ما أحضرته بوبي إلى المنزل
«أوه، أَفِق، أجبني! أرجوك من أجلي، تكلم!» ظل الأطفال يرددون الكلمات مرةً تلو الأخرى على كلب الصيد الغائب عن الوعي الذي يرتدي صدرةً صوفيةً حمراء، والذي جلس مُغلقَ العينَين شاحبَ الوجه قبالةَ جانب النفق.
قالت بوبي: «بللي أُذنَيه باللبن، أعرف أنهم يصنعون هذا بمن فقدوا وعيهم؛ يفعلونها بالكولونيا. لكنني أظن أن اللبن كالكولونيا تمامًا.»
وهكذا بللوا أذنَيه، وسال بعض اللبن على رقبته تحت الصدرة الصوفية الحمراء. كان النفقُ مظلمًا للغاية؛ ولم يكد ينبعثُ من عقب الشمعة الذي كان يحمله بيتر، والذي راح في تلك اللحظة يحترق فوق حجرةٍ مسطحةٍ، أيُّ ضوءٍ على الإطلاق.
قالت فيليس: «يا إلهي، أفق أرجوك، من أجلي! أعتقد أنه مات.»
رددت بوبي كلامها قائلةً: «من أجلي. لا، لمْ يمت.»
قال بيتر: «من أجل أي أحد، أفِق من غيبوبتك.» وراح يهز الفتى الغائب عن الوعي من ذراعه.
وفي تلك اللحظة خرجت زفرة من الفتى ذي الصدرة الصوفية الحمراء، وفتح عينَيه، وأغلقهما مرةً أخرى وقال بصوتٍ خافتٍ للغاية: «كُفَّ عن هذا.»
قالت فيليس: «يا إلهي، لم يمت. كنت أعرف أنه لم يمت.» وبدأت تبكي.
قال الفتى: «ما الأمر؟ أنا بخير.»
قال بيتر بلهجةٍ حاسمةٍ وهو يُقحِم فم زجاجة اللبن داخل فم الفتى: «اشرب هذا.» لكنَّ الفتى قاومه؛ وانسكب بعضُ اللبن قبل أن يتمكن من تخليص فمه ليقول:
«ما هذا؟»
قال بيتر: «إنه لبن. لا تخف، أنت في أيدٍ آمنة. فِل، كُفي عن هذا النشيج في الحال.»
قالت بوبي بلطف: «اشربه، فسوف يفيدك.»
وهكذا شرب الفتى اللبن. ووقف الأطفالُ الثلاثة بجواره منتظرين دون أن يوجهوا له أي كلمة.
همس بيتر قائلًا: «اتركاه دقيقةً، وسوف يصبح على ما يرام بمجرد أن يبدأ اللبن في السريان كالنار داخل عروقه.»
وأصبح الفتى على ما يرام.
وقال: «أشعر بتحسنٍ الآن. إنني أذكر كل شيء.» حاول الفتى أن يتحرك، لكن حركته انتهت بتأوُّه. وقال: «أخي! أظن أن رجلي قد انكسرت.»
سألته فيليس وهي تتنشق بصوتٍ مسموع: «هل وقعت؟»
قال الفتى بسخط: «بالطبع لا؛ أنا لستُ طفلًا صغيرًا، إنما تعثرتُ في أحد هذه الأسلاك البغيضة، وعندما حاولتُ النهوض مجددًا لمْ أستطع الوقوف على قدمَي، لذا جلست. يا إلهي! لكنها تؤلمني حقًّا. كيف أتيتم هنا؟»
قال بيتر بفخر: «لقد رأيناكم جميعًا وأنتم تدخلون إلى النفق ثم صعدنا إلى التلة لنراكم وأنتم تخرجون جميعًا. وقد خرج الآخرون؛ جميعهم خرجوا إلا أنت، لم تخرج. لذا فنحن فرقة إنقاذ.»
قال الفتى: «إنكم تتحلَّون بشيءٍ من الشجاعة، هكذا أرى.»
قال بيتر بتواضع: «أوه، هذا شيءٌ هين. هل تظن أنك ستستطيع السير إذا ساعدناك؟»
قال الفتى: «يمكنني المحاولة.»
