قلبان يحترقان
كانت سعيدة منذ مرض سلمى تبالغ في التقرب إليها والتظاهر بالتفاني في خدمتها، وهي على يقين من أن مرضها ليس إلا نتيجة لانقطاع سليم عن زيارتها. وكانت تتوقع أن تكاشفها سلمى بأمرها بعد أن وثقت بها، وحينئذٍ تنتهز الفرصة لتحملها على إغفال شأن سليم وقطع علاقتها به إلى الأبد، لتمهد بذلك لتحقيق رغبة سيدتها وردة في تزويجه بابنتها إميلي.
على أن سلمى رغم ثقتها بسعيدة واستئناسها بالتحدث معها بقيت حريصة على كتمان أمرها مع سليم، ومضت الأيام وسعيدة لا تجد الفرصة للتحدث معها في شأنه.
فلما جاء سليم وأعطاها ذلك الخطاب لتسلِّمه لسلمى، خشيت أن يكون فيه ما يعيد العلاقة بين الحبيبين إلى ما كانت عليه من الصفاء، ولا يبقى لها بعد ذلك سبيل إلى النجاح في مهمتها، فلما عادت إلى المنزل، أبقت الخطاب معها دون أن تسلمه لسلمى. ثم غادرت المنزل بعد قليل، وتوجهت مسرعة إلى منزل داود صديق سيدتها وردة لكي تطلعه على ذلك الخطاب وتستشيره فيما تصنع به.
ولاحظت سعيدة على داود دلائل القلق والارتباك منذ وقعت عيناها عليه بعد وصولها إلى منزله، وسألته في ذلك فقال لها: «نعم إني في قلق شديد، لأني تلقيت الآن خطابًا من الإسكندرية بوساطة البريد، فلما فضضته وجدته موجهًا إلى سليم من والدته، تدعوه فيه إلى موافاتها في الإسكندرية في أقرب وقت مستطاع.»
فقالت سعيدة: «إن سيدتي وردة هي التي تكتب بخطها خطابات والدة سليم، فهل هذا الخطاب ليس بخطها؟»
قال: «إنه بخطها من الداخل والخارج كالمعتاد، وهذا هو الذي يقلقني.»
فلم تفهم سعيدة مراده واستوضحته الأمر فقال لها: «إنني أخشى أن تكون سيدتك قد كتبت خطابين في وقت واحد، أحدها لسليم باسم والدته وهو هذا الذي تلقيته الآن، والآخر لي لكنها أخطأت أيضًا ووضعته في الظرف الذي كتبت عليه عنوان سليم. ولعل فيه من الأسرار ما كان يجب ألا يعلم به سليم.»
فقالت سعيدة له: «هذه ظنون ووساوس لا ينبغي الاسترسال فيها، ولن تمضي أيام معدودة حتى يتضح الأمر ونقف على حلِّ هذا اللغز. ومن يدري فلعل سيدتي أرسلت إليك صورة من الخطاب الذي أرسلته إلى سليم باسم والدته لتكون على علم به. وعلى كل حال قد جئتك الآن بما هو أهم، فدع تلك الظنون والأوهام جانبًا؛ لكي تشير عليَّ بما يجب أن أصنعه.»
ثم أخرجت الخطاب الذي تسلمته من سليم وقالت: «لقد جاء سليم منذ ساعة في عربة وقف بها قرب منزل سلمى، ثم أرسل السائق يدعوني إليه وسلمني هذا الخطاب كي أسلمه لسلمى يدًا بيد، وحذرني أن أذكر عنه شيئًا لأي أحد سواها. ثم انصرف في العربة التي جاء فيها وعلى وجهه آثار الضعف والانقباض.»
فتناول داود الخطاب وفضَّه وأخذ في قراءته، وما أتمه حتى تنهد وتهلل وجهه فرحًا وقال لسعيدة: «لقد ساق إلينا الحظ بهذا الخطاب أكبر خدمة، ولا يكاد يصل إلى يد سلمى وتطلع على ما فيه حتى يتحقق ما نرجوه من نجاح مهمتنا، ولا يبقى هناك أي أمل في عودة العلاقات الودية بين سلمى وسليم.» ثم شرح داود لسعيدة ما تضمنه خطاب سليم، وأعاد الخطاب إليها بعد أن لصق ظرفه كما كان، وأمرها أن تعجِّل بتسليمه إلى سلمى.
