رسول السوء
كان داود الذي وشى بسلمى وحبيب إلى سليم رجلًا دنيء الأصل، اكتسب ثروةً كبيرة من تعويضات الإسكندرية زورًا وبهتانًا، فابتاع أرضًا وبنى منزلًا هناك، ثم جاء القاهرة وأقام بها دون عمل إلا التردد إلى أماكن اللهو. وكان إلى دناءة أصله فاسد الأخلاق شديد البخل رغم غناه، ولم يكن ليستنكف أن يبيع شرفه وذمته بدراهم معدودة.
وكان مقيمًا بالقرب من بيت الخواجة سليمان، وليس في قصته التي قصَّها على سليم شيء من الصدق إلا كونه كان مقيمًا هناك، فلم يكن يزورهم إلا قليلًا، وكانوا يعاملونه معاملة الغريب كلما زارهم لاختلاف المشرب والتربية، ولم يزوروه قط. على أن نفسه الخبيثة كانت تحدثه بإمكان حصوله على سلمى بعد أن فُتن بجمالها ولطفها، ولكنه لم يجرؤ على التصريح بشيء من ذلك، ولا سيما بعد أن لاحظ إخلاص سلمى لسليم، واحتقارها له هو وعدم اكتراثها له.
وكان يقيم بالقاهرة شتاءً، ثم يعود إلى الإسكندرية فيقيم بمنزله في جهة محرم بك هناك.
واتفق ذات صيف وهو في الإسكندرية أن سكنت في المنزل المجاور لمنزله سيدة من أهل المدينة كانت على شاكلته من حيث دناءة الطبع وخسة النفس وسوء الخلق، فتوطدت العلاقات بينه وبينها، وكثر تردده لزيارتها، حتى تناقل أهل الحي أحاديث لا تسر عن وجود علاقة آثمة بينه وبين السيدة وردة جارته الجديدة.
وكانت وردة هذه قبل انتقالها إلى هذا المنزل تسكن منزلًا في شارع المسلة قرب محطة الرمل، بجانب منزل فؤاد، شقيق سليم ولما كانت السيدة والدة فؤاد وسليم من أطيب الناس قلبًا وأخلصهم طوية، فقد خدعتها مظاهر اللطف والرقة والغنى التي كانت تبدو على جارتها وأسرتها. وكان لوردة ابنة حسنة الخلقة بارعة الجمال تدعى «إميلي» تربَّت على يدي والدتها فاكتسبت منها الدهاء وسعة الحيلة والاستهتار. وتحدَّث أهل الإسكندرية بجمالها وخفَّتها وغناها، ولكنها لم تلقَ خاطبًا حتى جاوزت الثلاثين من عمرها.
فلما تعرفت والدتها إلى والدة سليم، أخذت تظهر لها كل الميل وتبالغ في التقرب إليها، وكلما اجتمعت بها أكثرت من التحدث بجمال ابنتها إميلي وحسن تربيتها وكمالها، وكانت الفتاة بدورها تظهر الوداد والاحترام للسيدة والدة سليم.
واتفق في أثناء ذلك أن عاد سليم من أوروبا حيث كان قد توجه إليها لدراسة المحاماة، فأقام حينًا بمنزل أخيه، وأعجبت به الفتاة ووالدتها كثيرًا. أما هو فكان خلي الذهن من شواغل الحب لاهتمامه بأمر مستقبله واشتغاله بالمطالعة والتنقيب في الكتب.
على أن ذلك لم يمنع الفتاة وأمها من الاحتيال لإيقاعه في شباكهما، واستطاعت وردة إغراء والدته بمكرها ودهائها حتى حملتها على خطبة ابنتها له دون علمه، على أن تحببها إليه وتقنعه بأن يتزوج بها بعد حين.
ومضت وردة تُكثر من تقديم الهدايا لوالدة سليم، وتبالغ هي وابنتها في إظهار الود والاحترام لها، حتى بعد سفر سليم إلى القاهرة وإقامته بها، وتعدانها بالسعادة الدائمة إذا تم اقتران سليم بإميلي.
أما فؤاد، شقيق سليم فكان مشغولًا بمصالحه الخاصة، ولذلك لم يكن يتدخل في شئون والدته، ولا فيما دار بينها وبين وردة وابنتها من الحديث.
وكانت والدته لشدة إخلاصها لوردة لا تخفي عليها شيئًا، فلما كتب إليها سليم من القاهرة بأنه أحب سلمى، واعتزم خطبتها تكدَّرت وذهبت بالكتاب إلى وردة وأطلعتها عليه، فأخذت هذه تقذف في حق سلمى مع أنها لا تعرف عنها شيئًا وقالت لها: «إن الناس قلما يخلصون لأحد، وإن ولدك سليمًا يستحق فتاة تليق به، وسيان عندي تزوج ابنتي أم سواها، ولكني لا أرضى له مثل تلك الفتاة!»
