الفصل الأول

لأمتدحن رب الحكمة

(لدلول بيل نيميقي)

ليس فينا من لم يسمع عن محنة «أيوب» أو لم يقرأ شكواه المرَّة في السفر الذي يحمل اسمه في التوراة، ولكن ربما لا يعرف الكثيرون أن له أبًا بابليًّا وجدًّا من السومريين «ذوي الرءوس السود». وإذا كان أيوب العبراني يتفوَّق على أسلافه في عمق ألمه، وصدق تعبيره، وحدَّة سخطه الذي يصل به في بعض الأحيان — وهو البارُّ التقيُّ خائف الله — إلى حدِّ الثورة والتجديف، فإنه يشارك صاحبيه القديمين اللذين سبقاه بأكثر من ألف عام في تصوير العذاب الذي يُبتلى به الإنسان بغير ذنب جناه، وتقديم نموذج العادل المستقيم الذين يُمتحَن بالمرض، ويُبتلى بالفقر والاضطهاد، ويصرخ بالسؤال تلو السؤال: لماذا؟ ماذا فعلتُ لكي أستحق هذا العقاب؟ وكيف سمحت عدالة الكون أو الآلهة بهذا الظلم؟

ولا بد لنا قبل الحديث عن «أيوب البابلي» وتقديم النص الكامل لشكواه، من وقفةٍ قصيرة عند «أيوب» السومري وقصيدته التي لم يفرغ العلماء من شأنها ولم يستقروا على ترجمةٍ نهائية لها، وهي قصيدة أو «مقالةٌ شعرية» تتألف من زهاء مائة وخمسة وثلاثين سطرًا، جُمعت نصوصها من ستة ألواح من الطين، عثرت عليها بعثة التنقيبات الأثرية لجامعة بنسلفانيا في مدينة «نيبور» (أو نفر على بُعد حوالي مائة ميل إلى الجنوب من بغداد)، وتوجد أربع قطع منها في متحف الجامعة في فيلادلفيا، كما تُحفَظ القطعتان الأخريان في متحف الشرق القديم في إسطنبول، ويرجع الفضل في جمع شتات القسم الأكبر من نصوص هذه القصيدة وتحقيقها وترجمتها إلى عالم السومريات «صمويل نوح كريمر»١ الذي يُنبِّهنا بأمانة وصدق إلى أن معرفتنا باللغة السومرية لا تزال غير كاملة، وأن بعض المواضع المترجمة في القصيدة ترجمةً مؤقتة سوف تُحوَّر وتنقَّح بمرور الزمن وتقدم البحث اللغوي والأثري.

والفكرة الأساسية التي تقوم عليها القصيدة وتدور عليها أقسامها الأربعة دوران الكهارب حول النواة هي محنة الإنسان المعذَّب الذي لا سبيل أمامه — مهما تراءى له أنه لا يستحق ما حلَّ به — سوى تمجيد إلهه الحامي، والتسبيح دومًا بحمده، ومواصلة البكاء والضراعة والاستغفار لعله يستجيب لدعائه ويرفع عنه بلواه، وطبيعي أن الشاعر الذي كتب القصيدة عن نفسه أو عن شخصٍ مجهول لم يذكر اسمه لا يلجأ للتأمل الفلسفي، ولا إلى البحث والجدل اللاهوتي، وإنما يسلك السلوك العملي الذي اتصف به السومريون؛ فيعرض حالة رجل كان غنيًّا موسرًا، وحكيمًا عاقلًا عُرف بصلاحه وتقواه، كان الرجل منعمًا بصفاء العيش مع أصدقائه وذوي قرباه، وفيما هو كذلك أحدقت به المصائب والأسقام على حين فجأة. وتدلُّنا أسئلته المتتالية على حيرته وذهوله مما جرى له، فهل ازدرى عن عمد بالقضاء الإلهي؟ هل كفر وجدف؟ إنه لم يفعل ذلك على الإطلاق، بل توجه إلى إلهه بذلة وخضوع، وناح وذرف الدمع وسكب مكنون قلبه في الصلاة والتضرع، ويبدو من سياق القصيدة أن النهاية السعيدة لم تتأخر عنه طويلًا؛ فقد سُرَّ إلهه وراعيه لذلك سرورًا عظيمًا، ورضي أن يشمله برحمته ويخلِّصه من بليته، ويبدل مرضه وعذابه وشقاءه صحة وفرحًا وسرورًا.

تنقسم القصيدة من جهة بنائها وتركيبها إلى أربعة أقسام، ففي القسم الأول تأتي مقدمةٌ قصيرة — لم يذكرها المترجم لكثرة ما أصابها من تشوهات وفجوات — والمقدمة تدور حول حثِّ الإنسان على الالتزام بتمجيد ربه وابتغاء مرضاته بالتضرع والتوبة والاستغفار. ثم يقدم لنا الشاعر المنكود المجهول الاسم، لقد كان فيما يزعم عن نفسه رجلًا عارفًا مدركًا، حتى إذا حلَّت به النكبة وأضرَّ به السقم لم يعد يلقى الاحترام الذي كان يلقاه. والأدهى من ذلك أن كل من أظهر له الاحترام لم ينجُ من الرقابة والاضطهاد والعقاب. وهكذا ساء الظن به فحولت كلمته الصادقة إلى أكذوبة، واكتنفه المخاتل والمخادع «بالريح الجنوبية»:

إنني رجل عارف مدرك
ولكن الذي يحترمني لا يفلح،
لقد حولت كلمتي الصادقة إلى أكذوبة،
واكتنفني المخادع «بالريح الجنوبية»،
وإنني مُكره على أن أخدمه،
إن لم يوقرني فقد أخزاني أمامك.٢

ويتوجه الرجل إلى إلهه الشخصي وراعيه العادل فيخاطبه باكيًا متضرعًا نادبًا حظه الذي قسمه له وقدره عليه، ونُحسُّ من بكائه وتضرعه أنه لا يزال هو العبد الخاضع الخاشع، كما نشعر كذلك بنغمة اللوم والعتاب التي خنقتها الحسرة والأنين فلم تتحول إلى ثورة سافرة:

لقد غمرتني بالعذاب المتجدد على الدوام،
دخلت البيت وروحي مثقلة بالأحزان،
خرجت إلى الطرقات والقلب معذب،
غضب عليَّ راعي العادل،
نظر إليَّ نظرة الشر والعداء.

ويعقب هذه السطور بيان «بقوى الشر» التي ساقها عليه هذا الراعي الموكل به، ومعها بيان أكثر تفصيلًا بما لاقاه من ظلم وغدر وهوان على يد الصديق والعدو على السواء:

الراعي الموكل بي قد أرسل قوى الشر عليَّ،
أنا الذي لستُ عدوه.
صاحبي لا يقول لي كلمة صدق.
وصديقي يقول عن كلامي الصادق إنه كذب وزور،
لقد تآمر عليَّ المخادع المرائي،
وأنت، يا إلهي، لا تحبط مسعاه …
أنا الحكيم، لماذا أقيد مع الجهلة؟
أنا المدرك العاقل، لماذا أحسب مع الجهالة؟
الطعام وفير في كل مكان، لكن طعامي الجوع،
في اليوم الذي قسمت فيه الأنصبة على الناس،
كان نصيبي هو الألم والعناء،
يا إلهي، أريد أن أقف بين يديك،
أريد أن أكلمك … وكلمتي أنين ونواح،
أريد أن أعرض عليك أمري وأندب مرارة سبيلي،
أريد أن أندب اضطراب …

وبعد أن يندب حظه العاثر ويرثي رثاءً يبدو أنه عجز عن الإفصاح عنه بكلمات تناسبه، أو أن النص نفسه انقطع في هذا الموضوع وساده الاضطراب مثله، إذا بنا نسمعه يتَّجه إلى أهله وذوي قرباه متوسِّلًا إليهم أن يواصلوا ما انقطع من شكواه، بل يتجه بتوسلاته إلى الندابين والمرتلين المحترفين ليشاركوا أمه وأخته وزوجته في الندب والبكاء:

يا إلهي، لا تدع أمي التي ولدتني تنقطع عن بثِّ شكاتي إليك،
ولا تدع أختي تردِّد الأغنية السعيدة،
لتبكِ وتنُحْ بمصائبي بين يديك،
لتصرخ زوجتي نادبة عذابي،
وليندب المغني البارع نصيبي التعيس.

ويختنق المعذَّب بدموعه فيرى النهار المشرق ليلًا أسود، ويطبق عليه الغمُّ من كل ناحية، كأن قدره لم يختره إلا للدموع. غير أن الاسترسال في تصوير الهم والحزن المحدِق به لم يكن إلا نوعًا من التضرُّع والاستعطاف على حاله الذي وصل إلى أسوأ ما يمكن أن يصل إليه بانتشار المرض الخبيث في جسمه:

يا إلهي، إن النهار ليشرق على البلاد،
لكن نهاري أسود مظلم،
إن اليوم المشرق، اليوم، الزاهر مثل …
يغمرني العذاب والألم كأني امرؤ لم يُقدَّر له سوى الدموع،
يقبض على الحظ المشئوم بقبضته ويسلبني أنفاس الحياة،
المرض الخبيث يعمُّ جسمي …
يا إلهي، يا من أنت أبي الذي أنجبني،
ساعدني على النهوض،
كالبقرة البريئة في حسرة … الأنين،
إلى متى ستهملني وتتركني دون حمايتك؟
كالثور …
إلى متى ستتخلَّى عني وأبقى بلا هداية؟

وينتقل المبتلى الحكيم إلى الحكمة المأثورة أو المثل السائر الموروث، فيقرر على لسان الحكماء البارعين ما سبق أن سجَّلوه في نصوص سومرية أخرى من أن الأطفال أنفسهم لم يبرءوا من الإثم والخطيئة:

الحكماء البارعون يقولون كلمة حق وصدق:
لم يولد لأم طفل بلا خطيئة،
وما وجد طفل بريء «من الخطيئة» منذ القِدم.

وأخيرًا تجيء النهاية السعيدة … فيروي لنا الشاعر كيف استجاب الإله لضراعة ذلك الرجل المبتلى بالمِحن والآراء، ورقَّ قلبه لأنينه وبكائه، «وسحب يده من كلمة الشر» التي نطق بها، وطرد من جسده شيطان المرض الذي تلبَّسه، وبدَّل عذابه وسقمه فرحًا وحبورًا، ووضع بجانبه الملاك الحارس الذي يحميه، حتى يواصل ما لم يقطعه أبدًا من التسبيح بحمد إلهه والإقرار بخضوعه وتسليمه لأمره:

ذلك الرجل قد استمع إلهه إلى بكائه ونحيبه،
ذلك الشاب قد استطاعت شكواه
أن تسترضي قلب إلهه،
والكلمات الصادقة، الكلمات الطاهرة التي تفوَّه بها،
تقبَّلها منه إلهه،
وأفرحت اﻟ… … … لحم إلهه … …
فسحب يده من كلمة الشر،
وطرد شيطان المرض الذي أحدق به وبسط عليه جناحيه،
وأزال عنه المرض الذي ضربه مثل … وبدَّده،
وبدَّل المصير المشئوم الذي قدر عليه بأمره،
وأحال عذابه إلى فرح وسرور،
ووضع إلى جانبه الملاك الرحيم ليحرسه ويحميه،
وزوَّده … بملائكة ذوي طلعة بهية خيرة.
وهكذا يسبح الرجل بتمجيد إلهه على الدوام.

أما عن هذه القصيدة البابلية الشهيرة «لأمتدحن رب الحكمة» أو باختصار «لدلول …» فهي مناجاة (مونولوج) أو حديثٌ فرديٌّ طويل يروي فيه نبيلٌ أو شريفٌ بابليٌّ مثقف عن ابتلائه بكل الرزايا والمحن والأمراض، ثم عودته إلى الصحة والثروة والشفاء ببركة «مردوخ» كبير الآلهة ورب الحكمة. كان النص في الأصل قصيدةً طويلة مؤلَّفة من أربعة ألواح تضم ما بين أربعمائة وخمسمائة سطر، لم يبقَ منها إلا ثلاثمائة وثلاثة وتسعون سطرًا، منها ما يقرب من مائة سطر تتعذر قراءتها إلى حدٍّ بعيد.

والفكرة التي تقوم عليها الألواح الثلاثة (على الرغم من ضياع بداية اللوح الأول ونهايته) تتكون من ستة عناصر: تمهيد (لم يبق له أثر)، تخلي الآلهة عن الرواية، انقلاب ذويه ومواطنيه — من الملك إلى العبيد — عليه، الأمراض الجسدية والنفسية التي أصابته، الأحلام الثلاثة التي رآها في نومه وحملت إليه الوعد بالشفاء، ثم خلاصه من كل آلامه وأمراضه على يد رسول من مردوخ.

يرى الأستاذ «لامبيرت» في كتابه «أدب الحكمة البابلية» أن صاحب الشكوى — على الرغم من ضياع التمهيد الذي يحتمل أن يكون قد قدَّم فيه نفسه٣ — شريف بابلي يدعى «شوبشي»-ممثري-شاكان، وقد كان الرجل يشغل منصبًا له سلطته وتأثيره، ويبدو أنه احتل وظائف مهمة، وامتلك العبيد والحقول، وكانت له عائلة، بل إنه يتكلَّم عن «مدينته» كأنما هي ملك له؛ فهو إذن أحد رجال السلطة الحاكمة، أو أحد رجال البلاط، أو المتصلين به على أقل تقدير، وهو في الوقت نفسه مثال التقوى والورع سواء في علاقته بالآلهة أو بأحد الملوك المتأخرين، الذي يُرجَّح أن يكون أحد ملوك العصر الكشي (من حوالي ١٥٧٠ إلى حوالي ١١٥٧ق.م.).

في اللوح الأول نرى المعذَّب وكيف داهمه الفأل السيئ بأمارات منذرة. وتحقق هذا الفال المنحوس فغضب عليه الملك، وأفلتْ شمس عزته، وفقد مكانته، وطرده المجتمع من حظيرته فأصبح مغتربًا أو «لامنتميًا» بالمعنى الحديث لهذه الكلمة، نبذه أصدقاؤه، وأهانه عبيده، وتنكَّر له أفراد عائلته، وجردوه من كرامته وممتلكاته. والغريب أن مضطهِديه أشخاص معترَف بهم في الحياة العامة؛ ولهذا كانت أي شفقة أو مساعدة له تُقابَل بالجزاء الرادع. لقد اكتملت حلقات اغترابه الاجتماعي والنفسي بمصادرة أملاكه، وحرمانه من مناصبه، وهنا يبدأ في شكواه المُرة التي تنقطع فجأة بانقطاع النص.

أما اللوح الثاني فتُوحِي سطوره الأولى بأن الآلام التي يقاسيها بفعل قوًى خارقة هي المسئولة عما أصابه من مرض وبلاء، وهنا يبدأ الراوية بتقرير خيبة أمله عندما رجع إلى تلك القوى التي سلَّطت عليه شياطين الشر، أو إلى كهنتها وسحرتها فلم تُجدِه نفعًا، وفجأة يترك الكاتب عالم السحر والسحرة ويتجه إلى مشكلة العذاب الذي يعانيه الإنسان الصالح المستقيم. إنه يرفع شكواه الآن — كما فعل سلفه السومري من قبلُ — من معاملته معاملة المذنب، مع تأكيد ورعه وتقواه في سنوات عمره السابقة. لقد وقع إذن فيما نسميه اليوم بالاغتراب الميتافيزيقي أو الديني، ما الحل إذن؟ وكيف يعثر على الخيوط التي تُعيد ربطه بالمطلق (وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة الدين كما نجدها في اللغة اللاتينية مثلًا)٤ وتُحقِّق له الانتماء؟ فها هو ذا يرجع إلى ترديد الأفكار التقليدية في تراثه عن علو الآلهة وأحكامهم الخفية وخططهم وتدابيرهم التي تستعدي على إفهام الفانين، مؤكدًا أن ما يبدو للبشر حقًّا وصوابًا لا يبدو كذلك للآلهة، والعكس صحيح. لكن الواضح أن هذا كله استمرار للشكوى وليس إجابة عن السؤال «الحدِّي» أو النهائي الذي عذَّبه. فالكاتب ينتقل إلى الكلام عن وضع الإنسان وطبيعته التي تخضع لتقلُّبات الظروف والأحوال وتَغيُّر أفعاله وتصرفاته في المجاعة أو الرخاء، وفي الضراء أو السراء، وفي مواجهة الأرزاء التي أصابته على كل الأصعدة لا يملك المعذب غير التسليم والاستسلام؛ إذ لا حيله له غير ذلك؛ لأن المرض قد تمكَّن منه. وهو يتحدث عن أعراضه ومظاهره البدنية و«العصابية» في متعة وتلذذ ربما يصوِّران ما يسميه اليوم علماء النفس التحليليون «المازوكية». ثم يأتي قسمٌ كبير من النص يذكِّرنا بقسمٍ سابق عن السحر والسحرة. ويبدأ هذا القسم بذكر الأمراض أو الأرواح الشريرة التي حلَّت عليه من عالمٍ آخر وراء هذا العالم الأرضي، ويُعدِّد المصائب التي ابتلته بها، وأعضاء جسده المصابة من الرأس إلى القدمين، وبعد ذلك يؤكِّد عجز الكهنة الذين لجأ إليهم، والآلهة الذين تضرع لهم، ويتطرق إلى ذكر أولئك الذين استغلوا سقوطه ويُدين سلوكهم الشائن. ويختم اللوح الثاني بما يشبه أن يكون أملًا في شفائه في النهاية. وهنا نتذكر شكوى أيوب وصرخته المعبرة عن يقينه بالخلاص الآتي حيث يقول: «أما أنا فقد علمت أن وليي حي والآخر على الأرض يقدم، وبعد أن يفنى جلدي هذا ومن دون جسدي أرى الله» (سفر أيوب، ١٩: ٢٥–٢٦).

ومع اللوح الثالث نصل إلى قلب القصيدة، فالعبارة التي يبدأ بها ذات دلالة كبرى على القصيدة كلها وطريقة فهمها: «كانت يده ثقيلة عليَّ …» ونسأل أنفسنا: يد من هذه؟ وتُكرِّر السطور التالية ضمير الغائب ولا تقدم تفسيرًا. قد نميل إلى الظن بأن الكاتب يشير إشاراتٍ غامضةً إلى كبير الآلهة، بيد أنه لا يُصرِّح أبدًا باسم مردوخ، والغريب هنا أن الكاتب الذي استهل شكواه بالثناء على مردوخ وتمجيده، لم يذكر اسمه مرةً واحدة طوال مائتي سطر أسهب فيها في سرد آلامه وأسقامه بصورةٍ مملَّة قلَّلت من مصداقيتها وعمق تأثيرها المعنوي والوجداني والأدبي. ومع أن «البطل» المبتلى لا يذكر اسم الإله الأكبر، فيبدو أنه كان على يقين من أنه هو أصل بلواه، وأن الذنب في المصائب التي امتحن بها لا يقع في المقام الأول على الملك ورجال البلاط وأفراد عائلته وعبيده، ولا على الأرواح والشياطين الشريرة، وإنما يقع على كبير الآلهة نفسه، وكأن ثورته الجارفة عليه قد حبستها التقاليد الدينية وحاصرت نارها المتأججة في صدره؛ فلم يتجرَّأ حتى على التصريح باسمه.