•••
كانت والدة سلمى قد لاحظت خروج سعيدة من المنزل، فلما وجدت أن غيبتها طالت أكثر من العادة قلقت عليها، وما كادت تراها عائدة بعد ساعة حتى سألتها عن سبب خروجها وغيابها، فتنهدت سعيدة وقالت لها: «إن المخدم أرسل يدعوني إليه، وأخذ يتهددني لأني التحقت بالخدمة في منزلكم دون علمه، فذكرت له أني لا أعمل خادمة عندكم، ولكنكم رثيتم لحالي وعطفتم على شيخوختي فآويتموني في داركم وأوسعتموني برًّا وإحسانًا. لكنه لم يصدقني وعاد يهددني بأنه يعرف كيف ينتقم مني. فلم أعبأ بتهديده، وتركته يسب ويتوعد ورجعت إلى المنزل مسرعة لأكون في خدمة سيدتي سلمى وخدمتكم جميعًا.»
فصدقتها والدة سلمى وأعجبت بإخلاصها وحسن تخلصها من المخدم، وقالت لها: «هكذا كل المخدمين، ولكن لا يهمك هذا الأمر.»
ثم سارعت سعيدة إلى غرفة سلمى، فوجدتها مضطجعة في سريرها وقد امتقع لون وجهها وذبل جمالها، وعيناها مغرورقتان بالدموع. فأدركت أن هذا بسبب مقاطعة سليم لها وعدم رده على خطابها الأخير إليه، لكنها تجاهلت وأخذت تعتذر من تخلفها عن خدمتها بعض الوقت وتسألها عن صحتها فقالت سلمى: «أشعر بأني أسوأ حالًا مما كنت، والحمد لله على كل حال.»
فتظاهرت سعيدة بالتأثر الشديد، ثم أخذت تجاذبها الحديث إلى أن قالت لها: «يلوح لي يا سيدتي أن مرضك ليس كأمراض أكثر الناس.» وتنهدت.
فعجبت سلمى من هذه العبارة ونظرت إليها متسائلة، فقالت سعيدة: «لو أنه كان مرضًا عاديًّا لأفاد الدواء في علاجه، ولعله مرض نفساني سببه القلق واضطراب الفكر.»
فخفق قلب سلمى وكادت تبكي لانطباق هذا الوصف على حالتها، غير أنها أمسكت نفسها وقالت متجاهلة: «إن الشفاء بيد الله يا خالتي، وما قلقي واضطراب فكري إلا بسبب مرضي.»
فمالت سعيدة عليها وربتت وجهها متلطفة وهمست في أذنها قائلة: «لست ألومك على تكتمك يا بنيتي، فهكذا كل الفتيات المهذبات العاقلات. ولكنك لا تجهلين أننا معشر العجائز لنا من خبرتنا وتجاربنا ما ليس لغيرنا. كما أنك تعلمين مدى محبتي لك ورغبتي في سعادتك، فلو أنك كشفت لي سبب قلقك واضطرابك، فقد أستطيع أن أنفعك بمشورتي.»
فتنهدت سلمى، وهمَّت بأن تصرح بحقيقة أمرها لسعيدة، ثم غلب عليها حياؤها فأمسكت وسكتت.
وانتهزت سعيدة هذه الفرصة فواصلت همسها قائلة: «إن ما يراه الفتيات شيئًا خطيرًا يدعو إلى الحزن واليأس، قد يكون في كثير من الأحيان شيئًا تافهًا لا يدعو إلى شيء من ذلك. وقد طالما وقعنا في مثل ذلك في عهد الشباب، فكانت الدنيا لا تسع إحدانا لفرط فرحها وسرورها حين يصرح لها أحد الشبان بأنه أحبها وعلق بها آماله في المستقبل، ثم تروح على هذا الأساس تبني بخيالها قصورًا عالية، وتكرِّس وقتها كله للتفكير في فتى أحلامها المختار الذي ساقته إليها الأقدار، وما هي إلا أيام أو شهور ثم تنكشف لها الحقيقة، فإذا بها كانت ضحية للوهم والخيال، وإذا بذلك المحب المدنف الولهان قد تخلى عنها لأتفه الأسباب، أو لأسباب مختلقة يلفقها لكي يتخلص من عهوده معها ووعوده لها، ليعيد تمثيل الرواية مع فتاة أخرى.»
وكانت سلمى تصغي إلى كلام سعيدة إصغاءً تامًا، وتراه منطبقًا كل الانطباق على علاقة سليم بها. وبرغم ثقتها بإخلاص سعيدة وتعقلها، لم تستطع أن تتغلب على حيائها لتكاشفها بأمرها، واكتفت بتصعيد الزفرات.