حاول الفتى أن يسير. لكنه لم يستطع سوى الوقوف على قدمٍ واحدة؛ أما الأخرى فراح يجرها على الأرض جرًّا مُرهِقًا للغاية.
قال الفتى: «دعوني أجلس يا أطفال. إنما أريد أن أستلقي وأموت، اتركوني؛ اتركوني، أسرعوا …» تمدد الفتى على الأرض وأغلق عينَيه. أخذ الآخرون ينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ في ضوء الشمعة الصغيرة الخافت.
قال بيتر: «يا إلهي، ما هذا!»
قالت بوبي، مسرعةً: «أنصت إليَّ، يجب أن تذهب لإحضار المساعدة. توجهْ إلى أقرب منزل.»
قال بيتر: «نعم، هذا هو الحل الوحيد، هيا بنا.»
«إذا أمسكتَ قدمَيه أنت وفِل وأمسكتُ أنا رأسه، فسنتمكن من حمله إلى فتحة البالوعة.»
فعل الأطفال ذلك. ولعله كان من مصلحة الفتى المصاب في تلك اللحظة أنْ فقد وعيه من جديد.
قالت بوبي: «والآن، سأبقى أنا معه. خذا أنتما جزءَ الشمعةِ الأطولَ، و… يا إلهي … أسرِعا، فلن يُضيءَ هذا الجزءُ طويلًا.»
قال بيتر بتردد: «لا أظن أن أمي كانت سترضى بتركي لكِ بمفردك. دعيني أبقى، واذهبي أنتِ وفِل.»
قالت بوبي: «لا، لا، اذهب أنتَ وفِل؛ وأعِرْني سكينك. سأحاول نزع حذائه قبل أن يُفيق من جديد.»
قال بيتر: «أرجو أن يكون ما نفعله صوابًا.»
قالت بوبي في نفاد صبر: «إنه صوابٌ بالتأكيد، ماذا كنت ستفعل غير هذا؟ تتركه هنا بمفرده تمامًا لأن النفق مُظلم؟ هُراء. أسرِعا، انتهى الأمر.»
وهكذا أسرَعا بالانصراف.
أخذتْ بوبي تشاهد شبحَيهما المظلمَين والضوءَ الخافت المنبعث من الشمعة الصغيرة وقد خالجها شعورٌ غريبٌ بأنها وصلتْ إلى نهاية كلِّ شيء. لقد أدركتِ الآن — هكذا حسبتْ — ما الذي كانت تشعر به الراهباتُ اللاتي كانت تُغلَق عليهنَّ جدرانُ الأديرة وهن أحياء. لكنها هزَّتْ نفسها هزةً خفيفةً فجأة.
وقالت لنفسها: «لا تكوني طفلةً بلهاء.» لقد كانت دائمًا تشعر بغضبٍ شديدٍ عندما ينعتها أيُّ أحدٍ آخر بالطفلة، حتى ولو كانت الصفة التالية لتلك الكلمة ليست «بلهاء» بل «لطيفة» أو «طيبة» أو «ذكية»، وما كانت تسمح لروبيرتا بوصف بوبي بهذه الكلمة إلَّا عندما تكون غاضبةً من نفسها للغاية.
ثبَّتت بوبي عقب الشمعة الصغيرَ فوق قالب مكسور من الطوب قريب من قدمَي الفتى ذي الصدرة الصوفية الحمراء. ثم فتحت سكين بيتر. دائمًا ما كان التحكم فيها صعبًا، وعادةً ما كانت تحتاج إلى عملةٍ معدنيةٍ من فئة نصف البنس لفتحها ولو لأقل مقدار. في هذه المرة تمكنَت بوبي بطريقةٍ ما من فتحها بظُفر إبهامها. لكنها كسرت الظفر، وقد آلمها ألمًا فظيعًا. بعد هذا قطعت رباط حذاء الفتى، وخلعت الحذاء. حاولت نزع جوربه، لكن رجله كانت متورمةً تورمًا مفزعًا، ولم يَبدُ أنها في حالةٍ جيدة؛ لذا أخذت بوبي تُقطِّع الجورب من فوقه لأسفله، ببطءٍ وحذرٍ شديدَين. كان جوربًا بُنيًّا مَحيكًا، وراحت بوبي تتساءل مَن عساه يكون حاكه؟ وهل كانت أم الفتى هي التي حاكتْه؟ وهل تُراها تشعر بالقلق عليه؟ وكيف سيكون شعورها عندما يُؤتى بابنها إلى المنزل ورِجلُه مكسورة؟ بعدما خلعت بوبي الجوربَ ورأت الرِّجلَ المسكينةَ أحستْ وكأنما النفق كان يشتد ظُلمةً، وأن الأرض تحتها لم تكن ثابتةً، ولم يَعُد شيءٌ يبدو حقيقيًّا.
