نصائح ونواهٍ
(أ) إرشادات شوروباك
-
(١)
[شوروباك] قدم الإرشادات لابنه،
-
(٢)
[شوروباك]، ابن أوبارتوتو،
-
(٣)
قدم الإرشادات لابنه زيوسودرا،
-
(٤)
يا [ولدي]، إني أُقدِّم لك إرشادي، فخُذْ إرشادي،
-
(٥)
يا زيوسودرا، كلمة أريد أن أقولها لك، فأَعِرْ أُذنك لكلمتي،
-
(٦)
إرشادي لا تهمله،
-
(٧)
كلمتي المنطوقة لا تخرج عنه.
فسد البشر وصعد شرهم إلى السماء؛ فسلطتَ عليهم الطوفان الذي اكتسح الأرض وأهلك الزرع والنسل. لكن شاءت رحمتها أن تحذر رجلًا واحدًا من المصير الذي قضيتَ به على جنسه كله؛ فأمرته أن يصنع الفلك التي ستنجيه وأهله ومئونته ومن كلٍّ زوجين اثنين، وسواء أكان هذا الرجل هو «نوح» الذي نعرفه من سفر التكوين ومن القرآن الكريم، أو كان هو «أوتا-نابيشتيم» الذي نلقاه في اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجاميش، أو هو «أتراحاسيس» بطل الملحمة البابلية المعروفة بهذا الاسم، أو الملك «أكسوثروس» الذي تجلَّى له الإله «خرونوس» في الحلم وأخبره بنبأ الطوفان وأمره ببناء سفينة وكتابة ألواح عن بدايات كل شيء وأواسطه ونهايته (كما نرى في رواية بيروسوس من القرن الثالث قبل الميلاد عن الطوفان)؛ فالمهم في هذا الموضع أن الرب أو الأرباب الذين استفزهم وأثار غضبهم فساد البشر وإزعاجهم قد اصطفوا ذلك الرجل وعشيرته وحيواناته ونجوه من الدمار، ولم يحرموه كذلك ولا حرموا نسله من حكمتهم التي ألهموه بها وأجروها على لسانه. ففي سفر التكوين من التوراة ينزل الرب أوامره وتعليماته عن إباحة دم الحيوان وعدم إراقة دم الإنسان، وفي لوحٍ سومريٍّ قديم نقرأ الإرشادات التي ورد ذكرها في صدر هذا الكلام على لسان «شوروباك» ابن «أوبارترتو» التي وجَّهها إلى ولده «زويوسودرا» الذي يبدو أنه هو نوح السومري.
ونرجع للأب المجهول أو المعلم الغريب الذي تُنسب إليه هذه الإرشادات التي أوصى بها ابنه في زمن الطوفان. فشخصية شوروباك الغامضة لم تظهر — كما سبقت الإشارة إلى ذلك — في معظم قوائم الملوك السومريين، كما أن اللوح الحادي عشر (من ملحمة جلجاميش) الذي ترد فيه قصة الطوفان، ورواية بيروسوس من العصر الهليني، لا يعرفان شيئًا عنه، ولكن النص نفسه من حيث بنيته ومضمونه يوحي بأنه واحد من أولئك المتنبِّئين والمنذرين الذين يظهرون في أوقات المحن والشدائد ليحذروا البشر من تكرار المصائب والأهوال التي ألمَّت بهم. لقد كان شرهم هو سبب الطوفان؛ إذ أفسدوا في الأرض وكثر شرهم كما ذكر سفر التكوين (الإصحاح السادس) وأزعجوا الآلهة وحرموهم نعمة النوم والسكون كما في ملحمة الخلق وملحمة «أترا-حاسيس» البابليتين؛ ولذلك لم يكن للسماء أن تتركهم بغير نذير، والسؤال الذي فرض نفسه هو هذا السؤال: لماذا لم يأتِ هذا النذير على لسان بطل الطوفان نفسه، كما نعرف من نوح في سفر التكوين والقرآن الكريم؟ إن «أوتانابشتيم» في جلجاميش لم يكن ليصلح لذلك؛ إذ يتضح من اللوح الحادي عشر أنه وزوجته وحدهما هما اللذان نجوا من الطوفان ورُزقا نعمة الخلود، والأمر نفسه يصدق على ملحمة أترا — حاسيس؛ ولذلك فلا جدوى من إلقاء نصحهما وتحذيرهما — بعد فناء البشر الذين لم يبقَ منهم أحد غيرهما — إلى سمع العلم أو المجهول. وتبقى رواية «بيروسوس» التي نعرف منها أن الإله اليوناني الذي تجلَّى للملك في الحلم قد علَّمه أن يُدوِّن «البدايات والأواسط والنهايات» على الألواح ويدفنها في مدينة الشمس «سيبار» ليعثر عليها الناس بعد الطوفان، ولا بد أن إرشادات «شوروباك» كانت تعدُّ على أيام «بيروسوس» جزءًا من هذا الكنز المخبوء. بيد أن روايته لا تخلو من التناقض؛ إذ ما الداعي لإخفاء الألواح في الوقت الذي يقول فيه إن سفينة الملك كانت تحمل عددًا آخر من البشر غير الملك والمقربين منه، وأن هؤلاء البشر قد عمروا الأرض بعد الطوفان؟!