وفيما هما كذلك سمعتا طرقًا على باب المنزل، فأجفلت سلمى إذ تذكرت زيارات سليم السابقة، وإن كان أملها ضعيفًا في أن يكون هو القادم. وخرجت سعيدة لترى من الطارق. ثم عادت بعد قليل إلى سلمى وقالت لها: «لقد جاءت الآنسة أدما ومعها أبوها وأمها، وهم الآن مع سيدتي والدتك في حجرة الاستقبال.»
ثم اقتربت منها وهمست في أذنها قائلة: «وهناك زائر آخر حسبته قدم معهم، ثم تبينت أنه جاء وحده ولم يشأ الدخول بل اكتفى بأن أعطاني خطابًا لأسلمه لك يدًا بيد.» قالت ذلك وهي تخرج خطاب سليم وتتلفت نحو باب الغرفة كأنها تحاذر أن يراها أحد.
فجف ريق سلمى في حلقها، وشعرت بأن قلبها يكاد يقفز من موضعه، وطفح العرق غزيرًا من جبينها، وتناولت الخطاب من سعيدة بيد مرتجفة، وقالت لها والدموع تنهمر من عينيها: «إنه من سليم، أليس كذلك؟» قالت: «نعم.»
ثم تسللت سعيدة خارجة من الغرفة وأغلقت بابها من الخارج، فأدركت سلمى أنها صنعت ذلك لتتيح لها قراءة الخطاب قبل أن تدخل عليها أدما وأمها لعيادتها. وازدادت إعجابًا بذكائها وتقديرًا لإخلاصها، غير عالمة بما تدبره لها من المكايد في الخفاء.
•••
ما كادت سلمى تطلع على خطاب سليم حتى اشتد ضعفها واضطرابها، فبردت أطرافها وأخذتها الرجفة حتى سقط الخطاب من يدها على الوسادة، وطارت الورقة الصغيرة الملحقة به ووقعت على الأرض، وهي الورقة التي وجدها سليم بين صفحات الرواية في منزل حبيب بحلوان، وحسب أنها مرسلة إليه من سلمى.
ولم تتمالك عواطفها المهتاجة فانفجرت باكية وأخذت تلطم وجهها قائلة: «وا فضيحتاه! وا أسفاه! ويل للمحتالين الخادعين الملفقين!»
وكانت سعيدة واقفة بباب الغرفة من الخارج، فسارعت إلى فتحه ودخلت متظاهرة بالارتياع وهي تقول: «ماذا بك يا سيدتي؟ لا بأس عليك!»
فانتبهت سلمى لنفسها، وارتمت على سريرها وهي تواصل التأوه والأنين، فقالت لها سعيدة: «هدئي روعك يا سيدتي وخفِّضي من صوتك حتى لا يسمع في غرفة الاستقبال وفيها والدتك مع أدما وأبويها.»
ولكن سلمى لم تستطع إمساك نفسها عن البكاء والعويل لفرط تأثرها، ثم أخذت الخطاب الملقى على الوسادة ووضعته في الظرف دون أن تفطن إلى الورقة الأخرى التي سقطت على الأرض، وبعد أن تأملته قليلًا دسته تحت حشية السرير، ثم تلفتت نحو باب الغرفة فلما وجدته مغلقًا، وسعيدة واقفة بجانب السرير وعليها أمارات التأثر الشديد، استوت جالسة فيه، وأخذت تمسح دموعها وتعض على نواجذها من الغيظ قائلة: «آه يا سليم! أهكذا آخرة الإخلاص والوفاء؟!»
فبادرت سعيدة بالانحناء عليها وأخذت تربت وجهها وكتفيها متظاهرة بأنها تغالب الدموع وقالت: «هوني عليك يا سيدتي، إن صحتك في حاجة إلى الهدوء.» ثم جاءتها بكوبة ماء وطلبت إليها أن تشرب قليلًا، ففعلت واضطجعت في سريرها وهي تغالب عواطفها، فهمَّت بها سعيدة وقبَّلتها قائلة: «إن من كانت في مثل عقلك ونضجك لا ينبغي لها أن تنساق مع تيار العواطف، وتقتل نفسها كمدًا وحزنًا.» ثم جلست على حافة السرير عند قدمي سلمى، وواصلت مواساتها والترفيه عنها محاولة خلال ذلك أن تحملها على اليأس من حب سليم، والاعتقاد بأن الشُّبَّان جميعًا لا أمان لهم ولا وفاء.
وفيما هما في ذلك طُرق باب الغرفة، ففتحته سعيدة. ودخلت أدما وأمها لعيادة سلمى، وقد عجبا لما لاحظاه عليها من النحول والذبول واصفرار الوجه كأنها مريضة منذ أعوام. فقبَّلتها كلٌّ منهما، ثم جلستا على مقعدين بجانب سريرها، وأخذتا تجاذبانها أطراف الأحاديث عن أعراض مرضها وأسبابه ومدى أثر الدواء الذي وصفه لها الطبيب، وما إلى ذلك، وهي متوسدة لا يظهر غير وجهها من تحت الغطاء.