قالت روبيرتا لبوبي: «طفلةٌ بلهاء!» وشعرت بعدها أنها أحسنُ حالًا.
وراحت تقول لنفسها: «الرِّجل المسكينة، ينبغي أن توضع على وسادة.» ثم التمعَتْ في رأسها فكرة.
لقد تذكرت اليوم الذي مزقت فيه هي وفيليس قميصَيهما الداخليَّين الأحمرَين المصنوعَين من الصوف الناعم لكي تصنعا منهما إشاراتِ تحذيرٍ لإيقافِ القطار ومنعِ وقوع حادثة. كان قميصها الداخلي اليومَ أبيض اللون، لكنه كان في نعومة القميص الأحمر سواء بسواء. خلعت بوبي قميصها.
وقالت: «كم هي نافعةٌ تلك القمصانُ الداخليةُ الصوفية! ينبغي صُنع تمثالٍ للرجل الذي اخترعها.» وقد قالتها بصوتٍ عالٍ؛ إذ بدا أن أيَّ صوتٍ، حتى وإن كان صوتها، سوف يُواسيها في تلك الظُّلمة.
سألها الفتى فجأةً وبوهنٍ شديد: «ما الذي ينبغي أن يُصنَع؟ ولمن؟»
قالت بوبي: «يا إلهي، لقد تحسنْتَ الآن! جُزَّ على أسنانك ولا تدَع الأمر يؤلمك كثيرًا. هيَّا!»
كانت بوبي قد طوَت القميص الداخلي، وبعدما رفعت رِجل الفتى وضعَتها على وسادة الصوف الناعم المطوي.
قالت بوبي عندما تأوَّه الفتى: «لا تغِب عن الوعي مجددًا، أرجوك لا تفعل.» أسرعت بوبي إلى تبليل منديلها باللبن ونشرَته فوق الرِّجل المسكينة.
انقبض الفتى وصاح قائلًا: «يا إلهي، هذا مؤلم. حسنٌ … لا، ليس مؤلمًا … هذا لطيف، لطيفٌ حقًّا.»
قالت بوبي: «ما اسمُك؟»
«جيم.»
«وأنا بوبي.»
«ولكنكِ بنتٌ، أليس كذلك؟»
«بلى، اسمي الحقيقي هو روبيرتا.»
«اسمعي يا … بوبي.»
«نعم؟»
«ألم يكن هنا آخرون غيرك الآن؟»
«بلى، بيتر وفِل؛ إنهما أخي وأختي. لقد ذهبا لإحضارِ شخصٍ ما ليحملك إلى خارج النفق.»
«يا لها من أسماء غريبة. كلها أسماء صبيان.»
«نعم؛ ليتني كنتُ صبيًّا، ألا تتمنى أنتَ ذلك؟»
«بل أظن أنكِ جيدةٌ كما أنتِ هكذا.»
«لم أقصد هذا؛ إنما قصدتُ ألا تتمنى أنتَ أن تكون فتًى، لكنكَ فتًى بالطبع من دون أن تتمنى.»
«إنكِ شجاعةٌ مثل أيِّ صبيٍّ تمامًا. لماذا لم تذهبي مع الآخرَين؟»
قالت بوبي: «كان ينبغي أن يبقى أحدٌ ما معك.»
قال جيم: «أتعرفين يا بوبي، أنتِ فتاةٌ يُعتَمد عليها. صافحيني.» ومدَّ ذراعًا يكسوه قماشُ الصدرة الصوفية الحمراء وضغطت بوبي على يده.
قالت بوبي موضحةً: «لن أهز يدك؛ لأنها ستهزك، وستهتز رجلك المسكينة، وهذا سيؤلمك. هل معك منديل؟»
«لا أعتقد أن معي منديلًا.» وأخذ يتحسس جيبه. وقال: «نعم، معي. لماذا تريدينه؟»
أخذت بوبي المنديل وبللته باللبن ووضعته على جبهته.
