شقاء المحبين
مشى حبيب قاصدًا إلى محطة باب اللوق فلما توارى عن صديقه أخرج من جيبه الخطاب الذي تسلَّمه من مكتب البريد، وجعل يردد نظره فيه ويقرؤه تكرارًا مستعينًا بأنوار الشوارع على تأمل الخط النسائي الذي كُتب به.
وما زال كذلك حتى وصل إلى المحطة فإذا بالقطار قد أقلع منها إلى حلوان منذ دقائق، وسأل عن القطار التالي إليها فعلم أنه يقوم في منتصف الليل، فساءه ذلك لما هو فيه من الهواجس والارتباك. ثم رأى أن يمضي فترة الانتظار في التنزه، فتوجَّه إلى الجزيرة ليقضي هناك ساعة ثم يعود ليستقل القطار. وكان يسير والخطاب في يده، وأفكاره تتجاذبها الهواجس، وراح يستعرض بذاكرته البيوت التي يختلف إليها والسيدات اللواتي عرفهنَّ لعله يعرف كاتبة الخطاب، فلم ينتبه لنفسه إلا وهو على كوبري قصر النيل، فوقف هناك يتأمل منظر الماء الجاري، ويشنِّف سمعه بموسيقى خريره وارتطامه بأعمدة الكوبري. وراقته الأنوار المتلألئة على جانبيه كأنها كواكب ثابتة في ذلك الفضاء، فمضى يمشي الهوينى حتى وصل إلى الجزيرة ودخل شارعها المظلل بالأشجار فمشى فيه، ثم عرج إلى منعطف نحو الشاطئ فسمع قرقعة عربة مارة في الشارع، ثم رآها وقفت، فتربص ليرى ما يكون من أمرها، فإذا بشخص ينزل منها ويمشي في منعطف بالقرب من النخلة التي اختفى هو خلفها حتى بلغ النيل فوقف قليلًا، ثم انحدر إلى أسفل الشاطئ وجلس على صخر هناك.
وتأمله حبيب فإذا به يشبه صديقه سليمًا، ثم تحقق أنه هو بعينه، فأشكل عليه أمره وعجب لمجيئه إلى هناك في ظلام الليل وقال في نفسه: «يحسن أن أمكث مختفيًا لأرى ماذا جاء به إلى هنا.» ثم تذكر ما رآه فيه من ارتباك ذلك المساء فخاف أن يكون قد وقع في اليأس وأراد الانتحار غرقًا في النيل، فمشى بضع خطوات بكل خفة حتى أصبح وراءه وجلس مختفيًا وراء نخلة أخرى هناك ليرى ما يكون من أمره، وليسارع إلى إنقاذه إذا رآه يلقي بنفسه في النيل، وشكر الله على ما كان من تأخره عن اللحاق بالقطار إلى حلوان.
أما سليم فإنه جلس إلى الشاطئ مطرقًا والماء جارٍ أمامه والظلام مستولٍ على تلك الجهة إلا ما يصل إليها من الأشعة البعيدة المنبعثة من أنوار الكوبري. وبعد قليل أخذ يتلفَّت يمنة ويسرة كأنه يحاذر أن يراه أحد، ثم تنفَّس الصعداء وقال متحرقًا: «آه من حوادث الزمان، وآه من جهالتي وقلة تدبيري! آه يا سلمى يا حبيبتي ومُنى فؤادي!»
ثم خنقته العبرات فأطلق لنفسه عِنان البكاء حتى سمع حبيب صوت شهيقه فتفتت قلبه حزنًا عليه وجاشت عواطفه حتى كاد يشاركه البكاء، لكنه أمسك ليرى ما يكون منه بعد ذلك فإذا به بعد البكاء والشهيق برهة عاد فقال: «أي سلمى حبيبتي! إني أحبك والله حبًّا لم أشعر بمثله لغيرك، ولم أكن أعلم أن الحب يملك القلب ويتسلط على العواطف إلى هذا الحد. آه ما أحلى الحب وما أمرَّه!»