ولاحت من أدما التفاتة إلى ما تحت المنضدة المجاورة للسرير، فوقعت عينها على ورقة يشبه لونها لون الورقة التي كانت قد كتبتها وأرسلتها إلى حبيب في البريد. فخفق قلبها، وانتهزت فرصة خروج سعيدة من الغرفة وانشغال أمها وسلمى بالحديث والتقطت تلك الورقة خفية، فما كادت عيناها تقعان على الخط الذي كتبت به حتى كادت تصرخ من الدهشة والجزع إذ تبينت أنها هي خطابها السالف الذكر إلى حبيب. وصورت لها وساوسها أن حبيبًا هو الذي جاء بخطابها إلى سلمى وتركه عندها، فاشتعل قلبها غيرة، وأنَّبها ضميرها على التسرع بمكاتبة حبيب وعلى تصديق دعواه في الحب والإخلاص. ولم تتمالك نفسها فأخفت الورقة في جيبها، ثم اعتمدت رأسها بيديها وأخذت تجهش بالبكاء.
وحسبت أمها أن بكاءها ليس إلا تأثرًا برؤية صديقتها سلمى مريضة. وكذلك اعتقدت سلمى نفسها، فدمعت عيناها والتفتت إلى أدما قائلة: «أتبكين يا أدما؟ لا لا، لا ينبغي أن تبكي. إن حالتي تستحق الرثاء، وأنا أشكر لك عاطفتك الرقيقة هذه. ولكن عليك أن تتجلدي وتصبري فليس في البكاء من فائدة!»
فلم تزدد أدما إلا بكاء وغيرة، إذ فهمت من عبارة سلمى هذه ما رجح ظنها.
وفيما هي كذلك سمعت طرقًا على الباب الخارجي للمنزل، ثم فتح باب الغرفة ودخلت أم سلمى وخلفها حبيب، فما كادت تراه وهي في تلك الحال حتى علا وجهها الاحمرار، وبردت أطرافها ولم تقوَ على النهوض لتخاذل ساقيها وارتجافها، ولم يكن هو يتوقع أن يجدها هناك فبدت الدهشة في وجهه وارتبك فلم يجد ما يقوله لها، واكتفى بأن حياها تحية خاطفة، ثم انصرف بوجهه عنها إلى سلمى وأخذ يسألها عن صحتها ويواسيها متمنيًا لها عاجل الشفاء.
وهنا لم يبقَ لدى أدما شك في أنه لا يحبها، وأنه كان يسخر منها حين أوهمها بذلك، فازداد اضطرابها وغيظها ولم يسعها إلا أن تتحامل على نفسها وتتسلل خارجة من الغرفة والدموع تنهمر من عينيها.
ولم تشأ أن تدخل غرفة الجلوس إذ تذكرت أن أباها في انتظارها ووالدتها هناك، وخجلت أن تبدو أمامه وهي في مثل تلك الحال من الجزع والاضطراب، فجلست على مقعد أمام الغرفة، وأطلقت لدموعها العِنان، وقلبها تتنازعه عوامل الحب والغيرة والندم والغيظ وحب الانتقام.
وبعد قليل، خرج حبيب من الغرفة ومعه والدة سلمى. ومرا بها دون أن يشعرا بوجودها هناك، وانتحيا ناحية وقفا يتهامسان فيها، فزادها ذلك شكًّا في براءة العلاقة بين حبيب وسلمى. ولم تطق البقاء في مجلسها فنهضت محنقة ودخلت غرفة الجلوس، وجلست متجلدة في ناحية منها تجاه أبيها، دون أن تنبس بكلمة.
ولم تمضِ دقائق حتى وافتهما والدتها، ثم والدة سلمى ومعها حبيب، وجلس الجميع يتبادلون الحديث عن مرض سلمى وتمنياتهم لها بعاجل الشفاء. ثم نهض حبيب وانصرف بعد أن حياهم مودعًا. ولاحظت أدما أنه لم ينظر إليها ولم يوجه لها أية كلمة، فتحققت صحة ظنونها واتهاماتها؛ فغلا الدم في عروقها، ولم تستطع صبرًا على كبت غيظها وحزنها، فتظاهرت بتوعك صحتها واستأذنت والديها في أن تسبقهما إلى المنزل لتعتكف وتستريح، ثم حيَّت والدة سلمى وانصرفت مسرعة لا تلوي على شيء.