قال: «هذا رائع. ما هذا؟»
قالت بوبي: «إنه لبن، فليس معنا أيُّ ماءٍ …»
قال جيم: «أنتِ ممرضةٌ صغيرةٌ بارعةٌ للغاية.»
قالت بوبي: «أفعل هذا لوالدتي أحيانًا، ليس باللبن، طبعًا، وإنما بالعطر، أو بالخل والماء. اسمع، يجب أن أُطفئ الشمعة الآن؛ فربما لا تكفي الشمعة الأخرى لكي نُخرِجك من النفق في ضوئها.»
قال: «يا إلهي، إنكِ تحسبين لكل شيء حسابه.»
نفخَت بوبي نفخةً من فمها، وانطفأت الشمعة. ليس لديكم فكرةٌ كم كان كانت الظلمةُ سوداءَ مخملية هناك.
جاء صوتٌ عبر السواد يقول: «اسمعي يا بوبي، ألستِ خائفةً من الظلام؟»
«نعم، ليس بدرجةٍ كبيرة؛ لأن …»
«ليمسك أحدنا بيد الآخر.» هكذا قال الفتى، وكان هذا بحقٍّ في غاية النبل منه؛ لأنه كان كمعظم الفتية في سنه وكان يُبغض كل دلالات الحب المادية، كالتقبيل وتشبيك الأيدي. كان يُسمِّي كل هذه الأشياء «تلامسات شهوانية طائشة» وكان يُبغِضها.
أصبحتْ بوبي أكثر قدرةً على تحمل الظلام الآن بعد أن صارت تلك اليد الضخمة الخشنة للفتى المُصاب ذي الصدرة الصوفية الحمراء تمسكُ بيدها؛ أما هو، فقد تفاجأ، بعدما أمسك يدها الدافئة الناعمة الصغيرة، بأنه لم ينزعج منها كثيرًا كما كان يتوقع. حاولت بوبي أن تتكلم، كي تُسلِّيَه، و«تَصرِف ذهنه» عن آلامه، لكنَّ مواصلة الحديث في الظلام أمرٌ صعبٌ للغاية، وبعد قليلٍ وجد الاثنان نفسَيهما في صمتٍ ما كان يقطعه من حينٍ لآخر سوى عبارةٍ مثل:
«هل أنتِ بخيرٍ يا بوبي؟»
أو أخرى مثل:
«أخشى أن رِجلك تؤلمك للغاية يا جيم. أنا في غاية الأسى لما أصابك.»
وقد كان الجو باردًا للغاية.
•••
أخذ بيتر وفيليس يسيران متثاقِلَين على درب النفق الطويلة باتجاه ضوء النهار، وراح شحم الشمعة يتقاطر فوق أصابع بيتر. لم تقع أي حادثةٍ إلَّا إذا حسبتم انشباكَ فستان فيليس في أحد الأسلاك، وإصابته بشقٍّ طوليٍّ محزز طويل، وتعثرَها في رباط حذائها عندما انحلَّ، أو سقوطَها على يديها وركبتَيها، التي انسحجت جميعها.
قالت فيليس: «هذا النفق لا نهاية له.» وقد بدا بالفعل طويلًا جدًّا جدًّا.
قال بيتر: «استمري في السير؛ فلكل شيءٍ نهاية، وستَصلين إليها إذا واصلتِ التقدم فقط.»
وهو أمرٌ صحيح تمامًا، إذا أعملتم عقولكم فيه، كما أنَّ تذكُّره يفيدكم في أوقات الأزمات؛ كأوقات الإصابة بالحصبة، أو حل مسائل الحساب، أو التكليف بتمارينَ إضافيةٍ تأديبية، وتلك الأوقات التي تُحِسون فيها بالخزي، وتشعرون وكأنَّ أحدًا لن يُحبكم بعدها أبدًا، وأنكم لن تستطيعوا أن تحبوا أيَّ أحدٍ من جديدٍ أبدًا؛ أبدًا.
