اجتماع الشمل
تفقدت سلمى سعيدة بعد انصرافها من غرفتها فلم تجدها بالمنزل، وعلمت أنها غادرته دون علم والدتها، فقلقت لذلك، ثم اشتد قلقها حين جاء المساء دون أن تعود. وفيما هي كذلك سمعت طرقًا على باب المنزل، ثم سمعت والدتها ترحب بالقادمين وهي تقودهم إلى غرفة الاستقبال. وخفق قلبها بشدة إذ طرق سمعها اسم سليم، وظنت نفسها واهمة، لكنها ما لبثت أن سمعت صوته هو نفسه فكاد يغمى عليها من فرط الفرح، وازداد خفقان قلبها وبردت أطرافها، فسارعت إلى استنشاق بعض الروائح العطرية، ولبثت ترهف سمعها فسمعت صوته وأصواتًا أخرى عرفت من بينها صوت حبيب ووالدته، وعجبت لسماعها صوت سيدة أخرى لا تعرفها. ثم شعرت باقتراب الأصوات ووقع الأقدام في اتجاه غرفتها، فلم تعد ساقاها تقويان على حملها، وجلست على السرير محاولة التجلُّد. ثم فُتح باب الغرفة ودخلت والدتها ووالدة حبيب ومعهما سيدة متوسطة العمر بسيطة الملابس يفيض وجهها بالطيبة والبساطة والوقار، فهمَّت سلمى بالوقوف لاستقبالهن فبادرتها هذه السيدة بالكلام قائلة: «لا تتعبي نفسك يا حبيبتي!» وهمَّت بها فقبَّلتها في حنان وهي تقول: «سلمت ألف سلامة، وسلم هذا الوجه اللطيف من كل سوء.» فقبَّلت سلمى يد السيدة شاكرة وعيناها تدمعان تأثرًا، وما كادت تسمع والدتها تقول: «هذه خالتك العزيزة والدة عزيزنا سليم.» حتى ازداد تأثرها، وعادت إلى تقبيل يدها والدموع تنهمر من عينيها.
ثم تقدمت والدة حبيب وقبَّلتها بدورها، وقالت لها: «الحمد لله على سلامتك يا بنيتي.» ثم جلسن حول سريرها وأم سليم لا تني عن التطلع إليها في إعجاب ملحوظ، معربة عن أطيب تمنياتها لها بالشفاء التام والسعادة.
وبعد قليل قالت والدة حبيب لسلمى: «إن قلوبنا قد اطمأنت برؤيتك اللطيفة يا عزيزتي. ولكن قلب سليم لا يطمئن إلا إذا حظي برؤيتك هو الآخر، فهل أدعوه من غرفة الاستقبال؟» قالت ذلك ونهضت وهي تنظر إلى سلمى، فلما رأتها أطرقت حياءً وسكتت، ومضت إلى غرفة الجلوس وعادت ومعها سليم، وما كادت عيناه تقعان على سلمى حتى هاجت أشجانه لما شاهد من نحولها وذبول خديها وتكسر أهداب عينيها، وهمَّ بيدها فأمسكها مصافحًا والعبرات تتساقط على خديهما وهما يرتجفان. وبقيا كذلك هنيهة وهما لا يستطيعان الكلام، ثم قال سليم وهو ما زال ممسكًا يدها: «اصفحي عني يا سلمى، اصفحي عن ظلمي وجهلي وحماقتي، إني لا أستحق الصفح ولكنك ملاك طاهر رحيم، وعفوك أعظم من إساءتي مهما تكن قد سببت لك من الشقاء والعناء!»
وخنقته العبرات فعاد إلى سكوته وإطراقه، فشهقت هي الأخرى بالبكاء، وترنحت في وقفتها وازداد امتقاع لونها، فأجلسها مترفقًا على السرير، وجاءتها والدتها بزجاجة بها رائحة عطرية رشت وجهها بقليل منها. فلما أفاقت نظرت إلى سليم وهو واقف أمامها في خشوع وقالت له: «إن الله يغفر الذنوب جميعًا، وحسبي من الدنيا أنك عدت إلى اعتقادك بوفائي وإخلاصي.»
فشعر لدى سماعه ذلك منها بكثير من الارتياح، وتنهد ثم حاول الكلام ليشكرها فلم يستطع لفرط تأثره وبكائه. فهمَّت والدته بسلمى وربَّتت كتفها قائلة: «إن هذا لأكبر دليل على عراقة أصلك ونبل أخلاقك يا بنيتي. والحقيقة أني أنا المذنبة في حقك لا سليم؛ لأنني انخدعت بوشاية المغرضين.» ثم أخذت هي الأخرى في البكاء.
وهنا نهضت والدة حبيب، فأجلست والدة سليم بجانب سلمى، وأجلسته أمامهما بينها وبين والدة سلمى، وقالت: «الآن يجب علينا أن نحمد الله على اجتماع الشمل وحبوط مكايد الوشاة والحساد. فلنترك البكاء ولنتهيأ للأفراح.»
ثم غيَّرت مجرى الحديث إلى مختلف الشئون العادية، فجلسوا جميعًا يتجاذبون أطرافه في صفاء وسرور.
