حب جديد
استيقظ سليم في صباح اليوم التالي، بعد نوم عميق مريح، وقد شعر بأنه استعاد صحته. وما كاد يفتح عينيه حتى وقعتا على إميلي وهي واقفة بجانب سريره، وهي بثياب البيت، وفي يدها المروحة التي تروِّح له بها. فلما تلاقت نظراتهما ابتسمت له وقالت: «صباح سعيد يا عزيزي. كيف حالك الآن؟»
فاحمر وجهه حياءً، واستوى جالسًا في السرير، ثم مدَّ يده وأخذ المروحة من يدها قائلًا: «سعد صباحك يا عزيزتي، إنني ما عشت لن أنسى لك ولوالدتك العزيزة هذا الجميل.» ثم أطرق وتشاغل بالترويح على وجهه بيده. فإذا بإميلي تمسك يده في ترفق وتلطُّف وتقول وعيناها تلمعان ببريق ساحر جذاب: «أترى يدي كانت ثقيلة عليك؟» ثم ضغطت يده بخفة ورشاقة وهي تبتسم، فتمشت الرعدة في مفاصله وتسارعت دقات قلبه، وعادت به ذاكرته إلى اليوم الأول لتبادله الحب مع سلمى، فوجم وخشي أن يكون قد نجا من شر ليقع في شر أعظم، فلم يسعه إلا جذب يده من يدها بلطف، وأطرق ساكتًا والهواجس تتقاذفه.
فاشتد احمرار وجهها، وبدت فيه آثار الخجل والكدر معًا، وتأخرت خطوة إلى الوراء وساقاها لا تقويان على حملها لفرط تأثرها. فأثَّر في نفسه ضعفها وأَنِف أن يسيء إليها وإن لم يقصد ذلك بعد أن أحسنت إليه وسهرت هي وأمها في رعايته وخدمته، وبالغتا في إكرامه والعطف عليه. فمد يده وأمسك يدها وضغطها مترفقًا وقال بصوت مختنق: «إنني لن أنسى يدك ما دمت حيًّا.»
فنظرت إليه في عتاب وقالت هامسة: «ولماذا رفضتها إذن؟»
فقال: «أنا أرفض يدك؟ وهل مثل هذه اليد يقدر على رفضها أحد؟»
فتوردت وجنتاها، واغرورقت عيناها بالدموع وانكسرت أهدابها ثم رفعت عينها ورمقته بنظرة نفاذة مؤثرة وقالت: «أرجو ألا تندم على أنك طلبتها بعد أن رفضتها.» قالت هذا وركَّزت نظراتها في عينيه منتهزة الفرصة السانحة لإيقاعه في شباكها.
فقال متلعثمًا: «حاشا وكلا، ولكني أخشى ألا أكون أهلًا لبلوغ هذه الغاية.» ثم فطن إلى أنه أوشك أن يقع في الحب مرة أخرى، وهو ما زال يعاني آثار الحب الأول. فأمسك عن الكلام متظاهرًا بأنه يشعر بصداع خفيف، وفطنت هي بدورها إلى قصده، لكنها تجاهلت وسارعت إلى إحضار دواء مسكِّن أذابت قليلًا منه في ملء نصف كوب من الماء، وقدَّمته له في أدب ودلال يشوبه الحياء، فشربه ثم شكرها بلسانه بعد أن شكرها بعينيه وبلمس يدها وهو يرد إليها الكوب بعد تناول الدواء.
وبعد قليل جاءت والدتها فحيَّته تحية الصباح، وقالت: «إنني أحمد الله على أن استجاب دعواتي لك طول الليل، فهذا أنت قد أصبحت معافًى بادي النشاط والمرح.»
ثم التفتت إلى إميلي ابنتها وقالت لها: «أليس كذلك يا إميلي؟»
فقالت: «صدقت يا والدتي وقد صرَّحت له بهذه الحقيقة منذ قليل، لكنه لم يصدقني إلا بعد أن أظهرت له استعدادي لأن أقسم له مؤكدة ذلك.» ونظرت إلى والدتها بطرف عينها.
