كلب الصيد ذو الصدرة الصوفية الحمراء
عرَفَت بوبي السر الآن. صفحةٌ من جريدةٍ قديمةٍ تُغلِّف طردًا — مجرد صدفة صغيرةٍ مثل هذه — كشفَت لها السر. وكان عليها أن تنزل لتناول الشاي وأن تتظاهر بأنه لم يكن ثمة مشكلة. تظاهرَتْ بوبي بما أرادت التظاهر به في شجاعة، لكنَّ تظاهرها لم ينجح النجاح المرجو.
فعندما دخلَت عليهم رفع الجميع رءوسهم عن الشاي ورأوا عينَيها المتوردتَي الجفنَين ووجهَها الشاحبَ وقد تناثرت عليه بقعٌ حمراء من أثر الدموع.
صاحت أمها وقد هبَّتْ واقفةً عن صينية الشاي: «ما لكِ يا حبيبتي، ما الأمر؟»
قالت بوبي: «إن رأسي يُؤلمني، قليلًا.» وكان يؤلمها بالفعل.
سألتها أمها: «هل حدث أي مكروه؟»
قالت بوبي: «أنا بخير، حقًّا.» وأرسلت إلى أمها بعينَيها المتورمتَين هذه البرقية المتوسِّلة المختصرة: «ليس أمام الآخرين!»
لم تكن البهجة ترافق وجبة الشاي. كان بيتر مبتئسًا للغاية لأنه لمْ يكن خافيًا أنَّ شيئًا ما مُروعًا قد أصاب بوبي، لدرجة أنه قَصَر كلامَه على تكرار عبارة: «المزيد من الخبز والزبد من فضلك.» على فتراتٍ قريبةٍ بصورة مفزعة. أخذت فيليس تربت على يد أختها من تحت المنضدة لتُعبِّر لها عن تعاطفها معها، وسكبت فنجان لبنها وهي تفعل هذا. ساعد بوبي قليلًا أن تُحضِر قطعة قماشٍ وتجفف بها اللبن المسكوب. لكنها أحسَّت أن وجبة الشاي لن تنتهيَ أبدًا. ولكنها انتهت أخيرًا، كما تنتهي جميعُ الأشياء في نهاية المطاف، وعندما أخرجَت أمهم صينية الشاي، تبعتْها بوبي.
قالت فيليس لبيتر: «لقد ذهبت لتعترف بخطأٍ عمِلَتْه. تُرى ماذا فعلت.»
قال بيتر: «أظنها كسرتْ شيئًا ما. لكن ما كان عليها أن تتصرف بكل هذه السخافة من أجله. إن أمنا لا تتشاجر أبدًا حول الحوادث العارضة التي تقع دون قصد. أنصتي! نعم، إنهما تصعدان إلى الطابق العلوي. إنها تصحب أمنا إلى الأعلى لتُريَها … دورقَ الماءِ المرسومَةَ عليه طيورُ اللقلاق، أتوقع أن يكون هذا ما تحطم.»
كانت بوبي، وهما في المطبخ، قد أمسكتْ بيد أمها بعدما وضعتْ أغراض الشاي.
فسألتها أمها: «ما الأمر؟»
لكنَّ بوبي لمْ تزد على أن قالت: «تعالَي إلى الطابق العلوي، تعالَي نصعد إلى حيث لا يستطيع أحدٌ أن يسمعنا.»
عندما انفردتْ بوبي بأمها في غرفتها أغلقتِ الباب ثم ظلتْ واقفةً بلا حراك في مكانها، ولمْ تنطق بكلمة.
لقد كانت تفكر طوال وقت الشاي فيما ستقوله؛ وكانت قد قررت أن عباراتٍ من قبيل «إنني أعرف كل شيء.» أو «لقد تبين لي كل شيء.» أو «لم يعد السرُّ الرهيب سرًّا بعد.» ستكون هي الأنسب. لكنها عندما أُفردت هي وأمها وورقة الجريدة المُخيفة تلك في الغرفة، وجدتْ نفسها عاجزةً عن قول أي شيء.
فجأةً توجهتْ إلى أمها وطوقتها بذراعَيها وانخرطتْ في البكاء من جديد. وظلتْ عاجزةً عن الكلام، سوى عن قول: «آهٍ يا أماه، آهٍ يا أماه، آهٍ يا أماه.» وأخذت تكررها مرةً بعد أخرى.
ضمتها أمها إليها بشدةٍ وانتظرتْ.
فجأةً تركتها بوبي وذهبتْ إلى فراشها. ومن تحت مرتبتها سحبت ورقة الجريدة التي كانت تخبئها هناك، وفتحتها، ثم أشارت إلى اسم أبيها بإصبعٍ مرتعشة.
عندما عرَفتْ أمُّها من نظرةٍ صغيرةٍ خاطفةٍ واحدةٍ ما الذي أرتها بوبي إياه صاحتْ قائلة: «يا إلهي، بوبي. إنكِ لا تصدقين هذا، أليس كذلك؟ لا تُصدقين أن أباكِ قد فعل هذا، أليس كذلك؟»
كادتْ بوبي تصرخ تقريبًا وهي تقول: «بلى، لا أُصدق.» وتوقفتْ عن البكاء.
قالت أمها: «لا بأس. إنه غير صحيح. ولقد زجوا به في السجن، لكنه لمْ يرتكب أي خطأ. إنه رجلٌ صالحٌ وشهمٌ وشريف، وهو واحدٌ منَّا. يجب أن نؤمن بهذا، وأن نفتخر به، وأن نصبر.»