وتأتي الأحلام الثلاثة فلا نلبث أن نسأل أنفسنا إن كانت أحلامًا، أم رؤًى وتجليات، أم أحلام يقظةٍ وتمنٍّ، أم حالات وتجارب نفسية تملَّكت المعذَّب واستولت على كيانه وأخرجته عن الوعي؟ إن «شوبشي-مشري-شاكان» يخاطب زائرًا طاف به في الحلم، وتتغير صورة هذا الطيف الزائر؛ فهو في المرة الأولى شاب قوي البنية يُبلغه رسالة لم يثبتها في النص، وفي المرة الثانية يتجلَّى له شاب في صورة واحد من أولئك الكهنة «المعزِّمين» الذين يطاردون الأرواح الشريرة بالسحر، ويمارس الكاهن بعض الطقوس ويعلن إليه أنه واحد من قبل «لالوراليما» النفري «أي من مدينة نيبور أو نفر»، ويبدأ الحلم الثالث والأخير بظهور امرأةٍ شابة تتجلَّى له في صورة إلهة، وتستجيب لتوسلاته وتقدِّم إليه التشجيع والمواساة، ثم يظهر في الحلم نفسه رجلٌ ملتحٍ من مدينة بابل هو «أور نند ينلوكا»، نعرف من النص ومن مصادر أخرى أنه كان مشتغلًا بالسحر، ويعلن له الرجل أنه رسولٌ موفَد من لدن الإله الأكبر مردوخ، وأنه يحمل معه الرخاء والشفاء. والمهم في الأمر أن الشخوص الخمسة التي ظهرت للمعذَّب في أحلامه قد تكون أشباح شخصيات ذات مكانةٍ عالية وقفت في صَفِّه، أو تشفعت له عند أصحاب السلطة وذوي المكانة في البلاد والمعبد وأولته الحماية والرعاية. والأرجح أنها كانت شخصياتٍ مرموقة لها شأنها في الحياة الدينية والثقافية في عصر المعذَّب، وقد جاءت تمارس طقوسها الدينية والسحرية لمعاونة المصاب. ولا شك أنها جميعًا علامات دالة على أن غضب مردوخ قد زال؛ فبعد فجوة في النص نجد أن الشر قد بدأ يخفف قبضته عليه، وأن شياطين المرض وأرواحه الشريرة أخذت تغادر جسده واحدًا بعد الآخر. وينقطع النص قبل أن يتحقَّق هذا، وإن كان التعليق الأخير يفيد في تتبُّع النهاية المحتملة، فالمعذب الذي شفي من أمراضه يتجه إلى النهر ويزيل عنه علامة العبودية (وإن كان النص لم يخبرنا قبل ذلك بأنه قد بيع كالعبيد، والأرجح أن يؤخذ كلامه بمعناه المجازي) ثم يمشي في شوارع بابل متجهًا إلى معبد مردوخ «الإيزاكيل»، وهناك يعلن أنه عبرة لكل من أذنب في حق الإله البابلي الأكبر.

ويختتم التعليق بالقول بأن مردوخ قد شرع في سحق أعدائه.

وُجدت القصيدة في مكتبة آشور-بانيبال الكبرى (حكم بين عامي ٦٦٨–٦٢٧ق.م.) التي عُثر فيها على تسع «مخطوطات» لها بجانب الشرح والتعليق. وهناك نسخٌ آشورية وجدت في خرائب مدينتي آشور وسلطان تبة (في تركيا) تؤكد أن القصيدة كانت تُعدُّ قطعة من الأدب البابلي الكلاسيكي في القرن السابع قبل الميلاد. والمرجَّح لدى العلماء أن «لدلول» أُلِّفت في العصر الكشي لا في عصرٍ سابق عليه، تدل على ذلك لغة النص التي تكشف عن مستوى «العلم» الذي بلغه ذلك العصر بفنون السحر وطقوسه التي كانت في النهاية هي لب الحكمة وسرها. والواقع أن بنية النص وصورته هما موضع الأصالة الأدبية فيه، أما مادته فهي تقليدية؛ إذ إن النصوص التي تحمل تراتيل البابليين أو رسائلهم إلى الآلهة شيءٌ مألوف في تراثهم الديني، وجزء لا يتجزأ من رصيدهم الأدبي. وقد أصبحت «لدلول» نصًّا كلاسيكيًّا في الأدب العالمي، ودأب الكثيرون — منذ اكتشاف الجزء الأكبر منها وفك معظم رموزها في أواخر القرن الماضي — على مقارنتها بسفر أيوب، ووصف المعذب بأنه «أيوب البابلي». ويصدق هذا بوجهٍ خاصٍّ على اللوح الثاني الذي يسوغ هذا الوصف، ومع ذلك فقد بدأ العلماء يَعدِلون عن هذه التسمية بالنسبة للقصيدة ككل؛ إذ أن القسم الأكبر هنا يتناول الأعمال التي يقوم بها مردوخ لشفاء عبده وردِّ اعتباره، بينما يشير القسم الأصغر لأسباب المحنة التي أصابته، وكان الكاتب يتعمد الابتعاد عن ذكرها خوفًا مما ينطوي عليه ذلك من تجديف على الملك والسماء. لا شك أن في «لدلول» شيئًا من أيوب (أو إن شئنا الدقة فالعكس هو الأصح!) ولكن ربما جاز وصفها بأنها «رحلة حاج» بابلي إلى «كعبة» الإيمان واليقين للتطهُّر من الشك والقنوط، أو بأنها عودة «ابنٍ بابليٍّ ضال» إلى رحاب التوبة والهداية. والحقيقة أن المعذَّب قد ابتُلى ببلاء أيوب، وأن مشكلته في تصميمها هي مشكلة أيوب؛ فمردوخ هو الإله الذي ينتظر منه عبيده العدل، وهو نفسه مردوخ الذي يسمح بأن يعذب أخلص عبيده. ومؤلف «لدلول» لا يجد جوابًا على هذا السر الغامض — الذي يكتنف الحرية والإرادة الإلهية، ويتعالى على أفهام البشر الفانين — سوى هذه العبارة التي يمكن أن تُلخِّص موقفه من السر والمفارقة، وتُعبِّر عن جوابه الوحيد عليها: «إن كان الإله هو الذي يجرح، فالإله وحده هو الذي يشفي.»

لأمتدحن رب الحكمة

(لدلول-بيل-نيميقي)

اللوح الأول

(١) إله الحكمة …
… … … … … … … …
(٤١) الرب … الاضطراب.
(٤٢) والمحارب …
(٤٣) إلهي قد تخلى عني واختفى،
(٤٤) إلهتي نبذتني وابتعدت عني.
(٤٥) وفارقني الملاك الرحيم الذي رافقني «وسار» بجانبي،
(٤٦) روحي الحارس قد ولى هربًا وقصد غيري،
(٤٧) ذهبت عني القوة، كست الوجه كآبة،
(٤٨) ضاعت هيبتي، وسقطت الحماية عني
(٤٩) وأحدقت بي نذر الفأل المخيف.
(٥٠) غادرت بيتي، ورحت أتجول في الخلاء.
(٥١) أسباب الكهانة اضطربت، وأخذت تصب غضبها عليَّ كل يوم٥
(٥٢) إن فال العراف وكاهن الأحلام لا يفسر حالي.
(٥٣) وما يقال «عني» في الشارع ينذر بالنحس الذي سيصيبني.٦
(٥٤) حين آوي في الليل إلى فراشي، يملؤني حلمي رعبًا.
(٥٥) «أما» الملك — جسد الآلهة وشمس شعوبه —
(٥٦) فقد غضب قلبه عليَّ وما «من شيء» يمكن أن يهدئ غضبه.
(٥٧) رجال البلاط يتآمرون عليَّ،
(٥٨) ويتجمعون ويتفوهون بكلمات السوء المنكرة،
(٥٩) فيقول الأول: «سأجعله يلفظ حياته»٧
(٦٠) ويقول الثاني: «سأُجبِره على إخلاء منصبه.»
(٦١) ويعقب عليه الثالث: «وسأحتل مكانه.»
(٦٢) ويقول الرابع: «سأضع يدي على ضيعته.»٨
(٦٣) والخامس …
(٦٤) والسادس والسابع يضطهدان …٩
(٦٥) لقد حشدت عصبة السبعة قواها،
(٦٦) إن قسوتهم من قسوة روح الشر (الشيطان وأشبه …)
(٦٧) وقد اتحدوا في جسد واحد وغاية واحدة.
(٦٨) إن قلوبهم حانقة عليَّ ومشتعلة كالنار.
(٦٩) وهم يجمعون على الكذب والافتراء عليَّ.
(٧٠) لقد أسكتوا فمي الإلهي كأنما وضعوا عليه اللجام،
(٧١) حتى أصبحت كالأخرس، بعد أن كانت شفتاي لا تكفان عن الكلام.
(٧٢) وانقلبت صيحاتي الرنانة صمتًا،
(٧٣) وطؤطئ رأسي الشامخ للأرض،
(٧٤) والرعب أوهن قلبي «الصامد» الجسور.
(٧٥) إن صبي «كاهن» قد لوى صدري العريض.١٠
(٧٦) وذراعاي أصابهما الشلل وكانا قويين.
(٧٧) أنا الذي كنت أختال في مشية النبلاء، قد تعلمت أن أتوارى عن الأنظار،١١
(٧٨) ومع أني كنت من الشرفاء (الوجهاء) فقد أصبحت عبدًا.
(٧٩) وصرت عند أقاربي الكثيرين كالمنبوذ.
(٨٠) إذا سرت في الطريق انتصبت الأذان،
(٨١) وإذا دخلت القصر طرفت العيون.١٢
(٨٢) مدينتي تتجهمني كأني عدوها،
(٨٣) حقًّا إن بلادي متوحشة وعدائية١٣
(٨٤) صديقي صار عدوي،
(٨٥) ورفيقي شيطانًا ووغدًا لئيمًا.
(٨٦) إن صاحبي — بغلطته الوحشية — يُشهِّر بي،
(٨٧) وحلفائي يصقلون على الدوام أسلحتهم.
(٨٨) صديقي الصدوق عرض حياتي للخطر،
(٨٩) وعبدي لعنني على الملأ في المجلس١٤
(٩٠) بيتي … والغوغاء شوهوا سمعتي.
(٩١) وإذا أبصرني من يعرفني انتقل إلى الناحية الأخرى كي يتحاشاني.
(٩٢) عائلتي تعاملني معاملة الغريب.
(٩٣) واللعنة تنتظر كل من يذكرني بالخير.
(٩٤) أما من يُشهِّر باسمي فالترقي نصيبه١٥
(٩٥) إن المفتري عليَّ يعضده الإله،
(٩٦) لأن … الذي يقول ﻟ «باركك الإله» يركض الموت للقائه١٦
(٩٧) بينما الصائح بالزور عليَّ يؤيده روحه الحارس.
(٩٨) لا رفيق لي «يساندني» ولا عثرت على مُعين.
(٩٩) أهلي [قد أذلَّهم] الاستعباد،
(١٠٠) والنيران التي …١٧
(١٠١) لقد نفوا صيحة الحصاد من حقول،١٨
(١٠٢) وفرضوا الصمت على مدينتي كأنها مدينة الأعداء.
(١٠٣) سمحوا لغيري بأن يحتل مناصبي.
(١٠٤) وعينوا غريبًا يقوم «بشعائري» وطقوسي.
(١٠٥) بالنهار تنهيد، وبالليل أنين،
(١٠٦) ندب وعويل في كل شهر، ويأس «وقنوط» في كل عام.
(١٠٧) وكل يوم نواح كنواح الحمام،
(١٠٨) وآهات أطلقها بدل الغناء.
(١٠٩) عيناي … من بكائي المستديم،
(١١٠) وجفوني «السفلى» متورِّمة «من ذرف» دموعي.
(١١١) (… …) مخاوف قلبي.
(١١٢) (… …) الرعب (… …)١٩

اللوح الثاني

(١) بقيت حيًّا إلى العام التالي، انقضى الزمن الموقوت.٢٠
(٢) ولما نظرت حولي، بدا [كل شيء] مخيفًا،
(٣) [فقد] ازداد نحسي، و[أصبحت] لا أهتدي إلى الصواب.
(٤) دعوت إلهي، لكنه لم يرني وجهه،
(٥) صليت لآلهتي، لكنها لم ترفع رأسها.
(٦) العراف فحص الأمر فلم يصل إلى جذوره،٢١
(٧) وكاهن الأحلام لم يستطع بذكائه أن يكشف جلية حالي.
(٨) توسلت الروح-رقيقو أن يرضى عني، لكنه لم ينر طريقي،٢٢
(٩) وكاهن الرقى والتعاويذ٢٣ عجزت شعائره عن أن ترفع غضب الإله عليَّ.
(١٠) أية أحوال غريبة في كل مكان!
(١١) إذا تلفتُّ ورائي، وجدت الاضطهاد والمتاعب.
(١٢) وكأني رجل لم يرق السكائب لإلهه،
(١٣) ولا تضرع لآلهته على مائدة [القربان]،
(١٤) ولا واظب على السجود والركوع،
(١٥) [كأني رجل] غاب عن فمه التوسل والدعاء،
(١٦) ولم يفعل شيئًا في الأيام المقدسة،٢٤ واحتقر الأيام الحرام،
(١٧) وأمل الطقوس «الواجبة للآلهة».
(١٨) ولم يُعلِّم قومه٢٥ التبتل والخشوع،
(١٩) بل أكل طعامه ولم يتضرع لآلهة،٢٦
(٢٠) وتخلى عن طاعة آلهته فلم يقدم قربانها من الدقيق،
(٢١) وكأني رجل تبلَّد إحساسه ونسي إلهه،
(٢٢) وأقسم اليمين لآلهة وهو حانث «غير جاد»، وهكذا كان مظهري «أمام الناس»،
(٢٣) أما عن نفسي فقد حرصت على الدعاء والصلاة:
(٢٤) كانت الصلاة عهدًا «أخذته على نفسي»، وكانت التضحية قاعدة «حياتي».
(٢٥) ويوم الخشوع للإله «كان» يوم الفرح لفؤادي.
(٢٦) كما كان يوم «الاحتفال» بموكب الآلهة هو الغنم والفوز لي.٢٧
(٢٧) الصلاة للملك كانت هي فرحتي،
(٢٨) والموسيقى المصاحبة لها كانت بهجة الفؤاد.
(٢٩) لقد علمت بلدي أن تحافظ على «أداء» الشعائر للآلهة،
(٣٠) وحثثت شعبي على احترام اسم الآلهة.
(٣١) سبحت بحمد الملك كما أسبح بحمد الإله،
(٣٢) وعلمت الناس توقير القصر.
(٣٣) ليتني عرفت أن هذه الأعمال تسعد قلب الإله.٢٨
(٣٤) إن ما يصلح للمرء يثير سخط الإله،
(٣٥) وما يبدو لقلبه خليقًا بالاحتقار يطيب للإله.
(٣٦) من ذا الذي يعلم إرادة الآلهة في السماء؟
(٣٧) ومن يدرك خطط الآلهة «التي تحيى في العالم السفلي؟»٢٩
(٣٨) وأين تعلم الفانون طريق الإله؟٣٠
(٣٩) إن من عاش بالأمس مات اليوم.
(٤٠) لقد غلبه اليأس لحظة، وفجأة فاض قلبه بالبهجة والحماس.
(٤١) في لحظة ينطلق الناس بالغناء مهللين،
(٤٢) وفي الأخرى ينوحون كالندابات المحترفات.
(٤٣) إن أحوالهم تتغير مثل فتح «الأرجل»٣١
(٤٤) حين يجوعون يصبحون كالجثث.
(٤٥) وحين يشبعون إلى حد التخمة يتطاولون على آلهتهم.
(٤٦) في السراء يتكلمون عن الصعود إلى السماء،
(٤٧) وفي الضراء يشكون من الهبوط إلى الجحيم.
(٤٨) إن هذه الأمور لتملأ نفسي خوفًا، ولست أفهم معناها،
(٤٩) لقد سلط عليَّ المرض المهلك٣٢
(٥٠) وهبت ريح شريرة من الأفق،
(٥١) والصداع قد تصاعد من سطح العالم السفلي٣٣
(٥٢) وترك السعال الكريه «أبسو»٣٤
(٥٣) إن «الشبح» الغلاب قد ترك «إيكور»٣٥
(٥٤) وشيطان «لاماشتو» قد هبط الجبل،
(٥٥) التقلص٣٦ انطلق (من … … …) السيل،
(٥٦) العجز يشق الأرض من الأعشاب٣٧
(٥٧) (… …) مع مضيفهم، وانهالوا عليَّ٣٨
(٥٨) (… …) الرأس، وطوقوا جمجمتي،
(٥٩) [وجهي] مكتئب [عابس]، والعين تفيض بدمعي،
(٦٠) لقد لووا عضلات رقبتي ونزعوا القوة من عنقي،
(٦١) دقوا «الأضلاع» وضربوا الصدر.
(٦٢) آذوا لحمي وجعلوه يتقلص،
(٦٣) شبوا نارًا في أحشائي …
(٦٤) قلبوا أمعائي …
(٦٥) نزحوا البلغم «من صدري»، وأصابوا «رئتي» بالحمى.
(٦٦) جعلوا الحمى تدب في أطرافي والرجفة تهز جسدي.
(٦٧) قوامي الفارع هدموه كما يتهدم الجدار،
(٦٨) وبنيتي القوية قصموها كما تتقصم القصبة،
(٦٩) ألقيت كما يلقى الإسفنج٣٩ على وجهي.
(٧٠) وتلبس شيطان «عالو» جسدي وكأنه رداء،
(٧١) النوم يلفني كأنه شبكة.
(٧٢) عيناي تحدقان، ولكن لا تبصران،
(٧٣) أذناي مفتوحتان، ولكن لا تسمعان.٤٠
(٧٤) الوهن تملك جسدي كله،
(٧٥) والرعشة انقضت على لحمي.
(٧٦) قبض الشلل على ذراعي،
(٧٧) والعجز أطبق على ركبتي،
(٧٨) [حتى] نسيتْ قدماي الحركة.
(٧٩) داهمتني [الضربة أو النوبة] فأخذتُ ألهث كالمطروح على الأرض،
(٨٠) (… … …) الموت، قد غطى وجهي،
(٨١) وكاهن الأحلام «باسمي»، ولكني لا أجيب.
(٨٢) (… … …) أبكي، لكني لا أتحكم في قواي٤١
(٨٣) فخ قد أحكم فوق فمي،
(٨٤) وعلى شفتي القفل.
(٨٥) «بوابتي» مغلقة، و«مكان شرابي» مسدود،٤٢
(٨٦) جوعي موصول، حنجرتي جافة.
(٨٧) حين تقدم لي حبات الأرز، آكلها وكأني آكل أعشابًا عطنة،
(٨٨) والجعة — حياة البشر — بلا طعم «في فمي».
(٨٩) إن مرضي لمرض عضال.
(٩٠) تغيرت هيئتي لنقص الطعام،
(٩١) اهترأ جسدي (لحمي)، وانسحب الدم مني٤٣
(٩٢) وعظامي برزت، ولم يعد يغطيها إلا جلدي.
(٩٣) أنسجتي التهبت، وأصابها داء اﻟ… … … …
(٩٤) ألزم فراش العبودية؛ فالخروج ألم «وعذاب»،
(٩٥) وبيتي أصبح هو سجني.
(٩٦) ذراعاي مكتوفتان باﻟ… … … الذي يغل لحمي،
(٩٧) قدماي مثقلتان باﻟ… … … الذي يكبلني٤٤
(٩٨) آلامي موجعة، جرحي قاسٍ.
(٩٩) [ضربة] سوط، طرحتني أرضًا، والضربة كانت قاضية.
(١٠٠) مقبضه٤٥ ينفذ في لحمي «ووخزه» أليم.
(١٠١) إن المعذب لا يكفُّ عن تعذيب «ي» طوال النهار،
(١٠٢) ولا يتركني أستريح بالليل لحظةً واحدة.
(١٠٣) لقد انشقت عروقي من الليِّ والثني.
(١٠٤) وأطرافي تفلطحت وتفككت.
(١٠٥) أقضي الليل كالثور في الروث،
(١٠٦) وأتمرغ في فضلاتي كالغنم.
(١٠٧) الآلام التي أشكو منها قد أعيت المعزم٤٦
(١٠٨) وفألي حيَّر العراف.
(١٠٩) لا طارد الأرواح «الشريرة» استطاع أن يشخِّص علتي،
(١١٠) ولا العراف حدد موعدًا «للشفاء» من دائي.
(١١١) لا إلهي خف لنجدتي ولا أخذ بيدي،
(١١٢) ولا إلهتي أشفقت عليَّ ولا سارت بجواري.
(١١٣) كان قبري ينتظرني، وأعدت جنازتي.
(١١٤) وتوقف النواح عليَّ قبل أن أموت.
(١١٥) كل أهالي بلدي قالوا: «[عجبًا!] كما سحق ودمر تدميرًا!»
(١١٦) أشرق وجه الحسود عندما سمع «بموتي»،
(١١٧) [وعندما] بلغت الشامتة الأنباء ابتهج قلبها.
(١١٨) لكنني أعلم اليوم الذي سيجيء عليَّ جميع أفراد عائلتي،
(١١٩) عندما يكلأ إله الشمس أصدقائي برحمته.٤٧