ثم أشارت عليها بأن ترد على خطابه ذاكرة له أن العادة المتبعة تقضي بألا يتزوج الشاب وفق اختياره هو وحده، وبأن عليه أن يترك أمر اختيار الزوجة لوالدته، ثم تحذره من المضي في صلته بسلمى.
ولم تكن أمه تعرف الكتابة، فكلفت وردة جارها داود أن يكتب ذلك الكتاب، فكتبه كما يشاء وبعث به إلى سليم.
ورد سليم على والدته بخطاب برهن فيه على صحة رأيه، وأخذ يمتدح سلمى وحسن خصالها، واستمرت المكاتبة بين سليم ووالدته حينًا، وهو لا يزداد إلا ثباتًا في الحب حتى كادت وردة أن تيأس من نيل مرامها، رغم ما دسته من الدسائس، ولفقته من الأقاصيص المختلفة.
فلما أعيتها الحيل خلت إلى شيطانها داود، واتفقت معه على أن يسعى لإفساد ما بين سليم وسلمى من العلاقات، على أن يكون له نصيب من «الدوطة».
فقال لها: «إني رهين إشارتك، وليس بيننا فرق فإن خدمتك واجبة عليَّ.»
فقالت: «إن الأمر لا يخفى عليك، ولو لم أرَ في إميلي مَيْلًا إليه ما أهمَّني أمره، ولا اضطررت إلى أن أحبه أنا أيضًا مجاراة لها.»
ولاحظت في وجه داود انقباضًا، لدى سماعه تصريحها بأنها تحب سليمًا، فتداركت الأمر، وتكلفت الضحك، ثم أمسكت يد داود وقالت له: «حذارِ أن تكون قد صدقت أني أحبه، فمهما يكن من الأمر، فإن حبي له لا يبلغ نقطة من بحر محبتي لك.»
فضحك داود فرحًا، حتى غارت عيناه الصغيرتان وبرزت أسنانه السوداء، وكاد يستلقي على قفاه، ثم نظر إلى وردة وربَّت ظهرها قائلًا: «بورك فيك يا عزيزتي، أنا أعلم ذلك جيدًا، ولا شك عندي في صدق محبتك لي، وها أنا ذا إكرامًا لعينيك سأسعى جهدي في سبيل بلوغ الغاية التي تريدينها.»
فقالت له وهي تنظر إليه بعينيها نظرات الدلال: «هكذا تكون الشهامة والنخوة، وهكذا يكون المحبون، فامضِ إلى القاهرة ودبِّر الأمر بحكمتك وذكائك، وإني لفي انتظار ما يكون.»
فنهض داود واعدًا بالتأهب للسفر فورًا، فصافحته مودعة ووضعت في يده بضعة جنيهات قائلة: «هذه نفقات الطريق.» فقبض الجنيهات وخرج بها مسرورًا.
ثم أغرت وردة والدة سليم صديقتها بكتابة خطاب إليه تخبره فيه بما يطابق الرسالة التي كلفت بها داود، فتأثرت والدته الطيبة القلب بإغرائها، وبعثت إليه بذلك الخطاب.
•••
كانت لوردة خادمة قديمة عجوز اسمها سعيدة، تماثلها في المكر واللؤم والخسة، فدعتها وردة إليها بعد خروج داود من عندها، وأنقدتها جنيهين قائلة: «إن إخلاصك يستحق أكثر من هذه الهبة المتواضعة، ولكن الأيام بيننا.»
فعجبت العجوز لهذه العطية على غير انتظار، وعلمت لدهائها ومكرها أن سيدتها تريد منها أمرًا، فهمَّت بيدها وقبَّلتها وقد انبسط وجهها، وأخذت تدعو لها بطول البقاء، وأن يتم الله نعمته عليها بتوفيق ابنتها إميلي إلى زوج يسعدها، فتنهدت وردة وقالت: «أنت تعلمين يا سعيدة أني ترملت منذ سنين وليس لي إلا هذه الفتاة.»
قالت: «نعم يا سيدتي، وأدعو الله أن يطيل عمركما، ويعوض صبركما خيرًا.»
فقالت وردة: «إني زهدت الدنيا من أجلها، فهي تعزيتي الوحيدة في هذا العالم، ولا يخفى عليك ما هي عليه من الجمال واللطف والدلال، وقد خطبها كثيرون من خير شباب الإسكندرية، ولكنها لم ترضَ بأحد منهم، ولم أشأ أن أرغمها على القبول، وأخيرًا رزقها الله بخطيب نال رضاها وإعجابها، فكانت فرحتي بذلك عظيمة. ولكن أولاد الحرام أغرو الشاب بحب فتاة أخرى في القاهرة، وعبثًا حاولت والدته أن تنقذه من حب تلك الفتاة.»