وأخيرًا ربما جاز القول: إنَّ «شوروباك» كان معلمًا ابتُدعت شخصيته لتقال هذه الإرشادات على لسانه حكمة وموعظة للبشر، أو لعله كان إحدى الشخصيات المرموقة من تاريخٍ سابق على زمن الطوفان، ولأمر ما لم يشأ الكاتب أو الناقش المجهول أن ينسب إرشاداته لأبيه «أوبارتوتو».
والبقية الباقية من وجه وظهر الترجمة البابلية للنص السومري السابق الذكر مليئة بالفجوات مما لا يعطي معنًى متكاملًا؛ ولذا آثرنا عدم إيرادها.
(ب) نصائح حكيمة
- (أ)
من ١٩–٢٥ عن تجنب رفاق السوء.
- (ب)
من ٢٦–٣٠ عن الكلام المستهجن.
- (جـ)
من ٣١–… تجنُّب المشاجرات ومهادنة الأعداء.
- (د)
من …–٦٥ العطف على المحتاجين.
- (هـ)
من ٦٦–٧١ الترغيب عن الزواج من الأمة.
- (و)
من ٧٢–٨٠ أخطاء الزواج من عاهرة.
- (ز)
من ٨١– … آداب الوزير في خدمة أميره.
- (ﺣ)
من … –١٣٤ الكلام غير اللائق.
- (ط)
من ١٣٥–١٤٧ فروض الدين ومزاياه.
- (ي)
من ١٤٨–… خداع الأصدقاء.
يناقش العلماء مشكلة المؤلف الذي يمكن أن تنسب إليه هذه المجموعة على ضوء المعلومات الشحيحة عنها. وقد استبعدوا أن تكون إرشادات «شوروباك» — التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة — جزءًا منها، وأخذوا يتساءلون عن شخصية ذلك الناصح المجهول الذي يعظ مجهولًا آخر ويخاطبه بقوله «يا بني» (السطر ٨١).
والحقيقة أن صيغة هذا النداء تتردد في أدب الحكمة في الشرق الأدنى القديم (ويكفي أن نتذكر حكم بتاح حوتيب ونصائحه الشهيرة من أواخر الأسرة السادسة في مصر القديمة)، لم يكن من الضروري في كل الأحوال أن تكون موجَّهة من والد إلى ولده؛ إذ يمكن أن تكون صيغةً أدبية لجأ إليها الكاتب، أو تعبيرًا اصطنعه مُعلم يُكلِّم تلميذه (على نحو ما يفعل بعض أدبائنا الذين يضمون حكمهم وأمثالهم وانتقاداتهم اللاذعة لأوضاع المجتمع والسياسة والأدب على لسان المعلم الشيخ الذي يُوجِّه حديثه لتلميذه الفتى كما فعل طه حسين في «جنة الشوك»، أو تكون في النهاية أسلوبًا اتخذه الكاتب في مخاطبة القارئ).
وإذا نظرنا في القسم الذي يبدأ مع السطر الواحد والثمانين بصيغة النداء «يا بني» وجدناه ينطوي على نصيحةٍ صادرة من شخصٍ مرموق إلى ولده الذي ينبغي أن يتخلَّق بأخلاق الوزراء لكي يخلفه في منصبه؛ ولذلك يمكن أن يتبادر إلى الظن أنها مقصورة على دائرة أو نخبةٍ محدودة، على العكس من بقية النصائح التي يبدو أنها تهمُّ غالبية الناس، ومع ذلك فلا شيء يمنع من أن تكون المواعظ كلها بمنزلة تحذيرات يلقي بها أب إلى ابنه الذي ينتظر أن يشغل مكانه في خدمة الحاكم، لعله يستمع إليها فيتأدب بآداب الوزراء ويتحاشى ما يشينهم ولا يليق بسمعتهم.