احتضنت بوبي أمَّها من جديد، ومرةً أخرى لم تُسعفها سوى كلمةٍ واحدة، لكن في هذه المرة كانت الكلمة: «أبي» ثم «آهٍ يا أبي، آهٍ يا أبي، آهٍ يا أبي!» مرةً بعد مرة.
ثم سألت بعد مدةٍ قصيرة: «لماذا لمْ تخبريني يا أمي؟»
سألتها أمها: «وهل ستخبرين أنتِ الآخرين؟»
«لا.»
«ولمَ؟»
«لأنه …»
قالت أمها: «بالضبط، إذن لقد عرفتِ لماذا لمْ أُخبركِ. يجب أن تساعد إحدانا الأخرى على التحلي بالشجاعة.»
قالت بوبي: «نعم. أمي، هل سيَزيد من حزنك أن تخبريني كل شيءٍ عن الأمر؟ أريد أن أفهم.»
وهكذا استمعتْ بوبي — وهي جالسةٌ وأمُّها تضمها إليها بقوةٍ — استمعتْ إلى «كل شيءٍ عن الأمر.» سمعتْ كيف أن ذَينِك الرجلَين، اللذَين طلبا مقابلةَ أبيها في تلك الليلة الأخيرة التي لم تُفارق أذهانهم عندما كانوا يُصلِحون القاطرة اللعبة، كيف أنهما إنما جاءا ليقبضا عليه، وكيف أنهما اتهماه ببيع أسرار الدولة للرُّوس؛ وبأنه في الحقيقة جاسوسٌ وخائن. سمعت بوبي عن المحاكمة، وعن الأدلة؛ التي كانت عبارة عن رسائل، وقد عُثِر عليها في مكتب أبيها في مقر عمله، رسائل أقنعَت هيئةَ المحلَّفين بإدانةِ أبيها.
صاحت بوبي: «يا إلهي، كيف ينظرون إليه ثم يُصدِّقون هذه التهمة! وكيف يمكن لأي أحدٍ أن يصدقها!»
قالت أمها: «لقد صدقها شخصٌ ما، وقد كانت الأدلة كلها ضد أبيك. تلك الرسائل …»
«نعم. كيف وصلت الرسائل إلى داخل مكتبه؟»
«لقد وضعها أحدُهم هناك. والشخص الذي وضعها هناك كان هو المُذنب في الحقيقة.»
قالت بوبي في تمعن وتدبر: «لا بد أنه يشعر باستياءٍ شديدٍ من نفسه طوال ذلك الوقت.»
قالت أمها في انفعال: «لا أظن أن لديه أيَّ مشاعر. لو كانت لديه مشاعر لما فعل شيئًا مثل هذا.»
«لعله دس الرسائل في المكتب فقط ليُخفِيَها عندما ظنَّ أن أمره سيُكتشَف. لماذا لا تخبرين المحامين، أو أحدًا ما، بأنه لا بد أن ذلك الشخص هو الذي فعلها؟ ما كان أحد ليتعمَّد إيذاء أبي، أليس كذلك؟»
«لا أعرف، لا أعرف. لقد كان مرءوس أبيكِ في العمل والذي أخذ مكانه بعدما … بعدما وقعتْ تلك المصيبة؛ كان يغار من أبيكِ دائمًا؛ لأن أباكِ كان ماهرًا جدًّا وكان الجميعُ يحترمونه للغاية. كما أن أباكِ لمْ يكن يثق في ذلك الرجل مطلقًا.»
«ألا يمكننا أن نشرح هذا كله لأحدٍ ما؟»
قالت أمها بمرارةٍ شديدة: «لا أحد سيسمعنا؛ لا أحد على الإطلاق. أتظنين أني لمْ أُجرِّب كل شيء؟ لا يا حبيبتي، ليس أمامنا ما نفعله. كل ما يمكننا فعله، أنا وأنتِ وأبوكِ، أن نتحلى بالشجاعة والصبر و…» كانت تتكلم بهدوءٍ شديد، وأضافت: «وأن ندعو يا حبيبتي بوبي.»
قالت بوبي فجأةً: «أمي، لقد أصبحتِ نحيلةً جدًّا.»
«نحلتُ قليلًا، ربما.»
قالت بوبي: «و… يا إلهي، إنني حقًّا أراكِ أشجعَ إنسانٍ في الدنيا وألطفَ إنسانٍ كذلك!»
قالت أمها: «لن نتكلم عن هذا كله بعد الآن، أليس كذلك يا عزيزتي؟ يجب أن نتحمل وأن نتحلى بالشجاعة. وحاولي يا حبيبتي ألَّا تفكري في الأمر. حاولي أن تبتهجي، وأن تُسعِدي نفسكِ والآخرين. سوف تَهون المحنةُ على نفسي كثيرًا إذا استطعتم أن تَسعدوا قليلًا وأن تستمتعوا بالأشياء. اغسلي وجهَكِ المستدير المسكين الصغير، وتَعالَي نخرج إلى الحديقة قليلًا.»
كان الاثنان الآخران في غاية الرقة والطيبة مع بوبي. كما أنهما لمْ يسألاها عن الأمر. كانت هذه فكرةَ بيتر، وقد درب فيليس التي كان لتسأل مائةَ سؤالٍ لو أنها تُرِكَت لنفسها.