قال بيتر فجأةً: «مرحى، ها هي ذي نهاية النفق؛ إنها تبدو تمامًا كثقب دبوسٍ في قطعة ورقٍ سوداء، أليس كذلك؟»
أخذ ثقب الدبوس يكبر شيئًا فشيئًا؛ كان ثمةَ أضواءٌ زرقاء منتشرةٌ على جانِبَي النفق. تمكن الطفلان من رؤية الطريق المكسو بالحصى الممتد أمامهما؛ وأصبح الهواء أكثر دفئًا ونقاءً. بعد عشرين خطوةٍ أخرى أصبحا خارج النفق تحت أشعة الشمس الصحية المبهجة والأشجار الخضراء على الجانبَين.
أخذت فيليس نفسًا عميقًا.
وقالت: «لن أدخل نفقًا بعد ذلك أبدًا مهما طالت بي الحياة، حتى ولو كان به عشرون مائة ألف مليون فتًى يلعبون دور الأرنب ويرتدون صدراتٍ صوفيةً حمراء وقد كُسِرَت أرجلهم.»
قال بيتر، كعادته: «لا تكوني حمقاء سخيفة. كان عليك أن تدخلي.»
قالت فيليس: «أعتقد أنها كانت شهامةً وشجاعةً كبيرة مني.»
قال بيتر: «ليس هذا هو السبب؛ أنتِ لم تدخلي لأنكِ كنتِ شجاعةً، وإنما لأنني أنا وبوبي لسنا حقيرَين. والآن أين أقرب منزلٍ يا ترى؟ لا يمكننا رؤية أي شيءٍ هنا بسبب الأشجار.»
قالت فيليس وهي تشير باتجاه خط السكة الحديدية: «ثمةَ سقفٌ هناك.»
قال بيتر: «هذا كشك الإشارات، وأنتِ تعلمين أنه غير مسموحٍ لكِ بالكلام مع عمال الإشارات أثناء عملهم. هذا خطأ.»
قالت فيليس: «إن خوفي من فعل الخطأ لا يكاد يُماثل ما شعرتُ به من خوفٍ من دخول ذلك النفق. هيا بنا.» وبدأت تجري بمحاذاة خط السكة الحديدية. وكذلك فعل بيتر.»
كان الجو حارًّا جدًّا تحت أشعة الشمس، وعندما توقف الطفلان عن الجري كانا قد شعرا بالحر وانقطعتْ أنفاسهما، ثم أمالا رأسَيهما للوراء لينظرا إلى الأعلى ناحية النوافذ المفتوحة في كشك الإشارات، وأخذا يناديان بأعلى صوتٍ تمكنت منه أنفاسهما اللاهثة. لكنَّ أحدًا لمْ يُجب. كان كشك الإشارات هادئًا كحجرةٍ نومِ طفلٍ خالية، وكان درابزين دَرَجهِ ساخنًا على أيدي الطفلَين وهما يصعدان برفقٍ إلى الأعلى. اختلس الطفلان النظر إلى داخل الكشك من الباب المفتوح. كان عامل التحويلة يجلس على كرسيٍّ مائلٍ على الحائط. كان رأس الرجل مائلًا على جنبٍ، وكان فمه مفتوحًا. لقد كان يغط في سُباتٍ عميق.
صاح بيتر: «يا إلهي! استيقِظ!» وقد صاح بهذه الكلمات بصوتٍ رهيب؛ لأنه كان يعرف أنه إذا نام أحد عمال التحويلة أثناء أداء عمله، فإنه يخاطر بفقدان وظيفته، هذا فضلًا عن كل المخاطر المروعة الأخرى التي تتهدد القطارات التي تنتظر منه أن يخبرها متى تنطلق إلى وجهاتها بأمان.
لم يتحرك عامل التحويلة مطلقًا؛ وعندئذٍ وثب إليه بيتر وراح يهزه. وببطءٍ استيقظ الرجلُ وهو يتثاءب ويتمطَّى. لكنه ما إن استيقظ حتى وثب على قدمَيه، ووضع يدَيه على رأسه ﮐ «مجنونٍ هائج» كما قالت فيليس فيما بعد، وصاح قائلًا:
«يا للهول، يا إلهي، كم الساعة؟»
قال بيتر: «الثانية عشرة وثلاث عشرة دقيقة.» وقد كانت كذلك بالفعل في الساعة البيضاء المستديرة المُعلَّقة على حائط كشك الإشارات.