•••
كان حبيب قد وصل إلى منزله في حلوان ومعه والدة سليم، ففوجئا بأن سليمًا غادر المنزل عند الأصيل ليتمشى بعض الوقت في الحديقة العامة، لكنه لم يعد.
ونزلت المفاجأة نزول الصاعقة على قلب أمه وعلى قلب حبيب، وعبثًا حاولت والدته وشقيقته أن تهونا الأمر على والدة سليم، وأن تقنعاها بأنه عوفي من مرضه ولعله عاد إلى القاهرة لأمر عاجل يتعلق بعمله ولا يلبث أن يعود. وأخيرًا رضيت أن تنتظر هناك ريثما يعود حبيب إلى القاهرة ويأتي بسليم منها.
وسارع حبيب إلى القاهرة، وتوجَّه إلى غرفة سليم فلم يجده فيها، لكنه علم بأنه أمضى فيها الليلة السابقة، فانصرف من هناك إلى البحث عنه، فلم يجده في المكتب ولا في غيره من الأمكنة التي يغشاها. ثم لاح له أن يسأل عنه في منزل سلمى، فمضى إلى هناك وهو في منتهى القلق والاضطراب، وحسبت والدة سلمى أنه جاء ليسأل عن صحتها، وقادته إلى غرفتها كي يعودها، ففوجئ بوجود أدما، ولم يستطع لشدة اضطرابه أن يحسن لقاءها، فتشاغل بالحديث مع سلمى والاستفسار عن صحتها. ثم انتهز فرصة خروج أدما وخرج ومعه والدة سلمى مودعة، فسألها عن سليم ولما علم بأنه لم يزرهم منذ أيام، لم يشأ أن يخبرهم بأمر مرضه واختفائه لئلا يزيد في قلقهم، وزعم أنه يبحث عنه لشأن خاص، ولعله سافر إلى خارج القاهرة لعمل يتعلق بمهنته. ثم غادر المنزل لمواصلة البحث عن سليم وقد اشتد قلقه عليه خشية أن يكون يأسه قد دفعه إلى الانتحار. ولم تكن أدما تدري شيئًا من ذلك كله فتوهمت أن حبيبًا تعمد تجاهلها واتخذت من ذلك قرينة تعزز اتهامها إياه.
ولما يئس حبيب من وجود سليم في القاهرة، عاد إلى حلوان راجيًا أن يجده سبقه عائدًا إلى هناك، لكنه ما كاد يصل إلى المحطة حتى لمح والدته ووالدة سليم في انتظار القطار، فسقط في يده. ولم يجد هو ووالدته تعليلًا مقنعًا لاختفاء سليم. وخيل لوالدته أن حبيبًا ووالدته يعلمان سبب اختفاء ولدها لكنهما يكتمانه إشفاقًا عليها، فازداد جزعها ولم تعد تستطيع صبرًا وتجلُّدًا، فأخذت تلطم وجهها وتصرخ مولولة لعظم فجيعتها بفقده، وهمَّت بيد حبيب محاولة تقبيلها وهي تقول: «لا تكتم عني شيئًا، قل إن سليمًا مات أو انتحر. آه يا ولدي وفلذة كبدي! لقد كنت أنا سبب فقدك، فليتني مت قبل هذا، أو ليتني لم أعارض رغبتك.» والتفَّ حولهم جمهور كبير من الهابطين من القطار والصاعدين إليه. واستمرت في لطمها وندبها وعويلها حتى تحرك القطار عائدًا إلى القاهرة فتعلق به حبيب وهو يقول لها: «ها إني راجع إلى القاهرة للبحث عنه ولن أرجع إلا وهو معي إن شاء الله.»
ولم يسعْ والدة سليم إلا أن تعود إلى منزل حبيب مع والدته في انتظار ما يكون. ولكنها لم تنقطع عن النواح، ولم ترضَ أن تذوق أي طعام.
•••
وصل سليم إلى الإسكندرية وهو في حالة يرثى لها من الضعف والاضطراب، وكان كلما حاول أن يتناسى سلمى وتصور ما وقف عليه من علاقتها بصديقه حبيب هاجت أشجانه وسخط على الحب والصداقة، غير أنه كان لا يلبث قليلًا حتى يعود بذاكرته إلى سابق عهده بسلمى وحبيب، وما لمسه فيهما من التفاني في المودة والوفاء. وهكذا لبث طول الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية نهبًا لهذه العوامل المتضاربة حتى كاد عقله أن يطير من رأسه لفرط تحيره وتردده.