اللوح الثالث

(١) يده كانت ثقيلة [الوطأة] عليَّ، فلم أقوَ على احتمالها.
(٢) خوفي منه كان منذرًا بالخطر (… …)
(٣) (… … …) العنيف كان زوبعة (… …)
(٤) خطوه كان … … وهو … … (… …)
(٥) المرض القاسي لا (… …) شحمي،
(٦) أنسي … (… …) يضل عقلي٤٨
(٧) بالنهار والليل أئن وأتأوَّه،
(٨) وشقي أنا في [أوقات] الحلم واليقظة على السواء.
(٩) شاب مرموق رائع البنية،
(١٠) ضخم الجسد، يرتدي ثيابًا جديدة —
(١١) لما [كان] في أوقات اليقظة … …
(١٢) فخم الملبس، ملتفًّا في ثوب الهيبة٤٩
(١٣) … (…) وقف على رأسي،
(١٤) [أنا …] وتجمد جسدي.
(١٥) (… …) إن السيدة قد أرسلت[ني]
(١٦) (…) … (…)
(١٧) (…) … قلت (…)
(١٨) … أرسلت (…)
(١٩) كانوا صامتين ولم … (…)
(٢٠) … (…)
(٢١) وفي المرة الثانية [رأيت حلمًا]
(٢٢) وفي [حلمي الذي] … [رأيت]
(٢٣) شابًّا رائعًا …
(٢٤) يحمل في يده عود التطهير من [أغصان] الطرفاء٥٠
(٢٥) «إن لالوراليما»،٥١ المقيم في نيبور (نفر).
(٢٦) قد أرسلني لأطهرك.
(٢٧) الماء الذي كان [يحمله] معه أخذ يسكبه عليَّ،
(٢٨) وهو ينطق بالتعويذة التي تهب الحياة، ودلك [جسدي].
(٢٩) في المرة الثالثة رأيت حلمًا.
(٣٠) وفي الحلم الذي رأيت.
(٣١) … امرأة شابة ذات وجهٍ مشرق،
(٣٢) ملكة … شبيهة بإله.
(٣٣) دخلت [واتخذت مجلسها] …
(٣٤) «انطقي بخلاصي» …
(٣٥) قالت [لا تخف] … سوف …
(٣٦) أيًّا كان الحلم (…)
(٣٧) قالت: يكون الخلاص من حالتك التعسة،
(٣٨) لكل من رأى الرؤيا في الليل.
(٣٩) في الحلم [ظهر لي؟] أورنند نلوما البابلي (…)
(٤٠) [وهو] شاب ملتحٍ [يضع] عمامته على رأسه،
(٤١) كاهن معزم، يحمل رقيمًا [في يده].
(٤٢) «أرسلني مردوخ».
(٤٣) ولشوبشي-ميشري-شكان جلبت [النعمة] الخير٥٢
(٤٤) من يدي مردوخ الطاهرتين جلبت الرخاء.
(٤٥) إنه هو [مردوخ] الذي وضعني بين يدي راعٍ٥٣
(٤٦) [في] ساعات اليقظة بعث الرسالة.
(٤٧) وأظهر علامة رضاه عن أهلي٥٤
(٤٨) في المرض الطويل …
(٤٩) شفي مرضي بسرعة وانكسرت [قيودي]
(٥٠) بعد أن [عادت] السكينة إلى عقل مولاي.
(٥١) وهدأ قلب مردوخ الرحيم٥٥
(٥٢) [بعد أن] تقبل صلواتي٥٦ (…)
(٥٣) [وابتسامته] المحببة … (…).
(٥٤) [بعد أن قال] «انجُ من آلامك»، يا من شقيت [شقاءً عظيمًا]
(٥٥) (…) لتسبح (…)٥٧
(٥٦) (…) … تتعبدوا (…)
(٥٧) (…) إثمي (…)
(٥٨) (…) ظلمي (…)
(٥٩) (…) وتعدى عليَّ (…)
(٦٠) جعل الريح تهب وتذرو [كل] خطاياي.

ظهر اللوح الثالث٥٨

(٤) [قرب] تعويذته التي تمسك …
(٥) [طارد] ريح الشر إلى الأفق، وأخذ [الصداع] إلى سطح العالم السفلي،
(٦) [أرسل] السعال اللعين إلى إبسو [مياهه العميقة].
(٧) وردَّ الشبح الغلاب إلى إيكور،٥٩
(٨) طرح الشيطانة لاماشتو أرضًا وطردها إلى الجبل،
(٩) وأعاد المغص إلى البحر المتلاطم،
(١٠) وانتزع جذر العجز [كما تُنتزع] النبتة.
(١١) والنوم السيئ، ودفق النعاس
(١٢) أزاحهما كأنهما دخان يملأ السماء.
(١٣) الكرب والبلاء … ساقهما كعاصفة هبَّت في المطر … [إلى] العالم السفلي.
(١٤) والألم المزمن في الرأس الذي … مثل …
(١٥) طرده كوابل من المطر في الليل وأراحني منه.٦٠
(١٦) وعيناي اللتان غطتهما غشاوة السحب في كفن مميت؛
(١٧) رماه بعيدًا [على مسافة] ألف فرسخ ونور بصري.
(١٨) أذناي اللتان كانتا مسدودتين وموصدتين كأنني أصم؛
(١٩) أزال شمعهما وفتح سمعي [من جديد].
(٢٠) وأنفي الذي اختنق [تنفسه] بسبب الحمى؛
(٢١) خفف آلامه فأصبحت أتنفس «بحرية».
(٢٢) شفتاي الملتهبتان اللتان كانتا …
(٢٣) اكتسح الرعب [الذي خيم عليهما] وفك أغلالهما.
(٢٤) فمي الذي كان مغلقًا بحيث تعذر عليَّ [الكلام]،
(٢٥) صقله كما يصقل النحاس و(…) القذارة [التي لوثته].٦١
(٢٦) أسناني التي تقبضت وتضامت،
(٢٧) وهو الذي كسر قيدهما و(…) جذورهما.
(٢٨) ولساني الذي انعقد وعجز عن النطق؛
(٢٩) [هو الذي] أزاح (…) فأصبح حديثي واضح البيان.
(٣٠) زوري الذي جف واختنق كشيء فاقد الحياة؛
(٣١) هو الذي رده [إلى وضعه أو طبيعته] وجعله يتغنى كالناي.
(٣٢) قصبتي الهوائية التي تورمت وعجزت عن الشهيق؛
(٣٣) خف ورمها وفتح مغاليقها.
(٣٤) … الذي …
(٣٥) … فوق …
(٣٦) [الذي] كان قد أظلم مثل …

اللوح الرابع٦٢

(١) الرب … في،
(٢) الرب تولاني [برعايته]،
(٣) الرب أوقفني على قدميَّ،
(٤) الرب وهبني الحياة،
(٥) نجاني [من الهاوية].
(٦) أنقذني من الخراب،
(٧) (…) شدق من نهر خبر٦٣
(٨) (… … …) أخذ فط من يدي.
(٩) مردوخ «الذي» سحقني.
(١٠) هو الذي سواني من جديد.
(١١) ضرب بشدة على يد من ضربني.
(١٢) وهو الذي أسقط سلاحه.
(١٣) (هو) … … الأسد …
(١٤) إن مردوخ هو الذي (…)
(٢٥) … الحنطة الذهبية (… …)
(٢٦) تضمخت بعطر الأرز الفواح، على (…)
(٢٧) مأدبة البابليين … (…)
(٢٨) القبر الذي جعلته (…) في المأدبة.
(٢٩) رأى البابليون كيف يرد مردوخ الحياة،
(٣٠) وسكان الأقاليم جميعًا مجدوه:
(٣١) من كان يتصور أنه سيرى شمسه؟
(٣٢) من كان يتخيل أنه سيسير على طريقه؟
(٣٣) من غير مردوخ يبعث الحياة في موتاه؟
(٣٤) أية إلهة، غير صاربانيتوم،٦٤ تهب الحياة؟
(٣٥) إن مردوخ قادر على بعث الحياة [في سكان] القبور،
(٣٦) وصاربانيتوم تعرف سبل الإنقاذ من الدمار،
(٣٧) حيثما استوت الأرض وارتفعت السماوات،
(٣٨) حيثما أشرق إله الشمس، وتألق إله النار،
(٣٩) حيثما جرى الماء هبت الريح،
(٤٠) المخلوقات التي أمسكت «أرورو» طينتها بين أناملها،
(٤١) هذه التي وهبت الحياة و[راحت] تخطو وتسير،
(٤٢) الفانون، على قدر أعدادهم [التي لا تحصى] يمتدحون مردوخ!٦٥
(٤٣) (… … …) الذي ينطق٦٦
(٤٤) (…) ليسدْ جميع الشعوب،
(٤٥) (…) راعي الدور جميعًا.
(٤٦) (…) سيول من الأعماق،
(٤٧) (… … …) الآلهة …
(٤٨) (…) على مدى السماء والأرض.
(٧٦) … الذي في صلواتي (…)
(٧٧) «مع» السجود والدعاء (…) لإيزاكيل
(٧٨) «أنا الذي» نزلت إلى القبر قد رجعت إلى بوابة [شروق الشمس].
(٧٩) [عند] «بوابة الرخاء» أعطيت الرخاء،
(٨٠) [عند] «بوابة الروح الحارس» [اقترب مني] روح حارس،
(٨١) [عند] «بوابة الهناء» وجدت الهناء،
(٨٢) [عند] «بوابة الحياة» منحت الحياة،
(٨٣) [عند] «بوابة شروق الشمس» عُددتُ بين الأحياء،
(٨٤) [عند] «بوابة العجب العجاب» كان فألي شديد الوضوح،
(٨٥) [عند] «بوابة الخلاص من الإثم» تحررت من قيودي،
(٨٦) [عند] «بوابة العبادة» استفسر فمي،
(٨٧) عند «بوابة تسكين الزفرات» سكنت زفراتي،
(٨٨) [عند] «بوابة المال الصافي» نثر عليَّ ماء التطهير،
(٨٩) [عند] «بوابة الهناء» اقتربت [عن كثب] من مردوخ،
(٩٠) [عند] «بوابة الروعة» قبلت قدم صاربانيتوم.
(٩١) عكفت على التضرع لهما والصلاة والدعاء،
(٩٢) ووضعت أمامهما البخور والعطر،
(٩٣) قربت القربان، وقدمت الهدية، وأجزلت العطاء،
(٩٤) ذبحت الثيران السمينة وضحيت بالأغنام المسمنة،
(٩٥) ومرارًا سكبت الجعة المعسولة كالشهد والخمر الصافية.
(٩٦) للروح الحامي والملاك الحارس، والحجاب المقدسين أمام [معبد] «إيزاكيل» المبني بالآجر،
(٩٧) (…) بالسكائب جعلت قلوبهم تتوهج [نشوة]،
(٩٨) (…) وبالأطعمة الشهية جعلتهم فرحين.
(٩٩) [العتبة والرتاج] والقفل، والأبواب،
(١٠٠) [أنا …] … الزيت، والجبن، وأجود أصناف الحنطة٦٧
(١٠١) (…) … طقوس المعبد.

المعذب والصديق٦٨

تُعرف هذه القصيدة الحوارية بين معذب وصديقه الحكيم بأنها هي «التيوديسية» البابلية، والكلمة الأجنبية الأخيرة٦٩ مُكوَّنة من كلمتَين يونانيتَين تدل أولاهما على الإله «ثيوس» وتعني الثانية «ديكية أو ديكايا» العدل أو العدالة، والمراد بها هو تبرير الشر والألم والظلم في هذا الوجود بالحكمة الخافية على عقول البشر، أو «بعلمهم الجاهل» — على حد تعبير الفيلسوف واللاهوتي الألماني نيقولا الكوزاني (١٤٠١–١٤٦٤م) — بالطبيعة الإلهية والتدبير الإلهي. والقصيدة في أصلها الأكدي وفي مخطوطاتها — أو بالأحرى ألواحها العديد التي وجد أهمها وأكملها في مكتبات الملك الآشوري آشور-بانيبال في نينوى — تتألف من سبعة وعشرين مقطوعة، وكل واحدة منها من أحد عشر سطرًا، وموضوع القصيدة هو نفسه موضوع كل «الثيوديسيات» المعروفة في التراث الفلسفي واللاهوتي الغربي، ومن أشهرها تلك التي كتبها الفيلسوف الألماني ليبنتز (١٦٤٦–١٧١٦م) في سنة ١٧١٦ ودافع فيها عن خيرية الله الذي خلق أبدع عالمٍ ممكن، يتضاءل فيه الشر والشقاء إذا قيس بالخير والفضل العميم.٧٠

القصيدة — كما قدمت — حوارٌ شعري بين معذَّبٍ جنى عليه الظلم المستشري في عصره، وصديقٍ عالم مُتَّزن، يعبر عن التقاليد والسلطة الدينية والأخلاقية السائدة، ويحاول أن يلتمس الأعذار والمبررات للوقائع والجرائم المنكَرة التي راح يسردها المعذب المضطهَد، وذلك على ضوء الأفكار والقيم والمعتقدات الموروثة عن عدالة التنظيم الإلهي للعالم، والتنظيم الاجتماعي الذي أقامته الآلهة كذلك بأنفسهم، وأنزلوه على البشر في صورة مؤسسات وتشريعات مقدَّسة.

حفظ الزمن من هذه القصيدة تسع عشرة مقطوعة بصورةٍ كاملة أو مقروءة تكفي لتتبع الحوار، أما الألواح الثمانية الأخرى فقد ضاعت تمامًا أو امتلأت بالثغرات والفجوات بحيث تتعذر قراءتها والإفادة منها. ومعظم «مخطوطات» القصيدة يرجع إلى الحضارتين الآشورية والبابلية، بجانب تعليقٍ متميز عليها وُجدت بعض ألواحه في حفائر مدينة «سيبار»، ويدل دلالة واضحة على أن القصيدة قد حظيت باهتمام العلماء والمثقفين في العصور المتأخرة لحضارة وادي الرافدين. ولا أريد أن أخوض فيما لا أعلم من دقائق البحث اللغوي في هذه المخطوطات التي لم يقدر لي أن أتعلم لغتها أو أفك غامض حروفها ومقاطعها وكلماتها المدونة بالخط المسماري … يكفي أن أقول إن النص قد وضع — في تقدير الأستاذ لامبيرت — حوالي سنة ألف قبل الميلاد، وأن مؤلفه أو كاتبه ومحرِّره هو في الأغلب كاهنٌ مختص بالطقوس السحرية اسمه «ساكيل-كينام-أوبيب»، وقد وصف نفسه بأنه المعزم أو كاهن التعاويذ «عابد الإله والملك» (أو المتفاني في سبيلهما).٧١ ويكفي أيضًا أن أقول إن النص قد شدَّني إليه بقوة غلَّابة لا تقل في تأثيرها السحري عن القوة التي جذبتني إلى النصوص الأخرى التي تجدها في هذا الكتاب.

تبدأ القصيدة بمخاطبة المعذَّب لصديقه بلهجة تنمُّ عن الأدب والاحترام الذي سيحافظ عليه الطرفان إلى النهاية، ويشرع المعذب في رواية سيرته المفعَمة بالمحن والكروب. لقد كان آخر طفل وُلد لأبويه اللذين لم يلبثا أن ذهبا إلى الأرض التي لم يرجع منها أحد، وتركاه لليتم والضياع. ومع هذه البداية تتخلق ملامح الموضوعات الأساسية أو بالأحرى ملامح الأشكال والأسئلة الرئيسية التي يدور حولها الحوار: لماذا لا تحمي الآلهة أولئك الذين يعجزون عن حماية أنفسهم؟ ولماذا يعمد الأقوياء والأغنياء وأصحاب السلطة والنفوذ إلى ظلمهم واضطهادهم، بل لماذا يتلذذون بهذا الظلم والاضطهاد؟ ولماذا يُدلَّل الابن البكر ومعه كل المزايا التي تجعله يتفوَّق على سائر الأشقَّاء ويُعفى من حمل النير الذي يعانون سخرته؟ ولماذا يُضطهَد الخيِّر الأمين ويشقى الصالح البار الذي أدَّى فروض الطاعة للآلهة ولم يرتكب شرًّا ولا إثمًا في حق البشر، بينما يحظى الجبار الظالم ومُحدَث الثروة الوقح بكل ما ينعم به من رخاء وهناء وقوة وسلطان عند الآلهة وعند الناس؟!

ويحاول الحكيم أن يُعزِّي صديقه عزاءً نشعر أنه غير ضروري وغير مُقنع؛ فهو يواسيه بأن موت أبويه لم يكن إلا قضاءً وقدرًا اشتركا فيه مع البشر جميعًا في مصيرهم المحتوم، ثم يؤكد للمعذب في المقطوعة الثانية أن حياة الضنك والشظف التي عاشها تقابلها حياة اليسر والرخاء التي هي نتيجة مترتِّبة على التقوى والطاعة والصلاح، ويُجيبه المعذَّب «في المقطوعة الثالثة» إجابة تدل على أن صديقه لم يستطع أن يُقدِّر حاله أو يدرك مدى البؤس واليأس الذي انحدر إليه. ويكرر الصديق «في المقطوعة الرابعة» مقالته السابقة مؤكدًا أن حياة التقوى والصلاح لن تنقضي دون مكافأة من الآلهة، ويرد عليه المعذب فيؤيد حجته بأمثلة مختلفة من الجرائم التي ترتكب في حق الأخيار الطيبين، سواء في المجتمع الإنساني أو في مملكة الحيوان. ويرجع الصديق الحكيم «في المقطوعة السادسة» إلى التراث التربوي والديني السائد فيُنبِّه صديقه إلى أن العقل الإلهي بعيدٌ موغِل في بُعده عن البشر، وأن حكمته خافية على عقولهم المحدودة، وأن المجرمين ينتهون في بعض الأحيان نهايةً مفجعة؛ ومن ثم يحذِّر المعذَّب ويُنبِّهه إلى ضرورة مقاومة إغراء الجريمة ورعاية حقوق الآلهة. غير أن هذا التفسير أو التبرير لا يُقنع المعذب؛ ولذلك يفاجئ صديقه — في المقطوعة السابعة — بأن الحياة التي قضاها في التدين والعبادة هي التي أدَّت به في النهاية إلى المصائب التي يُكابِدها في حالته الراهنة! ويَعتبر الحكيم ذلك كفرًا وتجديفًا من صديقه (المقطوعة الثامنة)، ويؤكد له من جديد أن من الصعب إدراك كنه الحكمة الإلهية.

وينقطع النص تمامًا ليبدأ مع المقطوعة الثانية عشرة بمحاولة الصديق الحكيم أن يبين النعم والمزايا التي تتحلَّى بها حياة التقوى وأداء الفروض الواجبة نحو الآلهة والبشر. ويرد المعذب الذي غلبه القنوط من رحمة الآلهة ومن عدالة البشر فيهتف بأن كل ما يتمناه هو أن يفرَّ من الحياة المستقرة ويحيا حياة المتشردين الهائمين على وجوههم، أو حياة المتوحدين والمغتربين كما نقول اليوم (المقطوعة الثالثة عشرة). ويعود النص إلى الانقطاع، ولا يكاد يبدأ مع المقطوعة السابعة عشرة — حيث يؤكد المعذب أن من السهل أن يغير الأغنياء والفقراء مواقعهما — حتى ينقطع في المقطوعتين التاليتين اللتين تصعب متابعتهما، وبعد هذه الفجوة يستأنف الصديق الحكيم حديثه في المقطوعة العشرين؛ فيكرر قوله بأن التقوى لا بد أن تكافأ في النهاية، وأن عليه أن يثوب عن غيه وضلاله، ويؤدي الطقوس ويُقدِّم القرابين. ويبدو أن المعذب ضاق صدره بالحجج المملَّة، فزفر زفراتٍ باكية لم تبقَ منها إلا أصوات كلمات ربما كانت في الأصل صرخاتٍ راجفة: «الأوغاد الغشاشون المزوِّرون! إنهم يكدِّسون الثروات! …» ويجيب الصديق بأنهم يلقون جزاءهم العادل في النهاية فتزول عنهم الثروة ويعاجلهم سهم الموت، لكنه يتراجع على كل حال عندما يصرُّ على أن الذين يخشون الآلهة لا يموتون جوعًا، وإن اعترف بأنهم قد لا يجدون الطعام الوفير الذي يكفيهم إلى حد الشبع (المقطوعة الثانية والعشرون).