نظر الرجل إلى الساعة، فوثب إلى روافع التشغيل، وراح يَلويها في هذا الاتجاه وذاك. بدأ جرسٌ كهربائيٌّ يرن؛ وراحت الأسلاك وأذرع التدوير تَصِرُّ، وألقى الرجل نفسه على كرسي. كان وجهه شاحبًا للغاية، وكانت حبَّات العرق على جبينه «كقطراتٍ كبيرةٍ من الندى فوق ثمرةِ كرنبٍ بيضاء» كما قالت فيليس فيما بعد. وكان يرتعد كذلك؛ كان الطفلان ينظران إلى يدَيه الكبيرتَين الشَّعراوَين وهما تهتزان من جانبٍ لآخر، «باهتزازاتٍ كبيرة الحجم للغاية» بعبارة بيتر التي ستأتي بعد ذلك. أخذ الرجل أنفاسًا عميقةً. ثم فجأةً صاح قائلًا: «حمدًا للرب، حمدًا للرب على دخولكما في ذلك الوقت الذي دخلتما فيه؛ يا إلهي، حمدًا للرب!» وبدأت كتفاه ترتفعان واحمرَّ وجهه من جديد، وخبأه في يدَيه الكبيرتَين الشعراوَين.
قالت فيليس: «لا تبكِ، أرجوك؛ لا تبكِ. لقد صارت الأمور على ما يُرام الآن.» وراحت تربت على إحدى كتفَيه الكبيرتَين العريضتَين، بينما راح بيتر يضرب على الأخرى بتأنٍّ وتُؤدة.
لكنْ يبدو أن عامل التحويلة كان منهارًا للغاية، مما جعل الطفلَين يربتان ويضربان على كتفَيه طويلًا جدًّا قبل أن يجد منديله — وكان منديلًا أحمرَ اللون مرسومًا عليه حدواتُ حصانٍ خبازيةٌ وبيضاء — ويمسح وجهه ويتكلم. وأثناء فترة التربيت والضرب على كتفه هذه، مرَّ أحدُ القطارات بجوارهم كان له دويٌّ كدويِّ الرعد.
قال عامل التحويلة الضخم الجثة عندما توقف عن البكاء: «أنا خجلانٌ بكل ما في الكلمة من معنًى؛ لأنني أنتحب كالطفل.» ثم بدا عليه الانزعاجُ فجأةً؛ وقال: «وماذا كنتما تفعلان هنا على أي حال؟ أنتما تعلمان أنه غير مسموحٍ لكما بذلك.»
قالت فيليس: «نعم، كنا نعلم أنه خطأ؛ لكنني لمْ أخف من ارتكاب الخطأ، وقد تبين في النهاية أنه صواب. أنتَ لستَ نادمًا لأننا جئنا.»
«أَحبَّكِ الربُّ، لو لم تأتيا» وتوقف عن الكلام ثم أكمل قائلًا: «إنه لشيءٌ مخزٍ، مخزٍ للغاية، أن ينام المرء، ينام المرءُ أثناء تأدية عمله. لو عُلم هذا الأمر؛ حتى كما حدث، حيث لم يترتب عليه أذًى.»
قال بيتر: «لن يعلم به أحد، نحن لسنا نمَّامَيْن. لكن رغم هذا، ينبغي لك ألَّا تنام أثناء عملك؛ هذا خطير.»
قال الرجل: «قل لي شيئًا لا أعرفه. لكنَّ الأمر ليس بيدي. إنني أعلم تمامًا ما الذي كان سيحدث. لكنني لم أتمكن من الانصراف؛ لأنهم لم يستطيعوا إحضار أحد ليتولى عملي. صدقاني، إنني لم أنم ولو عشر دقائق في تلك الأيام الخمسة الماضية. إن طفلي الصغير مريض — يقول الطبيب إنه مصاب بالتهابٍ رئوي — ولا يوجد من يُعنى به سواي أنا وأخته الصغيرة. هذه هي حقيقة الأمر. يجب أن تحصل البنت على نصيبها من النوم. الأمر محفوف بالمخاطر؟ نعم، إنني أُصدِّقكما. اذهبا الآن وأفشيا سري إذا أردتما.»
قال بيتر بسخط: «بالتأكيد لن نفعل هذا.» لكن فيليس تجاهلت كلام عامل التحويلة كله، باستثناء الكلمات الخمس الأولى.
