خلوة مريبة
عاد حبيب إلى حلوان وهو يفكر في الخطاب الذي تسلمه ويردد في ذاكرته سوابق زياراته بيت الخواجة سعيد وما كان يلحظه في أدما من الحركات والإشارات حتى كادت تنجلي له الحقيقة، وترجَّح لديه أنها هي التي بعثت إليه الخطاب، فاعتزم أن يستطلع ذلك ويتحققه يوم ذهابهم جميعًا للتنزه في منطقة الأهرام.
وأمضى حبيب ليلته يفكر في ذلك، دون أن يزور الكرى عينيه. وكانت نفسه تحدثه بأن يتعجل استطلاع الأمر فيذهب في الغد إلى بيت الخواجة سليمان، في موعد لا يكون فيه سليم ولا أحد غير سلمى هناك — وكان لكثرة تردده إلى ذلك البيت، ولما بينه وبين الأسرة من علائق المودة الخالصة لا يستنكف أن يزوره في أية ساعة — وهناك يجاذب سلمى أطراف الحديث على انفراد، لعله يعلم منها شيئًا عن أدما يحقق ظنه.
وفي صباح اليوم التالي بكَّر بالخروج إلى مقر عمله على عادته، وبقي هناك حتى الساعة الحادية عشرة، ثم توجَّه إلى منزل الخواجة سليمان، فلم يجد فيه غير سلمى ووالدتها، فرحبا به، واستغربا مجيئه في تلك الساعة، غير أن اللياقة لم تسمح لهما بإظهار ذلك الاستغراب، ثم جلسوا جميعًا في قاعة الاستقبال وسلمى وأمها بثياب المنزل، دون أن تستنكفا ذلك، لما بين حبيب والأسرة من صداقة ترفع التكليف.
وشعر حبيب عقب جلوسه باستغرابهما مجيئه في تلك الساعة، فأفهمهما أنه ذهب لمقابلة الخواجة سعيد للتفاهم معه على خطة الذهاب إلى الأهرام وإعداد ما يحتاجون إليه في تلك الرحلة، فلما لم يجده في منزله، رأى أن يزورهم لذلك السبب نفسه، فاقتنعتا بذلك، وأخذ ثلاثتهم يتداولون في أمر الرحلة.
وبعد قليل تركتهما والدة سلمى معتذرة بأن الطعام على النار وأنها لا تثق بالطباخ في إصلاحه، فقبل حبيب عذرها وقد سُرَّ جدًّا منه. وما كادت تنصرف حتى عاد إلى الحديث مع سلمى في شأن زيارة الأهرام، ثم تطرق من ذلك إلى حديث أدما فقال: «إني أنتظر صباح الغد بفروغ صبر حتى نذهب في موعدنا هذا؛ وذلك لأني أحب الذهاب إلى تلك الجهة لجودة هوائها وحسن موقعها، ومما يضاعف سروري أن شقيقتي شفيقة أكثر مني تشوقًا لهذه الرحلة، ولا سيما بعد أن علمت بأنكم ذاهبون معنا أيضًا، وكذلك أسرة الخواجة سعيد، وهي لم ترَ الآنسة أدما منذ وقت طويل.»
فقالت سلمى: «إن الآنسة شفيقة خليقة بكل محبة وإجلال، ونحن جميعًا نحبها ونجلها لِلُطْفِها وتعقُّلها. ولكن لا شك في أن الآنسة أدما أكثرنا انعطافًا نحوها، وهي لا تفتر عن ذكرها وامتداحها.»
فقال: «لقد لاحظت مثل هذا الانعطاف من شقيقتي نحو الآنسة أدما، وكثيرًا ما ذكرتها بالمدح والثناء والإعجاب بحسن خصالها.»
فقالت: «الحق أن الآنسة أدما من أحسن البنات تهذبًا وأدبًا ولطفًا، كما أنها على جانب عظيم من العلم والمعرفة.»
فقال حبيب وقد خفق قلبه وعلا وجهه الاحمرار: «وأين تعلمت كل هذا؟»
قالت: «تعلمته في مدارس بيروت، كما تعلمت فن التصوير وأتقنت الخط.»
فقال: «أتقنت الخط؟ هذا عجيب لأن الفتيات قلما يُتقنَّ الخطَّ لقلة استعمالهن الكتابة!»
قالت: «الواقع أن خط الآنسة أدما جميل جدًّا، وإذا شئت فإني أطلعك على خطِّها في رسالة بعثت بها إليَّ منذ بضع سنين.»
قال وقد استبشر بالفوز: «لا أريد أن أثقل عليك بتكليفك البحث عن هذه الرسالة الآن.»
فنهضت قائلة: «لا ثقلة عليَّ في ذلك.» ثم مضت إلى غرفتها وجاءته بتلك الرسالة وجلست بجانبه لتريه جمال خط أدما، ثم قالت له وهي تضحك: «أخشى أن تسخر من العبارات التي تضمنها الخطاب، ولكننا كنا ما زلنا أطفالًا حينذاك.»