وعاد إلى البكاء حينًا، ثم قال محدثًا نفسه: «آه يا سليم! هل خطر ببالك أنك تصبح ألعوبةً بيد الحب وأنت أنت الذي لم تكن تعبأ بحوادث الزمان ولا بأي أمر من الأمور؟ آه يا إلهي! ماذا أعمل لأتخلص من هذا التردد؟ أأترك سلمى؟ كلا والله لا أتركها ولا أتخلى عنها؛ لأنها تحبني وقد علقت آمالها على وعدي لها بالزواج، وهي ملاكي وحبيبتي ومنتهى أملي. لا لا، لا أتخلى عنها لأني لا أدري ماذا يلم بها إذا علمت بترددي في محبتها. لا لا، يجب ألا أتردد، إنها كعبة آمالي. روحي فداك يا سلمى، لعلك الآن راقدة في فراشك وقد كحل عينيك الكرى، فنامي هنيئًا ولا تزعجك الأحلام!»
وكان حبيب يسمع أقواله كلمةً كلمةً ويتمعَّن فيها لعلَّه يستطلع من خلالها سببًا لهذه التأوهات.
ثم سمعه يقول وقد أمسك نفسه عن البكاء ومسح عينيه بمنديله: «ماذا جرى لي؟ لماذا أنا خائف؟ إني خائف على سري أن يباح ولكن من يذيعه وليس هنا غير النيل شاهدًا؟»
ثم سكت وأخرج ورقة من جيبه وتأملها في الظلام، ثم تنهد وعاد إلى البكاء وقال: «نعم، لا أتركك يا سلمى، ولكن ماذا أفعل بوالدتي التي زهدت في الدنيا كلها من أجلي، ربتني بدموعها وسهدها، فأدخلتني المدارس وعلمتني، وأنفقت كل شيء في سبيلي ولم تدعني أتحمل ضيمًا، وهي إنما فعلت ذلك آملة أن أكرس حياتي لخدمتها، وإنها أهل لأكثر من ذلك فكيف أخالف أمرها أو أعقها؟ لا لا، يجب أن أكون طوع إرادتها لأن أيامها في هذه الدنيا معدودة. يجب أن أفعل كل ما تأمرني به!»
وسكت ثم عاد فقال: «لا لا، إن والدتي تريد أن أتخلى عن سلمى حبيبتي، وأنا لا أستطيع أن أترك سلمى ولو تركتني روحي أو تركتني والدتي الحنون. إن سلمى وضعت كل آمالها فيَّ فكيف أخيب أملها وأتركها تموت حسرة وأسفًا؟ سامحك الله يا والدتي! لماذا بالغت في نهيي عن الاقتران بها؟ ولماذا هددتني بأن تتركيني إذا لم أترك سلمى؟ أصحيح أنك لن تعدِّيني ولدًا لك إذا أصررت على زواجها؟ ويلاه ماذا أفعل؟ ليس لي إلا إنهاء حياتي فأتخلص من هذا التردد وألقي نفسي في هذا النيل.»
فلما سمع حبيب كلامه، تحفَّز للحاق به وإمساكه عن الانتحار غرقًا، لكنه ما لبث أن سمعه يقول: «لا لا، إذا قتلت نفسي فإني أكون قد قتلت والدتي وحبيبتي أيضًا، فهما ولا شك ستموتان حسرة بعدي.»
ثم رآه ينهض ويتحول عائدًا إلى العربة، فتقهقر حبيب مختبئًا خلف النخلة حتى لا يراه سليم فيكدره ذلك لحرصه على إخفاء ما به عن الناس كافة، وكانت العربة في انتظار سليم عند أول الشارع فركبها وأمر السائق فحوَّل الأعنَّة وعاد به إلى المدينة.
وهنا رجع حبيب من حيث أتى، وهو يعجب لذلك الاتفاق الذي كشف له عن سر صديقه، وقد رثى لحاله وشعر بمقدار القلق الذي يعانيه، ولم يكن يعلم أن مشكلته معقدة إلى هذا الحد.
ونظر إلى الساعة فإذا بالليل كاد أن ينتصف، فهرول مسرعًا إلى المحطة خوفًا من أن يفوته القطار، فأدركه قبل إقلاعه بقليل.