مهما يكن الأمر في حقيقة الأب والابن اللَّذين لا تسمح المعلومات القليلة عن هذا النص بكشف النقاب عنها، فيمكن القول إنه يضم نصائح «رجلٍ حكيم»، وأن هذه النصائح والمواعظ التي صيغ أغلبها على هيئة حكم مُكثَّفة قد انتقل معظمها أو بعضها إلى التراث الشعبي الشفاهي والمدون، وربما تمتعت بالشهرة والانتشار في دوائر محدودة على أقل تقدير.
أما عن زمن تأليف هذه النصائح الحكيمة فيُرجَّح أن يكون في عصر متأخر عن الدولة البابلية القديمة، ويرجح الأستاذ «لامبيرت» أن يكون هو العصر الكشي (من نحو ١٥٠٠ق.م. إلى نحو ١٢٠٠ق.م.) وذلك استنادًا إلى روح التقوى والتدين العميق الذي يسري فيه، كما يرجح أن يكون مؤلفه قد أخذ عن تراث شفاهيٍّ شائع، أو اعتمد على نماذجَ وتقاليدَ راسخةٍ من أدب الحكمة في وادي الرافدين. وإليك النص الكامل لهذه النصائح الحكيمة، أو بتعبيرٍ أدقَّ لما أمكن التوصل لقراءته منها:
(ﺟ) نصائح متشائم
دونت هذه النصائح على لوحٍ صغير مستطيل الشكل، ويبدو أنها مقتطف من عملٍ أدبيٍّ أكبر، وهي على هيئة خطاب مُوجَّه إلى شخصٍ معين، أو ربما كانت موجهة ببساطة إلى القارئ، وهي تتألف من واحد وثلاثين سطرًا، تتعذر قراءة السطور التسعة الأخيرة منها التي نُقشت على ظهر اللوح، والسطور الثلاثة الأولى لا يستشف منها أي معنى، أما من الخامس إلى العاشر فالدلالة على فناء الحياة البشرية وزوال فاعلية البشر واضحة كل الوضوح، ولا بد أن الكاتب المجهول الذي دوَّن هذه النصائح قد أدرك هذا «الوضع» أو «الموقف» الإنساني كما نُعبِّر اليوم، فأخذ ينصح قارئه — أيًّا كانت طبيعة هذا القارئ ومنصبه وجاهه وانتماؤه — بأن يستمر في أداء الفروض الدينية ولا يهمل مهامه وأعماله الزراعية، وهو يؤكد له أن التبتُّل لآلهة المدينة (ومن الغريب أنه لا يذكر إلهه الشخصي) يؤدِّي إلى إنجاب الخلف الصالح، كما يُزوِّده فيها ببعض النصائح التي يستحيل تعرُّف معناها عن معاملة أطفاله (في السطرين الخامس عشر والسادس عشر)، ويتغير الموضوع على حين فجأة؛ فيتجه إلى التحذير من الأحلام السيئة أو الكوابيس! ويشرح الحكيم المتشائم ذلك (في السطر التاسع عشر) بأن القلق والعناء هما المسئولان عن تلك الأحلام المزعجة. ويختم الحكيم توجيهاته بتوصية قارئه بأن يعيش حياةً خالية من الهموم.
من العسير تحديد تاريخ هذه النصائح، ولكن يمكن القول إنه ليس متأخرًا عن عصر الملك الآشوري «آشور بانيبال» الذي وُجدت بين نفائس مكتبته الشهيرة (٦٥٠ق.م.)، كما يستبعد العلماء أن يكون سابقًا على عصر الأسرة أو السلالة الأولى للدولة البابلية القديمة.
والحق أن البقية الباقية من النص لا توحي — في تقديري على الأقل — بأن مؤلفه رجل متشائم؛ إذ إن تأكيد «الفناء» أو «التناهي» كما يقول فلاسفة الوجود المعاصرون، لا يدل على التشاؤم بقدر ما يكشف عن تبصُّر هذا الحكيم البابلي القديم بمأساة الوضع أو الشرط البشري بوجهٍ عام.