واستقلَّ عربة أوصلته إلى المنزل الذي تقطنه والدته مع شقيقه فؤاد وقرينته. فلما قرع الباب فتحته خادم لا يعرفها وسألته عمن يريد، فحسب أن والدته وشقيقه انتقلا من ذلك المنزل، وسأل الخادم: «أليس هذا منزل الخواجة فؤاد؟» فقالت: «نعم، ولكنه خرج منذ قليل ولن يعود قبل ساعتين.»
فقال لها: «أليست والدته أو قرينته هنا الآن؟»
فسكتت قليلًا وهي تمعن النظر فيه، ثم قالت: «إن سيدتي قرينته هنا.»
وما أتمَّت جملتها حتى كانت قرينة فؤاد قد جاءت لترى مَن الطارق الذي أطالت الخادم الحديث معه، فلم تعرف سليمًا أول الأمر لشدة ضعفه وتغير هيئته. ثم عرفته فبادرت باستقباله مرحِّبة والدهشة تكاد تعقد لسانها، فدخل المنزل وساقاه لا تقويان على حمله وسألها: «أين والدتي؟ أليست هنا؟»
فدعته إلى الجلوس كي يستريح، وقالت له: «إنها سافرت إلى القاهرة لكي تراك، وهذا أنت قد جئت لكي تراها. أليس هذا من عجائب الاتفاق؟»
فأخذته الدهشة وقال: «سافرت إلى القاهرة لتراني؟ كيف ذلك؟ ومتى سافرت؟»
فقالت: «سافرت الليلة الماضية مع صديقك حبيب.»
قال وقد ازدادت دهشته: «أي حبيب؟ هذا غير ممكن! ما الذي يجيء بحبيب إلى الإسكندرية الآن؟»
فقالت: «لقد عدنا إلى المنزل مساء أمس أنا وفؤاد، فوجدناه هنا مع والدتك، وعلمنا منه أنك كنت مريضًا وما زلت في طور النقاهة. وبعد أن تناولنا العشاء جميعًا، اصطحب والدتك وعاد بها إلى القاهرة في قطار نصف الليل.»
فسكت سليم حائرًا، ولم يستطع الاهتداء إلى سبب مجيء حبيب. وأخيرًا دعته قرينة أخيه إلى النهوض لغسل رأسه وتبديل ثيابه. فنهض لذلك متثاقلًا وهو لا يستطيع إخفاء ما به من الدهشة والشك. وما كاد ينتهي من ذلك حتى عاد شقيقه فؤاد من عمله لتناول الغداء في المنزل. فتعانقا طويلًا، ثم جلسوا إلى المائدة جميعًا، وهم يتبادلون الحديث حول ذلك الاتفاق العجيب، وسليم أشد دهشة لأنه لم يكن يتوقع أن تزوره والدته في القاهرة بعد أن أنذرته بمقاطعته إلى الأبد في خطابها الأخير؛ ولأنه لم يهتد إلى سبب مجيء حبيب إليها دون علمه واصطحابه إياها إلى القاهرة.
وبعد الغداء، طلب فؤاد إلى سليم أن يتمدد قليلًا في الفراش للراحة من عناء السفر. فوافق على ذلك لكي يخلو إلى نفسه ويعاود التفكير في الأمر.
وقبيل المغرب، دخل فؤاد عليه غرفة النوم لإيقاظه، فإذا بالحمى قد عاودته فارتفعت درجة حرارته، وأخذته الرعشة، وتصبب عرقه غزيرًا. فجلس بجانبه يسأله عما به ويهوِّن عليه الأمر. ثم دعا زوجته وطلب إليها أن تكلِّف السيدة وردة باستدعاء طبيبها المعروف ببراعته لفحص سليم ومعالجته، فسارعت إلى إجابة هذا الطلب.
وبعد قليل، عادت زوجة فؤاد ومعها الطبيب وسيدتان لم يعرفهما سليم، فاقتربت كبراهما منه وهي في ثياب تنم عن الثراء والتبرج، وقبَّلته بحنان قائلة: «لا بأس عليك يا ولدي. لقد جزعنا جميعًا حين علمنا بأنك مريض في القاهرة، وكنت مصرَّة على مصاحبة والدتك في سفرها للاطمئنان عليك.» ثم التفتت إلى الطبيب وكان قد شرع في فحص سليم وقالت له: «أرجو يا دكتور أن تبذل أقصى عنايتك بعزيزنا سليم، فهو عندي في معزة إميلي ابنتي.» قالت ذلك وهي تشير إلى الفتاة التي دخلت معها. فعلم سليم أنها ابنتها، وعجب لمبالغتها في الاحتفاء به، ومعاملته كأنها تعرفه منذ عهد بعيد.
