُقدِم على عمل. لقد صبر معه صبرًا لا مثيل له، فأخذ يبين له محاسن كل اختيار انتهى إليه، حتى إذا عدل عنه راح يُسلِّط الضوء على مساوئ ضده، هل كان كل همه أن يرضيه ويظهر له طاعته؟ أم كان في كل الأحوال يسخر منه ومن حضارة فقدت القدرة على الاختيار والمبادرة، وهوت إلى حضيض العدمية التي لا تعدو أن تكون شكلًا من أشكال الموت؟ إن هذا السيد الذي يمثل واحدًا من النخبة المثقفة أو الحاكمة قد استوت لديه كل الأشياء والأعمال، وتساوت في تفاهتها وبطلان قيمتها، ومع أنه يتحمس لكل فكرة جديدة تخطر على باله، إلا أن هذه الفكرة تلحق بغيرها في مستنقع السأم واللامبالاة، وكلتاهما صورة من صور الفراغ المميت أو الموت الفارغ من كل معنًى وفعل. ولا شك أن هذا السيد يذكرنا اليوم بذلك الحمار المشهور في تاريخ الفلسفة باسم «حمار بوريدان» (نسبةً إلى الفيلسوف والعالم الطبيعي الفرنسي الذي مات نحو سنة ١٣٥٨م، واهتم بمشكلة حرية الإرادة، واقترن اسمه بهذا الحمار الذي أصبح رمزًا للتردد القاتل وانعدام حرية الاختيار إزاء بديلين يعجز عن تفضيل أحدهما على الآخر، فالحمار المسكين يموت جوعًا لأنه يجد نفسه أمام حزمتين متساويتين من العلف موضوعتين على مسافة متساوية دون أن يتمكن من اتخاذ قرار باختيار أحد البديلين ليشرع في التهامه).
وإذا كان السيد يقفز طوال الحوار من انفعال إلى انفعال دون أن يصمم، على فعلٍ واحد، فإن العبد على النقيض من ذلك يتابعه على كل طريق ينوي السير عليه ببرود لا مزيد عليه، ويساعده هذا البرود في بعض الأحيان على تأمُّل الموقف تأمل الحكيم القديم الذي يُطلُّ على الحياة والأحياء من شرفة برجٍ ميتافيزيقيٍّ عالٍ. وتنفذ هذه الحكمة إلى قلب المأساة الإنسانية في الفقرة الأخيرة من الحوار على نحو يُذكِّرنا بمشهد المقبرة المشهور في مسرحية هاملت لشكسبير: اصعد فوق أكوام الخرائب وتمشَّ هناك، وانظر لجماجم الأعلَين والأدنَين، من كان الظالم منهم ومن المظلوم؟ من الشرير أو الخير؟ إنهم جميعًا منسيون في مدنٍ منسية، وستصبح بعد أجل يطول أو يقصر واحدًا منهم، فلماذا تُعذِّب نفسك — وتُعذِّبني معك — باللهاث وراء لَذَّات لن تعقب غير الألم والندم، بل لن تنتهي — ونحن معها — إلا إلى التراب؟!
هل يمكن أن يكون العبد قد فكَّر في شيء من هذا أو حاول التعبير عنه بالوسائل المتاحة آنذاك؟ أم أننا «نسقط» عليه مشاعرنا وتجاربنا وأساليب تفكيرنا ورؤيتنا للعالم والإنسان؟ أيًّا كان الأمر فإن النهاية المحتومة لانعدام حرية الإرادة أمام انعدام كل القيم لا بد أن تكون هي حتمية النهاية، ولا يبقى مفرٌّ من اختيار الموت بعد أن عجز الطرفان عن الاختيار، وها هي ذي المقطوعة الأخيرة تختم الصراع الذي طال بين الطرفين:
ثم يختم الحوار الدرامي بالحكمة البابلية، التي نجدها تتكرر بالكلمات نفسها على وجه التقريب في ملحمة جلجاميش الشهيرة وفي النصَّين اللَّذين درسناهما على الصفحات السابقة. لنترك العبد يستطرد بعد السطرَين السابقَين مباشرةً فيقول:
ويبدو أن السيد يعود للمرة الأخيرة إلى تهوُّره فيقول:
فيُجيب العبد بهدوئه المعهود، وربما بابتسامة لم يستطع الكاتب أو الناسخ أن يُسجِّلها على اللوح الذي عثر عليه مع كنوز أخرى من ألواح التاريخ والقانون والأدب والحكمة البابلية في مكتبات الملك الآشوري آشور بانيبال (من نحو سنة ٦٦٨–٦٢٧ قبل الميلاد):
هكذا ينتهي هذا النص «الدرامي» من بابل القديمة، لا شك في أن القارئ قد أحسَّ من سطوره الأولى بالطابع الدرامي الذي يتغلغل في الحوار الحي المتوثِّب، والصراع بين فكرة تُطارِح فكرة، وحجة تُقارع حجة، ووجهة نظر تُحاول أن تنتصر على وجهة نظر مخالفة. وإذا كان هذا الحوار يفتقد الكثير من مقوِّمات العمل المسرحي وتطوره التقليدي المألوف، فإن شخصية المتحاورَين ممتلئة بالحياة والحركة على خشبة مسرحٍ ذهني نستطيع أن نتمثله ونشارك فيه. والأهم من ذلك أن شخصية مؤلفه الأصلي واضحة في كل سطر من سطوره، فهو بجانب موهبته في الحوار يفيض بالعاطفة العميقة والذكاء الدقيق، ويكشف عن حساسيته المرهَفة للنبضات الأخيرة في أنفاس حضارته التي انتفت فيها القيم، وأصبح الاضطهاد وظلم الأثرياء حدثًا يوميًّا لا يثير الدهشة والغضب بقدر ما يدفع الناس إلى الصبر والتسليم.