بيد أن المعذَّب الجريح — أو المتمرد العنيد الذي ينتفض في صدره — لم يقتنع بما سمعه أكثر من مرة؛ ولهذا يواصل المجادَلة ومقارَعة الحُجَّة الدينية بحُجةٍ نافذة في لحم الواقع اليومي وعظمه؛ فهو يقدِّم أمثلةً صارخة تشهد على المزايا التي يتمتع بها الطفل الأول المدلل — أو المتنطِّع — بالقياس إلى إخوته الذين يصغرونه في السن، ويختم كلامه بأن يؤكد ما سبق تأكيده من أن حالته المنكدة هي نتيجة بِرِّه وصلاحه وتقواه (المقطوعة الثالثة والعشرون). لكن يبدو أن الصديق الحكيم لم يستنفد حججه والتي تؤيِّد رأيه، كما تستند إلى الرأي التقليدي بأن الحكمة الإلهية تظلُّ خافية على من يكتفي بالنظرة السطحية ولا يحاول أن يسبر غورها ويدرك كنهها؛ فالمولود الأول دائمًا ما يكون أضعف من إخوته من الناحية الجسمانية؛ وبذلك تنقلب المزايا إلى مضار (المقطوعة الثالثة والعشرون). وطبيعي أن الصديق لا يملك البراهين المستمَدَّة من علوم الحياة ووظائف الأعضاء والوراثة لتأييد حجته الدامغة التي ربما أيَّدتها الملاحظة المباشرة أو الطب التجريبي الشعبي في عصره نتيجة الزواج المبكِّر للمرأة في الشرق الأدنى القديم والحديث؛ ولذلك يبدو أن الطرفين قد قبلا الحجة التي لم يعودا لمناقشتها، وإن رجع المعذب للضرب على وتره الحزين بسرد الحالات التي يعتمد فيها الأغنياء والأقوياء سحق الفقراء والمستضعفين (المقطوعة الخامسة والعشرون). ويضطر الصديق الحكيم — ربما تحت ضغط الظلم الاجتماعي الذي كان يجتاح الناس في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد أو أوائل الألف الأولى — يضطر إلى إقرار صديقه على ما يقول، وأن يتقمص دور الشارح المطَّلع؛ فأخذ يُفسِّر ذلك بأن الكذب وشهادة الزور جزء لا يتجزَّأ من الطبيعة البشرية التي سوَّتها أيدي الآلهة (المقطوعة السادسة والعشرون). ولعله لم يفطن إلى التجديف الذي تنطوي عليه شهادته في حق الآلهة، أو لعل الكاتب أو الكُتاب الأصليين قد أحجموا عن الخوض في هذا الكفر الصريح؛ ولهذا نجدهم — على لسان المعذب — يسارعون بالتضرُّع إلى الآلهة أن يمددوا عليه ظلال رحمتهم، وإلى الصديق الحكيم أن يتدبر حاله وينظر بعين العطف إلى بؤسه وشقائه (المقطوعة السابعة والعشرون).

هكذا تصل القصيدة إلى نهايتها، على الرغم من اللهجة العاطفية الجياشة التي تختتم بها. ويبدو أن المتحاورَين لم ينتبِها إلى أن هذه النهاية تنسف البداية التي انطلق منها حجاجهما، فلقد بدآ من التسليم بأن الآلهة هي المسئولة عن إقامة العدل بين البشر، لكنهما ينتهيان إلى أن هذه الآلهة نفسها — التي طالما دافع الصديق العالم عن حكمتها الخافية — هي التي خلقت البشر وخلقت معهم في نفس اللحظة كل نوازع الشر والغدر والظلم والكذب، حتى ولو كان ذلك من ناحية الاستعداد أو القوة والإمكان كما يقول أرسطو … وكأني بالمشكلة الحقيقية — وهي مشكلة التوفيق بين التقدير الإلهي وحرية الإرادة البشرية — قد أُجِّلت أو رُكنت على الرفِّ، لقد بيَّنَا أن الأشرار يلقون الجزاء الذي يستحقونه، كما شهدا في المقابل بما تشهد به التجربة العملية على الدوام٧٢ من أن الأشرار والأوغاد كثيرًا ما ينعمون بالثروة والشهرة والمجد والسلطة. والظاهر أن المؤلف أو مجموعة المؤلفين والناسخين على مر العصور لم يتمكنوا من التوفيق بين الأفكار الموروثة العميقة الغور في النفوس من ناحية، وبين خبرة الحياة اليومية التي تَصدِم المشاعر والعقول، ويصعب تجاهلها والاستهانة بها؛ ولهذا حاولوا الخروج من المأزق بالرجوع إلى صورة من صور «القدرية» أو «الجبرية» الجاثمة على صدر الشرق قديمه وحديثه، وهي صورة بدت لهم في ثوبٍ منطقيٍّ واضح وحجةٍ مقنعة لا تُردُّ: مهما يفعل الأشرار فقد كانوا ميسورين على فعله؛ لأن الآلهة هي التي جبلتهم على هذه الصورة وخلقتهم على هذه الفطرة، ولو أمعنوا النظر في هذه الحجة لتَبيَّن لهم أن القدرية تتحرك دائمًا على شفا الكفر، أو تقع في هاويته دون أن تدري.

ليست قصيدة «المعذب والصديق» دراسةَ فلسفةٍ ولا بحثًا في اللاهوت أو علم أصول الدين البابلي؛ فلو نظرنا إليها هذه النظرة لحمَّلناها في الحقيقة أكثر بكثير مما تحتمل، ولأخطأنا فهم النص وغاب عنا الصراع الوجداني المحتدم وراء صوره وتعبيراته الشاعرية، ومع ذلك فإن هذا لا يمنعنا من القول بأنها تدور حول العدالة الإلهية، وتدين المظالم الاجتماعية على شكل حوار يذكِّرنا بتقليدٍ أدبي أو جنسٍ أدبي قديم هو المناظرة الأدبية التي تتم بين أشخاص أو حيواناتٍ أسطورية أو أنواعٍ متنافسة من النبات (وتجد نماذجها الباقية في هذا الكتاب). وإذا كانت القصيدة تتَّخذ شكل الحوار أو الجدل بين طرفين متخاصمين في الفكرة والرأي فإنها تتناول موضوعًا أسمى وأخطر من موضوع الخصومة بين شخصياتٍ أسطورية أو حيواناتٍ خرافية، وتنتقل بنا من عالم الحكاية الخيالي البديع إلى عالمٍ تُلقى فيه الأسئلة النهائية الكبرى عن العدل والظلم المقدَّر على البشر، وعن الخير والشر وحرية الإرادة، وتطرح فيه المشكلات — على الحدود الدقيقة الفاصلة بين الإيمان المطمئن المريح وبين التساؤل القلق المخيف — عن المسئولية الإلهية عن سعادة البشر وشقائهم، وعن مصيرهم المكتوب في «ألواح المصائر»، ومدى قدرتهم أو حريتهم في التردد عليه أو على الأقل في مناقشته — على لسان هذين المثقفين المهمومين بهموم العدل في الأرض والسماء — وعن جذور الظلم الضارب في طبيعة البشر والمجتمع أو في طبيعة الآلهة أنفسهم. بل إن المعذَّب ليشهد في هذا العصر المتقدم على ما نسميه اليوم — حسب تعبير نتشه — بانقلاب القيم، وربما يكون قد جرَّب — على طريقته ووفق ظروف عصره وبيئته ووعيه وثقافته — ما حاوله فيلسوف الإنسان الأعلى وإرادة القوة فاصطدم رأسه المتعب بسور التديُّن البابلي الشائك، وألجمه طوق التقاليد الحديدية التي فَرضت على الجميع الطاعة المطلقة للآلهة والملك، ولخدمهم وأتباعهم من «أولي الأمر» المنفِّذين لأحكام السلطة الدينية والاجتماعية.

إن أحد المتحاورين «وهو المعذَّب» يمثل وجه المثقف الثوري و«اليوتوبي» القلق على الدوام، والآخر ينطلق بلسان المثقف المسوغ للنظام القائم والتقاليد والموضات السائدة. إنهما يمثلان نمطَين يعيشان بيننا إلى اليوم بصورة ربما تكون أكثر تعقيدًا، ولكنها في جوهرها هي الصورة نفسها، وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن نرفع المعذَّب إلى مستوى المجادِل النزيه في المشكلات الدينية والميتافيزيقية الأساسية — لأن ثورته لا تخلو من قدر من النفعية، وخيبة أمله في الحياة والناس لا يمكن تجريدها من قدر من الطموح العملي إلى المكانة والسلطة — كما لا نستطيع في الوقت نفسه أن ندمغ الصديق الحكيم على طول الخط بالرجعية ومجاراة الأوضاع السائدة، ولا أن نُجرِّده من الصدق والأمانة، فلا شك عندي أن الصراع المحتدم بينهما يدل على استمرار هذا الصراع الذي لم يوجد له حل حتى الآن ولا يُنتظر أن يحل ما بقي الفكر الحقيقي الذي لا ينفك يتجاوز الواقع والوضع القائم، وينقد القيم والمفاهيم المستقرة، ويتجه دائمًا نحو التغيير والمراجعة والتقويم وإعادة النظر في كل شيء، ومن الطبيعي أن يلجأ الطرف المبرِّر — الذي لا أشك كما قلتُ في تديُّنه وصدق إيمانه بعدالة النظام الطبيعي وثبات التقدير الإلهي — إلى الحجة التي يلجأ إليها أمثاله، وهي حجة الجهل البشري بالعلم والتقدير الإلهيين، وقصور الرؤية ومحدودية الخبرة عند الفانين.

وفي النهاية يلقي المتمرد المتشائم أسلحته، ويستسلم يائسًا أو راضيًا لتعالي الحكمة الإلهية الخافية وضعف الطبيعة البشرية، ولا يبقى أمامه سوى أملٍ واحد هو انتظار الرحمة الإلهية والعون الإلهي. ومع أن القصيدة — كما قلت — ليست رسالة في اللاهوت ولا في الفلسفة، فإنها ذات قيمة كبيرة في تعرُّف الرؤية الدينية والفلسفية للمثقفين القدماء في وادي الرافدين، وتعرُّف جذور الظلم والتسلط في ثقافتنا وتراثنا الذي لا يجوز أن نُسقط منه التراث البابلي العريق بدعوى النكوص إلى النعرة الإقليمية أو بأي دعوى أو ادعاء آخر؛ وهي لذلك (أي القصيدة) أثرٌ مهم من آثار الحكمة البابلية لا نستطيع أن تتكرر رواسبه المغروسة في أعماقنا أو المؤثرة في تفكيرنا وسلوكنا؛ هذه الحكمة التي لم تكن على الإطلاق حكمةً راكدة ولا مستكينة، وإنما عرفت الصراع والقلق إزاء مشكلات الاختيار والتقدير والحرية والظلم والعدل التي لا تزال تُضني الإنسان الشرقي والعربي بوجهٍ خاص إلى اليوم.

المعذب «١»

(١) أيها الحكيم (…) تعال، [دعني] أخبرك
(٢) [… دعني] أنبئك [بنبئي]
(٣) … ك،
(٤) أنا (…) المعذب، لن أكف عن توقيرك.
(٥) أين الحكيم الذي يرقى إلى حكمتك؟
(٦) أين العالم الذي يضارعك [في العلم]؟
(٧) أين الناصح الذي أفضي إليه همي؟
(٨) لقد انتهى أمري وتمكَّن مني الشقاء.
(٩) كنت أصغر الأطفال [عندما] أخذ القدر أبي٧٣
(١٠) ورحلت أمي التي حملتني إلى الأرض التي لا رجعة منها.
(١١) وتركني أبي وأمي بلا أحد يرعاني.

الصديق «٢»

(١٢) يا صديقي المبجَّل، إن ما تقوله ليبعث على الاكتئاب.
(١٣) [أراك] تترك فكرك٧٤ ينساق إلى الشر، يا صديقي العزيز.
(١٤) وتجعل فهمك الدقيق للأمور كفهم الأحمق،
(١٥) لقد أحلت وجهك البشوش إلى غضون وتجاعيد.
(١٦) والحق أن آباءنا يسلمون بمصيرهم المحتوم ويسيرون في طريق الموت.
(١٧) ويعبرون، كما قيل منذ القدم، نهر خبر.٧٥
(١٨) إذا تدبرت أحوال البشر على الإجمال،
(١٩) … فليس …٧٦ هو الذي جعل أول الأبناء غنيًّا.
(٢٠) من ذا الذي يأنس إلى الرجل الغني السمين؟
(٢١) إن من يقوم على خدمة إلهه [هو الذي] يكون له ملاك يحميه،
(٢٢) والمتضرع الذي يخشى إلهته [هو الذي] يجمع ثروةً طائلة.

المعذب «٣»

(٢٣) أي صديقي، إن عقلك نهر لا ينضب نبعه،
(٢٤) [وهو] البحر اللجيُّ الذي لا تنقص «مياهه».
(٢٥) سوف أسألك سؤالًا؛ فأنصت لما أقول،
(٢٦) أعرني انتباهك لحظة، اسمع كلماتي.
(٢٧) لقد صار جسدي حطامًا، وغشيني الإعياء،
(٢٨) أدبر عني حظي، ضاع أماني،٧٧
(٢٩) وهنت قوتي، وولَّى نعيمي ورخائي.
(٣٠) وأنيني وحزني قد سوَّدا ملامح [وجهي].
(٣١) غلة حقولي لا تشبع [جوعي]،
(٣٢) ونبيذي،٧٨ وهو حياة البشر، شحيح لا يروي ظمئي.
(٣٣) فهل من شيء يضمن [لي] حياةً طيبة؟ ليتني أعرف كيف!

الصديق «٤»

(٣٤) إن قولي محصور …٧٩
(٣٥) لكنك (…) عقلك المتزن كالمجنون.
(٣٦) وتجعل [… ك] مشتَّتًا ومجافيًا للمعقول،
(٣٧) [تز] … [ك] المختار … أعمى.٨٠
(٣٨) أما عن إصرارك الذي لا حدَّ له على (…)
(٣٩) والأمان [السابق] … بالدعوات و[الصلوات].
(٤٠) الآلهة التي خف [غضبها] سترجع (… …).
(٤١) (… …) الذي لم يؤيد[ك] سيلطف [بك] …
(٤٢) ابحث دائمًا عن (المعايير الصحيحة) للعدل.
(٤٣) … ك، العلي القدير، سيرأف [بك].
(٤٤) (…) سيسبغ الرحمة.

المعذب «٥»

(٤٥) إنني أنحني لك، يا صاحبي، [أستوعب حكمتك].
(٤٦) (…) … النطق [بكلماتك]٨١
(٤٧) (…) … تعالَ، دعني [أقل لك شيئًا].
(٤٨) هذا الأخدر، الحمار الوحشي، الذي امتلأ ﺑ (…).٨٢
(٤٩) هل اكترث بواهب النبوءات الإلهية المؤكدة؟٨٣
(٥٠) والسبع المفترس الذي الْتهم أجود اللحم؟
(٥١) هل قدَّم قربانه من الدقيق ليهدئ من غصب الآلهة؟٨٤
(٥٢) (… …) مُحدَث النعمة الذي ضاعف ثروته،
(٥٣) هل أنفق الذهب النفيس في سبيل الإلهة «مامي»؟
(٥٤) وهل أمسكت أنا عن تقديم القرابين؟ لقد صليت لإلهي،
(٥٥) وباركت الأضاحي التي دأبت على تقديمها للآلهة (…)٨٥

الصديق «٦»

(٥٦) [أنت] أيها النخل، يا شجرة الخير والنعمة، يا أخي الغالي،
(٥٧) يا من أعطيت الحكمة كلها، يا جوهرة [من ذهب]،
(٥٨) إنك راسخ كالأرض، لكن خطة الآلهة قصية،
(٥٩) انظر إلى الحمار الوحشي البديع [الذي يرعى] في [السهل].
(٦٠) إن السهم سيتبع هذا [العابث] المقتحم الذي سحق مزروعات الحقول.
(٦١) تعالَ، فكِّر في أمر الأسد الذي ضربته مثلًا، [وهو] عدو المواشي.
(٦٢) إن الحفرة تنتظره جزاء على الجريمة التي ارتكبها.
(٦٣) [أما] محدث النعمة الذي يكدِّس الثروات،
(٦٤) فسوف يحرقه الملك على المحرقة قبل أن تحين ساعته.
(٦٥) أتريد أن تسير على الطريق الذي سار عليه هؤلاء؟
(٦٦) خير لك أن تسعى إلى الجزاء الباقي من إلهك.

المعذب «٧»

(٦٧) إن عقلك ريح [تهبُّ من] الشمال، [وهو] نسيم مُنعِش للناس.
(٦٨) ونصيحتك، يا صديقي العزيز، [طيبة] غالية.
(٦٩) [لكنني] أضع أمامك كلمةً واحدة.
(٧٠) إن الذين يهملون الإله يسلكون سبيل الثراء،
(٧١) بينما يُحكَم بالفقر والحرمان [من الممتلكات] على الذين يؤدون الصلوات للآلهة.
(٧٢) لقد سعيت في صباي لإرضاء إلهي،
(٧٣) [و] قدمت فروض الطاعة لآلهتي بالسجود والصلاة.
(٧٤) لكني قاسيت السخرة فسخرت وأرهقني حمل النير.
(٧٥) قضى عليَّ إلهي بالعوز و[الإملاق] بدلًا من الغنى [والثراء].
(٧٦) [وصار] المعوق٨٦ رئيسي، وتفوَّق المجنون عليَّ،
(٧٧) ورُقِّي الوغد [لأعلى المناصب]، بينما خفضت إلى الحضيض.