وبعد أن انتهى الطبيب من فحص سليم، التفت إلى تلك السيدة وقال: «اطمئني يا سيدتي، إنها حمى بسيطة لا خطر منها، ولكن يحسن أن يصحب تناول الدواء الذي سأصفه الآن، العناية بتبديل الهواء، أو الإقامة بمكان هواؤه نقي منعش مثل منطقة الرمل.»
فقالت: «هذا أمر سهل جدًّا يا دكتور، وأنت تعرف أن منزلنا في الرمل يمتاز بحسن الموقع. وبما أن والدته ليست هنا، فإن واجبي أن أقوم مقامها، وسأنتقل معه إلى منزلنا ذاك لأشرف على خدمته وتمريضه حتى ترجع والدته من القاهرة بسلامة الله.»
ثم التفتت إلى قرينة فؤاد وقالت لها: «إن منزلي ومنزلكم واحد كما تعلمين، وأنت مشغولة بالأولاد وتربيتهم، أما أنا فأستطيع تخصيص وقتي كله للقيام بهذه المهمة.»
فأعجب سليم بلطف تلك السيدة وإخلاصها وكرمها، ثم رآها تودع الطبيب وتشير إلى ابنتها أن تكلف بعض الخدم بإعداد منزل الرمل للانتقال إليه بعد قليل، فخاطبها لأول مرة قائلًا وفي وجهه علامات التأثر الشديد: «إننا جميعًا عاجزون عن شكرك يا سيدتي، وليس في الأمر ما يدعو إلى تعجيل الانتقال.»
فقالت له: «إنني لم أقم إلا ببعض الواجب عليَّ، فوالدتك أعز عليَّ من أخت شقيقة، وأنت عندي بمنزلة وحيدتي هذه (وأشارت إلى ابنتها إميلي). وكن على يقين من أن وجودك عندنا هو أسعد ما نتمناه. ومتى عادت والدتك بالسلامة فستخبرك كما يخبرك عزيزنا فؤاد وقرينته بأنه ليس بيننا أي تكليف.»
ولم يَسَعْ فؤاد وقرينته إلا أن يشكراها بدورهما على صدق مودتها ومروءتها، تاركين أمر الانتقال أو البقاء لرغبة سليم، فقال موجهًا الكلام إلى وردة: «إنني ولا شك يسعدني أن ألبي هذه الدعوة الكريمة المشكورة، ولكني الآن ما زلت في نوبة الحمى، وربما كان في الانتقال ما يزيد وطأتها، فننتظر إلى غدٍ، ثم يفعل الله ما يشاء.»
فقالت وردة: «لقد سألت في ذلك صديقنا الطبيب، فأكَّد لي ألا خطر من الانتقال الآن على أن يكون في عربة مغلقة.»
ثم التفتت إلى ابنتها وقالت لها: «هل كلفت الخدم بإعداد منزل الرمل؟»
فقالت: «نعم، وقد ذهب أحدهم لإحضار مركبة مغلقة حسب أمر الطبيب.» ثم أطرقت وقد توردت وجنتاها خفرًا وحياءً. فلم يجد سليم وجهًا للمعارضة، وسكت متنهدًا إذ ذكرته رؤية إميلي بسلمى وما كان من إعجابه بكمالها وأدبها وحيائها. وكادت الدموع تنحدر من عينيه تأثرًا لولا أن جاء أحد خدم وردة وقال لها: «إن المركبة بالباب يا سيدتي.» فنهضت، وتعاون الجميع على توصيل سليم إلى المركبة وإدخاله فيها، حيث جلس بين شقيقه فؤاد والسيدة وردة، وسارت المركبة، وخلفها مركبة أخرى فيها إميلي وزوجة فؤاد.
وبعد حوالي نصف ساعة وقفت المركبتان أمام منزل جميل فخم، يقع على مرتفع مشرف على البحر، فنزل الجميع ودخلوا وسليم بينهم، حيث جلسوا بعض الوقت في غرفة فخمة الأثاث والرياش معدة للاستقبال، ثم أشارت وردة بالانتقال إلى الغرفة التي خصصت لنوم سليم، فانتقلوا إليها، وأمضوا وقتًا آخر محيطين بسريره، يلاطفونه بمختلف الأحاديث، ما عدا إميلي فقد بقيت ساكتة يبدو عليها الاستحياء، وإن لاحظ سليم أنها تختلس النظر إليه بين آونة وأخرى ثم تعاود إطراقها أو تتشاغل بالإشراف على أعمال الخدم وهم يعدون العشاء.
