على الباغي تدور الدوائر
حاولت والدة أدما أن تلحق بشفيقة بعد خروجها غاضبة، لكنها لم تستطع اللحاق بها، ولم تستمع هذه لندائها. فعادت إلى أدما وأخذت تسألها عما حدث وأدى إلى تلك القطيعة. فلم تجب أدما واستمرت في بكائها حتى تفتَّت قلب والدتها شفقة عليها، وهمَّت بها فقبَّلتها قائلة: «لماذا لا تصارحينني بالحقيقة، ألست والدتك؟»
فقالت: «نعم أنت والدتي وليس لي في الحياة من هو أعز منك، ولهذا أؤكد لك أنني لم أعد أريد حبيبًا هذا ولا سواه.»
فقالت: «لكن ماذا جرى؟ ولماذا لا تريدينه وهو يحبك وقد أرسل والدته وشقيقته لخطبتك له؟»
قالت: «إنه لا يحبني، بل يحب سواي، وقد تحققت ذلك بنفسي.»
فقالت: «عجيبة! ومن هي تلك التي يحبها، وكيف عرفت ذلك؟»
فسكتت أدما، ولكن والدتها ما زالت تلح عليها حتى علمت منها أنها لاحظت من قبل تردده على منزل سلمى، ولاح لها أن بينهما محبة متبادلة، لكنها لم تلقِ بالًا إلى ذلك. ولما علمت بأنه أرسل يخطبها هي رجحت أنها كانت واهمة في محبته لسلمى، ولكنها فاجأتهما مصادفة منذ ساعة وهما في خلوة يبكيان ويتشاكيان ويد كل منها في يد الآخر، ورأت من بغتتهما وارتباكهما ما أكَّد لها تلك الحقيقة.
وعبثًا حاولت والدتها أن تقنعها بأنها قد تكون واهمة؛ لأن سلمى مخطوبة لسليم صديق حبيب منذ عهد بعيد وإن لم تعلن الخطبة رسميًّا، ولأن حبيبًا لو كان يحب سلمى ما أرسل والدته وشقيقته لخطبتها هي، إلى أن قالت لها: «وعلى كل حال، لنفرض أنه أحب سلمى من قبل، فإنه لا يلبث بعد عقد خطبتكما وعقد خطبتها رسميًّا لسليم، أن ينسى ذلك الحب.»
وأخيرًا، تم الاتفاق بينهما على ترك الحديث في هذا الشأن، وألا تذكرا شيئًا منه أمام أبيها، في انتظار ما يكون.
•••
كانت وردة قد تآمرت مع ابنتها إميلي على أن تخلو إلى سليم وتجتهد في حمله على وعدها بالاقتران بها وإعلان خطبتهما في أقرب فرصة. وتم الاتفاق بينهما على أن تخرج وردة مع والدة سليم للنزهة خارج المنزل بعد الغداء، ليخلو الجو لإميلي.
فلما انتهوا من تناول الغداء، وجلسوا في الشرفة يشربون القهوة ويتحادثون، قال سليم: «إني أشعر باكتمال صحتي والحمد لله، وقد جاءني خطاب من وكيل مكتبي في القاهرة يتعجل عودتي لمباشرة إحدى القضايا المهمة، وأرى أن أجيب هذا الطلب، وإن كنت أود من صميم قلبي ألا أفارقكم.»
فبغتت إميلي ووالدتها لهذه المفاجأة، وهما لا تعلمان ما دار من الحديث في شأنهما بين سليم ووالدته. واكتفت إميلي بأن تظاهرت بالبكاء جزعًا من ذلك الفراق، بينما ابتدرته والدتها قائلة: «إن صحتك يا بني أغلى وأهم من كل شيء، والأحسن أن تتريث حتى يتم شفاؤك، ثم تعود إلى القاهرة بعد يومين أو ثلاثة.»
فقالت إميلي لوالدتها وهي تصوب سهام عينيها إلى سليم: «لا تلحِّي عليه يا أماه فلعله ملَّ الإقامة بيننا.»
فردَّت عليها والدته بقولها: «إن الإقامة معكم لا يمكن أن تُمَلَّ ويا حبذا لو أنها دامت إلى الأبد!»