قالت بوبي: صديقي العزيز، أترى المكتوب في هذه الجريدة؟ إنه غير صحيح. إن أبي لمْ يرتكب هذه الجريمة قط. إن أمي تقول إن شخصًا ما قد وضع الأوراق في مكتب أبي، وتقول إن الرجل الذي كان يرأسه أبي والذي أخذ مكانه فيما بعد كان يغار من أبي، وإن أبي ظل يشك فيه مدةً طويلة. لكنَّ أحدًا لمْ يُنصِت لكلمةٍ مما قالته، ولكنكَ طيب وبارع جدًّا، وقد عرَفتَ مكان زوجة السيد الروسي في الحال. ألا تستطيع أن تكتشف الخائن؟ لأنه ليس أبي، قسمًا بشرفي؛ إن أبي إنجليزي مخلصٌ لبلده ولا يستطيع ارتكاب مثل هذه الأشياء، وساعتها سيُخرِجون أبي من السجن. إنه أمرٌ فظيع، وأمي آخذةٌ في النحول. لقد طلبتْ منا ذات مرةٍ أن نُصليَ من أجل جميع السجناء والأسرى. لقد فهمتُ الآن. يا إلهي، أرجوك ساعدني؛ لا أحد يعرف بالأمر سواي أنا وأمي، ولا نستطيع عمل أيِّ شيء. بيتر وفِل لا يعلمان شيئًا. سوف أُصلي من أجلكِ مرتَين كل يومٍ طوال حياتي لو أنكَ حاولتَ فقط؛ فقط حاول اكتشاف الخائن. تخيل أنه كان أباك أنتَ، بمَ كنتَ ستشعر؟ أرجوك، ساعدني، ساعدني، ساعدني. لك كل الحُب.
ملحوظة: كانت أمي سترسل لك طيِّبَ تحياتها لو علمتْ أنني أكتب إليك؛ لكن لا فائدة من إخبارها بذلك، إذا لم تستطع فعل شيء. لكنني أعرف أنك ستستطيع. المُحبة بوبي.
قطعتْ بوبي بمقص أمها الكبير ذلكَ الجزءَ من الجريدة الذي يتناول محاكمة أبيها، ووضعتْه في المظروف مع رسالتها.
بعد ذلك أخذت المظروف إلى المحطة، وقد خرجتْ من الجهة الخلفية واستدارت حول الطريق، وذلك حتى لا يراها الآخران ويعرضا عليها القدوم معها، وأعطت الرسالة لناظر المحطة كي يُعطيها للسيد العجوز في صباح اليوم التالي.
صاح بيتر، من فوق سور الفناء حيث كان يجلس هو وفيليس: «أين كنتِ؟»
قالت بوبي: «كنت في المحطة بالطبع. ناولني يدكَ يا بِيت.»
وضعتْ بوبي قدمها على قفل باب الفناء، ومد لها بيتر يده.
«ماذا هنالك؟» هكذا سألتهما بوبي عندما وصلت إلى أعلى السور؛ فقد كان فيليس وبيتر مُلطَّخَين تمامًا بالوحل. كانت كتلة من الطين الرطب موضوعةً بينهما فوق السور، وكان كلٌّ منهما يُمسِك كسرةً من لوحِ أردواز بيدٍ شديدة الاتساخ، كما كان خلف بيتر — في مكانٍ آمن بعيدٍ عن يد الحوادث — عدة أشياء غريبة مستديرة تكاد تشبه قطع نقانق ممتلئة للغاية، كانت مجوفةً، لكنها كانت مغلقةً من أحد أطرافها.
قال بيتر: «إنها أعشاش، أعشاشٌ لطيور السنونو. سوف نُجفِّفها في الفرن، ثم نُعلِّقها بخيط تحتَ أفاريز مرأب العربات.»
قالت فيليس: «نعم، ثم سنجمع كل ما نستطيع تجميعه من الصوف والشعر، وسننظم الأعشاش في صفوفٍ عندما يأتي فصل الربيع، ويا للسعادة التي ستحظى بها طيور السنونو عندئذٍ!»
قال بيتر بنبرةٍ توحي بالفضيلة: «كثيرًا ما جال بذهني أن الناس لا يكادون يبذلون ما يكفي الحيوانات العجماء. أعتقد أن الناس ربما يكونون قد فكروا في صناعة أعشاشٍ لطيور السنونو المسكينة من قبل.»
قالت بوبي بشرود وغموض: «أوه، لو كان الجميعُ فكروا في كل شيءٍ لَما تبقى ما يُفكر فيه غيرُهم.»
قالت فيليس، وهي تمد يدها من أمام بيتر كي تُمسك بأحد الأعشاش: «انظري إلى الأعشاش، أليست جميلة؟»
قال أخوها: «احترسي يا فِل، أنتِ أيتها الخرقاء.» لكن كلامه كان متأخرًا جدًّا؛ إذ كانت أصابعها الصغيرة القوية قد حطمت العش.
قال بيتر: «ما العمل الآن؟»
قالت بوبي: «لا عليك.»
قالت فيليس: «إنه أحد أعشاشي أنا، فلا داعي للتوبيخ يا بيتر. نعم، لقد وضع كلٌّ منا الحرف الأول من اسمه على الأعشاش التي صنعها، لكي تعرف طيورُ السنونو من الذي يجب عليها أن تكون ممتنةً له ومُولعةً به.»
قال بيتر: «إن طيور السنونو لا تستطيع القراءة أيتها الحمقاء.»
ردت فيليس: «بل أنت الأحمق. من أين عرفتَ أنها لا تستطيع القراءة؟»
صاح بيتر: «من الذي فكر في صناعة الأعشاش على كل حال؟»
صرخت فيليس قائلةً: «أنا.»