(د) نصح ونذير لأمير
كثيرًا ما صور المؤرخون ملوك وادي الرافدين القدماء في صورة المستبد الشرقي الذي يركب أهواءه ويشتط في طغيانه بلا قيد ولا حدٍّ، وربما قابلوا بينهم وبين ملوك الحيثيين الذين كان القانون سياجًا يطوِّق إرادتهم، أو أنبياء العهد القديم الذين كانوا يُعنِّفون ملوكهم على إساءة استخدم السلطة، وهذه النصائح التي كُتبتْ على لوحٍ وحيد وجد في مكتبات الملك آشور بانيبال تصحح تلك الصورة التي لم تسلم من المبالغة؛ فهي تُحذِّر ملكًا أو أميرًا بابليًّا من مغبَّة ظلم رعاياه، وتنذره بالعقاب الإلهي الذي ينتظره من جرَّاء اضطهاده لهم وبغيه عليهم. وهي لا تكتفي بذلك بل تمد التحذير والنذير إلى ضباطه وعساكره؛ حتى لا يرتكبوا إثمًا في حق السكان الآمنين في بعض المدن البابلية.
والنصائح مكتوبة بالأسلوب الذي كانت تُكتَب به النبوءات للتحذير مما سيقع في المستقبل أو للتبشير به. ويبدو أن شكل النبرة كان أنسب شكل أدبي يمكن أن يصاغ فيه النصح أو التحذير الموجَّه إلى ملك أو أمير، فمعظم عباراته تبدأ بالجمل الشرطية «إذا الملك …» لكي تلفت انتباهه إلى العواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب على فعله أو فعل أعوانه، كما تتردد فيها بعض الصيغ والتراكيب النمطية المستعارة من النبوءات، مثل القول بأن بلده سيتمرَّد عليه أو أن الوضع القائم فيه سيتغير، بالإضافة إلى غلبة الكتابة التصويرية على النص حيث تشيع كتابة الكلمات على هيئة مقاطع في غيره من النصوص.
ومن الواضح أن الهدف من النص هو حماية حقوق المواطنين من سكان سيبار ونيبور (نفر) وبابل، وتأمينهم من شر السخرة وفرض الغرامات والضرائب الباهظة عليهم، ومن تجريدهم من ممتلكاتهم أو إساءة استغلالها، ويقترح بعض الباحثين إرجاع النص إلى العصر الآشوري المتأخر، استنادًا إلى تصريح الملك الآشوري سرجون الثاني (من نحو ٧٢١–٧٠٥ق.م.) في نقوشه بأنه قد اتخذ هذه الإجراءات نفسها مع المدن السالفة الذكر؛ ولذلك يرى «بيل» أن الملك المقصود بالنصيحة هو «ميردواخ-بالادان» الكلداني الذي وقف كهنة تلك المدن في وجهه، بينما يَفترِض «دياكونوف» أن يكون هو الملك الآشوري (سينحاريب ٧٠٤–٦٨١ق.م.) الذي اشتهر بسياسته المعادية للبابليين. غير أن العبارات الواردة في النص توحي بأن الشر الذي يمكن أن يحيق بتلك المدن سيصيب الملك أيضًا، كما يفهم من دلالة كلمة «الأجنبي» التي يستخدمها أنه لم يكن من الملوك الأجانب؛ ولذلك يصعب التسليم بأنه كان كلدانيًّا أو آشوريًّا. وليس من المستبعد أن يكون أحد الملوك البابليين الذين لم يكن لهم حظ من الشهرة والقوة؛ فاتبع من رعيته سياسة الابتزاز والاضطهاد، ولجأ إلى طلب العون من الكلدانيين والآشوريين ليستر ضعفه ويظهر في صورة الملك العظيم. ولعله أن يكون قد عاش — كما يقول الأستاذ لامبيرت — في فترةٍ زمنية تقع بين سنة ألف وسنة سبعمائة قبل الميلاد.
(١) إذا [تراخى] ملك عن إقامة العدل، فسوف يلقي شعبه في الفوضى (والاضطراب) وتخرب بلده.
(٢) إذا لم يرعَ العدل في بلده، فسوف يغير «أيا» ملك الأقدار (٣) من مصيره، ولن يكف عن ملاحقته بالأذى.