وقال سليم: «ما أظن أن الأبد يكفي.»
فقالت وردة: «لو كان هذا صحيحًا، ما رغبت في التعجيل بالرحيل، ولكن ماذا نصنع في حظنا؟ إن المحبة لا تكون (بالنبوت)!»
فأخذ سليم يعتذر من تعجيل سفره بأن الضرورة المُلحَّة هي التي اقتضته، وحرص على أن يظهر لوردة وابنتها أنه لا يمكن أن ينسى فضلهما ولطفهما، إلى أن اقتنعتا بإصراره على السفر، فقالت وردة: «إذن يحسن أن نقضي اليوم في النزهة على شاطئ البحر، كي يعاونك هواؤه النقي على استعادة قواك.»
فقال سليم: «إنها نزهة جميلة ولا شك، ولكني أرى أن أنام قليلًا بعد الغداء؛ إذ إنني متعود ذلك.»
فوافقته وردة على أمل أن تخرج هي ووالدته في تلك النزهة ويخلو الجو لإميلي كي تظفر من سليم بما تريدان من مكاشفتها بحبه إياها ورغبته في الاقتران بها.
على أن والدته اعتذرت من عدم استطاعتها الخروج، ولم تفارق غرفة سليم حتى استيقظ من نومه بعد ساعة، متظاهرة بإعداد حقائبه للسفر في الغد. وما كاد يستيقظ حتى أعرب عن رغبته في أن يمضي ليلته بمنزل شقيقه فؤاد؛ كي يودعه وقرينته قبل سفره بقطار الصباح، فلم تجد وردة وإميلي بدًّا من النزول على رغبته بعد أن أصرَّ عليها قيامًا بواجبه نحو شقيقه العزيز، ولأن منزله أقرب إلى المحطة.
•••
أبت والدة سليم إلا أن تصحبه إلى القاهرة لكي ترى سلمى وتعتذر لها مما سببته لها من المتاعب والآلام. وكان حبيب في استقبالهما على المحطة إذ أبرق إليه سليم بموعد وصولهما، فعانق سليم مهنئًا إياه بالشفاء، وقبَّل يد والدته مرحبًا بها ودعاهما إلى الإقامة بمنزله في حلوان، فشكراه وأجَّلا ذلك إلى ما بعد زيارة سلمى. فقال: «إذن أمضي لأحضر والدتي ونذهب جميعًا في هذه المهمة.» فوافقا على ذلك.
وما حان العصر حتى كان قد جاء بوالدته إلى غرفة سليم بالفندق، فعانقت والدة سليم وقبَّلته مهنئة إياه بالسلامة، واعتذر إليها من مغادرته منزلها دون علمها، فقالت له: «ليس بيننا ما يدعو إلى الاعتذار.» ثم جلست تتحدث هي ووالدته حديث المودة في مختلف الشئون. بينما انتحى سليم وحبيب ناحية، فقصَّ الأول حكايته مع سلمى، وقصَّ الثاني حكايته مع أدما، ثم أخذا يتضاحكان لما تخلل القصتين من سوء تفاهم أدى إلى ما وقعا فيه من مشكلات لم ينتهيا من حلها بعد، واعتزما الانتقام من داود وسعيدة العجوز الماكرة على مساعيهما الدنيئة لحساب وردة وابنتها.
ثم نهضا واصطحبا والدتيهما إلى منزل سلمى، فلما بلغوا منزل أدما في الطريق إليه اشتد خفقان قلب حبيب وتطلع إلى شرفة غرفة أدما، فإذا هي مطلة منها، فم يعد يقوى على السير ووقف في مكانه جامدًا لا يستطيع رد بصره عن التطلع إليها، وحانت منها التفاتة إليه فلم تصدق أنه هو أول الأمر، ثم رأته يشير إليها بالتحية ويومئ إليها أن تلحق به إلى بيت سلمى. فأخذت تنظر إليه ذاهلة، ثم تحققت الأمر بعد أن تكررت إشاراته لها ووقعت عيناها على سليم بجانبه ولم تكن لذهولها وارتباكها قد تنبهت إلى وجوده. فلم يسعها إلا أن تومئ إليه بأنها ستلحق به إلى هناك، وانثنت داخلة من الشرفة حيث خفَّت إلى والدتها وأنبأتها بما حدث والبِشر بادٍ في محياها قائلة: «ماذا ترين يا أماه؟ لعله عاد إلى صوابه وندم على ما فرط منه كما كنا نؤمل!»