رد بيتر بفظاظة: «هراء، إنما فكرتِ فحسب في عمل أعشاشٍ من القش وإلصاقها في نبات اللبلاب من أجل العصافير، وكان البلل سيغمرها قبل وقت وضع البيض بكثير. أنا الذي اقترحتُ الطين والسنونو.»
«لا يهمني ما قلتَه.»
ظل بيتر مصرًّا على رأيه، وقال: «إنها لا تستطيع التهجيَ على الإطلاق.»
«فلماذا إذن تراها دائمًا على بطاقات عيد الميلاد وبطاقات التهنئة بعيد الحب حاملةً رسائل حول أعناقها؟ كيف كانت ستعرف إلى أين تذهب لو لم تكن تستطيع القراءة؟»
«إن هذا في الصور فقط. إنكِ ما رأيتِ قط أحدَها وهو يحمل بعض الرسائل حول عنقه حقيقةً.»
«حسنٌ، سأقتني حمامةً إذن؛ على الأقل لقد قال لي أبي إن الحمام يحمل الرسائل. لكنه فقط كان يحملها تحت أجنحته وليس حول أعناقه، لكنها تؤدي الغرض نفسه، كما أن …»
قاطعتها بوبي قائلةً: «اسمعا، سوف يُقام سباق الأرانب وكلاب الصيد غدًا.»
سألها بيتر: «مَن سيلعبها؟»
«مدرسةٌ ثانوية. يعتقد بيركس أن الأرانب ستنطلق عبر خط السكة الحديدية أولًا. نستطيع نحن أن نجري في النفق المكشوف. يمكننا أن نرى لمسافةٍ كبيرةٍ من هناك.»
اكتشف الأطفال أن الحديث عن سباق الأرانب وكلاب الصيد كان مُسليًا أكثر من الحديث عن قدرة طيور السنونو على القراءة. كانت بوبي تأمل أن يكون مسليًّا. وفي صباح اليوم التالي سمحت لهم أمهم بأخذ غدائهم والخروج طوال اليوم لرؤية سباق الأرانب وكلاب الصيد.
قال بيتر: «لو ذهبنا إلى النفق المكشوف، سوف نرى العُمَّال هناك، حتى لو فاتتنا رؤية سباق الأرانب وكلاب الصيد.»
لا شك أن تنظيف خط السكة الحديدية من الصخور والتراب والأشجار التي سقطتْ عليه يوم وقوع الانهيار الأرضي الكبير قد استغرق بعضَ الوقت. كانت تلك هي الواقعة — كما تذكرون — التي أنقذ فيها الأطفالُ الثلاثةُ القطارَ من التحطمِ عندما لوحوا له بست رايات صوفية حمراء صغيرة. من الممتع دائمًا رؤية الناس وهم يعملون، خاصةً عندما يعملون بمثل هذه الأشياء المثيرة للاهتمام كالجواريف والمعاول والرفوش والألواح الخشبية وعربات اليد، وعندما يُوقدون نيرانًا متوهجةً كثيرةَ الجمر في أوعيةٍ حديديةٍ ذاتِ ثقوبٍ مستديرة، ويُعلِّقون مصابيحَ حمراء بالقرب من منطقة العمل أثناء الليل. إن الأطفال بالطبع لمْ يخرجوا قط من البيت أثناء الليل؛ باستثناء مرة واحدة، وقتَ الغسق، عندما خرج بيتر من نافذة سقف حجرته إلى أعلى السطح، حين رأى المصباح الأحمر يلتمع على مسافةٍ بعيدةٍ عند حافة النفق المكشوف. كثيرًا ما كان الأطفال يذهبون إلى النفق لرؤية أعمال التنظيف، وفي ذلك اليوم أخرج اهتمامُهم بالمعاول والجواريف، وعرباتِ اليد التي يدفعها العمال فوق الألواح الخشبية، أخرجَ سباق الأرانب وكلاب الصيد من رءوسهم تمامًا؛ لذا فقد انتفضوا بقوة فزعًا عندما سمعوا صوتًا خلفهم مباشرةً يقول لاهثًا: «أفسحوا لي الطريق لو سمحتم.» لقد كان اللاعب الذي يقوم بدور الأرنب؛ كان فتًى ضخم الجسم، مرتخيَ الأطراف، وكان شعره الأسود مسترسلًا على جبينٍ غارقٍ في العرق. كانت الحقيبة المملوءة بقصاصات الورق والتي يحملها تحت ذراعه مثبتةً على أحد كتفَيه بحزام. تنحَّى الأطفال عن الطريق. وأخذ الفتى الذي يقوم بدور الأرنب يجري عبر خط السكة الحديدية، واستند العمال على معاولهم ليشاهدوه. راح الفتى يجري دون توقفٍ حتى وارته فتحةُ النفق المغلق.
قال مُلاحظ العمال: «هذا مخالفٌ لقوانين شركة السكة الحديدية.»
قال أَقدم العمال: «ولمَ تشغل بالك؟ إن شعاري في الحياة هو تمتع بحياتك ودع الآخرين يتمتعون بحياتهم. أما كنتَ فتًى صغيرًا يا سيد بيتس؟»
قال مُلاحظ العمال: «يجب أن أبلغ عنه.»
«إن شعاري في الحياة هو لماذا أقتل فرحة الآخرين.»
تمتم ملاحظ العمال بنبرةٍ متشككة: «لا يُسمَح للركاب بعبور خط السكك الحديدية تحت أي ذريعة كانت.»
قال أحد العمال: «لكنه ليس من الركاب.»