الصديق «٨»

(٧٨) يا صاحبي الأمين، يا من تُقدِّر العلم، إن أفكارك فاسدة.
(٧٩) لقد جافيت الحق ورحت تجدف على تدابير إلهك.
(٨٠) وألحَّت على عقلك الرغبة في إزراء التعاليم الإلهية.
(٨١) (…) القواعد السليمة٨٧ [التي سنَّتها] إلهتك.
(٨٢) إن خطط الإله (…) مثل مركز السماء٨٨
(٨٣) وأوامر الآلهة ليست (…)
(٨٤) ولكي تفهم فهمًا صحيحًا (…)
(٨٥) إن أفكارهم (…) للبشرية،٨٩
(٨٦) لإدراك سبيل إلهة (…)
(٨٧) إن أسبابهم قريبة المنال (…)٩٠
(٨٨) (…)

الصديق «١٢»

(١٢٥) [أنا] …
(١٢٦) [أنا] بيضت (…)
(١٢٧) [أنا] تكفلت برعاية (…)
(١٢٨) [أنا] رعيت الصغار (…)
(١٢٩) [أنا] جدت على الناس بالعطاء (…)
(١٣٠) [أنا] جمعت (…)
(١٣١) [أنا] وفيت العهد للإله (…)
(١٣٢) [أنا] سعيت لما كان ضروريًّا (…)

المعذب «١٣»

(١٣٣) سأهجر بيتي (…)
(١٣٤) سأزهد فيما يملكه [الناس] (…)
(١٣٥) سأتجاهل تعاليم إلهي وأدوس على طقوسه.٩١
(١٣٦) سأذبح عجلًا و(…) طعامًا،
(١٣٧) سأمضي [بعيدًا] على الطريق وأذهب إلى المناطق النائية.
(١٣٨) سأحفر بئرًا وأطلق سيلًا،٩٢
(١٣٩) سأهيم كاللص في العراء.
(١٤٠) سأتنقَّل من بيت إلى بيت و[أحاول أن] أتحاشى الجوع.
(١٤١) سأجوب الآفاق جائعًا وأرصد الطرقات٩٣
(١٤٢) كالشحاذ س (…) إلى الداخل (…)٩٤
(١٤٣) النعمة جد بعيدة … (…)٩٥

الصديق «١٤»

(١٤٤) يا صديقي إن [عقلك] يتجه إلى (…)
(١٤٥) ونشاط البشر، الذي لا تريده (…)
(١٤٦) في عقلك توجد (…)
(١٤٧) لقد تخلَّى عنك عقلك (…)

المعذب «١٥»

(١٥٩) الابنة تتكلم (…) مع أمها.
(١٦٠) الصياد الذي ألقى [شبكته] قد سقط.
(١٦١) الحصول على كل شيء، مما (…) المرء … الحظ؟
(١٦٢) الوحوش الكثيرة التي (…)
(١٦٣) من منها قد … (…)
(١٦٤) أينبغي عليَّ أن أسعى إلى «إنجاب» ابن وبنت؟ (…)
(١٦٥) ألا يجوز أن أضيع ما وجدت؟٩٦ … (…)

الصديق «١٦»

(١٦٦) … متواضع ومتضع (…)
(١٦٧) إرادتك تُذعِن على الدوام (…)
(١٦٨) (…) عقلك … (…)

المعذب «١٧»

(١٨١) إن الأمير ولي العهد يلبس (…)
(١٨٢) وابن المعدم العاري [يتلفَّع] برداء (…)
(١٨٣) حارس الطحين (… …) الذهب،
(١٨٤) بينما يحمل من كان يعد ذهبه اللامع في مكيال (…)
(١٨٥) النباتي [يلتهم] مأدبة الشريف٩٧
(١٨٦) بينما [يعيش] ابن الوجيه والغني على الخروب.
(١٨٧) ومالك الثروة قد سقط. إن (… …) بعيدٌ ناءٍ.٩٨

المعذب «١٩»

(١٩٩) (… …) الحكمة.
(٢٠٠) إنك تستوعب كل الحكمة، وتشير على الناس.

الصديق «٢٠»

(٢١٢) لقد تركتَ عقلك الأريب للضلال.
(٢١٣) (…) طردت الحكمة،
(٢١٤) إنك تحتقر العرف، وتدنس التعاليم.
(٢١٥) (… …) الرأس قلنسوة، وحوض الملاط، والآجر بعيد عنه.
(٢١٦) (…) قد جعل من أصحاب النفوذ.
(٢١٧) (…) يدعى عالمًا،
(٢١٨) يصبح موضع الرعاية ويحصل على ما يتمناه.
(٢١٩) اتبع طريق الإله، حافظ على فروضه [وشعائره]
(٢٢٠) (…) يصبح فقط عداد الصالحين.

المعذب «٢١»

(٢٢١) (… …) الأوغاد،
(٢٢٢) (… …) … كلهم غشاش.
(٢٢٣) يُكدِّسون الثروات … …

الصديق «٢٢»

(٢٣٥) أما الوغد الذي تتقرَّب منه،
(٢٣٦) فإن … [ﻪ] سرعان ما يزول.٩٩
(٢٣٧) والثريُّ المحتال الذي لا يتقي الإله،
(٢٣٨) يلاحقه السلاح الفتَّاك.
(٢٣٩) وإذا لم تسعَ لمرضاة الإله، فأي حظ تطمع فيه؟
(٢٤٠) من يحمل نير إلهه لا يعدم الطعام، مهما كان شحيحًا.
(٢٤١) دع ريح الإله الطيبة تسقك [حيث تشاء]،
(٢٤٢) وما فقدته على مدى العالم ستسترده في لحظةٍ واحدة.

المعذب «٢٣»

(٢٤٣) لقد نظرتُ في المجتمع من حولي، لكن الدلائل تشهد بعكس [ما تقول].
(٢٤٤) إن الإله لا يقف في طريق شيطان.
(٢٤٥) إن الأب يسحب القارب عبر القناة.
(٢٤٦) بينما يرقد أكبر أبنائه في الفراش،
(٢٤٧) وأكبر الأبناء يتابع طريقه كالأسد،
(٢٤٨) [بينما] يفرح الابن الذي يليه بأن يصبح سائق بغل.
(٢٤٩) الوارث يختال في مشيته كالفتوة [المستأسِد]،١٠٠
(٢٥٠) والابن الأصغر [سوف] يُقدِّم الطعام للمعدم.١٠١
(٢٥١) ماذا كسبتُ من ركوعي لإلهي؟
(٢٥٢) إنني أرغم على الركوع أمام الوضيع الذي يلقاني [على الطريق]!
(٢٥٣) وحثالة البشر، كالأغنياء والمترفين، يعاملونني باحتقار.

الصديق «٢٤»

(٢٥٤) أنت أيها الحكيم، أيها العالم المتمكِّن من المعرفة،
(٢٥٥) إنك في كربك تجدف على الإله.
(٢٥٦) إن العقل، مثل مركز السماوات، بعيدٌ ناءٍ.١٠٢
(٢٥٧) والعلم به أمرٌ عسير، وجماهير [الناس] لا تعرفه.
(٢٥٨) من بين جميع المخلوقات التي جبلتها «أرورو»١٠٣
(٢٥٩) كان المولود الأول١٠٤ … …
(٢٦٠) إذا أخذت البقرة مثلًا، [وجدت] العجل الأول ضئيلًا لم يكتمل نضجه.
(٢٦١) [بينما] المولود الأخير يبلغ ضعفه في الحجم.
(٢٦٢) إن الطفل الأول يولد ضعيفًا،
(٢٦٣) لكن الثاني يُدعى المحارب المغوار.
(٢٦٤) ومع أن المرء قد يُدرِك إرادة الإله، فإن جماهير [الناس] تجهلها.

المعذب «٢٥»

(٢٦٥) التفت يا صديقي، وافهم أفكاري.
(٢٦٦) وانتبه للتعبير المنتقى من كلماتي.
(٢٦٧) إن الناس تُمجِّد كلمة رجلٍ قوي تمرس بالجريمة،١٠٥
(٢٦٨) لكنها تمتهن العاجز الذي لم يقترف إثمًا.
(٢٦٩) إنهم يؤيدون الشرير الذي تكون جريمته (…)
(٢٧٠) غير أنهم يضطهدون الأمين [البار] الذي يُذعِن لإرادة إلهه.
(٢٧١) إنهم يملئون مستودع الظالم [المتجبر] بالذهب،
(٢٧٢) لكنهم يُفرِغون مخزن الشحاذ من مئونته.
(٢٧٣) وهم يساندون القويَّ الذي تكون … [ﻪ] إثمًا،
(٢٧٤) لكنهم يدمِّرون الضعيف ويطردون العاجز.
(٢٧٥) أما عن نفسي، وأنا الفقير الحال، فيضطهدني مُحدَث الثراء.

الصديق «٢٦»

(٢٧٦) إن «نارو» ملك الآلهة، الذي أوجد البشر،١٠٦
(٢٧٧) والمعظم «زولومار»، الذي استخرج طينتهم،١٠٧
(٢٧٨) والسيدة «مامي»، الملكة التي سوتهم،
(٢٧٩) قد أعطوا الجنس البشري [القدرة على النطق] بسقط الكلام،١٠٨
(٢٨٠) وزودوهم إلى الأبد بالأكاذيب دون الحقيقة.
(٢٨١) إنهم يُوقِّرون الغنيَّ،
(٢٨٢) «هو ملك»، هكذا يقولون، و«الثروات تصاحبه حيث سار.»
(٢٨٣) لكنهم يؤذون الفقير كأنه لص.١٠٩
(٢٨٤) ويفترون عليه ويدبرون لاغتياله،
(٢٨٥) بحيث يحملونه على معاناة صنوف الشر كأنه مجرم [أثيم]، [وكل هذا] لأنه يفتقد من يحميه،
(٢٨٦) إنهم يلقون الرعب في قلبه ويعجلون بنهايته، ويطفئونه كما تُطفأ شعلة اللهب.١١٠

المعذب «٢٧»

(٢٨٧) أنت رءوف، يا صديقي، فانظر إلى شقائي.
(٢٨٨) ساعدني، فكِّر في بلواي، تدبَّر حالي.
(٢٨٩) مع أني رجل متضع، وحكيم، [مع أني] أيضًا أتضرع [لإلهي]،
(٢٩٥) فلم ألقَ العون ولا النجدة لحظةً واحدة [من حياتي].
(٢٩١) لقد وطئت قدماي ساحة مدينتي بلا زهو [ولا خيلاء]،١١١
(٢٩٢) لم يرتقع صوتي [أبدًا]، وكلامي كان همسًا.
(٢٩٣) لم أرفع رأسي، بل أطرقتُ ببصري للأرض،
(٢٩٤) لم أؤد فروض العبادة كما يؤديها حتى العبيد في صحبة رفاق١١٢
(٢٩٥) ليت الإله الذي نبذني يمدُّ لي [يد] العون،
(٢٩٦) وليت الإلهة التي [تخلت عني] تشملني برحمتها،
(٢٩٧) لأن الراعي «شمش» يهدي الناس كإله.١١٣

حوار السيد والعبد

تقديم

ماذا يفعل الإنسان عندما يجد أن القيم قد فقدت قيمتها، بعد أن كانت حية ومؤثرة على عهد الأجداد والأسلاف؟ وكيف يتصرف وهو يرى حضارته المأزومة تتحشرج في صدرها الأنفاس الأخيرة، ويتزاحم عليها النمل والسوس الذي ينخر في أصلها وجذورها، والجراد الذي يلتهم الخضرة من فروعها وأوراقها، فلا تملك الطيور المبدعة إلا أن تهجر الأعشاش التي بنتها، وتأوي — يائسة أو مترفِّعة — إلى حزنها وصمتها؟ وعندما ينظر هذا الإنسان — الذي تحوَّل إلى شاهدٍ أمين على زمنه وأهله — فيهوله الاضطراب والخلل في كل شيء، ويُفزعه خلو الساحة لعقارب الخسة والغدر، وكلاب السلب والنهب، وقرود الوصولية والانتهازية، أيبقى أمامه إلا أن يصرخ ويحذر وينذر، أو يسقط في الهاوية التي تتعطل فيها إرادة الحياة، وتُشَلُّ القدرة على الاختيار والمبادرة والفعل الحر؟ وهل نعجب عندئذ حين نجده غارقًا في القنوط والتشاؤم، أو سادرًا في العبث والسخرية، أو فاتحًا ذراعيه لاحتضان الموت الذي يلتمس فيه المعنى الأخير بعد أن غاب المعنى عن كل شيء؟

ذلك هو؛ فمضمون هذا النص المذهل المحيِّر الذي انحدر إلينا من بابل القديمة (نحو الألف الأول قبل الميلاد)، ربما لم يقصد الكاتب الذي دوَّنه أو نسخه إلى هذه المعاني التي أشرت إليها. وربما أكون قد تسرعتُ بتأويله وتفسيره — وفي كل تفسيرٍ شيءٌ من ذات المفسِّر ووجهة نظره ووقع عصره وبيئته وحياته على شخصيته، ولكنك ستخرج من قراءته بأن هذا الكاتب أو الناسخ المجهول شديد الحساسية لمحنة تاريخه وحضارته، وأن هذه الحساسية المفرطة قد انعكست على الحوار الذكي البديع بين السيد البابلي وعبده، بحيث جعلت منه نصًّا دراميًّا فغرقا في التشاؤم والقتامة أو في الدعابة والسخرية.

لنبدأ الآن في عرض هذا النص قبل الحديث عن عصره وظروف نشأته، والنصوص التي تتصل به من قريب أو من بعيد، والدلالات والمعاني التي يمكن أن نستخلصها منه.

  • (١)
    ها هو ذا السيد — بعد أن استولى عليه الملل أو خيَّم عليه الصمت — يتخذ قراره المفاجئ فيهتف بعبده أن يجهِّز مركبته ليتَّجه إلى قصره، ولسنا ندري في الحقيقة شيئًا عن هذا السيد المجهول، ولا نستطيع أن نقطع بأنه كان أحد النبلاء الإقطاعيين، أو أحد رجال السلطة أو البلاط، أو مجرد كاتب أو ناسخ لوثائق القصر الذي يسكنه الملك الذي كان نائب الإله على الأرض، وكل ما نعلمه من قراءة النص أن العبد المطيع يُسرِع إلى موافقة سيده على قراره، ولا يكاد يمضي لإعداد المركبة حتى يستوقفه السيد الذي عدل فجأة عن القرار كما اتخذه فجأة! والمهم أن العبد المسكين يصادق في الحالين على رأي سيده، ويزين له محاسن أو مساوئ فعله وعدم فعله:
    – أيها العبد، انصت إليَّ.
    – ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
    – أسرع وأحضر المركبة وأعدَّها لأذهب إلى القصر.
    – اذهب يا سيدي، اذهب، سأكون تحت تصرفك.
    – لا أيها العبد، لن أذهب للقصر، لن أذهب أبدًا.
    – لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.

    ربما يرسلك … (نجواك بالنص ويحتمل أن تكون الكلمة أو الكلمات الناقصة عن إلهٍ معين).

    ربما تسير في طريق لا تعرفه، وربما تتألم [أو تندم] على ذلك ليل نهار.

  • (٢)
    ويتراجع السيد عن عزمه على الذهاب إلى القصر، لعله قد فكَّر فيما قاله عبده المخلص وتذكَّر ما سبق أن عاناه من متاعب لا نعرف طبيعتها، أو تذكَّر ندمه على زياراته للقصر وتجاربه مع صاحبه وأعوانه وجلسائه وخدمه وحشمه؛ فشحبت خدود عزيمته، وانتقل إلى رأيٍ آخر تحت تأثير جوعه وعطشه:
    – أنصت إليَّ أيها العبد.
    – ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
    – أسرع بإحضار الماء لأغسل يدي حتى أتناول غدائي.
    – تَغَدَّ يا سيدي، تناول طعامك مرة ومرة؛ فذلك يريح الذهن من متاعبه.
    و«شمش» نفسه يرعى من يطهر يديه.
    – لا يا عبدي. لا. لن آكل، لن أغسل يدي.
    – لا تأكل يا سيدي، لا تأكل.
    الجوع والأكل، العطش والشرب، ماذا أفاد منها الإنسان؟
  • (٣)

    لم يستطع السيد أن يُنفِّذ رغبته في الأكل والشرب؛ إذ يبدو أن فراغ سأمه كان أكبر من فراغ جوفه! بل إن إهابة العبد البارع باسم «شمش» — وهو إله الشمس والعدل الذي كان مقرَّبًا من قلوب الناس، كما يقال إنه هو الذي أوحى لحمورابي (من نحو ١٧٩٢ق.م.–إلى نحو ١٧٥٠ق.م.) بتشريعه المشهور — لم تقوَ على إقناعه بالإقبال على الطعام الذي تهيأ العبد لإعداده، بل لعل العبارات الأخيرة التي خرجت من فم هذا العبد الحكيم أن تكون قد ثنته عن عزيمته المتخاذلة وغذت نار تردده بوقودٍ جديد؛ ولهذا يثب وثبة جديدة ليقتنص خاطرة جديدة يمكن أن تُحرِّره من القعود في بيته فريسة للملل الذي استبدَّ به ومنعه من سد حاجته الضرورية لإشباع وحش الجوع، فإلى أين تؤدي به الوثبة الجديدة؟

    – عبدي، انصت إليَّ.
    – ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
    – أسرع، أسرع، أحضر المركبة وأعدها للرحيل.
    أريد ان أمضي للخلاء، للريف المفتوح.
    – اذهب يا سيدي، اذهب.
    فالصياد يملأ جوفه.
    وكلاب الصيد ستكسر عظام الفريسة.
    وصقر الصياد سيهبط عليها (…)
    والحمار الوحشي سيعدو مسرعًا (…)
    – لا يا عبدي، لا …
    – لن أمضي للخلاء، لن أمضي للصيد.
    – لا تفعل يا سيدي، لا تفعل
    إن حظ الصياد متقلب،
    كلب الصيد ستنكسر أسنانه.
    وصقر الصياد سيرجع إلى [عشه].
    والحمار الوحشي سيهجع [أو يأوي] إلى حظيرته في الجبال.
  • (٤)

    هل أقنعه العبد بعبث الفكرة وبطلان المحاولة؟ وهل أفلح في تجريد متعة الصيد التي طالما اندفع إليها من كل قيمتها؟ إن صح كما قلنا أنه كان من النبلاء البابليين الذين يقضون أوقات لهوهم وفراغهم في التلذُّذ بها لا بد أن عبارة العبد الساخر لم تصل به فحسب إلى حد الزهد في هذه المتعة، بل أوقفته على شفا حفرة العدمية التي تزول عندها قيمة كل القيم، حتى ليوشك على السقوط فيها لولا أن يتدارك نفسه ويفكر في فكرة طارئة ربما تنجح في انتشاله منها، ولكن هل تنقذه هذه الفكرة حقًّا أم توشك بدورها على رميه في حفرة أخرى؟

    – أيها العبد، انصت إليَّ.
    – ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
    – قررت أن أُكوِّن أسرة وأنجب أطفالًا.
    – افعل يا سيدي، وليكن لك أطفال؛ فالرجل الذي يبني بيتًا [أو يكون أسرة] إنما (… فجوات واضطرب شديد في النص).
  • (٥)
    تخلى السيد المتردد عن عزمه على تكوين الأسرة وآثر السلامة في أحضان العزوبة، بعد أن قلَّب المسألة على وجوهها، وتراءت له في لمح البصر الأخطار المخيفة التي كاد أن يتردَّى فيها؛ ولهذا نراه يُسرع بالرد على عبارة عبده والاعتراف بصدق حكمته وبُعد نظره:
    – إن الباب سيسمى الفخ!
    والإنسان الذي يتزوج يلقي بنفسه بين أحضان جلاده [أو معذبه ومضطهده] ولا بد أن يستسلم … ويرضى.
    – إذن فاستسلم يا سيدي.
    كوِّن أسرة وابنِ بيتًا.
    – لا، لن أفعل، لن أبني بيتًا.
    – لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.
    فمن يسر على هذا الطريق يهدم بيت أبيه (؟).
    وتنقطع تحذيرات العبد وتنبؤاته السوداوية التي توقعنا أن يسترسل فيها، كما انقطع من قبل سيل كلماته الذي بدأ يتدفَّق لتشجيعه على الزواج. ويرجح الأستاذ «لامبرت» أن يكون النص قد سقطت منه عبارات عن اللجوء للمحاكم بسبب المشكلات الزوجية، كما يقدم بديلًا عن الحوار المبتور هذه السطور التي جاءت في لوحٍ آخر على هذا النحو الذي لا يضيف شيئًا مهمًّا ولا جديدًا:
    – الزم الصمت يا سيدي، الزم الصمت.
    – لا يا عبدي، لن أصمت، لن ألزم الصمت.
    – لا تصمت يا سيدي، لا تصمت.
    إلا إذا فتحت فمك فسيقسو عليك مضطهدوك.
  • (٦)
    ويبدو أن السيد لم يقتنع في هذه المرة بنصيحة عبده الماكر أو الحكيم … فكيف يرضى بالسكوت ويلوذ بالصمت إزاء أسراب العصافير أو الغربان التي تناوشه وتلحُّ عليه مناقيرها الخضراء أو الصفراء بأفكار جديدة؟ وكيف ينفض يديه من كل فعل، مع أن ضميره يفور كالأتون الملتهب، ويحور بخواطر تنهال عليه أو تتصاعد شراراتها التي تحثه على الفعل؟ إن الإخلاد إلى الصمت لا بد أن يكون مهينًا إلى أبعد حد، فليكسر شوكة هذا الصمت المهدِّد كالموت، بالفعل الوحيد الذي يوقفه ويرد إلى نفسه الثقة المفتقدة والعزم الجبار على الإقدام على أخطر فعل ممكن، نعم! فليقدم على الثورة، وليقُدْ هذه الثورة المدمِّرة بنفسه:
    – أنصت يا عبدي، أنصت.
    – ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
    – سأقود ثورة.
    – قُدْ ثورة يا سيدي.
    إنك إن لم تفعل
    فمن أين تأتي بملابسك؟
    من يساعدك على ملء بطنك؟!
    – لا يا عبدي، لن أقوم بثورة.
    لن أفعل أبدًا.
    – لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.
    فالثائر [من يقود ثورة] إما أن يُقتَل أو يسلخ جلده.
    أو تسمل عيناه.
    أو يلقى القبض عليه.
    أو يُرمى في السجن.
  • (٧)
    لا شك أن القارئ الحديث ستصدم مشاعره في هذه الثورة العجيبة التي تقف عند حد الحصول على الملبس وملء المبطن! فالثورة في المفهوم الحديث انقلاب جذري في البناء الاجتماعي والاقتصادي الشامل وما يسمى بقوى الإنتاج، يتبعه بعد أجل قصير أو طويل انقلاب آخر في علاقات الإنتاج وما يسمى بالبناء الفوقي من قيم ونظم أخلاقية وقانونية ومعرفية وأدبية وفنية … إلخ. ولما كان النص لا يسمح بتكهن أسرار تلك الثورة التي أزمع السيد على قيادتها، فإننا مضطرون إلى الوقوف أمامها حائرين، ولعل السيد نفسه قد عدل عن مشروعه الجسور وقدر مخاطره المهلكة التي أفصح عنها العبد بعباراتٍ واقعية لا تخلو من التشاؤم والسخرية معًا. ولعله بعد أن هدأت ثورته الانفعالية العابرة أن يكون قد عاوده الحنين إلى صدر الحبيبة أو المعشوقة؛ ليطفئ فيه همومه، ويستعيض به عن اللجوء إلى حضن الزوجة الذي يمكن أن ينبت أشواك المشاكل والخصومات أمام المحاكم:
    – أنصت يا عبدي. أنصت.
    – ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
    – سأعشق امرأة يا عبدي.
    – اعشق يا سيدي، اعشق؛
    فالعاشق ينسى الحزن ويطرد خوفه.
    – لا يا عبدي، لن أعشق امرأة.
    – لا تعشق يا سيدي، لا تعشق؛
    فالمرأة جحر أو حفرة،
    هاوية، فخ، مصيدة.
    المرأة خنجر حديدي مسنون يقطع رقبة الرجل.
  • (٨)