قالت: «لقد طلبتَ منا أن نخبرك شيئًا لا تعرفه. حسنٌ، أنا سأخبرك. يوجد فتًى في النفق هناك يرتدي صدرةً صوفيةً حمراء ورجلُه مكسورة.»
قال الرجل: «وما الذي أراده من دخوله إلى النفق اللعينِ إذن؟»
قالت فيليس بود: «لا تغضب هكذا. نحن لم نرتكب أي خطأٍ سوى أننا أتينا وأيقظناك، وقد كان هذا صوابًا في الواقع.»
ثم أخبره بيتر كيف دخل الفتى إلى النفق.
قال الرجل: «حسنٌ، لا أظن أن بإمكاني فعلَ أي شيء. فأنا لا أستطيع تركَ الكشك.»
قالت فيليس: «لكنك تستطيع أن تخبرنا أين نذهب إذا أردنا شخصًا لا يجلس في كشك إشارات.»
«ها هي ذي مزرعةُ بريجدن هناك؛ حيث ترون الدخان يتصاعد من بين الأشجار.» هكذا قال الرجل، ومزاجه يزداد حِدةً، كما لاحظت فيليس.
قال بيتر: «حسنٌ، وداعًا إذن.»
لكن الرجل قال: «انتظرا قليلًا.» ووضع يده في جيبه وأخرج بعض النقود؛ كثيرًا من البنسات وشلنًا أو شلنَين وقطعًا أخرى من فئة الستة بنسات وقطعةً من فئة نصف الكراون. التقط الرجل شلنَين ومد يده بهما.
وقال: «خُذا، سأعطيكما هذا المال كي تُمسكا لسانَيكما عمَّا حدث اليوم.»
خيم صمتٌ بغيضٌ لفترةٍ قصيرةٍ. ثم:
قالت فيليس: «أنت رجلُ شريرٌ، أليس كذلك؟»
تقدم بيتر خطوةً إلى الأمام وضرب يد الرجل لأعلى، فقفز الشلنان منها وتدحرجا على الأرض.
وقال: «لو كان لشيءٍ أن يدفعني إلى النميمة لكان فعلُك هذا! هيَّا يا فِل.» وخرجا من كشك الإشارات وخدودهما متوهجة من الغضب.
ترددت فيليس. ثم أمسكت اليدَ التي كان فيها الشلنان، والتي ظلت ممدودةً ببلاهة.
وقالت: «لقد سامحتُك، حتى لو لم يُسامحك بيتر. إنك لستَ في حالتك الطبيعية، وإلَّا لَما كنتَ فعلتَ هذا مطلقًا. أعلم أن قلة النوم تذهب بصواب الناس. لقد أخبرتني أمي بهذا. أرجو أن تتحسن حالةُ طفلك الصغير قريبًا، و…»
صاح بيتر بإصرار: «هيَّا يا فِل.»
قالت فيليس، وهي تشعر كم كان نبيلًا منها أن تسعى لتسوية خلافٍ لم تتسببْ فيه: «أَعدُك بشرفي أننا لن نخبر أيَّ أحد. قبِّلني ولنُصبح أصدقاء.»
انحنى عاملُ التحويلة وقبَّلها.
وقال: «أعتقد حقًّا أنَّ عقلي مُشوشٌ قليلًا أيتها الفتاة. والآن انصرِفا إلى البيت إلى أمكما. أنا لم أقصد إزعاجكما؛ تفضلا.»
وهكذا تركت فِل كشك الإشارة الحارَّ وسارت وراء بيتر عبر الحقول إلى المزرعة.
عندما وصل المزارعون، حاملينَ لوحًا نقَّالًا مغطًّى بكسوة حصانٍ وبيتر وفيليس يتقدمانهم، إلى فتحة البالوعة في النفق، كانت بوبي مستغرقةً في نومٍ عميق وكذلك كان جيم. كان مرهقًا من الألم، هكذا قال الطبيب فيما بعد.
قال وكيل المزرعة عندما حُمل جيم على اللوح النقال: «أين يسكن؟»
أجابته بوبي: «في مقاطعة نورثمرلاند.»
قال جيم: «أنا طالب في المدرسة في ميدبريدج. أظن أنه يجب عليَّ أن أعود إلى هناك، بطريقةٍ ما.»