قال آخر: «كما أنه لمْ يعبر الخط؛ إنه لم يفعلها حيث نستطيع أن نراه.»
قال ثالث: «ولا هو حتى قدَّم أيَّ ذريعة.»
قال أقدم العمال: «كما أنه قد غاب عن أنظارنا الآن. إن شعاري في الحياة هو أن ما لا تراه العين لا ينبغي أن يشغل القلب.»
وفي هذه اللحظة، ومن خلال تتبع أثر الأرنب من بُقع الورق الصغيرة المتناثرة، جاءت كلابُ الصيد. كانوا ثلاثين فتًى، ونزلوا جميعًا على درجات السلم الشديدة الانحدار الشبيهة بدرجات سلمٍ نقَّال، فُرادى وفي مجموعات ثنائية وثلاثية وسداسية وسباعية على التوالي. كانت بوبي وفيليس وبيتر يعدونهم أثناء مرورهم. تردد الفتيةُ الذين في المقدمة قليلًا عند قاعدة السلم، ثم لمحتْ أعينُهم بريقَ بياضٍ متناثرٍ على امتداد خط السكة الحديدية فتوجهوا إلى النفق، وراحت فتحته المظلمة تواريهم واحدًا واحدًا واثنَين اثنَين وثلاثةً ثلاثةً وستةً ستةً وسبعةً سبعة. بدا آخرُ واحدٍ منهم، وكان يرتدي صدارةً صوفيةً حمراء، وكأنما ظُلمة النفق قد أطفأته مثلَ شمعةٍ خبا ضوءُها.
قال ملاحظ العمال: «إنهم لا يعرفون ما هم مُقدِمون عليه من مشاكل؛ إن الجري في الظلام ليس بهذه السهولة. وإن في النفق لَمنعطفَين أو ثلاثة.»
تساءل بيتر قائلًا: «أتظنان أنهم سيستغرقون وقتًا طويلًا في عبور النفق؟»
«ساعة أو يزيد، على ما أظن.»
قال بيتر: «تعاليا نختصر الطريق إذن ونصعد فوق النفق لنراهم عندما يخرجون من الناحية الأخرى؛ سوف نصل هناك قبل وصولهم بمدةٍ طويلة.»
بدَت النصيحةُ جيدةً، فانطلقوا إلى هناك.
تسلق الأطفال الدَّرج شديد الانحدار الذي وقفوا عليه عندما قطفوا نُوار الكرز البري من أجل لحد الأرنب البري الصغير، وعندما وصلوا إلى قمة النفق المكشوف صوبوا وجوههم ناحية التلة التي نُحِت فيها النفقُ المغلق. لقد كان جهدًا شاقًّا.
قالت بوبي بأنفاسٍ متقطعة: «إنها تشبه جبال الألب.»
قال بيتر: «أو جبال الأنديز.»
قالت فيليس لاهثةً: «إنها كسلسلة جبال الهيما … ماذا تُسمَّى؟ أو جبل إفرلاستينج. لنتوقف الآن.»
قال بيتر لاهثًا: «بل استمري، سوف تستردين أنفاسكِ قريبًا.»
وافقت فيليس على الاستمرار في التسلق؛ وواصلوا تقدمهم، وكانوا يجرون عندما يكون العُشب ناعمًا والانحدار قليلًا، وكانوا يتسلقون الحجارة، ويستعينون بفروع الأشجار على اعتلاء الصخور، ويزحفون عبر الفتحات الضيقة بين جذوع الأشجار والصخور، وظلوا هكذا يتقدمون ويصعدون، حتى وقفوا أخيرًا فوق قمة التلة نفسها التي كثيرًا ما تمنوا أن يقفوا فوقها.
«توقفا!» هكذا صاح بيتر، وانطرح فوق العُشب؛ حيث كانت قمةُ التلة منبسطةً وكان يكسوها عُشبٌ ناعم، وانتشر في أماكن متفرقة منها صخورٌ مغطاةٌ بالطحالب وأشجار صغيرة من الغبيراء البرية.
انطرحت البنتان كذلك على العشب.
قال بيتر وهو يلهث: «أمامنا الكثير من الوقت لمشاهدة السباق. إن ما تبقى من رحلتنا سيكون سهلًا.»
بعدما حصلوا على ما يكفي من الراحة كي ينهضوا وينظروا حولهم، صاحت بوبي:
«يا إلهي، انظرا!»
قالت فيليس: «إلامَ ننظر؟»
قالت بوبي: «المنظر.»
قالت فيليس: «أنا أكره المناظر، ألا تكرهها يا بيتر؟»
قال بيتر: «هيا لننطلق.»
«لكن هذا ليس كالمناظر التي يأخذونكم إليها في عربات الخيل عندما تكونون على شاطئ البحر، تلك المناظر التي لا تتجاوز البحر والرمال والتلال الجرداء. إنه يشبه «الأقاليم الملونة» في واحدٍ من دواوين قصائد أمي.»
قالت بوبي: «أُحب هذا المنظر. إنه يستحق عناء التسلق.»
قالت فيليس: «إن لعبة الأرانب وكلاب الصيد تستحق عناء التسلق، هذا إذا لمْ تفتنا. هيا لننطلق. سيكون كلُّ شيء سهلًا الآن.»
قال بيتر: «لقد قلتُ هذا منذ عشر دقائق.»
قالت فيليس: «حسنٌ، وقد قلتُه أنا الآن، هيا بنا.»