فقال: «العفو يا آنسة.»
وفيما هما في ذلك فوجئا بدخول سليم عليهما، فبغتا وبدا الخجل في وجهيهما، مع أنهما لم يكونا في حالة توجب الخجل ولكنهما لم يكونا ينتظران مجيئه في تلك الساعة.
وكان سليم قد ملَّ الجلوس في الحديقة فحدثته نفسه بأن يزور خطيبته في تلك الساعة على غير المعتاد لعله يستطلع شيئًا مما سمعه عنها، ودخل البيت دون أن يقرع الجرس فاتفق وصوله إلى قاعة الجلوس في اللحظة التي كانت سلمى فيها جالسة بجانب حبيب تريه خط أدما في رسالتها إليها، فرآهما ووجهاهما متقاربان، وهما ينظران في ورقة أمامهما ويضحكان، فلما رأى بغتتهما، تحقق صحة ما سمعه عن علاقتهما من داود، ولا سيما أن زيارة حبيب للمنزل كانت في وقت غير عادي، وأن سلمى كانت بثياب البيت.
ولا حاجة بنا إلى شرح عواطفه عند مشاهدته سلمى وحبيبًا في تلك الحال، فازداد وجهه انقباضًا وحدثته نفسه بأن يوبخهما ولكنه أمسك وتجلد، إما خجلًا وإما تعقلًا، لكنه لم يستطع إخفاء عواطفه.
أما سلمى فإنها لبراءتها لم يخامرها شك في اعتقاد حبيبها، فلما دخل الغرفة خفَّت لاستقباله مسلِّمةً ومدَّت يدها إليه مصافحة، فلما لمست يده شعرت بارتعاشها وبأنها باردة كالثلج، ثم أخفت الرسالة خوفًا من رغبته في استطلاع سبب وجودها معها وذلك ربما يغضب حبيبًا.
وأما حبيب فحيَّا صديقه ببشاشة، لكنه لم يلقَ منه إلا إعراضًا.
ثم جلس الجميع وسليم مقطب الوجه ممتقع اللون، فأدركت سلمى أن إخفاء الرسالة ربما أوجب سوء ظن سليم، فأخرجتها من جيبها ووجهت كلامها إليه وقالت ضاحكة: «إني ليضحكني تذكر أيام المدرسة يوم كنا نكتب مثل هذا الخطاب الذي كنت أطلع الخواجة حبيب عليه الآن، وهو من صديقتي الآنسة أدما كتبته منذ بضع سنين يوم كانت في المدرسة في بيروت، وكنا نتحدث عن جمال خطِّها فلم يصدق أنه جميل فأخرجته لأطلعه عليه.»
ثم دفعت الخطاب إلى سليم لكي يراه فمد يده وتناوله، ولم يكد ينظر إليه حتى أعاده إليها ببرود وهو يتكلف الابتسام.
فخجلت سلمى لهذه المعاملة المهينة، لكنها كظمت عواطفها وسألت سليمًا عن سبب اضطرابه، فقال: «إني متكدر من بعض الأمور الشخصية المتعلقة بالعمل.»
فقالت: «أرجو ألا يكون في ذلك ضرر عليك يا عزيزي.»
فأجابها وهو ينظر إلى نافذة القاعة قائلًا: «لا ضرر هناك إن شاء الله.»
قال ذلك وهو يتردد بين عوامل الغيرة والكظم، فَيَهمُّ بأن يظهر غضبه ثم يمسكه التعقل خشية سوء العاقبة.
فقال له حبيب وقد جاء بكرسيه إلى جانبه: «لا أراك الله مكروهًا يا عزيزي، ما لك منقبض النفس؟ ألا فرجت عنك وتركت المقادير تجري في أَعنَّتها؟» وقد أراد بذلك أن يخفِّف عنه، ظنًّا منه أن انقباضه بسبب الخطاب الذي ورد إليه من والدته.
فأراد سليم أن يجيبه منتهرًا ويوبِّخه، ثم تذكَّر ما بينهما من الصداقة القديمة وما للفتاة في قلبه من المحبة، وما يتجلَّى في وجهها من دلائل الوقار والهيبة والتعقُّل، فغلبت عليه طيبة قلبه، وأجاب حبيبًا: «إني متكدر من أمر عرَضي يتعلق بمهنتي، وليس فيه ما يوجب الخوف أو اليأس.» غير أن لهجته رغم ما حاوله من التلطف كانت تنمُّ عما يعتمل في صدره.