ففهمت وردة أن ابنتها بدأت تطبيق التعليمات التي أصدرتها إليها لاجتذاب سليم، غير أنها تظاهرت بالسذاجة والبساطة وهمَّت بسليم فقبَّلته وقالت: «إننا نشكر الله على أن هيَّأ لنا هذه الفرصة الطيبة للنيابة عن الصديقة العزيزة الكريمة السيدة والدتك.» ثم ضحكت بصوت مرتفع وقالت: «أي فرحة عظيمة ستغمر قلبها حين تراك اليوم بعد عودتها من القاهرة. ولا شك في أن فرحتها ستكون مضاعفة حين تجدك في منزلنا هذا. لكن قل لي يا عزيزي سليم: هل جئت من القاهرة إجابةً لطلبها في خطابها الأخير، أم أن هذا الخطاب لم يصل إليك.»
فشعر بأنها تسأله هذا السؤال الأخير، لتلهيه عن صوغ عبارات الشكر بالإجابة عنه. وأعجب كل الإعجاب بنبلها وأريحيتها، ولم يسعه إلا أن ينزل على رغبتها الكريمة، فقال: «لم أتلقَّ خطابها هذا مع الأسف لأني كنت في حلوان وجئت إلى هنا دون أن أمر بالبريد لتسلُّم الخطابات الواردة إليَّ. ويا حبذا لو كتبت إلى إدارة البريد الآن كي ترسل إليَّ خطاباتي إلى هنا!»
فقالت: «حسنًا تفعل!» ثم أشارت إلى إميلي، فغادرت الغرفة في خفة ورشاقة وهدوء، وعادت بعد قليل ومعها دواة وقلم وأوراق، فوضعتها على المنضدة ثم قرَّبتها إلى سليم وعادت إلى وقفتها بالقرب منه والمروحة في يدها استعدادًا للترويح له، فنظر إليها وابتسم، ثم أمسك القلم وكتب خطابًا بذلك المعنى إلى إدارة البريد في القاهرة ووضع الخطاب في الظرف ثم عاد فأخرجه، وناوله لإميلي قائلًا: «هل لك أن تُسدي إليَّ يدًا أخرى بكتابة عنوان المنزل هنا؟»
فقربت وجهها من وجهه وأخذت تملي عليه العنوان في همس رقيق ود لو أنه لم يَنْتَهِ.
وما أتمَّ كتابة العنوان حتى سارعت إميلي إلى تناول الخطاب من يد سليم، ثم أرسلته مع أحد الخدم، ليضع عليه طابع البريد ثم يضعه في أقرب صندوق للخطابات البريدية. ووقفت تشرف على بقية الخدم وهم يعدون طعام الإفطار، فلما انتهوا من ذلك وأعدت المائدة انتقل إليها سليم وجلست إميلي أمامه ووالدتها عن يمينه وأخذوا في تناول الطعام وتبادل مختلف الأحاديث.
•••
عاد سليم وإميلي ووالدتها إلى الغرفة المخصصة لنومه؛ لكي يستريح قليلًا بعد الغداء. وفيما هم هناك جاء أحد الخدم مهرولًا يقول: «لقد حضرت السيدة والدة سيدي سليم.»