قال بيتر: «أمامنا وقتٌ طويل.» وكان الأمر كذلك بالفعل؛ لأنهم عندما نزلوا إلى مستوًى مُوازٍ لِقمة فتحة النفق — فقد أسقطوا من حساباتهم للمسافة حوالي مائتَي ياردة ويلزمهم أن يزحفوا على امتداد سطح التلة — لم يكن ثمةَ أثرٌ للأرنب ولا لكلاب الصيد.
قالت فيليس عندما اتكَئوا على الحاجز القرميدي المنخفض فوق النفق: «لا شك أنهم خرجوا منذ مدةٍ طويلة.»
قالت بوبي: «لا أعتقد هذا، لكنهم حتى لو كانوا خرجوا فإن المكان رائعٌ هنا، وسوف نرى القطارات وهي تخرج من النفق كما تخرج التنانين من أوجرتها. لم يسبق لنا قط أن رأينا ذلك المنظر من أعلى.»
قالت فيليس وقد هدأت بعض الشيء: «لم يعد لدينا سوى ذلك.»
كان المكان حقًّا من أروع الأماكن التي يمكن للمرء أن يقف فيها؛ فقد بدت قمة النفق أبعدَ بكثيرٍ جدًّا عن خط السكة الحديدية مما توقعوا، وكان الأمر يُشبه الوقوف فوق أحد الجسور، لكنه جسرٌ تكسوه الشجيراتُ والنباتات المتسلقة والحشائش والزهور البرية.
«أعرف أن لعبة الأرانب وكلاب الصيد قد انتهت منذ مدةٍ طويلة.» هكذا أخذت فيليس تُردِّد كل دقيقتَين، ولم تكد تعرف إن كانت تشعر بالسعادة أم بخيبة الرجاء عندما صاح بيتر فجأةً وهو مستندٌ على الحاجز وقال:
«انظرا. ها هو ذا قد خرج!»
اتكأ الأطفال جميعًا على الحاجز القرميدي الذي أدفأته حرارة الشمس في الوقت المناسب لرؤية الأرنب، وهو يخرج من ظل النفق راكضًا ببطءٍ شديدٍ للغاية.
قال بيتر: «ما رأيكما الآن، ألم أقل لكما؟ والآن ستخرج كلاب الصيد!»
وسرعان ما خرجت كلاب الصيد — فُرادى ومَثانٍ وفي مجموعات ثلاثية وسداسية وسباعية — وكانوا كذلك يَجْرون ببطءٍ وقد بدا عليهم الإرهاق الشديد. تخلف اثنان أو ثلاثةٌ عن الآخرين بمسافة طويلة وخرجوا بعدهم بمدةٍ طويلةٍ أيضًا.
قالت بوبي: «ها قد انتهى كلُّ شيء؛ ماذا نحن فاعلون الآن؟»
قالت فيليس: «ننطلق إلى تلك الغابة الكثيفة الأشجار هناك ونتناول غداءنا. نستطيع أن نراهم على امتداد أميالٍ من هنا.»
قال بيتر: «ليس بعد. ليس هذا هو الأخير. لا يزال الفتى الذي يرتدي الصدرة الصوفية الحمراء لم يخرج بعد. فلنرَ آخر واحدٍ منهم وهو يخرج.»
لكن برغم أنهم ظلوا ينتظرون وينتظرون وينتظرون، لم يخرج الفتى ذو الصدرة الصوفية الحمراء.
قالت فيليس: «يا إلهي، هيا نتناول الغداء. إن جبهتي تؤلمني من شدة الجوع. لا بد أن الفتى ذا الصدرة الصوفية الحمراء قد خرج بين الآخرين دون أن تلاحظه …»
لكن بوبي وبيتر أجمعا على أنه لمْ يخرج مع الآخرين.
قال بيتر: «هيا ننزل إلى مدخل النفق، لعلنا نراه حينئذٍ وهو قادمٌ من الداخل. أتوقع أن يكون قد شعر بدوارٍ، وجلس يستريح على فتحة إحدى البالوعات. ابقي هنا وراقبي يا بوبي، وعندما أُشير لكِ من الأسفل انزلي. ربما تفوتنا رؤيتُه ونحن في طريقنا إلى الأسفل، مع وجود كل هذه الأشجار.»
وهكذا نزل الآخران وانتظرت بوبي حتى أشارا إليها من خط السكة الحديدية بالأسفل. ثم راحتْ هي الأُخرى تنزل زاحفةً على الطريق الزلق الملتوي بين الجذور والطحالب إلى أن خرجتْ من بين اثنتَين من أشجار القَرانْيا ولحقت بالآخرَين عند خط السكة الحديدية. لكنهم ظلوا عاجزين عن رؤية أي أثرٍ لكلب الصيد ذي الصدرة الصوفية الحمراء.
أخذت فيليس تنتحب: «يا إلهي، هيا نأكل شيئًا، سوف أموتُ إن لمْ تفعلا، وستندمان عندئذٍ.»
قال بيتر بنبرةٍ قاسية بعض الشيء: «ناوليها الشطائر، يا لهذا الإزعاج، وأسكتي فمها السخيف.» ثم التفت إلى بوبي وأضاف: «اسمعي، ربما يجدر بكلٍّ منا أن يتناول شطيرةً كذلك. قد نحتاج إلى كامل قوتنا. لكن، ليس أكثر من شطيرةٍ واحدة. لا وقتَ أمامنا.»
سألته بوبي: «ماذا؟» كان فمها مليئًا بالطعام بالفعل؛ فقد كانت تشعر بمثل ما تشعر به فيليس من الجوع تمامًا.