قلنا في التمهيد السابق إن المشكلة الكبرى في الأدب والفكر البابلي (بل في الشرق بوجهٍ عام حتى اليوم) هي مشكلة العدل؛ فقد ظل البابلي ينظر إلى آلهته التي تُجسِّد الظواهر الطبيعية الخارقة وتُشخِّصها نظرة الإجلال والخشوع والخضوع، فلما بدأ عقله في تصوِّر غايةٍ أخلاقية أو هدف إنساني للكون برزت المشكلات والأسئلة الكبرى: إذا كان مجمع الآلهة — الذي يدبر شئون الدولة أو الأسرة الكونية — يحكم العالم بالعدل، فلماذا يتعذب الصالحون والأبرار الخيرون؟ وإذا كان الفرد يستطيع أن يستردَّ حقه من المحكمة التي يعرض عليها مظلمته، فلماذا لا ينال من الآلهة جزاء تقواه وفضيلته وإخلاصه في أداء الشعائر وتقديم الأضاحي؟ لقد كان بينه وبينهم منذ القِدم — بل منذ الخلق الأول من الدم والطين — عهد أو عقد يلزمه بخدمتهم وعبادتهم وتدبير طعامهم وشرابهم مقابل أن يمنحوه بركتهم، ويفيضوا عليه وعلى أهله نعمة العافية والرخاء، والخلاص من شياطين المرض والبلاء، فإذا أخل الآلهة بهذا العهد، وأداروا ظهورهم لمدينته، وخرجوا غاضبين من بيته، ووجد المحن تنقضُّ عليه دون ذنبٍ جناه، فلماذا لا يكون من حقه أن يحاسبهم؟ ولماذا لا يبلغ به السخط إلى حد التجديف والتمرُّد عليهم؟ لا بد أن المشكلة قد بدأت مع ظهور الشرائع والقوانين التي تُنظِّم الحقوق والواجبات وتُحدِّد أنواع الثواب والعقاب منذ الأسرة أو السلالة السومرية الثالثة في «أور» (نحو سنة ٢١١٢ق.م.) وبلغت ذروتها في عهد حمورابي (١٧٩٢–١٧٠٥ق.م.) ثم استفحل خطرها في العصر الكاسي أو الكشي (من نحو ١٥٧٠ إلى نحو ١١٥٧ق.م.) الذي استمر أربعة قرون على وجه التقريب، وكان عصر بؤس وفقر وتخلُّف، حكم فيه ملوكٌ أجانب لا حظ لهم من مجد حمورابي، وتفشى فيه إحساس المحكومين بالقنوط والاستسلام. وتجلَّت أوضح مظاهر القنوط والاستسلام في التشكُّك والتساؤل عن العدل الإلهي، والشعور بأن التقوى والصلاح لا يضمنان حماية الإنسان من الابتلاء بالفقر والمرض والاضطهاد وغدر الأصدقاء والرؤساء، وأن العقاب الذي يحل بالأخيار والأنقياء لا يقوم على ذنب أو جريمة اقترفها هؤلاء الأبرياء، وإن كان الحكماء يبررونه للتعساء بجهل الإنسان بمقاصد الآلهة وأسرارها الخافية عن عقولهم المحدودة، ويبدو أن الناس في ذلك العصر وبعده كانوا يرون بأعينهم ما يصيب الصالحين كل يوم من أسباب الشقاء والظلم؛ مما ساعد على شيوع الشك واليأس من عدالة مجمع الآلهة ومن شتى القيم التي فقدت قيمتها.