(٤) إذا لم ينتبه لنبلائه، فسوف تختصر حياته.
(٥) إذا لم يهتم [بما يقوله] ناصحه، فسوف يثور بلده عليه.
(٦) إذا قرَّب منه محتالًا، فسوف يتغير «الوضع القائم» في بلده.
(٧) إذا أخذ بحيلة [من حيل] «أيا» فلن يتوقف الآلهة العظام (٨) مجتمعين وبطرقهم العادلة عن إدانته.
(٩) إذا وضع مواطنًا من سيبار بغير حق في السجن وأفرج (في المقابل) عن أجنبي، فسوف يقيم شمش، قاضي السماء والأرض في بلده قضاءً أجنبيًّا لا يراعي الأمراءُ ولا القضاة فيه العدل.
(١١) إذا أحضر إليه مواطنو نيبور [نفر] للقضاء [في أمرهم] فقَبِل هدية وسجنهم بغير حق (١٢) فسوف يُسلِّط عليه أنليل سيد البلاد جيشًا أجنبيًّا (١٣) يذبح جيشه؛ (١٤) فيهيم أميره وكبار ضباطه في شوارعه مثل الديوك المتحاربة.
(١٥) إذا أخذ فضة سكان بابل وأضافها إلى خزائنه، (١٦) أو إذا سمع بدعوى مقامة على رجال بابل واستخفَّ بها (١٧) فإن مردوخ، سيد السماء والأرض، سيسلط عليه أعداءه (١٨) ويسلم أملاكه وثروته لعدوه.
(١٩) إذا فرض غرامة على أهالي نيبور [نفر] وسيبار أو بابل، (٢٠) أو إذا وضعهم في السجن، (٢١) فسوف تدمَّر المدينة التي فرضت عليها الغرامة تدميرًا تامًّا، (٢٢) ويشق جيش أجنبي طريقه إلى السجن الذي حبسوا فيه.
(٢٣) إذا عبأ جميع [سكان] سيبار ونيبور [نفر] وبابل (٢٤) وفرض السخرة على الشعب، (٢٥) وألزمه — على لسان المنادي — بالعمل بغير أجر (٢٦) فسوف يقوم مردوخ، حكيم الآلهة وأميرهم وناصحهم (٢٧) بتسليم بلده لعدوِّه (٢٨) بحيث تجبر قوات بلاده على أداء أعمال السخرة لعدوِّه؛ (٢٩) لأن الآلهة العظام، آنو وأنليل وأيا (٣٠) الذين يسكنون السماء والأرض، قد قرروا في مجمعهم إعفاء هؤلاء الناس من أمثال هذه الأعباء. (٣١)، (٣٢) إذا أخذ العلف الذي يملكه أهالي سيبار ونيبور وبابل [وقدَّمه] لخيوله [الخاصة] (٣٣) فإن الخيول التي أكلت العلف ستُساق إلى نير العدو ويعبأ هؤلاء الرجال مع رجال الملك عندما يُجنِّد الجيش الأهالي تجنيدًا إجباريًّا.
(٤١) إذا استولى على (…) قطيع أغنامهم، (٤٢) فسوف يستأصل آدو، وهو المشرف على القنوات في السماء والأرض، (٤٣) بالجوع ماشيته، (٤٤) ويجمع التقدميات [القرابين والأضحيات] لشمش.
(٤٥) إذا الناصح [المشير] أو كبير المشرفين في [بلاط] الملك وجه الاتهامات إليهم [أي لأحد مواطني سيبار ونيبور وبابل] وحصل بذلك منهم على الرشا، (٤٧) فإن الناصح وكبير المشرفين (٤٨) سيموتان بالسيف، (٤٩) ويتحوَّل مقرُّهما إلى خرابة، (٥٠) وتذرو الريح بقاياهم، وتسلم أعمالهم (التي أنجزوها) للعاصفة.
(٥٥) إذا راعٍ، أو مشرف على المعبد، أو أحد كبار المشرفين [في بلاط] الملك (٥٦) الذي يتولى تدبير شئون المعبد في سيبار ونيبور أو بابل، (٥٧) فرض السخرة عليهم [أي على سكان هذه المدن] [للقيام بأعمال] تتعلق بمعابد الآلهة الكبار، (٥٨) فإن [هؤلاء] الآلهة العظام سيعمدون في سَوْرة غضبهم إلى ترك مساكنهم (٥٩) ولن يدخلوا [بعد ذلك] هياكلهم.