فقالت سعيدة مغضبة: «لعنة الله عليها وعلى من أوقعوه في شراكها، ألم تعرفي شيئًا عنها يا سيدتي؟»
قالت: «إنها تقطن في شارع شبرا بالقاهرة، واسمها سلمى، واسم أبيها الخواجة سليمان. ويبدو أنها وأهلها يشددون الخناق على سليم لكيلا يتركوا له فرصة للتروي والتفكير.»
فقالت سعيدة: «صدق من قال: أولاد الحرام لم يتركوا شيئًا لأولاد الحلال، ولكن صبرًا فسأعرف كيف أنقذه منهم بإذن الله، وسأسافر فورًا إلى القاهرة ولن أرجع إلى الإسكندرية إلا وهو معي.»
قالت ذلك ومضت إلى غرفتها، فأخذت تعد ثيابها تأهبًا للسفر، وتبعتها سيدتها لتودعها وأخذت توصيها بكتمان الأمر عن كل إنسان. وبعد أن أعدَّت سعيدة ما تحتاج إليه من الثياب في صرة، تناولت شيئًا من الطعام ثم ودَّعت سيدتها وخرجت توًّا إلى المحطة فركبت القطار قاصدة إلى القاهرة، فوصلت إليها في المساء. وكانت تعرف طرقاتها لأنها ربيت فيها وخدمت في كثير من بيوتها، فقضت ليلتها في بيت بعض أقربائها، ثم بكَّرت في صباح اليوم التالي فارتدت ملاءتها وتبرقعت، وقصدت إلى بيت الخواجة سليمان في شارع شبرا، فاتفق وصولها إليها قبل ثلاثة أيام من رحلة الأهرام السالفة الذكر.
وقرعت الباب، ففتحته لها والدة سلمى بنفسها وسألتها عما تريد، فقالت: «إني امرأة مسكينة ليس لي من يعولني وقد طرقت أبواب الخدمة في المنازل بوساطة المخدمين فكانوا كلما خدمت في بيت يأخذون نصف أجري ظلمًا وعدوانًا، وإلا عملوا على طردي من المنزل الذي أخدم فيه. وأخيرًا اعتزمت أن أبحث بنفسي عن عمل أعيش منه، وما زلت أواصل البحث عن أسرة كريمة طيبة حتى دلني بعض أولاد الحلال على هذا البيت. وإني أحمد الله على أن وفقني إلى بيتكم؛ إذ يبدو لي أنك سيدة فاضلة كريمة. فإذا رأيت أن أكون خادمة عندك، فذلك ما أتمناه، وسترين مني ما يسرك بإذن الله.»
وكانت والدة سلمى قد عانت عذابًا أليمًا بسبب الخدم والمخدمين، وكثيرًا ما كانت تطلب من المخدم خادمة وتنقده أجره على ذلك مضاعفًا، ولكنه لا يلبث بضعة أيام حتى يغري الخادمة بالخروج من عندها؛ لكي يلحقها بالخدمة في بيت آخر وينال أجرًا جديدًا، وهذه حالة يشكو منها أكثر أهل القاهرة، ولا سيما السيدات لاحتياجهن إلى الخدم. وكان في بيت الخواجة سليمان خادمة من هذا القبيل لا تكاد تحسن عملًا من أعمال البيت؛ لهذا ما كادت والدة سلمى تسمع كلام سعيدة، مع ما عاينت فيها من الظواهر الحسنة حتى سُرَّت بتلك الفرصة وهرولت إلى سلمى وأخبرتها بالأمر، فوافقتها على استخدامها بدلًا من الخادمة القديمة، ولكنها قالت لها: «على أني أخشى أن تكون الخادمة الجديدة من المحتالات، وربما سرقت شيئًا من البيت!»
فعادت أمها إلى سعيدة وسألتها عن اسمها، فلما نبأتها به قالت لها: «إن العادة جرت يا سعيدة بأن يأتي الخادمات بضمانة، فهل تستطيعين ذلك؟»
فتنهدت وقالت: «لقد صرحت لك يا سيدتي بما عانيته من المخدمين وضمانتهم، فلست أستطيع أن آتي بضمانة، ولكنَّ عندي سوارًا وقرطًا ثمينين فاجعليهما عندك إلى أن تتحققي أمانتي.»
فاقتنعت بذلك، وألحقتها بخدمة البيت بدلًا من الخادمة القديمة، فأخذت سعيدة تُظهر من المهارة في الخدمة والنظافة ولطف الحديث ما جعلها موضع إعجاب سلمى ووالدتها، وحسبتا أنهما حصلتا على سعادة لم يحصل عليها أحد سواهما.