وأخيرًا، انصرف فؤاد وقرينته عائدين إلى منزلهما بعد تناول العشاء. ولم يبقَ مع سليم في غرفته سوى وردة وابنتها، وكانت نوبة الحمى قد زايلته وشعر بتجدد قواه، فأخذ يسرِّح طرفه في الأفق من النافذة المطلة على البحر أمامه، متحاشيًا النظر إلى إميلي كيلا يزيد في خجلها، ولئلا يثير أشجانه بتذكر سلمى.
وفيما هو في ذلك نهضت وردة من مقعدها بجانب السرير، وأمسكت زجاجة الدواء الموضوعة على منضدة فخمة تحت النافذة المذكورة، فصبَّت قليلًا منها في قدح، وعادت تحمله إلى سليم، فتناوله من يدها وشرب ما فيه ثم رده لها شاكرًا، فقالت: «إذا شئت أن تزيد في سعادتنا وسرورنا لوجودك معنا، فلا تعد مرة أخرى إلى مثل هذه العبارات. فأنت هنا في منزلك مع والدتك وشقيقتك، وليس عليك إلا أن تأمر وعلينا السمع والطاعة.»
فاغرورقت عيناه بالدموع لفرط تأثره بهذه المجاملة، ولاحظت إميلي أن العرق يتصبب من وجهه، فنهضت وجاءت بمنديل كبير من الحرير الأبيض، وأخذت تمسح به وجهه في ترفق وحنان، فضاعف هذا تأثره ولم يستطع إمساك دمعة انحدرت على خده، وخشي أن يتكلم ليشكرها فتخنقه عبراته، فاكتفى بأن ضمن نظراته إليها كل معاني الشكر والاعتراف بالجميل، ثم عاد إلى تحاشيه النظر إليها لِما لاحظه من ازدياد خجلها حتى تضرجت وجنتاها بالحمرة.
على أنها ما لبثت قليلًا حتى جاءت بمروحة لطيفة ووقفت تروِّح بها على وجهه، فاحمر وجهه هو حياءً، ونظر إليها وعلى فمه ابتسامة الشكر قائلًا: «لا داعي لتعبك يا عزيزتي.»
فقاطعته والدتها قائلة: «إن إميلي بمنزلة شقيقتك، فدعها تقم بالواجب عليها؛ لأن هذا يسعدها ولا شك.»
ولم يسعه إلا السكوت، وأخذ يصغي لما تحدثه به وردة عن علائق المودة الخالصة التي تربطها وابنتها بوالدته، وعن تمنياتهن الطيبة المشتركة له قبل رجوعه من القاهرة، بينما قلبه يخفق بشدة، ولا سيما حين كانت تحين منه التفاتة إلى إميلي وهي تروح له فتقع عيناه على يدها البضة تزينها الأساور الذهبية المرصعة بالماس، أو على وجهها المتورد وقد ازدادت حمرته خجلًا من نظراته، وتأثرًا بحركة يدها المستمرة في الترويح له.
وكانت صورة سلمى تراود خياله خلال ذلك، فلا يسعه إلا أن يجاهد نفسه كي يبعدها، مستنكفًا أن يفسح لها مكانًا بجانب صورة إميلي التي أَسِرتْه بتواضعها ولطفها وتفانيها في خدمته رغم أنه لم يرها من قبل.
ومضى الوقت دون أن يشعر بمضيه إلا حين دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فأراد أن يستأذنهما في أن تتركاه مشكورتين لينام، لكنه خجل وسكت. وإذا بإميلي تقول: «أظن أنه يستحسن أن نتركك الآن لتأخذ حاجتك من النوم؟»
فأعجب بفطنتها وظَرفها وقال: «الواقع أني لا أريد أن تفارقاني لحظة واحدة، ولكني أشعر بأني أتعبتكما كثيرًا.»
فافترَّ ثغرها عن ابتسامة كبيرة ونظرت إليه وقالت: «إننا لم نشعر بأي تعب، بل شعرنا على عكس ذلك بمنتهى الغبطة والسعادة لاطمئناننا على صحتك. ولولا خشية أن يثقل عليك وجودنا أثناء نومك، ما فارقناك قط. على أننا سنبقى قريبًا منك في الغرفة المجاورة.»
ثم أشارت وردة إلى إميلي فنهضت وعاونتها على تنظيم سريره وتغطيته ثم همَّت به فقبَّلته وقالت: «تصبح على خير يا بني.» وخرجت تتبعها إميلي. وقبل أن تغلق هذه باب الغرفة خلفها، تريثت قليلًا وهي تنظر إليه، فلما نظر إلى هذه الجهة وتلاقت نظراتهما ابتسمت له وأحنت رأسها مودعة، ثم أغلقت الباب بهدوء.