أجابها بيتر بنبرةٍ مؤثرةٍ في النفس: «ألا ترين أن كلب الصيد صاحب الصدرة الصوفية الحمراء هذا قد أصابه حادث؛ هذا هو ما حدث. ربما حتى ونحن نتكلم الآن يكون هو ممددًا على الأرض ورأسه على القضبان؛ فريسةً — لا حول لها ولا قوة — لأي قطارٍ يمر …»
صاحت بوبي وهي تزدرد ما تبقى من شطيرتها: «أوه، لا تحاول أن تتكلم وكأنك كتاب، كُفَّ عن هذا. فِل، ابقي قريبةً خلفي، وإذا جاء قطارٌ فالتصقي بجدار النفق وضمي إليكِ تنورتكِ.»
قالت فيليس متوسلةً: «أعطيني شطيرةً أخرى، وسوف أفعل ما تقولين.»
قال بيتر: «سوف أنطلق أنا في المقدمة، لقد كانت فكرتي أنا.» وتقدمَهما.
بالطبع تعرفون طبيعة ما يجري داخل أي نفق، أليس كذلك؟ إن محرك القطار يُطلق نفيرًا ثم فجأةً تتغير جَلبةُ القطار الذي ينطلق مُقرقعًا وتَختلفُ ويعلو صوتُها. يرفع البالغون النوافذ ويُثبِّتونها بأحزمتها. تُصبح عربة القطار فجأةً مظلمةً كالليل؛ وتُضيئها المصابيح بالتأكيد، إلَّا إذا كنتَ على متن قطارٍ محليٍّ بطيء؛ ففي تلك الحال لا تكون المصابيح دائمًا متوفرة. ثم سرعان ما تمسُّ الظلمةَ خارج نافذة العربة هبَّاتُ بياضٍ غائمٍ، ثم ترون ضوءًا أزرق على جدران النفق، ثم يتغير صوت القطار المتحركِ مرةً أخرى، وتخرجون إلى الهواء الطلق المنعش من جديد، ويحل البالغون أحزمة النوافذ. تنزل النوافذ، التي غبَّشها جميعَها هواءُ النفقِ الوخيمُ، مقرقعةً في أماكنها، وترون من جديدٍ أسلاكَ أعمدة التلغراف، المرتخيَ منها والمشدود، على جانب خط السكة الحديدية، ووشائعَ أشجار الزعرور المستقيمةَ والأشجار الصغيرة النابتة حديثًا تمتدُّ خارجها كلَّ ثلاثين ياردة.
كل هذا بالطبع هو ما يبدو عليه النفق عندما تكونون على متن أحد القطارات. لكنَّ كل شيءٍ يختلف تمامًا عندما تدخلون إلى أحد الأنفاق سيرًا على أقدامكم، وتطئون الأحجار والحصباء المتحركة الزلقةَ على طريقٍ ينحني باتجاه الأسفل من عند القُضبان اللامعة إلى الجدار. ثم ترون نزيزَ ماءٍ موحلٍ لزجٍ يجري داخل النفق، وتُلاحظون أن القرميد ليس أحمر ولا بُنيًّا، كما يبدو عند فتحة النفق، وإنما ذو لونٍ أخضر باهتٍ كئيبٍ دبِق. وعندما تتكلمون يتغير صوتكم تمامًا عمَّا كان عليه وأنتم في ضوء الشمس خارج النفق، ويطول الوقتُ قبل أن يتحول النفق إلى الظلام المُطبق.
لم يكن الظلام قد اشتد بعدُ داخل النفق عندما أمسكتْ فيليس ذيل تنورة بوبي، وانتزعت نصف ياردةٍ من كشكشته؛ لكنَّ أحدًا لم يُلاحظ ذلك في حينها.
وقالت: «أريد أن أرجع، أنا لستُ مطمئنة. سوف يصير الظلامُ حالكًا كالقطران في غضون دقيقة. لن أواصل السير في الظلام. لا يهمني رأيكما، لن أسير.»
قال بيتر: «لا تكوني حمقاء تافهة. إن معي عقبَ شمعة وأعوادَ ثقاب، و… ما هذا؟»
كان «هذا» صوتَ طنينٍ خافتٍ فوق خط السكة الحديدية، وارتعاشًا في الأسلاك التي بجانبه، صوتُ طنينٍ وأزيزٍ ظلَّ يعلو ويعلو كلما أنصتوا له.
قالت بوبي: «إنه قطار.»
«على أي خطٍ يسير؟»
صاحت فيليس، وهي تعافر للتخلص من يد بوبي الممسكة بها: «دعيني أعود.»
قالت بوبي: «لا تكوني جبانة، إننا آمنون تمامًا. تراجعي.»
صاح بيتر، الذي كان يتقدمهما بيارداتٍ قليلةٍ: «تعاليا، أسرعا! فتحة البالوعة!»
كانت زمجرة القطار المندفع إلى الأمام في تلك اللحظة أعلى من الجلبة التي تسمعونها عندما تكون رءوسكم تحت الماء في حوض الاستحمام والماء ينصب من الصنبورَين كلَيهما، وأنتم تركلون جانبَي حوض الاستحمام المصنوع من القصدير بأعقابكم. لكنَّ بيتر صاح بأعلى صوته، وسمعته بوبي، وسحبت فيليس إلى غطاء البالوعة. أما فيليس فتعثرت بالطبع في الأسلاك وسُحِجت كلتا ساقَيها. لكن بوبي وبيتر سحباها إلى الداخل، ووقف الثلاثة داخل الفجوة المظلمة الرطبة المقبَّبة بينما راحت زمجرة القطار تعلو أكثر وأكثر. بدا القطار كأنه سيُصِمُّ آذانهم. وكانوا، من بعيدٍ، يرون عينَيه المتوهجتَين بالنيران وهما تزدادان اتساعًا وتوهجًا في كل لحظة.