فرأت سلمى أن عليها أن تعزي حبيبها وتواسيه، فدنت منه وأمسكت يده بيدٍ كادت تذوب لطفًا، ونظرت إليه بعينيها الجميلتين مبتسمة وقالت: «روحي فداك يا عزيزي، لا يغضبك أمر ولا تجعل للكدر بابًا للتمكن منك فإنك تعلم أن الأعمال في هذه الدنيا تحتاج إلى التبصر والصبر، فلا تستعجل النجاح فلكل شيء وقته، ولا يخفى عليك أن الكدر يضعف الجسم.»
فوقعت هذه الكلمات في أذن سليم موقعًا حسنًا، وشعر بأنها ألقت عن صدره حملًا ثقيلًا من القلق والغيرة، وكان يحتاج وهو في تلك الحال من التردد إلى مثل هذه العبارة التي ساعدته في تخفيف غيظه وحملته على الصبر والتأني في حكمه على حبيبته وصديقه. ولما أمسكت يده شعر بمجرًى كهربائي بارد تخلل أعضاءه فأخمد جانبًا كبيرًا مما كان متقدًا فيها من نيران الانتقام والغيظ، فغلبت عليه الحكمة واعتزم إخفاء ما به والتربص ريثما يتحقق الأمر مرة ثانية وثالثة؛ لأن ما علمه حتى ذلك الوقت لم يكن كافيًا لإصدار حكمه بإدانتهما، كما أن العواطف سريعة الحكم لا تصبر على العقل ريثما يتروى فتحمله على الانتقام من البريء لسرعة حكمها.
فنظر إليها مُظْهرًا البشاشة وقال: «مهما أكن مثقلًا بالهموم فإني أنساها عند مشاهدتك ومشاهدة عزيزي حبيب، ولكني كما قلت له مرة إذا تكدرت من أمر يصعب عليَّ نسيانه حالًا، فأتقدم إليكما أن تسبلا ذيل المعذرة على ما ظهر لكما مني الآن، فإن ذلك عن غير قصد مني وسببه ما ذكرت.»
فقال حبيب: «فليبتهج قلبك يا عزيزي ولا تحزن، إننا الآن نستعد للمسير إلى الأهرام غدًا، وقد جئت الآن لهذه الغاية لكي نتفق على ميعاد نسير فيه معًا. وتم الاتفاق على أن نبدأ الرحلة في الساعة السابعة صباحًا. وسنعد ما نحتاج إليه من العربات ومعدات الطعام وما إليها؛ خشية أن يهمل الخدم في شيء من ذلك.»
ثم جاءت والدة سلمى فسلَّمت على سليم وأخذت ترحب به. وكانت قد سمعتهم يتحدثون عن رحلة الأهرام وإهمال الخدم فقالت: «قبَّح الله الخدم فإنهم لا يمكن الاتكال عليهم في أمر البيت، ولا بد لِرَبَّته من المساعدة في جميع شئونه.»
فقالت سلمى: «الحق معك يا والدتي، ولكن خادمتنا سعيدة ماهرة، ولعل من الخير اصطحابها معنا في الرحلة.»
فقالت: «لا بأس من أخذها معنا.»
وفيما هم في الحديث جاء الخواجة سليمان، فجلسوا جميعًا يتحادثون، ثم أراد حبيب وسليم الانصراف فدعوهم إلى البقاء لتناول الغداء. ثم وضعت المائدة وتناولوا الغداء معًا وسليم لا يزال في شاغل داخلي بما تم له في ذلك اليوم، وقد عوَّل على مراقبة حركات سلمى.
وبعد الغداء وشرب القهوة استأذن حبيب وسليم وخرجا، فمضى كلٌّ منهما في سبيله وهو في شاغل عظيم.
وكان حبيب قد رأى بين خط الكتاب الذي تسلَّمه وخط أدما مشابهة كبيرة جدًّا بحيث كاد يجزم بأنها صاحبة الخطين، لكنه صبر إلى الغد حيث يتقابلان في الأهرام ويستطلع أمرها بنفسه. وما زال سائرًا حتى وصل إلى حلوان فأخبر والدته وشقيقته بموعد الذهاب إلى رحلة الأهرام.
وأما سليم فسار إلى غرفته، ثم غادرها إلى الحديقة حيث قضى فيها بقية النهار، ثم عاد في المساء إلى غرفته فجلس مفكرًا فيما سمعه عن سلمى وأبيها من داود في الصباح، وعادت إليه هواجسه وانفعالاته، وأخذت تتقاذفه الأوهام، ثم تذكر كتاب والدته فأراد إخراجه من جيبه لكنه أمسك تجنبًا لمضاعفة هواجسه. وبقي برهة يدخن ويفكر حتى غلبه التعب فذهب إلى فراشه. وقبل أن يروح في النوم تذكر أنه لم يعرف مكان داود حتى يجتمع به مرة أخرى ويستوضحه بعض الأمور، فأسف على ذلك واعتزم أن يغتنم أول فرصة يراه فيها ويسأله عن عنوانه.