وفي طريق القطار به إلى حلوان، عاد فأخرج الخطاب الذي تسلمه من مكتب البريد وأخذ يتأمله ويكرر تلاوته محاولًا حلَّ رموزه وكشف معمياته، لكن محاولاته لم تزده إلا ارتباكًا، ولم يستطع أن يعرف صاحبة الخطاب لأنه كان يتردد على بيوت كثيرة في القاهرة ويشاهد فتيات كثيرات، ولم يكن يخطر له أمر الحب مطلقًا؛ ولذلك لم يكن ينتبه لحركات إحداهن لخلو ذهنه من ذلك. على أنه مع هذا ظل يستعرض في ذاكرته من كان يزورهن كثيرًا من أولئك الفتيات، وتذكَّر واحدة منهن كان يسر لمشاهدتها للطفها ورقة جانبها وتواضعها، وكانت من أكثر الفتيات رقة وتهذيبًا، ولم يلحظ منها مطلقًا أنها ممن يملن إلى المغازلة بل كان يراها بعكس ذلك لا تتكلم إلا بحساب، ولا تأتي ما يُشْتَمُّ منه رائحة الطيش، فاستبعد أن تكون صاحبة الخطاب.
وقضى معظم الطريق في مثل هذه الهواجس حتى وصل القطار إلى محطة حلوان فطوى الخطاب ووضعه في جيبه ونزل قاصدًا منزله فإذا بوالدته لا تزال في انتظاره وقد استبطأته، فلما قرع جرس البابا نادته باسمه فأجابها ففتحت الباب واستقبلته سائلة عن سبب تأخره، فلفَّق لها عذرًا قبلته. ثم سأل عن أخته فقالت له إنها في الفراش منذ وقت قصير؛ لأن أسرة الخواجة سعيد جاءت لزيارتهم عند العصر، ولم تعد إلى القاهرة إلا في القطار الأخير الذي غادر حلوان منذ قليل.
فلما سمع اسم تلك الأسرة، خفق قلبه بشدة لم يعهدها قبل ذلك، وسأل والدته: «وكيف حال الخواجة سعيد وأسرته؟»
فقالت: «هم جميعًا بخير، وقد تناولوا العشاء هنا وسألوا عنك كثيرًا، وقبل أن يبرحونا بالقطار الأخير اتفقنا على أن نسير معًا يوم الجمعة القادم إلى أهرام الجيزة للتنزه، على أن تذهب شقيقتك شفيقة معنا؛ لأن الآنسة أدما ابنة الخواجة سعيد طلبت ذلك، وأنت تعلم مقدار حبها لشفيقة وحب شفيقة لها.»
وما طرق أذنه اسم أدما، حتى اشتد خفقان قلبه، وحدثته نفسه بأنها هي لا سواها صاحبة الخطاب الذي تسلمه، وكان اسمها قد تردد في أذنه وهو في القطار، لكنه تجلد وتمالك عواطفه ريثما تنكشف له الحقيقة، وإن شعر منذ تلك الساعة بميل شديد إلى تلك الفتاة، وود لو تكون هي مرسلة الخطاب إليه. ثم ودَّع والدته وذهب كلٌّ منهما إلى فراشه. لكنه لم يستطع الرقاد لشدة هواجسه فبقي فيه حينًا دون أن ينام، ثم نهض ومضى إلى خزانة كتبه فأخرج منها كتابًا وعاد إلى فراشه ليتلهى بمطالعته. وشعرت به شقيقته وهو يمر بغرفتها فسألته عن سبب نهوضه من الفراش فقال: «جئت لآخذ رواية أطالع فيها ريثما أنام.»
قال ذلك ودخل إلى سريره والشمعة مضيئة على مائدة بجانبه، وأخذ يقرأ في الكتاب. لكن عواطفه كانت لا تسمح له بالمضي في القراءة، فكان يُخرج الخطاب من جيبه بين آونة وأخرى ويعيد قراءته.
وقضى في ذلك معظم الليل حتى كاد يطلع الفجر، وإذا بوالدته داخلة غرفته وقد عجبت لسهره إلى تلك الساعة، فلما شعر بدخولها عليه أخفى الخطاب في الكتاب وأغلقه. ولما سألته عن سبب سهره زعم لها أنه مغتبط بمطالعة إحدى الروايات ولم يشأ أن ينام قبل أن يُتمَّها، فصدقته ومضت لشأنها. أما هو فأخذ الكتاب ووضعه في الخزانة وأغلقها ثم عاد إلى فراشه وقد أنهكه السهر والتعب فنام إلى أن حانت ساعة خروجه إلى عمله، فنهض وتناول قليلًا من الشاي، ثم مضى إلى عمله.