فخفق قلب سليم وارتعدت فرائصه وأخذته الحيرة فلم يدرِ أي شيء يفعل. على أن حيرته لم تطل فسرعان ما دخلت والدته راكضة. وما كاد نظرها يقع عليه وهو يهم بالنهوض من الفراش لاستقبالها حتى أسرعت ورَمَت بنفسها عليه محتضنة إياه، ثم ما زالت تعانقه وتقبِّله ودموعها تتساقط من عينيها، حتى شعر ببرودة يدها وتصبب العرق منها وهو يقبِّلها فرفع وجهه إلى وجهها وذراعاها حول عنقه فإذا به يجدها مسبلة العينين، ورأسها يترنح للسقوط، فهمَّ بها ومددها على السرير، وبادرت وردة وإميلي فرشتا وجهها بالماء. فلما أفاقت وانتبهت لنفسها ولمن حولها عادت إلى معانقة سليم وتقبيله وهي تواصل البكاء والشهيق قائلة: «آه يا ولدي! آه يا حبيبي! أهكذا تترك حلوان والقاهرة دون أن تخبر أحدًا. ولقد بحثنا عنك هناك في كل مكان يمكن أن تكون فيه، وكاد قلبي يحترق جزعًا وتلهفًا عليك، ولولا أن جاءني صباح اليوم خطاب أخيك فؤاد فاطمأن قلبي عليك ما قدِّرت لي الحياة حتى الآن.»
فهمَّ سليم بيديها فقبَّلهما كما قبَّل رأسها وقال: «كنت متضايقًا من مرضي إلى أبعد حد. وعلى أية حال أنا أعتذر إليك وأحمد الله إذ أراني وجهك الكريم. ولا يفوتني أن أخبرك بأن ما كنت أشعر به من المرض والهم قد زال والحمد لله، والفضل في ذلك يرجع أولًا إلى كرم أهل هذا المنزل ولطفهم وتواضعهم وتحملهم التعب في سبيل راحتي ومعالجتي.»
فهمَّت والدته بوردة وإميلي فقبَّلتهما شاكرة ما أبديتاه من المودة والعطف والعناية بولدها وفلذة كبدها. وعادت إميلي فقبَّلت يد والدة سليم بخشوع. ثم جلس الجميع يتحدثون ويضحكون فرحًا مستبشرين باجتماع الشمل، وإميلي أشدهم فرحًا لوثوقها من أن حيلتها قد انطلت على سليم.
•••
كان سليم منذ علم بوصول والدته قد هاجت أشجانه وتذكَّر عقوقه إياها ومخالفته نصيحتها من أجل سلمى التي تبيَّن فيما بعد خيانتها وخداعها، وحدثته نفسه أكثر من مرة بأن يخاطب والدته في هذا الشأن ويستغفرها عمَّا سبب لها من المتاعب والأكدار. على أنه آثر أن يؤجل ذلك إلى أن يخلو إليها، فلم تُتَحْ له فرصة لذلك إلا عند فجر اليوم الثالث، أو بعده بقليل حين استيقظ من النوم بعد سهرة طويلة، فإذا يجدها جالسة إلى جواره وهي ترتب شعره وتنظم غطاءه، فنهض وقبَّل يديها وجلس يجاذبها أطراف الحديث إلى أن قال: «كم أنا نادم يا أماه على ما فرط مني وعلى ما سببته لك من التعب والكدر بحماقتي وجهلي!»
فأدركت أنه يعني إصراره على خطبته سلمى، وقالت له: «لا بأس عليك يا بني، إن أول ما يهمني الآن هو أن أراك في خير صحية وعافية، على أن معارضتي لك لم تكن إلا عن جهل مني أيضًا، فقد كنت أظن أنك وقعت في حب تلك الفتاة مخدوعًا بمكرها ودهائها، وأن إصرارك على خطبتها ليس إلا استنكافًا منك أن تُخلف ما وعدتها. ولكن لما أخبرني حبيب بجلية الأمر، وأكد لي أنك لم تحبها وتصر على خطبتها إلا بعد طول روية واختبار، لم يسعني إلا السفر معه إلى القاهرة لأطمئن على صحتك، ولأخبرك بأني راضية بأي فتاة تختارها.»