صاحت فيليس: «إنه تنينٌ حقيقي — طالما عرَفتُ أنه تنين — وهو يظهر بهيئته الحقيقية هنا؛ في الظلام.» لكنَّ أحدًا لم يسمعها. كان القطار يصيح هو الآخر، وكان صوته أعلى من صوتها.
وفي تلك اللحظة، اندفع القطارُ مزمجرًا ومقرقعًا، مُطلقًا وميضًا باهرًا ممتدًّا من نوافذ عرباته المُضاءةِ ورائحةَ دخانٍ وعاصفةً من الهواء الساخن، وكان له طنينٌ وخشخشةٌ وصدًى راح يتردد في السقف المقبب للنفق. تشبثت فيليس وبوبي بعضهما ببعض. حتى بيتر قبض على ذراع بوبي، «خشيةَ أن تكون قد شعرت بالخوف» كما أوضح هو فيما بعد.
والآن، وببطءٍ، أخذت أضواء الذيل تخفتُ شيئًا فشيئًا، وكذلك الضجيج، إلى أن اندفع القطار خارج النفق مطلِقًا أزيزًا واحدًا أخيرًا، وحلَّ السكون من جديدٍ في جدران النفق الرطبة وسقفه الراشح بالماء.
«يا إلهي!» هكذا همس الأطفال كلهم في لحظةٍ واحدة.
كان بيتر يحاول إشعال عقب الشمعة بيدٍ مرتجفة.
وقال: «تعاليا.» لكنه احتاج إلى شيءٍ من السعال لتنقية حلقه كي يتمكن من الكلام بصوته الطبيعي.
قالت فيليس: «يا إلهي، آهٍ لو كان الفتى ذو الصدرة الصوفية الحمراء في طريق القطار!»
قال بيتر: «يجب أن نذهب ونرى.»
قالت فيليس: «أما يمكننا أن ننصرف ونرسل شخصًا ما من المحطة؟»
سألتها بوبي بحدة: «أتفضلين أن تنتظرينا هنا؟» ولا شك أن هذا قد حسم المسألة.
وهكذا واصل الثلاثة السير متوغلين في ظلمة النفق التي اشتدت أكثر وأكثر. كان بيتر يسير في المقدمة، حاملًا عقب شمعته عاليًا ليضيء الطريق. كان شحم الشمعة يسيل على أصابعه، وكان بعضه ينسكب فوق كمه. حتى إنه وجد شريطًا طويلًا منه ممتدًا من رسغه إلى مرفقه عندما ذهب إلى فراشه في تلك الليلة.
لم يكد الأطفال يبتعدون أكثر من مائة وخمسين ياردةٍ عن المكان الذي وقفوا ينتظرون فيه ريثما يمر القطار حتى وقف بيتر ثابتًا في مكانه، وصاح: «مرحبًا.» ثم سار بسرعةٍ أكبر من ذي قبل. عندما لحقت به الفتاتان توقف. وتوقف على مسافة ياردةٍ من ذلك الشخص الذي دخلوا إلى النفق يبحثون عنه. لمحت فيليس وميضًا خافتًا من اللون الأحمر، وأحكمت إغلاق عينَيها. كان الفتى ذو الصدرة الحمراء الذي يلعب دور كلب الصيد جالسًا هناك بجوار خط السكة الحديدية المُنعطِف المكسو بالحصى، الذي تمر عليه القطارات القادمةُ من العاصمة. كان ظهره ملتصقًا بالجدار، وذراعاه متدليَين بترهلٍ إلى جنبَيه، وعيناه مغلقتَين.
سألت فيليس وهي تُحكم زمَّ جفنَيها أكثر من ذي قبل: «هل كان اللون الأحمر دمًا؟ هل مات؟»
قال بيتر: «مات؟ هذا هُراء! ليس فيه شيءٌ أحمر سوى صدرته الصوفية. لقد أُغمي عليه فقط. ماذا عسانا نصنع؟»
سألته بوبي: «هل نستطيع أن ننقله؟»
«لا أدري؛ إنه فتًى ضخم.»
«افترِضا أننا غسَلنا جبهته بالماء. لا، أعرفُ أنه ليس لدينا أي ماء، لكن اللبن نديٌّ كالماء تمامًا. معنا زجاجةٌ كاملة.»
قال بيتر: «نعم، وهم يدلكون أيدي الناس كذلك، على ما أظن.»
قالت فيليس: «إنهم يُحرقون الريش على حد علمي.»
«ما فائدةُ قول هذا وليس معنا أي ريش؟»
قالت فيليس بنبرة المنتصر المتأفف: «في الواقع، إن معي كُرة من كرات تنس الريشة في جيبي. ما رأيك إذن!»
وفي تلك اللحظة أخذ بيتر يدلك يد الفتى ذي الصدرة الصوفية الحمراء. وراحت بوبي تحرق ريش كرة تنس الريشة واحدةً تلو الأخرى تحت أنفه، وأخذت فيليس ترش اللبن الفاتر على جبهته، وظلَّ الثلاثة يُردِّدون بقدر ما استطاعوا من سرعةٍ وهِمَّة:
«أوه، أَفِق، أجبني! أرجوك من أجلي، تكلم!»