    هكذا ضاع الأمل في الحب والعشق المشروع وغير المشروع؛ فسرعان ما يرجع السيد من حلمه بالراحة على صدر الحبيبة، أو المتعة بين ذراعي المعشوقة، إلى هجير يأسه وقلقه وتردده. هل يمكن أن يُنقذه من لفح الهجير إلا مظلة الإيمان؟ وإلى أين يثوب «الابن الضائع» إلا إلى رحمة الإله؟ لقد عرفت الحضارة البابلية في تاريخها الطويل فترات من الشك واليأس، كان فيها البابلي الممتحن بالأمراض والأرزاء يتصوَّر أن الآلهة الكبرى قد هجرت مدينته أو غضبت عليها، وأن «إلهه الخاص» الذي كان يبارك بيته ويرعى أهله وذويه قد أعرض عنه لذنب جناه أو لذنب لا يعرفه؛ ولهذا كان يسارع إلى استرضاء آلهته وتقديم التضحيات لها، واثقًا من أنها ستلطف بعبدها المطيع الذي لم يقصر في خدمتها وتقديم الطعام والشراب إليها. والذي لا يفهم حكمتها الخافية ولا يطلع على أسرارها، بيد أن هذا العبد الخاشع الخاضع كان في بعض الأحيان يوشك على الثورة على آلهته ويعلن — إلى حد التجديف — عن سخطه وغضبه لأنها أنزلت به عقوبة لم يستحقها، وجازته على صلاحه وتقواه بألوان المرض والفقر والبلاء التي لم يقترف في رأيه جرمًا يبررها، وقد يبلغ التجديف والثورة في لحظات اليأس الفردي والجماعي إلى حد أن يتصور أن الآلهة نفسها محتاجة إليه كما هو محتاج إليها، وأنها يمكن أن تركض وراءه لتسترضيه، وتتوسل إليه أن يتذكرها بتقدماته حتى لا تهلك جوعًا وعطشًا! ومن الضروري أن نعرف شيئًا عن هذا كله — قبل أن نفاجأ بصدور هذه العبارات البشعة من العبد الذي خرج فجأة عن حكمته، وراح يتكلم عن الطاعة والعبادة كلام تاجر يبادل صفقة بصفقة! فلنسمع ما يقوله السيد قبل أن يرد العبد عليه.

    – أنصت لي يا عبدي، أنصت لي.
    أسرع أسرع، أحضر ماءً لأغسل يدي حتى أضحي لإلهي.
    – ضحِّ يا سيدي، ضحِّ وقدِّم قربانك لإلهك.
    – إن من قدم الأضاحي لإلهه سيُسرُّ للصفقة التي يقوم بها،
    إنه يبادل قرضًا بقرض،
    ويردُّ دَينًا بدَيْن.
    – لا يا عبدي، لن أضحي لإلهي.
    – لا تضحِّ يا سيدي، لا تضحِّ.
    على إلهك أن يسعى وراءك كالكلب سواء سألك أن تُقدِّم له الطقوس أو طلب منك أن تؤدي له الفريضة أو أي شيء.
  • (٩)
    والظاهر أن السيد كان أكثر اعتدالًا من عبده، فلم يمضِ في التجديف إلى الحد الذي صوره له، ولم يشأ لصوته أن يشرد في كل درب تاه فيه صداه؛ ولهذا نلمس بقية من تدينه في اتجاهه إلى الأرض والناس بعد أن تصور أن السماء والآلهة قد حوَّلت قلوبها وعيونها عنه، وإذا كان قد تردَّد عن مبادلة إلهه الخاص قرضًا بقرض، فهو يفكر الآن في إقراض الناس والتصديق عليهم، هل كان المساكين الذين ينوي أن يُحسِن إليهم من سكان ضيعته والعاملين فيها؟ أم كان ينتظر من عطائه لهم أن يُعوِّضه ويعزيه عن العطاء الذي ضنَّ به على الآلهة؟ وهل نفهم من هذه الصدقة المفاجئة أنه كان بخيلًا على هؤلاء المساكين أو قاسيًا في معاملته لهم شأن أي إقطاعي مستغِل على مر التاريخ؟ أيًّا كان قراره كما فعل أكثر من مرة، كما أن العبد البصير بطباعه أو الساخر منها مُرَّ السخرية يذهب معه في كل اتجاه إلى أقصى مداه:
    – أنصت يا عبدي.
    – ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
    – سأقرض الناس يا عبدي [سأعطي المساكين].
    – أقرض يا سيدي، أقرض.
    فالمحسن [أو المقرض] يبقى قمحه هو قمحه [تزداد غَلَّته] ويربو مكسبه.
    – لا يا عبدي، لن أقرض أحدًا.
    لن أفعل هذا أبدًا.
    – لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.
    فالإقراض [أو الإحسان] كالعشق،
    واسترداد القرض مثل إنجاب الأطفال.
    سيأكلون قمحك ويصبون اللعنات عليك،
    ويسلبون الفوائد التي جنيتها.

    هناك قراءة بديلة لحوار الأخير لا تختلف عنه في المعنى العام وإن أوضحت بعض ما غمض فيه وأشارت إشارةً محددة إلى قرية — أو ضيعة — وإلى فقرائها الذين لا يفترقون في جحودهم عن الناس المذكورين في النص السابق، وتقتضينا الأمانة إيراد هذه القراءة البديلة.

    – أنصت لي يا عبدي، أنصت لي.
    – ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
    – سأتصدق بالطعام على أهل قريتي [ضيعتي] الفقراء.
    – تصدَّقْ يا سيدي، تصدق.
    مَن يتصدقْ يزددْ محصوله في الغلة.
    – لا يا عبدي، لن أتصدق على فقراء القرية.
    – لا تفعلْ يا سيدي، لا تفعل، سيأتون على قمحك ثم يصبون اللعنات على رأسك.
  • (١٠)
    وتأتي الفقرة التالية من الحوار مختلفة عما سبقها من فقرات؛ فالسيد لا يتراجع تمامًا عن قراره الأخير، أو على الأقل لا يكتفي به، وإنما يوسع من دائرته ليمتدَّ العطاء إلى بلده بأكمله ولا يقتصر على أهل قريته أو ضيعته، ولا نكاد نسأل أنفسنا: كيف تحوَّل من البخل والشح إلى الكرم والإيثار، حتى يرجع إلى عادته القديمة ويقرر — إن صح أنه قادر على اتخاذ قرار — أن يمسك يده عن العطاء، كما يكتشف أن هذا «العمل الوطني» شأنه شأن غيره من الأعمال التي لم يرَ فيها نفعًا ولا قيمة، ولم يشعر أنها تستحق منه غير الإهمال:
    – أنصت لي يا عبدي، أنصت لي.
    – ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
    – سأقدِّم خدمةً [عامة] إلى بلدي.
    – قدِّمْ يا سيدي، قدِّم.
    من يفعل ذلك يبارك مردوخ عمله [حرفيًّا: توضع أعماله في حلقة مردوخ].
    – لا يا عبدي، لن أُقدِّم خدمة إلى بلدي.
     [أو لن أتبرع لبلدي بشيء].
    – لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.
    اصعد فوق أكوام الخرائب، وتمشَّ هناك وانظر إلى جماجم الأعلين والأدنين.
    من كان الظالم منهم [أو المسيء]؟
    ومَن المظلوم [أو المحسن]؟
    من كان الشرير؟ ومن كان الطيب؟
  • (١١)

    هكذا وصل العبد إلى الغاية من حواره مع سيده، وبلغ ذروه اليأس من أن يستقرَّ على قرار أو يُقدِم على عمل. لقد صبر معه صبرًا لا مثيل له، فأخذ يبين له محاسن كل اختيار انتهى إليه، حتى إذا عدل عنه راح يُسلِّط الضوء على مساوئ ضده، هل كان كل همه أن يرضيه ويظهر له طاعته؟ أم كان في كل الأحوال يسخر منه ومن حضارة فقدت القدرة على الاختيار والمبادرة، وهوت إلى حضيض العدمية التي لا تعدو أن تكون شكلًا من أشكال الموت؟ إن هذا السيد الذي يمثل واحدًا من النخبة المثقفة أو الحاكمة قد استوت لديه كل الأشياء والأعمال، وتساوت في تفاهتها وبطلان قيمتها، ومع أنه يتحمس لكل فكرة جديدة تخطر على باله، إلا أن هذه الفكرة تلحق بغيرها في مستنقع السأم واللامبالاة، وكلتاهما صورة من صور الفراغ المميت أو الموت الفارغ من كل معنًى وفعل. ولا شك أن هذا السيد يذكرنا اليوم بذلك الحمار المشهور في تاريخ الفلسفة باسم «حمار بوريدان» (نسبةً إلى الفيلسوف والعالم الطبيعي الفرنسي الذي مات نحو سنة ١٣٥٨م، واهتم بمشكلة حرية الإرادة، واقترن اسمه بهذا الحمار الذي أصبح رمزًا للتردد القاتل وانعدام حرية الاختيار إزاء بديلين يعجز عن تفضيل أحدهما على الآخر، فالحمار المسكين يموت جوعًا لأنه يجد نفسه أمام حزمتين متساويتين من العلف موضوعتين على مسافة متساوية دون أن يتمكن من اتخاذ قرار باختيار أحد البديلين ليشرع في التهامه).

    وإذا كان السيد يقفز طوال الحوار من انفعال إلى انفعال دون أن يصمم، على فعلٍ واحد، فإن العبد على النقيض من ذلك يتابعه على كل طريق ينوي السير عليه ببرود لا مزيد عليه، ويساعده هذا البرود في بعض الأحيان على تأمُّل الموقف تأمل الحكيم القديم الذي يُطلُّ على الحياة والأحياء من شرفة برجٍ ميتافيزيقيٍّ عالٍ. وتنفذ هذه الحكمة إلى قلب المأساة الإنسانية في الفقرة الأخيرة من الحوار على نحو يُذكِّرنا بمشهد المقبرة المشهور في مسرحية هاملت لشكسبير: اصعد فوق أكوام الخرائب وتمشَّ هناك، وانظر لجماجم الأعلَين والأدنَين، من كان الظالم منهم ومن المظلوم؟ من الشرير أو الخير؟ إنهم جميعًا منسيون في مدنٍ منسية، وستصبح بعد أجل يطول أو يقصر واحدًا منهم، فلماذا تُعذِّب نفسك — وتُعذِّبني معك — باللهاث وراء لَذَّات لن تعقب غير الألم والندم، بل لن تنتهي — ونحن معها — إلا إلى التراب؟!

هل يمكن أن يكون العبد قد فكَّر في شيء من هذا أو حاول التعبير عنه بالوسائل المتاحة آنذاك؟ أم أننا «نسقط» عليه مشاعرنا وتجاربنا وأساليب تفكيرنا ورؤيتنا للعالم والإنسان؟ أيًّا كان الأمر فإن النهاية المحتومة لانعدام حرية الإرادة أمام انعدام كل القيم لا بد أن تكون هي حتمية النهاية، ولا يبقى مفرٌّ من اختيار الموت بعد أن عجز الطرفان عن الاختيار، وها هي ذي المقطوعة الأخيرة تختم الصراع الذي طال بين الطرفين:

– أنصت يا عبدي، أنصت.
– ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.
– ما الخير إذن؟
– الخير! أن يُدَّق عنقك وعنقي.
الخير أن تُلقى في البحر وأُلقَى فيه.

ثم يختم الحوار الدرامي بالحكمة البابلية، التي نجدها تتكرر بالكلمات نفسها على وجه التقريب في ملحمة جلجاميش الشهيرة وفي النصَّين اللَّذين درسناهما على الصفحات السابقة. لنترك العبد يستطرد بعد السطرَين السابقَين مباشرةً فيقول:

– من ذا الذي طالت قامته حتى صعد إلى السماء؟
من ذا الذي اتسع منكباه حتى احتضن العالم السفلي [أو احتوى العالم بذراعيه].

ويبدو أن السيد يعود للمرة الأخيرة إلى تهوُّره فيقول:

– لا يا عبدي. سأقتلك وأرسلك أنت أولًا إلى هناك.

فيُجيب العبد بهدوئه المعهود، وربما بابتسامة لم يستطع الكاتب أو الناسخ أن يُسجِّلها على اللوح الذي عثر عليه مع كنوز أخرى من ألواح التاريخ والقانون والأدب والحكمة البابلية في مكتبات الملك الآشوري آشور بانيبال (من نحو سنة ٦٦٨–٦٢٧ قبل الميلاد):

– لن يحتمل سيدي العيش بعدي ثلاثة أيام.

هكذا ينتهي هذا النص «الدرامي» من بابل القديمة، لا شك في أن القارئ قد أحسَّ من سطوره الأولى بالطابع الدرامي الذي يتغلغل في الحوار الحي المتوثِّب، والصراع بين فكرة تُطارِح فكرة، وحجة تُقارع حجة، ووجهة نظر تُحاول أن تنتصر على وجهة نظر مخالفة. وإذا كان هذا الحوار يفتقد الكثير من مقوِّمات العمل المسرحي وتطوره التقليدي المألوف، فإن شخصية المتحاورَين ممتلئة بالحياة والحركة على خشبة مسرحٍ ذهني نستطيع أن نتمثله ونشارك فيه. والأهم من ذلك أن شخصية مؤلفه الأصلي واضحة في كل سطر من سطوره، فهو بجانب موهبته في الحوار يفيض بالعاطفة العميقة والذكاء الدقيق، ويكشف عن حساسيته المرهَفة للنبضات الأخيرة في أنفاس حضارته التي انتفت فيها القيم، وأصبح الاضطهاد وظلم الأثرياء حدثًا يوميًّا لا يثير الدهشة والغضب بقدر ما يدفع الناس إلى الصبر والتسليم.

بيد أن النص يطرح علينا مشكلة ربما لا نصل فيها إلى رأيٍ قاطع، فنحن إن أخذناه مأخذ الجد تحتَّم علينا أن نعتبره نصًّا يدل على تشاؤم كاتبه أو كتَّابه كما يعكس روح التشاؤم والاكتئاب في عصره، فكيف نوفِّق في هذه الحالة بين هذا التشاؤم القائم وبين روح المرح والسخرية التي تتلألأ فيه خلف غشاء الشك واليأس واللامبالاة، وتوشك أن تجعل منه بالمفهوم الحديث سخريةً مسرحيةً قصيرةً (أو فارص FARCE) تتهكم على الأوضاع الاجتماعية والمعايير الأخلاقية والقانونية السائدة؟! هل يمكن أن يجتمع الحزن والدعابة ويمتزج اليأس بالسخرية في نسيجٍ واحد؟ الحق أن هذا أمر غير مستغرب، وهو الواقع الذي يشهد عليه تاريخ الكوميديا والكوميديين العظام من أرسطو فانيس إلى أصحاب الكوميديا السوداء في عصرنا الحاضر. وإذ صح أن المضمون الأساسي للحوار كله هو بطلان القيم وانتقاء الشروط اللازمة للحياة الخيرة الفاضلة، وشعور الإنسان بأن كل الأشياء والأفعال لم تعد تستحق اهتمامه (وهذا هو رأي الأستاذ جاكوبسون في الكتاب المعروف «ما قبل الفلسفة» من ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا)، فمن الصحيح أيضًا أن نغمة السخرية هي الغالبة عليه، وأن هذه السخرية جزء لا يتجرأ من روح الشك والتشاؤم والكآبة التي طغت على نصوصٍ أخرى من العصر نفسه أو عصرٍ لاحق، من أهمها مناجاة المعذب لنفسه (وهو المونولوج المعروف باسم «أيوب البابلي» والمشهور بعنوانه المأخوذ من لفظة البابلي في أول سطر فيه وهو «لدلول بيل نيميقي» — أي لأمتدحن رب الحكمة — أو باختصار بكلمة لدلول)، وحوار المعذب أو المضهد مع صديقه المتدين الحكيم (وهو كما قدمنا النص المعروف عند العلماء ﺑ «التيوديسية» البابلية نسبةً إلى الكلمة اليونانية التي يدل مقطعاها على العدل الإلهي وتبرير وجود الشر والألم والموت في هذا العالم).

قلنا في التمهيد السابق إن المشكلة الكبرى في الأدب والفكر البابلي (بل في الشرق بوجهٍ عام حتى اليوم) هي مشكلة العدل؛ فقد ظل البابلي ينظر إلى آلهته التي تُجسِّد الظواهر الطبيعية الخارقة وتُشخِّصها نظرة الإجلال والخشوع والخضوع، فلما بدأ عقله في تصوِّر غايةٍ أخلاقية أو هدف إنساني للكون برزت المشكلات والأسئلة الكبرى: إذا كان مجمع الآلهة — الذي يدبر شئون الدولة أو الأسرة الكونية — يحكم العالم بالعدل، فلماذا يتعذب الصالحون والأبرار الخيرون؟ وإذا كان الفرد يستطيع أن يستردَّ حقه من المحكمة التي يعرض عليها مظلمته، فلماذا لا ينال من الآلهة جزاء تقواه وفضيلته وإخلاصه في أداء الشعائر وتقديم الأضاحي؟ لقد كان بينه وبينهم منذ القِدم — بل منذ الخلق الأول من الدم والطين — عهد أو عقد يلزمه بخدمتهم وعبادتهم وتدبير طعامهم وشرابهم مقابل أن يمنحوه بركتهم، ويفيضوا عليه وعلى أهله نعمة العافية والرخاء، والخلاص من شياطين المرض والبلاء، فإذا أخل الآلهة بهذا العهد، وأداروا ظهورهم لمدينته، وخرجوا غاضبين من بيته، ووجد المحن تنقضُّ عليه دون ذنبٍ جناه، فلماذا لا يكون من حقه أن يحاسبهم؟ ولماذا لا يبلغ به السخط إلى حد التجديف والتمرُّد عليهم؟ لا بد أن المشكلة قد بدأت مع ظهور الشرائع والقوانين التي تُنظِّم الحقوق والواجبات وتُحدِّد أنواع الثواب والعقاب منذ الأسرة أو السلالة السومرية الثالثة في «أور» (نحو سنة ٢١١٢ق.م.) وبلغت ذروتها في عهد حمورابي (١٧٩٢–١٧٠٥ق.م.) ثم استفحل خطرها في العصر الكاسي أو الكشي (من نحو ١٥٧٠ إلى نحو ١١٥٧ق.م.) الذي استمر أربعة قرون على وجه التقريب، وكان عصر بؤس وفقر وتخلُّف، حكم فيه ملوكٌ أجانب لا حظ لهم من مجد حمورابي، وتفشى فيه إحساس المحكومين بالقنوط والاستسلام. وتجلَّت أوضح مظاهر القنوط والاستسلام في التشكُّك والتساؤل عن العدل الإلهي، والشعور بأن التقوى والصلاح لا يضمنان حماية الإنسان من الابتلاء بالفقر والمرض والاضطهاد وغدر الأصدقاء والرؤساء، وأن العقاب الذي يحل بالأخيار والأنقياء لا يقوم على ذنب أو جريمة اقترفها هؤلاء الأبرياء، وإن كان الحكماء يبررونه للتعساء بجهل الإنسان بمقاصد الآلهة وأسرارها الخافية عن عقولهم المحدودة، ويبدو أن الناس في ذلك العصر وبعده كانوا يرون بأعينهم ما يصيب الصالحين كل يوم من أسباب الشقاء والظلم؛ مما ساعد على شيوع الشك واليأس من عدالة مجمع الآلهة ومن شتى القيم التي فقدت قيمتها.