فلم سمع سليم حديث والدته عن حبيب وسلمى تحقق خيانتهما لأن معارضة والدته خطبة سلمى لم يكن لحبيب علم بها، فلا بد من أن تكون سلمى هي التي أطلعته عليها وطلبت إليه أن يسافر إلى الإسكندرية ويقابل والدته لإقناعها بالعدول عن معارضتها. غير أنه لم يصرح لوالدته بذلك حتى لا يصغر في عينيها واكتفى بأن قال لها: «إن علاقتي بتلك الفتاة أصبحت في خبر كان. وثقي بأني لن أعود إليها أبدًا، وإنني باقٍ بجانبك هنا في الإسكندرية، ولن أخطو أية خطوة في سبيل الخطبة أو الزواج إلا بمشورتك.»
فعجبت والدته من أمر هذا الانقلاب الغريب، ولاح لها أنه يجاريها بما قاله ابتغاء مرضاتها، فقالت له: «على أية حال، كن على يقين من أني لم أقل لك إلا الحق، وإنني موافقتك على كل ما تقرره في شأن زواجك، فإذا كنت تريد خطبة سلمى فأنا على استعداد لأن أخطبها لك بنفسي وأكون لها خادمة بقية حياتي إكرامًا لك.»
فقال: «حاش لله يا أماه! إنما أنا وأية فتاة تختارينها زوجة لي رهن إشارتك وطوع بنانك، وأكرر لك أن علاقتي بسلمى قد انقطعت تمامًا ووطدت العزم على ذلك.»
فقالت: «على كل حال، أنت الآن ما زلت في طور النقاهة من مرضك، ومتى تم شفاؤك بإذن الله، نعود إلى بحث هذه المسألة، ولا يكون إلا ما ترضاه.»
وكانت الشمس قد أشرقت واستيقظت وردة وإميلي، فجاءتا للسؤال عن صحة سليم، وجلستا بجانب والدته تهنئانها بتماثله للشفاء، وتتسابقان إلى إرضائهما بمختلف الوسائل.
•••
بقيت إميلي حتى موعد الغداء وهي تترقب أن تسنح لها فرصة تخلو فيها إلى سليم لتستأنف معه حديث الأمس وتتم حيلتها لاجتذابه إليها وحمله على المبادرة بخطبتها. ولكنها لم تتمكن من ذلك لأن والدته لبثت مرابطة بجانب سريره لم تفارقه لحظة واحدة.
وبعد الغداء، أوى الجميع إلى الفراش للقيلولة، وحاولت إميلي وأمها إبعاد والدة سليم من غرفته إلى غرفة نومها، على أن تتسلل إميلي خلال ذلك إلى غرفته، ولكنها لم تغادر غرفته إلا بعد أن رأته يتثاءب والنوم يداعب جفنيه. وما كادت تخرج حتى نهض من سريره وأغلق باب الغرفة من الداخل ثم عاد إلى السرير واضطجع فيه، ثم أطلق لنفسه عِنان التفكير في أمره، وقد شعر بأن إعجابه بإميلي ليس إعجابًا عاديًّا، ولكنه أقرب ما يكون إلى الحب أو الشروع فيه.
وفيما هو كذلك سمع طرقًا خفيفًا على باب الغرفة، فنهض وفتح الباب فإذا بإميلي هي الطارقة وبادرته قائلة في دلال: «عفوًا يا عزيزي، إذا كان في وجودي هنا الآن ما يثقل عليك.»
فتلجلج ولم يدر كيف يجيب، ولاحظت هي من نظراته ثم إطراقه وسكوته ما بشَّرها بنجاح الخطوات الأولى من تدبيرها المشترك مع والدتها. فأرادت انتهاز هذه الفرصة لإتمام الخطوة الباقية ودخلت الغرفة متظاهرة بتبديل أغطية السرير بنفسها دلالة على شدة عنايتها براحته، لكنها ما كادت تنتهي من ذلك وتهم بالجلوس على أقرب مقعد من السرير، حتى جاء أحد الخدم، وقدم مجموعة من الخطابات ذاكرًا أنها جاءت في بريد الصباح، وفاته أن يأتي بها إليه حينذاك.