تراتيل للآلهة
(أ) ترتيلة لنينورتا
ظهر اللوح
(ب) ترتيلة للإله شمش
تعد هذه الترتيلة — التي تتألف في جميع «مخطوطاتها» من مائتي سطر مدونة على أربعة أعمدة — من أجمل التراتيل وأكبرها حجمًا، ولا شك أنها كانت تُتلى مع الطقوس الدينية، وإن كان من المستبعد أن تكون قد استخدمت كمعظم التراتيل الدينية على صورة أدعية للرُّقى والتعاويذ والنبوءات.
والترتيلة موجَّهة إلى الشمس «شمش» الذي كانت له منزلته في الفكر الديني في وادي الرافدين، كما كانت له كذلك شعبيته باعتباره إله العدل (راجع المدخل العام للحكمة البابلية في هذا الكتاب) وإن لم يبلغ مقام الآلهة الكبرى مثل «مردوخ» في الدولة البابلية الأولى أو «نينورتا» في أواخر العصر الآشوري الأوسط، والمهم في هذا السياق أن الترتيلة تُسبِّح بحمده والثناء عليه بوصفه واهب النور للكون (من السطر الأول إلى السطر العشرين)، ثم باعتباره الإله الذي يشمل بعنايته كل المخلوقات (من السطر الواحد والعشرين إلى السطر الثاني والخمسين)، ويكشف الأسرار ويرعى المحتاجين إلى عونه (من الثالث والخمسين إلى الثاني والثمانين).
أما عن تاريخ هذه الترتيلة فلا نكاد نعرف عنه شيئًا؛ فالألواح الطينية التي وصلتنا منها تنتمي للعصر الآشوري المتأخر، باستثناء «مخطوطة» غير كاملة من أواخر العصر البابلي عُثر عليها في مدينة الإله شمش نفسه وهي «سيبار». وقد وُجدت خمس نسخ منها بين كنوز مكتبات الملك الآشوري آشور بانيبال (حوالي سنة ٦٥٠ قبل الميلاد)؛ مما يؤيِّد الرأي السائد بأنها كانت تُتلى بكثرة في الطقوس الدينية لذلك العصر، كما كانت ألواحها تُستَغل في تمريض التلاميذ والمتعلمين على فنون الكتابة والتدوين، شأنها في ذلك شأن بعض النصوص الأدبية والدينية العريقة مثل لدلول (أيوب البابلي)، وملحمة الخلق أو التكوين، وملحمة إيرا (إله الأوبئة والدماء) وغيرها.
وقد محَّص العلماء أوجه التشابه والتناظر في العبارات والمصطلحات الأدبية والتجارية بين هذه الترتيلة وغيرها من النصوص الدينية والملحمية والأدبية ونصوص الحكمة والتعزيم والنبوءات. ولعل كاتب الترتيلة أو كُتَّابها قد استعاروا بعض النصوص والصيغ البديهة والمتحجرة (أكليشيهات) من نصوص أخرى سابقة؛ مما يدل على سطوة التقاليد الأدبية في الشرق بوجهٍ عام، واعتماد الكُتَّاب والأدباء على التراث القديم، بيد أن النصوص الأصلية توحي على الدوام بنضرة الأصالة التي تُفتقد عادةً في النصوص المتأخرة التي تحاذيها وتنسج على منوالها؛ ولهذا السبب يستبعد الأستاذ لامبيرت (ص١٣٣ من كتابه عن الحكمة البابلية) أن يرجع تاريخ هذه الترتيلة إلى العصر البابلي القديم (باستثناء القسم الخاص بالتجار وأحوالهم ومتاعبهم)، ولا شك أن العجز عن تحديد تاريخٍ دقيق للترتيلة لا يقلل في شيء من قيمتها التاريخية والأدبية الرفيعة.
ولا شك كذلك في أنها تُذكِّرنا بالنشيد المشهور الذي يُسبِّح فيه الملك المغترب المثقف إخناتون بحمد إلهه الواحد آتون أو قرص الشمس، إن المقارنة بينهما مُغرية، وربما تلقي الضوء على اختلاف روح التدين عند المصريين القدماء في الدولة الحديثة وعند البابليين المتأخرين، ولكنها تبعد بنا عن السياق الذي نحن فيه.