مهما يكن الأمر فإن هذا الجو السائد في العصر الكشي والقرون التي تلته يمكن أن يكون له دور في نشأة النصوص التي ذكرناها والتي يُرجَّح أن بعض أجزائها وأفكارها يرجع إلى عصور ومراحل أقدم منها (والملاحظ أنه ليس لدينا دليلٌ حاسم على زمن تأليفها وإن كان الأستاذ لامبرت يؤكد أن نص «لدلول» يرجع للعصر الكشي، ويرجح رجوع الحوار بين المعذب والصديق لعصرٍ لاحق، ونشأة الحوار بين السيد والعبد خلال الألف الأولى قبل الميلاد)، والمهم أن النصَّين الأولَين يدوران — كما رأينا من قبلُ — حول شكوى البار التقي الذي يصاب بالمِحن والآلام دون أن يعرف ذنبه، كما يؤكدان أن الآلهة البعيدة هي وحدها التي تعرف طريق الخير والشر وأن الإنسان لا يمكن أن يعرف خطيئته إلا إذا شاءت الآلهة أن تكشف له عن سرها. وما دام الإنسان عاجزًا عن معرفة طريق الخير والشر أو معرفة ذنبه وجريرته، فلا عجب أن يقف أمامهم موقف المتهم ويقاسي الآلام نتيجة جهله وعجزه، ولا عجب أيضًا ألا تنتهي مناجاة المعذب في النص الأول وحوار المعذب مع صديقه الحكيم في النص الثاني إلى حل أو تبريرٍ شافٍ لمشكلة الشر على الرغم من وعيهما الحاد بالظلم الاجتماعي؛ ولهذا يهوي الثاني في لُجة اليأس ويُقرِّر التخلي عن كل المسئوليات الاجتماعية واختيار حياة التشرُّد والضياع، بينما يلوح في النص الأول أملٌ بعيد في أن تخفَّ آلام المعذَّب مع مرور الزمن، بعد أن بصَّره صديقه بحكمة الآلهة وضرورة التسليم بها، وحذَّره من مغبَّة التجديف عليها بالتخلِّي عن النظم والقيم والمؤسسات الأخلاقية والاجتماعية المقدسة التي أوجدتها إرادة الآلهة وقدَّستها وأنزلتها إلى الأرض بعد الطوفان.

ونعود إلى نصِّنا الدرامي فنسأل: هل تلوح فيه بارقة من هذا الأمل البعيد على الرغم من تشاؤمه القاتم أو من سخريته المُرة؟

إن المؤلف أو السيد البابلي يفقد الأمل في النهاية في كل شيء وكل فعل، ويرى — قبل سليمان الحكيم بقرونٍ عديدة — أن الكل باطل وقبض الريح: التقرب من القصر والبلاط ومتع الأكل والصيد، العشق وتكوين الأسرة وإنجاب الأطفال، التصدق على المساكين، والتبرع للصالح العام، ورفع الدعاوى في المحاكم ودور القضاء، حتى الثورة ليس لها طعم في فمه ولا يجد في نفسه رغبة ولا همة للقيام بها، هل نعجب بعد ذلك إذا فاجأه العبد — الذي دأب على موافقته بالدوران الدائم مع قطبي الرحا — بأن الخير الوحيد الباقي هو الموت؟! لكن السيد يفاجئنا بدوره برفض فكرة الانتحار والموت بدقِّ العنق أو الغرق! فهل نستنتج من هذا الرفض أنه لم يفطن إلى النتيجة المنطقية الخطيرة المترتبة على تشاؤمه أو سخريته؟ أم أن الأمر كله لم يخرج عن كونه دعابة درامية زادت على حدِّها حتى فوجئت بنهايتها الحتمية؟

لن يمكننا التوصل إلى إجابةٍ وحيدة عن هذه الأسئلة، فالإشارة السريعة في ختام الحوار إلى عجز السيد عن الحياة ثلاثة أيام بعد موت عبده، وعجزه قبل ذلك عن تصديق فكرة الانتحار، ورفضه أن تكون هي المخرج الوحيد من حيرته، كل ذلك يجعلني أميل إلى القول إن النص يسمح بشعاع من الأمل الذي ينفذ من ظلمات اليأس.

ربما يكون هو الأمل الذي لا تستغني عنه الحياة — في لحظات الاحتضار — في جيلٍ قادم ينقذ ما يمكن إنقاذه، جيل يعيد البناء على أسسٍ جديدة، ويبث الحياة في القيم البالية أو يضع قيمًا حيةً باقية.

حوار السيد والعبد (أو حوار التشاؤم …)