وبعد قليل فوجئ الجميع بسماع ضحكات عالية في غرفة الاستقبال، ثم دخل حبيب ومعه أدما ووالدتها وفي وجوههم دلائل البشر والابتهاج، وبعد أن حيوا سلمى وهنئوها بالسلامة وبعودة سليم، انضموا إلى المجلس، واشتركوا في الحديث.
•••
كان حبيب قد آثر الانتظار وحده في غرفة الاستقبال حين مضت والدته لدعوة سليم إلى مقابلة سلمى في غرفتها، ليفسح له المجال لإظهار عواطفه. وفيما هو كذلك جاءت أدما ووالدتها فوجدتا الباب الخارجي للمنزل مفتوحًا، فدخلتا وفوجئتا بوجود حبيب وحده في غرفة الاستقبال، فنهض مرحِّبًا بهما، وهمَّ بيد أدما فأمسكها وأجلسها بينه وبين والدتها، ثم أخذ يشرح لهما حكاية سليم وسلمى من أولها إلى آخرها، ومساعيه لإعادة الوفاق بينهما، إلى أن وصل إلى زيارته الأخيرة لسلمى لتلاوة خطاب سليم عليها، وما تلا ذلك من دخول أدما مع شقيقته عليهما، ثم انصرافها غيرانة غاضبة. فاعترفت أدما بأنها تسرعت وأخطأت بما تفوهت به أثناء ثورتها أمام شفيقة. لكنها بقيت في حيرة من أمر خطابها إلى حبيب وكيف وصل إلى سلمى، فروى لها ما حدث من أن سليمًا هو الذي عثر بذلك الخطاب اتفاقًا حين كان مريضًا بمنزلهم في حلوان، فظن هو الآخر مثل ظنها وبعث الخطاب إلى سلمى وهو يحسبها كاتبته لمشابهة خطه خطها، متهمًا إياها بالغدر والخيانة مما سبب مرضها الذي ما زالت تعانيه.
وهكذا صفا الجو بين حبيب وأدما، ثم نهضوا وهم يتضاحكون ودخلوا غرفة سلمى مسلِّمين مهنئين.
وفيما هم جميعًا هناك، جاء الخواجة سليمان، فرحب بالضيوف ولا سيما سليمًا ووالدته، وجلس يشاركهم الحديث بعد أن اطلع على ما حدث باختصار.
ثم قالت والدة سليم لوالدة حبيب: «إن كل ما أتمناه الآن أن نحتفل جميعًا في وقت واحد بعقد خطبة سلمى لسليم وأدما لحبيب.»
فأطرقت سلمى وأدما خجلًا، ووافق الجميع على ذلك، وقال حبيب: «لكي تتم فرحتنا، يجب أن ننتقم أولًا من داود الدساس الكذاب وسعيدة العجوز الماكرة.»
فضحك الخواجة سليمان وقال: «لقد أراحنا الله منهما وانتقم منهما أعذب انتقام.»
فعجب الجميع لهذا النبأ، والتفوا حوله مستفسرين عما حدث لهما، فقال: «مررت منذ ساعتين بقسم البوليس فوجدت زحامًا شديدًا هناك، وعلمت أن رجلًا حاول قتل امرأة عجوز، فقبض البوليس عليه رهن محاكمته على هذه الجريمة وعلى ما اتهمته به المصابة من أنه حصل على جانب من تعويضات الإسكندرية زورًا وبهتانًا. ثم رأيت بعض الجنود وهم يحملون العجوز المصابة إلى المستشفى وهي بين الموت والحياة، وما كدت أرى وجهها حتى تبينت أنها عجوز النحس سعيدة الماكرة الخبيثة. ولم أكن أعلم تفصيل ما وقفت عليه الآن من لؤمها وخبثها، وإن كنت لم أشعر بالارتياح إليها منذ التحاقها بالخدمة هنا، فحزنت على ما أصابها ولعلها قد انتقلت الآن إلى جهنم وبئس القرار.»
فقالت سلمى: «على الباغي تدور الدوائر.» وأمَّن الجميع على كلامها وهم يحمدون الله على أن كفاهم مئونة الانتقام من تلك العجوز وصاحبها الخائن الجشع المحتال.
وأخيرًا دعتهم والدة أدما إلى تناول العشاء في منزلها القريب فقبلوا الدعوة، وانتقلوا جميعًا إلى هناك حيث أمضوا السهرة مع الخواجة سعيد والد أدما، واتفقوا على تحديد يوم لعقد خطبة سلمى وأدما، ثم احتفل بزفافهما معًا احتفالًا شائقًا شهده جميع الأقارب والأصدقاء. واكتفوا من الانتقام من وردة وابنتها بعد خيبة آمالهما بأن أرسلوا إليهما بطاقة من بطاقات الدعوة إلى الاحتفال بزفاف سلمى وسليم، فكان لهذه الدعوة وقع دونه وقع السهام المسمومة على قلبيهما، ولم تستطيعا تلبيتها طبعًا حتى لا تزيد رؤية العروسين في أحزانهما وحسرتهما على خيبة آمالهما.
وكان نبأ ما حدث لسعيدة وداود قد جاءهما قبل هذه الدعوة بقليل.
وظل أهل القاهرة زمنًا طويلًا وهم يتحدثون بأبهة ذلك الاحتفال وفخامته، وبما قاساه المحتفَل بهم من جهاد المحبين، إلى أن تكلل ذلك الجهاد بالنجاح.