مهما يكن الأمر فإن هذا الجو السائد في العصر الكشي والقرون التي تلته يمكن أن يكون له دور في نشأة النصوص التي ذكرناها والتي يُرجَّح أن بعض أجزائها وأفكارها يرجع إلى عصور ومراحل أقدم منها (والملاحظ أنه ليس لدينا دليلٌ حاسم على زمن تأليفها وإن كان الأستاذ لامبرت يؤكد أن نص «لدلول» يرجع للعصر الكشي، ويرجح رجوع الحوار بين المعذب والصديق لعصرٍ لاحق، ونشأة الحوار بين السيد والعبد خلال الألف الأولى قبل الميلاد)، والمهم أن النصَّين الأولَين يدوران — كما رأينا من قبلُ — حول شكوى البار التقي الذي يصاب بالمِحن والآلام دون أن يعرف ذنبه، كما يؤكدان أن الآلهة البعيدة هي وحدها التي تعرف طريق الخير والشر وأن الإنسان لا يمكن أن يعرف خطيئته إلا إذا شاءت الآلهة أن تكشف له عن سرها. وما دام الإنسان عاجزًا عن معرفة طريق الخير والشر أو معرفة ذنبه وجريرته، فلا عجب أن يقف أمامهم موقف المتهم ويقاسي الآلام نتيجة جهله وعجزه، ولا عجب أيضًا ألا تنتهي مناجاة المعذب في النص الأول وحوار المعذب مع صديقه الحكيم في النص الثاني إلى حل أو تبريرٍ شافٍ لمشكلة الشر على الرغم من وعيهما الحاد بالظلم الاجتماعي؛ ولهذا يهوي الثاني في لُجة اليأس ويُقرِّر التخلي عن كل المسئوليات الاجتماعية واختيار حياة التشرُّد والضياع، بينما يلوح في النص الأول أملٌ بعيد في أن تخفَّ آلام المعذَّب مع مرور الزمن، بعد أن بصَّره صديقه بحكمة الآلهة وضرورة التسليم بها، وحذَّره من مغبَّة التجديف عليها بالتخلِّي عن النظم والقيم والمؤسسات الأخلاقية والاجتماعية المقدسة التي أوجدتها إرادة الآلهة وقدَّستها وأنزلتها إلى الأرض بعد الطوفان.
ونعود إلى نصِّنا الدرامي فنسأل: هل تلوح فيه بارقة من هذا الأمل البعيد على الرغم من تشاؤمه القاتم أو من سخريته المُرة؟
إن المؤلف أو السيد البابلي يفقد الأمل في النهاية في كل شيء وكل فعل، ويرى — قبل سليمان الحكيم بقرونٍ عديدة — أن الكل باطل وقبض الريح: التقرب من القصر والبلاط ومتع الأكل والصيد، العشق وتكوين الأسرة وإنجاب الأطفال، التصدق على المساكين، والتبرع للصالح العام، ورفع الدعاوى في المحاكم ودور القضاء، حتى الثورة ليس لها طعم في فمه ولا يجد في نفسه رغبة ولا همة للقيام بها، هل نعجب بعد ذلك إذا فاجأه العبد — الذي دأب على موافقته بالدوران الدائم مع قطبي الرحا — بأن الخير الوحيد الباقي هو الموت؟! لكن السيد يفاجئنا بدوره برفض فكرة الانتحار والموت بدقِّ العنق أو الغرق! فهل نستنتج من هذا الرفض أنه لم يفطن إلى النتيجة المنطقية الخطيرة المترتبة على تشاؤمه أو سخريته؟ أم أن الأمر كله لم يخرج عن كونه دعابة درامية زادت على حدِّها حتى فوجئت بنهايتها الحتمية؟
لن يمكننا التوصل إلى إجابةٍ وحيدة عن هذه الأسئلة، فالإشارة السريعة في ختام الحوار إلى عجز السيد عن الحياة ثلاثة أيام بعد موت عبده، وعجزه قبل ذلك عن تصديق فكرة الانتحار، ورفضه أن تكون هي المخرج الوحيد من حيرته، كل ذلك يجعلني أميل إلى القول إن النص يسمح بشعاع من الأمل الذي ينفذ من ظلمات اليأس.
ربما يكون هو الأمل الذي لا تستغني عنه الحياة — في لحظات الاحتضار — في جيلٍ قادم ينقذ ما يمكن إنقاذه، جيل يعيد البناء على أسسٍ جديدة، ويبث الحياة في القيم البالية أو يضع قيمًا حيةً باقية.