(١) [أيها العبد، أنصت إليَّ].
– «ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا».
(٢) [أسرع، أحضر] المركبة وجهِّزها١١٤ لأذهب إلى القصر.
(٣) [اذهب يا سيدي، اذهب.] … سيكون لأجلك١١٥
(٤) (…) سيُسامحك.
(٥) [لا يا عبد، لن أذهب إلى القصر].
(٦) [لا تذهب] يا سيدي، لا تذهب.
(٧) (…) … سوف يرسلك١١٦ (…).
(٨) وسيجعلك تسلك [طريقًا] لا تعرفه.
(٩) وتقاسي العذاب ليل [نهار].
(١٠) «أيها العبد، [أنصت] إليَّ».
– «ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا».
(١١) «أسرع [بإحضار] الماء لأغسل يدي كل أتناول غدائي».
(١٢) «تغدَّ يا سيدي، تغدَّ، فتناوُل الغداء مرة بعد مرة يريح الذهن.»
(١٣) (…) وجبة إلهه، إن شمش يشارك الأيدي الطاهرة.١١٧
(١٤) «لا [يا عبدي]، لن أتغدى قطعًا».
(١٥) «لا تتغدَّ يا سيدي، لا تتغدَّ».
(١٦) الجوع والأكل، العطش والشرب يصيب الإنسان.١١٨
(١٧) عبدي، أنصت إليَّ.
– «ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا».
(١٨) «أسرع وأحضر المركبة وأعدَّها لأنطلق إلى الريف.»١١٩
(١٩) «انطلق يا سيدي» انطلق؛ فالصياد يملأ جوفه.
(٢٠) وكلاب الصيد ستكسر عظام [الفريسة].
(٢١) وصقر الصياد سيهبط [عليها]،
(٢٢) والحمار الوحشي الذي يعدو مسرعًا (…).
(٢٣) «لا يا عبدي، لن [أنطلق] أبدًا إلى الريف.»
(٢٤) «لا تفعل يا سيدي، لا تفعل.»
(٢٥) إن حظ الصياد مُتقلِّب:
(٢٦) ستكسر أسنان كلب الصيد،
(٢٧) [ويرجع] صقر الصياد إلى مسكنه في … … [الجدار].
(٢٨) [ويلجأ] الحمار الوحشي المسرِع لمأواه في النجود و[المرتفعات].
(٢٩) «أيها العبد، أنصت [إليَّ]»
– «ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.»
(٣٠) «سأبني [بيتًا وأنجب]١٢٠ أطفالًا.»
(٣١) ليكن لك بعض [الأطفال يا سيدي]، ليكن لك بعض [الأطفال]، [فالرجل الذي يبني] بيتًا (…).
(٣٢) (…) باب يسمى «الفخ».
(٣٣) (…) قوي، ثلثاه ضيف [متهاوٍ].
(٣٤) (…) سأحرق، أذهب وأعود.
(٣٥) سأستسلم لمعذب [الذي يضطهدني].
(٣٦) «إذن فاستسلم يا سيدي، استسلم».
(٣٧) «كذا، كذا، سأبني بيتًا.»١٢١
– «لا تبنِ بيتًا.»
(٣٨) فالرجل الذي يتبع هذا السبيل يهدم بيت أبيه.١٢٢
(٣٩) «يا عبد، أنصت لي.» – «ها أنا ذا يا سيدي، [ها أنا ذا].»
(٤٠) «سأقود ثورة.» – «قُدْ ثورة يا سيدي، قد [ثورة].»
(٤١) إن لم تَقُد ثورة، فمن أين تأتي ملابسك؟
(٤٢) من سيساعدك على ملء بطنك؟
(٤٣) «لا يا عبدي، لن أقود ثورة أبدًا.»
(٤٤) «من يقود ثورة فإما أن يقتل، أو يُسلخ جلده،
(٤٥) أو تسمل عيناه، أو يُلقى القبض عليه، أو يُرمى في السجن.»
(٤٦) «أيها العبد، أنصت إليَّ.» – «ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.»
(٤٧) «سوف أعشق امرأة.» – «اعشق يا سيدي، اعشق؛
(٤٨) فالرجل الذي يعشق امرأة ينسى الحزن والخوف.»
(٤٩) «لا يا عبدي، لن أعشق امرأة بتاتًا.»
(٥٠) لا تعشق يا سيدي، لا تعشق.
(٥١) المرأة شرك١٢٣ جحر، حفرة.
(٥٢) المرأة خنجر حديدي حاد يحز رقبة الرجل.
(٥٣) «يا عبدي أنصت لي.» – «ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.»
(٥٤) «أسرع، أحضر ماء ليديَّ، وقدمه إليَّ.
(٥٥) لكي أُضحِّي لإلهي.» – «ضحِّ يا سيدي، ضح؛
(٥٦) فالرجل الذي يضحي لإلهه يرضى عن الصفقة؛
(٥٧) إنه يبادل قرضًا بقرض.»
(٥٨) «لا يا عبد، لن أضحي مطلقًا لإلهي.»
(٥٩) «لا تضحِّ يا سيدي، لا تضحِّ،
(٦٠) يمكنك أن تعلم إلهك أن يجري وراءك كالكلب،
(٦١) سواء سألك أن تقدم له الطقوس أو [سألك] ألا تطلب النصيحة من إلهك، أو أي شيء آخر.»
(٦٢) «أيها العبد، أنصت إليَّ.» – «ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.»
(٦٣) «سوف أقدم القروض [كما يفعل] الدائن.» – «اقرض يا سيدي، [اقرض]؛
(٦٤) فالرجل الذي يقرض [كما يفعل] الدائن — يبقى قمحه هو قمحه، بينما تزداد فائدته زيادة عظيمة.»
(٦٥) «لا يا عبدي، لن أقرض مطلقًا كما يفعل الدائن.»
(٦٦) «لا تقرض [أحدًا] يا سيدي، لا تقرض؛
(٦٧) فالإقراض كعشق [امرأة]، واسترداد [القروض] كإنجاب الأطفال [أو المخاض]،
(٦٨) سيأكلون قمحك [أو حبك] ولا يكفون عن صب اللعنات [عليك]،
(٦٩) ويحرمونك من الفوائد [التي تنتظرها] من غلتك.»١٢٤
(٧٠) «أيها العبد، أنصت إليَّ.» – «ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.»
(٧١) «سأقدِّم خدمة عامة إلى بلدي.» – «قدِّم يا سيدي، قدم؛
(٧٢) فالرجل الذي يقدم خدمة عامة إلى بلده،
(٧٣) توضع أعماله في حلقة مردوخ.»١٢٥
(٧٤) «لا يا عبدي، لن أقدم على الإطلاق خدمة عامة إلى بلدي.»
(٧٥) «لا تقدم يا سيدي، لا تقدم.
(٧٦) اصعد فوق أكوام الخرائب القديمة، وتمشَّ هناك
(٧٧) انظر لجماجم الأعلَين والأدنَين.
(٧٨) [هل تتبين] مَن كان المحسن فيهم ومن المسيء؟».١٢٦
(٧٩) «أنصت يا عبدي، أنصت.» – «ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.»
(٨٠) «ما الخير إذن؟»
(٨١) «الخير أن يدق عنقي وعنقك.
(٨٢) وأن نلقى في النهر.
(٨٣) من ذا الذي طالت قامته حتى ارتفع إلى السماء؟
(٨٤) من ذا الذي اتسع منكباه حتى احتضن العالم السفلي؟»١٢٧
(٨٥) «لا يا عبدي، سأقتلك وأرسلك أنت أولًا [إلى هناك].»
(٨٦) «لن يحتمل سيدي العيش بعدي ولو ثلاثة أيام.»
١  راجع كتابه: من ألواح سومر، ترجمة الأستاذ طه باقر ومراجعة الدكتور أحمد فخري، مكتبة المثنى ببغداد، والخانجي بالقاهرة (١٩٧٥)، ص٢٠٧–٢١٤.
٢  استفدت في هذا النص من الترجمتين الرائعتين اللتين قام بهما المرحوم الأستاذ طه باقر عن كتاب كريمر السابق الذكر، والمرحوم الدكتور فيصل الوائلي عن كتابٍ آخر للمؤلف نفسه وهو «السومريون»، تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم! …
٣  يلاحظ أن الجزء الأول من اللوح شديد الاضطراب ومليء بالفجوات التي طمست منه ما يقرب من أربعين سطرًا، وقد أورد الأستاذ «رينيه لابات» عشرة أسطر قال إنها اكتشفت حديثًا، على العكس من الأستاذ «لامبيرت» الذي لم يورد غير كلمتين في السطر الأول وترك الفجوة على ما هي عليه حتى السطر الحادي والأربعين. وإليك هذه الأسطر العشرة كما وردت في الترجمة العربية: أريد أن أمدح سيد الحكمة، الإله (الفطن)/والذي يغضب الليل، ولكنه ينشر «النهار» مشعًا،/مردوخ، سيد الحكمة، الإله (الفطن)، الذي يغضب الليل ويشيع النهار./هو الذي، مثل إعصار صاخب يشمل الكل بغضبه،/ولكن هبوبه أيضًا خير مثل نسيم الصباح!/غيظه لا يقاوم، وغضبه هو الطوفان،/ولكن قلبه يعود دومًا وفكره يثوب إلى الهدوء والعطف/هو الذي لا تستطيع السماوات احتمال صفعاته،/والذي راحة يده مهدئة ويُنعم على الموتى! (عن رينيه لابات، المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين، مختارات من النصوص البابلية، تعريب الأستاذين الأب ألبير أبونا والدكتور وليد الجادر، بغداد، جامعة بغداد وقسم الآثار بكلية الآداب، ١٩٨٨، ص٣٩٤.)
٤  يلاحظ كما تقدم الفعل religare في اللاتينية (الذي تنحدر عن المضاف إليه منه religio-nis كلمة الدين في اللغات الأوروبية الحديثة) يفيد معنى إعادة ربط شيء بشيء، وهو هنا ربط النسبي بالمطلق.
٥  أي أنه استشار فأله على يد العراف وكاهن الأحلام فوجده منذرًا بالقلق والنحس والاضطراب.
٦  يبدو أن هذا السطر يشير إلى نوع من العرافة التي كانت مألوفة في العصور القديمة، إذ كانت الأقوال التي يسمعها الإنسان مصادفة تفسر على أنها علامات منبِئة بحظه المواتي أو حظه المشئوم (عن تعليق الترجمة العربية السابقة الذكر، هامش رقم ١، ص٣٩٥). ويلاحظ أن ترجمة روبرت بفايفر «في كتاب بريتشارد السابق الذكر، ص٤٣٤» لم تُبقِ من هذا اللوح الأول إلا على ثلاثة سطور.
٧  أو سأجعله يُفرِغها أو يَسكبها.
٨  أو على أملاكه وما خزنه واستودعه.
٩  تكمل الترجمة العربية عن لايات هذا السطر على النحو التالي: يضطهدان الروح الذي يحميني.
١٠  لعل المقصود أنه أصبح من الضعف والهوان بحيث يتجرأ صبيٌّ صغير أو مريدٌ مبتدئ في الكهانة أو فتًى تافهٌ أخرق على التعدي عليه بعد أن كان قويًّا صاحب هيبة ومَنعة …
١١  أي كان يتبختر في مشيته مثل السادة وأصحاب السلطة والجاه وكل «متاع الغرور» في ذلك الزمان وكل زمان.
١٢  أي صار الناس يتغامزون عليه كلما رأوه ويشيرون إليه بالأصابع كأنه مذنب.
١٣  أي أنه لا يلقى من بلده وأهله إلا كل حاقد عليه أو مُعادٍ له.
١٤  لا ندري شيئًا عن نوع هذا المجلس، وهل كان منعقدًا في البلاط أم في المحكمة أم في بيت السيد البابلي المبتلى؟
١٥  أي أن كل من يفتري عليه زورًا وبهتانًا ويشوِّه سمعته يُرقَّى للمناصب العالية (أو يحتل المنصة) …
١٦  أخطر ما في هذين السطرين أن البار المعذَّب يصل مثل خلفه أيوب العبري إلى حدود الثورة والتجديف على إلهه؛ فقد أصبح هذا الإله نفسه شريكًا في الظلم الواقع عليه، وصار يعاون مضطهِديه ويسلط الموت على كل من يحاول الوقوف بجانبه.
١٧  المعنى غامض، والنص متعذَّر القراءة، ولكن سياقه يوحي باستمرار الشكوى من تخلي الأعوان عنه واستيلاء الأوغاد والسفلة على كل أملاكه.
١٨  ربما يدل هذا التعبير المجازي على استيلاء الغرباء على حقوله أو تخريبهم لها بحيث انقطعت عنها صيحات الفرح وأغاني الزرَّاع في مواسم الحصاد.
١٩  يبدو أن هذين السطرين الأخيرين يُعبِّران عن الخوف والهلع الذي ظهر على وجه البار المبتلى والرعب من كيد أعدائه له …
٢٠  إشارة إلى الوقت الذي تستغرقه الأحزان والمصائب عادةً، وإلى أن الزمني يُفني كل شيء، ويبتلع كل حي.
٢١  أي لم يعرف أصل آلامه في الماضي، ولا استطاع بالطبع أن يكشف عن طالعه في المستقبل.
٢٢  أي لم يهدني سواء السبيل، ولعل رقيقو هو الوسيط الذي يتصل بروح الموتى من الأسلاف لكشف المستقبل كما جاء في ترجمة بفايفر (بريتشارد، ص٤٣٤).
٢٣  أي المعزم أو المعود.
٢٤  ربما كان المقصود أنه متهم بالتقصير في أداء الشعائر والطقوس في «يوم الإله»، والأعياد الشهرية.
٢٥  أو شعبه وناسه وأتباعه.
٢٦  أي أكل طعامه وتقاعس عن تقديم الطعام للآلهة؛ لأن تقديم الطعام لهم هو في الأصل سبب خلق البشر ودليل طاعتهم وخدمتهم.
٢٧  هذه إشارة صريحة إلى ارتباط العبادة بالربح والفائدة؛ مما يؤكد الحس العملي عند البابليين.
٢٨  تعبير عن خيبة أمله في اعتقاده بأن أعماله يمكن أن ترضي الإله، ولا يصح أن يفهم هذا على أنه تشكك في التدين في ذاته، بل على أنه اختلاف في مفهوم الخير والشر عند الإله وعند البشر.
٢٩  لعل المقصود أن خطط الآلهة عميقة لا يُسبَر غَورها.
٣٠  أي سبيلهم وشرعتهم.
٣١  هكذا في ترجمة «لامبيرت» التي اعتمد عليها بشكل أساسي، أما الترجمة العربية المذكورة آنفًا عن «رينيه لابات» فتذكر فتح الفم أو العينين وإغلاقهما (ص٣٩٩) وكلا التعبيرين على أية حال هو كناية عن تقلُّب الوضع البشري وتناقضه كما في ترجمة بفايفر: إن أمزجتهم تتغير مثل النهار والليل.
٣٢  حرفيًّا: أطلق سراحه عليَّ …
٣٣  كان هذا الصداع نتيجة نوع من الحمى التي يرد ذكرها في النصوص السحرية باسم «حمى أيعو» التي تصور البابليون أنها تتصاعد من العالم السفلي، وقد كانت تصاحبها علاماتٌ أخرى كالبثور والقُرح التي سيأتي ذكرها في النص بصورةٍ غير مباشرة ترجح أنها كانت حمى الجدري التي أصابت أيوب العبري أيضًا بصورة أنكى وأشد …!
٣٤  أي ترك عمق المياه أو الهاوية التي يسكنها …
٣٥  المقصود بالشبح الغلاب هنا هو شيطان ورد في نصوصٍ أخرى باسم «أوتوكو»، أما «إيكور» فهو في اللغة السومرية بيت الجبل أو عالم الجحيم السفلي مقام الشياطين التي تصعد منه إلى عالم البشر، مثل الشيطان الأنثى لاماشتو الذي يُذكر في السطر التالي.
٣٦  ربما يكون المغص هو المقصود بهذا التقلص أو التشنج المصحوب بالرعشة وتصبُّب العرق.
٣٧  أو العقم الذي يصوره الكاتب في صورة الذبول الذي نفذ في باطن التربة وخيَّم على الخضرة.
٣٨  أي أن جميع الشرور والأمراض قد هجمت عليه وضربت رأسه …
٣٩  كناية عن نوع من العشب الملتوي الذي انكفأ وجهه عليه.
٤٠  تذكرنا هاتان الصورتان بنصوصٍ مقدسةٍ عديدة عمن حلت عليهم لعنة الله، فالنبي أرميا يقول: اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون (أرميا، ٥: ٢١)، وفي القرآن الكريم آياتٌ عديدة: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (محمد: ٢٣)، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا (الأعراف: ١٧٩)، وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (الأعراف: ۱۹۸)، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ (الجاثية: ۲۳)، فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج: ٤٦) … وطبيعي أن يختلف السياق في كل نص وكل آية من الآيات الكريمة.
٤١  كناية عن فقدان الوعي.
٤٢  الباب المغلق والنبع المسدود يشيران إلى انغلاق الفم أو إلى انسداد الفتحات التي يتمكن بها الإنسان من التنفس والنطق والشرب …
٤٣  لعل المراد بهذا هو النزيف الدموي.
٤٤  لعلها قيود أو أغلال شُدت فيها رجلاه.
٤٥  في ترجمات أخرى: المهماز أو المنخاس.
٤٦  أو الكاهن الذي يطرد الأرواح الشريرة بالرقى والتعاويذ والتعزيمات السحرية.
٤٧  بعد ظلمات العذاب والألم والاضطهاد الذي أسرف المبتلى البار في الشكوى منها، يمكن أن يكون هذا البيت بمنزلة شعاع الأمل في الشفاء الذي سيمنُّ به مردوخ عليه وعلى كل أفراد أسرته ومعارفه وأصحابه. والغريب أن التعبير عن هذا الأمل نفسه على لسان أيوب: «أما أنا فقد علمت أن وليي حي والآخر على الأرض يقدم، وبعد أن يفنى جلدي هذا ولدون جسدي أرى الله» (سفر أيوب، ١٩: ٢٥-٢٦).
٤٨  يعود الضمير على مردوخ عظيم آلهة بابل الذي ترد صفاته المذكورة في نصوص دينية وأدبيةٍ عديدة (مثل ثقل اليد، غضب الوجه، ورهبة الصوت المرعد كالزوبعة أو العاصفة أو الطوفان …).
٤٩  أو الرعب والجلال — مع السطر التاسع يبدأ الحلم الأول من الأحلام التي يخلو فيها رسل الآلهة إلى المبتلى واحدًا بعد الآخر، ويلاحظ أن الأسطر التالية مخرومة إلى الحد الذي لا يسمح بمعرفة النبأ الذي أبلغه الرسول للمعذَّب المبتلى، ولكن يبدو أن محاولات التشفُّع له عند الملك والبلاط والمعبد تبدأ مع هذا الحلم.
٥٠  أو الأثل.
٥١  يرد هذا الاسم في الترجمة العربية عن «لابات» وفي ترجمة بفايفر على هذه الصورة: «طاب-أوتول-أنليل»، وظاهر أن الاسم الأول سومري، والثاني أكدي بابلي، ومعنى الاسم الأصلي في السومرية هو: «طيب هو صدر أنليل».
٥٢  أو الرخاء والازدهار.
٥٣  أو بين يدي شافٍ.
٥٤  أو على شعبي وناسي وذوي قرباي.
٥٥  أي سكن وهدأت أنفاسه بعد الغضب والثورة.
٥٦  أو دعائي وتضرعاتي.
٥٧  واضح من هذه السطور الخمسة المخرومة أن مردوخ قد شفى المتألم البار من مرضه وغفر ذنوبه، ونجاه من العقاب الإلهي الذي تحمله بصبر وشجاعة، ربما قلل منهما كثرة شكواه وإسرافه في التوجع والأنين.
٥٨   من كسرة لوح وُجد في مدينة سيبار، وتحتوي على ٣٦ سطرًا، تتكرر منها أربعة سطور (١٨، ١٩، ٣٠، ٣٣) في مخطوطة مكتبة آشور-بانيبال.
٥٩  أي ردَّ الشيطان الذي لا يقاوم — وهو أو توكو — إلى مكانه في بيت الجبل أو العالم السفلي.
٦٠  في الترجمة العربية السابقة الذكر: أزاله مثل الندى الليلي، وفي ترجمة بفايفر (ص٤٣٦): أزاح «الدموع» التي تجري من عينيَّ وأبعدها عني.
٦١  أو الغبرة التي كانت عليه.
٦٢   تختلف آراء العلماء حول هذا اللوح وهل ينتمي في الأصل للقصيدة أم هو مجرد تعليق عليها.
٦٣  هو نهر الموتى في العالم السفلي.
٦٤  هي زوجة الإله مردوخ إله بابل الأكبر.
٦٥  ربما كان هذا السطر نداء إلى البشر الفانين لتمجيد مردوخ.
٦٦  من هنا تبدأ فجوة تشمل أكثر من ثلاثين بيتًا يمكن أن نتصور بعين الحدس أنها استمرت في تمجيد الإله «مردوخ» والإلهة «صاربانيتوم»، وربما تكون قد مهدت لزيارة المعذب في الأبيات التالية لمعبد «الإيزاكيل» في بابل للشكر والتبرك والتوبة … وأرورو المذكورة في السطر رقم ٤٠ هي خالقة البشر وأخت أنليل إله الهواء والعواصف الرهيب الغضوب.
٦٧  يمكن أن يُفهم منها أيضًا أحسن أنواع الأرز والحبوب المنتقاة …
٦٨   تُغيِّر ترجمة بفايفر من عنوان هذه القصيدة الحوارية فتجعله: «حوار حول الإنسان» (ص٤٣٨ من كتاب بريتشارد).
٦٩  Theodicée.
٧٠  راجع عنه لكاتب هذه السطور: المونا دولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي، مع دراسة عن فلسفة ليبنتز، القاهرة، دار الثقافة، ١٩٧٤، وكذلك دراسة الدكتور فؤاد زكريا لمذهبه في الذرات الروحية ضمن كتابه: آفاق الفلسفة، بيروت، دار التنوير، ١٩٨٨، ص١٦٧–١٩١.
٧١  يؤكد الأستاذ رينيه لابات، في كتابه عن المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين، أن هذا الاسم مثبت في لائحة تاريخية للحكماء الكبار تضعه في زمان نبوخذ-نصر الأول (١١٢٤–١١٠٣ق.م.) وادد-أبلا-أيدينا (١٠٦٧–١٠٤٦ق.م.). والمهم على كل حال أن هذا النص الهام من نصوص الحكمة الدينية والأدبية البابلية قد كُتب في الألف الأول أو في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد (راجع كتاب لابات السابق الذكر في ترجمته العربية للأستاذين الأب ألبير أبونا والدكتور وليد الجادر، بغداد، جامعة بغداد، قسم الآثار بكلية الآداب، ١٩٨٨، ص٣٨٣-٣٨٤).
٧٢   وبوجهٍ أخصَّ في سنوات «الانفتاح» الأخيرة؛ إذ خلا الجو للصوص القوت والقيم والثقافة، فوجدناهم يجمعون الثروات الخيالية التي أدت إلى الخلل في البناء الاجتماعي، وإلى ظواهر المحنة الحضارية التي نعيشها اليوم (جرائم الإدمان وسرقة المال العام والتزوير وخراب الذمم … إلخ)، كما سمحت بتسليط أضواء الدعاية والإعلام على عددٍ غير قليل من النرجسيين المتضخِّمين وطلاب الشهرة المريضة والجهلة والمتطفِّلين على الأدب والفن والفكر.
٧٣  أي كان أصغر إخوته.
٧٤  أو عقلك وقلبك.
٧٥  هو نهر الموت في العالم السفلي.
٧٦  ربما كانت المصادفة أو القدر هي الكلمة الأصلية في مكان الكلمة المطموسة.
٧٧  أي ذهبتْ طمأنينتي واستقراري.
٧٨  هكذا في ترجمة لامبيرت، ولعلها الخمر بوجهٍ عام أو الجعة بخاصة.
٧٩  حرفيًّا: إن فمي مراقَب.
٨٠  ربما كان المقصود من هذا التعبير المجازي: أنك جعلت حكمك الصائب يضرب كالأعمى في التيه …
٨١  لعل المعذب يقصد هنا أنه تابع إقالة الصديق بانتباه.
٨٢  نوع من الحمر الوحشية.
٨٣  أي الكاهن الذي يبلغ الناس بإرادة الإلهة.
٨٤  أو من الطحين تقدمه للآلهة لتسكين غضبهم.
٨٥  أي باركها بتقواه … والإلهة مامي المذكورة في السطر ٥٣ أو مامه ومامينو هي إلهة أكادية من آلهات العالم السفلي وإحدى زوجات نرجال — إله العالم السفلي — وتجسد في الأصل القسم، كما تقوم بدور القاضية وتقرر مصير البشر المحتوم، ولا علاقة لها بالإلهة الأم ماما.
٨٦  أو المُقعَد الكسيح. ومن الواضح أن الذين هم أسوأ منه قد قُدِّموا عليه أو شغلوا المنصب الذي كان يشغله.
٨٧  لعلَّ المقصود هو الشرائع والأحكام السديدة.
٨٨  أي بعيدة خافية وعميقة غامضة كالسماء.
٨٩  ربما كان المقصود أنها تُعجِز البشر وتستعصي عليهم لبُعدها عنهم.
٩٠  الكلام عن البشر، ولعل المقصود هو الموضوعية أو الغيمة الأساسية التي تؤكد أن فكرهم ضيقٌ محدود (كما قال «جوته» في قصيدة الهجرة من ديوانه الشرقي).
٩١  سأطؤها بقدمي …
٩٢  أي سيدع ماءه يجري، والمعنى غامض على كل حال … وهو في ترجمة بفايفر: دعني أحفر نبعًا، وأُطلق ماءً …
٩٣  أي سيطرق كل سبيل بحثًا عما يسدُّ رمقه …
٩٤  في الترجمة العربية عن «لابات»: سأعود إلى بيتي، وفي تقديري أن هذا تصرُّف يتنافى مع سياق النص، وترجمة بفايفر أقرب إلى ترجمة لامبيرت التي نعتمد عليها: دعني أدخل كالشحاذ.
٩٥  أي أن السعادة والرخاء والهناء قد ابتعدت عنه، وزادت كربته وغربته الاجتماعية والنفسية والكونية إلى حد تعطيل إرادة الحياة والامتناع عن الإنجاب كما سيرد في السطور التالية. وترجمة بفايفر «ص٤٤٠ من كتاب بريتشارد» تورد هذا السطر على النحو التالي: العقد: الجمال الذي تلهَّفت عليه …
٩٦  واضح من هذه المقطوعة المليئة بالفجوات أن «المغترب، المعذب يحتج على السنن الطبيعية» من زواج أو إنجاب متعلِّلًا بأن الغدر سُنة الحياة الطبيعية وأن وحوش البشر يمكن أن تفتك به وبأبنائه مثل الوحوش الطبيعية سواء بسواء … ولنا أن نسأل أنفسنا هنا — مع الانتباه بطبيعة الحال إلى الفوارق الهائلة في السياق التاريخي والاجتماعي والفكري … إلخ — هذا السؤال: ألا يذكرنا هذا بفلسفة شوبنهور عن ضرورة تعطيل إرادة الحياة ونفيها أو تأجيلها وإسكاتها على الأقل في لحظات الإبداع الفني؟ لست ممن يحبذون أمثال هذه المقارنات (راجع التمهيد)، ولكني مع ذلك لم أستطع أن أقاوم إغراء السؤال!
٩٧  لعل المقصود هو الجائع والمعدم المحروم الذي اعتاد العيش على قضم النباتات؛ فأصبح يأكل كما يأكل النبلاء والسادة.
٩٨  قارن هذه المقطوعة، أو ما بقي منها، بشكوى «إيب أور» وما انطوت عليه من تفجُّع على انقلاب القيم والأوضاع الاجتماعية في فترة الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي سبقت قيام الدولة الوسطى في مصر القديمة.
٩٩  تفسر ترجمة «لابات» ضمير الغائب بانها هي الموسيقى التي كانت تتبع خطاه، ومع أن هذا اجتهادٌ مقبول وشائق، إلا أن المتبقي من النص لا يساعد عليه. والواضح من سياقه أن الصديق الحكيم يُعزِّي صاحبه المبتلى بأن الأوغاد الذين اكتنزوا الثروات الطائلة بطرقٍ غير مشروعة مآلهم إلى الخراب والهلاك. ومع ذلك يبدو من المقطوعة التالية أن عزاءه لم يكن مقنعًا؛ لأن واقع الحال على أيامه لم يكن أقل قسوة مما هو عليه، في أيافا (بعد أن أوشك شطار العصر أن يمسكوا بمقاليد كل شيء، ويحكموا على العاملين في صمت باليأس والموت كمدًا، ويتطاولوا على أمور الثقافة والفن والعلم بغير معرفة، ولا ضمير، حتى لم يسلم الدين نفسه من أذاهم واستغلالهم له).
١٠٠  أو كالعُتلِّ الزنيم.
١٠١  أي للفقراء والمحتاجين، وتأمَّلْ حاضرنا على ضوء السطور التالية.
١٠٢  أي أن عقل الإله أو قلبه بعيد عن البشر بُعد أعماق السماوات. ويلاحَظ تكرار هذا المعنى، بألفاظه نفسها تقريبًا، على مدار القصيدة.
١٠٣  هي أخت الإله أنليل إله الهواء والعواصف «وخالقة البشر».
١٠٤  المقصود من سياق النص ومن أبياتٍ سابقة أن المولود البكر أضعف صحة من الأبناء الذين يأتون بعده.
١٠٥  ربما كان المقصودون هم سادة الشعب وعظماءه الذين تمرَّسوا على القتل والظلم.
١٠٦  هو أحد أسماء الإله أنليل.
١٠٧  أي جبلها وسوَّاها كما يفعل صانع الفخار الذي «يُقرِّص» الطين، وزولومار اسم آخر للإله إيا.
١٠٨  أي النطق بكلامٍ مرتبكٍ منحرف عن جادة الصدق والصواب، ويلاحظ أن افتراء الكذب والغيبة والنميمة من أرذل الرذائل عند سكان أرض الرافدين القدماء كما تشهد على هذا كل نصوص الحكمة.
١٠٩  أي يسيئون معاملته كأنه لص، لا لشيء إلا لأنه فقير. (قارن هذا بما يحدث اليوم!)
١١٠  أو يُخمِدون أنفاسه كما تُخمَد الشعلة الملتهبة.
١١١  أي مشى في ساحات المدينة دون أن يُحدِث ضجة أو يلفت أحدًا إليه.
١١٢  أي لم أتحذلق كما يفعل العبيد بين زملائي، ولم أتظاهر بالتدين شأن المنافقين.
١١٣  يلاحظ أن الإله شمش كان إله العدل بجانب كونه إله الشمس؛ ولذلك سمي الراعي وشمس الشعوب؛ بسبب ما كان يتمتع به من شعبية كبيرة، ويحتمل أن يكون الكاتب قد أضاف هذا البيت الأخير الذي لا ينسجم مع البيت السابق عليه ولا مع المعنى العام للنص لكي يتسنَّى له إرسال القصيدة إلى الملك بغية استرضائه أو تملُّقه. وقد كان الملك في تقاليد أدب المناظرات عند السومريين هو الذي يقوم في الغالب بدور الحكم في المنازعات التي كانت تنشب بين المتناظرين.
١١٤  أو شد الفرس إليها، وأَحكِم ربطه فيها.
١١٥  ربما يكون المعنى: سيكون تحت تصرُّفك أو سيكون الذهاب إليه نافعًا لك.
١١٦  لعل المقصود هنا هو الملك أو إلهه الخاص أو إلهٌ آخر يمكن أن يرسله إلى حيث لا يريد.
١١٧  أي أن الإله شمش نفسه يبارك الأيدي المغسولة الطاهرة ويرعاها.
١١٨  ربما يكون المقصود أنها حالات تطرأ على الإنسان وتعاوده، ولو فهمنا النص فهمًا عدميًّا متشائمًا لكان لسان حال العبد يقول: وماذا أفاد منها الإنسان؟!
١١٩  الريف المفتوح أو الرحب، وفي ترجمة أخرى: لأذهب إلى الصيد أو إلى الحرب.
١٢٠  أو سأُكوِّن أسرة.
١٢١  أو سأُكون أسرة.
١٢٢  يبدو أن الفقرة السابقة قد شابها الاضطراب، ويحتمل أن يكون السطران الخامس والثلاثون والسادس والثلاثون مأخوذين عن فقرة أخرى مفقودة عن التقاضي واللجوء للمحاكم، وثمة مخطوطة أخرى للنص نفسه تختتم فيها الفقرة السابقة بسطور يمكن أن تكون بديلًا عن السطور الأخيرة على الصورة التالية: (٢) الزم الصمت يا سيدي، الزم الصمت (…). (٣) لا يا عبدي، لن [… ألزم الصمت …]. (٤) «لا تبقَ صامتًا». (٥) إنك إن لم تفتح فمك (…). (٦) فسيقسو عليك مضطهدوك قسوة الوحوش (…).
١٢٣  في ترجمة بفايفر: بئر (راجع كتاب بريتشارد، ص٤٣٨).
١٢٤  وهذه قراءةٌ أخرى للفقرة السابقة:
– «أيها العبد، أنصت إليَّ.»
– «ها أنا ذا يا سيدي، ها أنا ذا.»
– «سأقرض الطعام لبلادي.»
– «اقرض يا سيدي، اقرض؛
فالرجل الذي يقرض الطعام لبلاده تزداد غلته [قمحه] زيادة عظيمة.»
– «لا يا عبدي، لن أقرض الطعام لبلادي.»
– «لا تقرض يا سيدي، لا تقرض؛ سيأكلون قمحك،
وينقصون من الفائدة على غلتك، ولا يكفون بجانب هذا عن لعنك.»
١٢٥  أي سيكافئه عليها ويجازيه خيرًا بخير.
١٢٦  تذكرنا هذه العبارات بعباراتٍ مشابهة في ملحمة جلجاميش.
١٢٧  أو حتى ضمَّ الأرض كلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