فوافقتها على هذا الرأي، وقالت لها: «سأذهب معك إلى هناك.» ثم تركت ما كانت تقوم به من الأعمال المنزلية، وسارعت إلى ارتداء ثوب الخروج وقلبها لا يقل فرحًا عن قلب ابنتها بهذا الاتفاق السعيد.
أما سليم فلم يقوَ على مواجهة سلمى مفاجأةً، لشدة خجله وندمه على ما فرط في حقها، فاقترح أن تدخل والدته عليها أولًا مع والدة حبيب لتقوم بمهمة التعارف بينهما، والتمهيد لمقابلته إياها.
•••
كانت سلمى بعد أن زارها حبيب وتلا عليها خطاب سليم قد أذهلتها المفاجأة، وكادت ألا تصدق رجوعه إلى حبها والإيمان بطهرها وعفافها ووفائها، ثم تحققت أن الخطاب بخطه الذي تعرفه كل المعرفة. فأشرق وجهها، وشعرت بتحسن كبير في صحتها وما كاد حبيب ينصرف من عندها حتى دعت إليها سعيدة خادمتها العجوز وقالت لها: «يلوح لي يا خالتي أن الله — جل شأنه — قد كتب لي الخلاص من الشقاء والمرض.»
فأدركت سعيدة بدهائها أن لهذا التعبير علاقة بسليم، ولا سيما بعد زيارة صديقه حبيب لسلمى، لكنها تظاهرت بالبشر والابتهاج وقالت: «خيرًا يا بنيتي إن شاء الله، هل سمعت نبأً جديدًا عن سيدي سليم؟»
قالت: «نعم، أخبرني حبيب الآن بأنه آتٍ إلينا بعد يومين أو ثلاثة.»
فأجفلت سعيدة خشية على حبوط مساعيها الدنيئة وقالت: «وماذا صنع مع تلك الفتاة التي علق بها وذهب إلى الإسكندرية لخطبتها؟»
فقالت: «تخلص منها بعد أن تبين خطأه.»
فوجمت العجوز قليلًا، ثم قالت: «وهل كتب لها خطابًا اتهمها فيه بالغدر والخيانة كي يتخلص منها؟!»
فأحسَّت سلمى بانقباض عند سماعها عبارة العجوز، إذ أدركت أنها تشير إلى خطاب سليم الذي حملته إليها، لكنها تجاهلت وقالت: «لا أدري كيف تخلص منها، وعلى كل حال متى حضر سنعرف كل شيء.»
فسكتت سعيدة وخرجت من الغرفة متظاهرة بإنجازها بعض الأعمال، ثم غادرت المنزل خلسة وتوجهت مسرعة إلى بيت داود، فقصَّت عليه ما سمعته، فقال لها: «هذا كله سببه حمق سيدتك وردة وتسرعها عليها لعنة الله. فهي التي فضحتنا وسببت فشلنا بإرسالها إلى سليم خطأ ذلك الخطاب الذي كتبته إليَّ، وجاءني بدلًا منه الخطاب الآخر الذي كتبته باسم والدته تدعوه فيه إلى الحضور.»
ثم واصل حملته على وردة ونعتها بكل نقيصة متأثرًا بضياع آماله في المكافأة التي وعدته بها. فلما طلبت إليه سعيدة أن يكفَّ عن حملته على سيدتها، بادرها بالشتم ورفسها في بطنها رفسة قوية أوقعتها على الأرض، فصرخت من شدة الألم، وانطلقت تسبه وتلعنه مما زاد في ثورته وغضبه فاستأنف رفسها وهي توالي الصراخ حتى اجتمع عليهما الجيران والمارة، وخلصوها من بين يديه وهي مشرفة على الهلاك. ثم جاء رجال البوليس، فحملوها إلى القسم بين الموت والحياة، وقادوه مكبلًا بالقيود للتحقيق معه في جريمة شروعه في قتلها.