وكانت سعيدة تمتدح سلمى دائمًا، وتبالغ في التقرب إليها وإظهار التفاني في محبتها، فأحبتها سلمى وأشارت باصطحابها معهم في رحلة الأهرام.
أما داود فبارح الإسكندرية بالقطار السريع، وقضى معظم الطريق في إعداد القصة التي قصها على سليم، ثم عاد إلى الإسكندرية وفي ظنه أن قصته مع الخطاب الذي كتبته وردة إلى سليم على لسان والدته فيهما ما يكفي لعدوله عن حب سلمى.
وتربص الجميع هناك في انتظار رد سليم على خطاب والدته بعد مقابلة داود، فمضى أسبوع دون أن يصل إليهم أي شيء منه. على أن وردة كانت كبيرة الأمل في أن تنال بغيتها على يد سعيدة فلبثت تنتظر أخبارها على أحر من الجمر.
•••
ركب حبيب القطار عائدًا إلى حلوان مع والدته وشقيقته، وقد كان في متمناه ألا يفارق أدما، على أنه أشار إليها عند الوداع بما يدل على أنه فارقها مرغمًا، وسيلتقي بها عما قريب.
وكانت هي قد أحسَّت عند وقوف العربات للوداع عند محطة حلوان، بأن قلبها سينتزع منها، ولكنها تعللت بقرب اللقاء لأن حبيبًا تعود التردد على بيت أبيها من حين إلى حين.
وبقي حبيب في القطار صامتًا سابحًا في تيار من الهواجس التي لم يشعر من قبل بمثلها، لكنه رغم سروره بما تحققه من حب أدما، كان يشعر بانقباض داخلي لا يعرف له سببًا.
ولاحظت والدته صمته وانقباضه فقالت له: «ما لي أراك صامتًا يا حبيب بعد أن كنت مسرورًا جدًّا في الأهرام، هل أنت متكدر من شيء؟»
فانتبه لنفسه بغتة وقال مبتسمًا: «لا يا والدتي ليس هناك ما يكدرني، بل أنا في غاية السرور من نزهة هذا اليوم، ولا أعلم لماذا يشعر الإنسان بعد مثل هذا السرور بالانقباض، ولعل هذا من قبيل رد الفعل، وعلى كل حال هذه ليست المرة الأولى التي شعرت فيها بمثل هذا الشعور، فإني كلما عدت من مجتمع سارٍّ أبقى مدة صامتًا أراجع في مخيلتي ما شاهدته من المناظر وما سمعته من الأحاديث.»
فقالت شقيقته: «هذا صحيح، فأنا أيضًا أشارك حبيبًا في هذا الشعور، وها أنا ذا كنت صامتة مثله أفكر فيما سعدنا به اليوم في رحلتنا اللطيفة، خصوصًا لوجودي مع صديقتي أدما.»
فلما سمع حبيب اسم أدما، خفق قلبه وعاد إلى هواجسه، فقالت والدته تخاطب شقيقته: «حقًّا يا شفيقة إن أدما عاقلة لطيفة قريبة من القلب كثيرًا، وقد كنت تمدحينها أمامي كثيرًا ولكنني عاينت منها فوق ما كنت أسمع.»
فَسُرَّ حبيب لهذا الحديث، وأراد أن يستزيد من معرفة رأي والدته في أدما، فقال لها: «ألم تعرفيها قبل الآن يا أماه؟»
فقالت: «لا يا ولدي، ولكني كنت أسمع عنها مدحًا كثيرًا من شقيقتك منذ كانتا زميلتين في المدرسة في بيروت، وقد رأيتها قبل اليوم في زيارات سريعة لأسرتها. أما اليوم فقد قضينا معظم النهار معًا فرأيت منها لطفًا كثيرًا وأدبًا جمًّا وأعجبني تهذيبها ولطف حديثها، كما سرَّني تعلقها بشفيقة وتعلق شفيقة بها.»
فقال: «إن أيام المدرسة تنمو فيها المحبة وتشتد.»
فقالت شفيقة: «صدقت يا أخي، ولكني أحببت أدما أكثر مما أحببت غيرها من رفيقاتي.»
فقال حبيب وقد ازداد سروره لمحبة والدته وشقيقته لأدما: «إنها حقًّا غاية في اللطف والتهذيب وجديرة بكل إعجاب وتقدير.»
وكانت والدته أثناء ذلك تفكر في خطبة أدما لحبيب، فأرادت أن تستطلع رأيه في ذلك ولكنها أمسكت عن ذلك لوجود ابنتها معهما على أن تنتهز فرصة أخرى لمخاطبته في هذا الشأن.
وهكذا انقطع الحديث حتى وصل القطار إلى حلوان.