قال ناظر المزرعة: «أرى أنه ينبغي أن يُلقيَ الطبيب نظرةً على رِجلك أولًا.»
قالت بوبي: «أوه، أحضروه إلى منزلنا. إنه يقع إلى جوار الطريق على مسافةٍ ليست ببعيدة. أنا واثقةٌ أن أمي ستقول إنه كان ينبغي لنا أن نفعل هذا.»
«هل ستسمح لكِ أمك بإدخال غرباء مكسوري الأرجل إلى المنزل؟»
قالت بوبي: «لقد أخذَتِ الرجلَ الروسيَّ المسكين إلى المنزل بنفسها. أعرف أنها ستقول إنه كان ينبغي لنا فعلُ هذا.»
قال ناظر المزرعة: «حسنٌ، من المفترض أنك على علمٍ بما ستسمح به أمك. أما أنا فلم أكن لأتطوع بأخذه إلى منزلنا دون أن أستأذن السيدة زوجتي أولًا، وإنهم ليسمونني السيد أيضًا.»
همس جيم قائلًا: «هل أنتِ واثقةٌ أن أمك لن تمانع؟»
قالت بوبي: «بالتأكيد.»
قال وكيل المزرعة: «إذن علينا أن نأخذه إلى المنزل ذي المداخن الثلاث، أليس كذلك؟»
قال بيتر: «بالطبع.»
«إذن سينطلق غلامي بدراجته مسرعًا إلى عيادة الطبيب، ويَطلب منه الحضور إلى هناك. والآن أيها الرجال، احملوه بهدوءٍ وثبات. واحد، اثنان، ثلاثة!»
•••
وهكذا بينما كانت الأم منهمكةً بكلِّ حواسها وقوَّتها في كتابةِ قصةٍ عن دوقةٍ، وشريرٍ يدبر المكائد، وممرٍّ سري، ووصيةٍ مفقودة، أسقطتْ قلمها على إثر انفتاح باب حجرة عملها، واستدارت لترى بوبي حاسرةَ الرأس محمرَّةَ الوجه من أثر الجري.
قالت بوبي: «أمي، تعالَي إلى الأسفل. لقد وجدنا كلب صيدٍ يرتدي صدرة صوفيةً حمراء في النفق، وقد انكسرت رجله والناس قادمون به إلى منزلنا.»
قالت أمها بوجهٍ عابسٍ قلِق: «يجدر بهم أن يأخذوه إلى الطبيب البيطري. فأنا لا يمكنني حقًّا إدخالُ كلبٍ أعرج هنا.»
قالت بوبي بصوتٍ بين الضحك والاختناق: «إنه ليس كلبًا في الحقيقة؛ إنه فتًى.»
«إذن يجب أن يُؤخَذ إلى البيت إلى أمه.»
قالت بوبي: «إن أمه متوفاة، وأبوه في مقاطعة نورثمرلاند. أمي، سوف تُعاملينه بلطف، أليس كذلك؟ لقد قلتُ له إنني متأكدةٌ أنكِ كنتِ ستريدين منَّا أن نحضره إلى البيت. إنكِ دائمًا ما ترغبين في مساعدة الجميع.»
ابتسمت أمها، لكنها تنهدت كذلك. من الجميل أن يعتقد أبناؤك أنك مُستعدٌّ لفتح بيتك وقلبك لأيِّ أحدٍ ولكلِّ أحدٍ يحتاج إلى المساعدة. لكن من المحرج بعض الشيءِ أحيانًا كذلك أن يتصرفوا بحسب اعتقادهم.
قالت أمها: «أوه، حسنٌ، يجب أن نبذل قصارى جهدنا للتعامل مع هذا الموقف.»
عندما حُمل جيم إلى داخل المنزل، وكان وجهه شاحبًا بصورةٍ مفزعةٍ وشفتاه مُطبقتَين وقد تلاشت حُمرتهما وتحولت إلى لونٍ بنفسجيٍّ مزرقٍّ مروع، قالت أمها:
«أنا سعيدةٌ لأنكم أحضرتموه إلى هنا. والآن يا جيم، لنجعلك تستريح في الفراش قبل أن يأتي الطبيب!»
وعندما نظر جيم إلى عينَيها الطيبتَين، أحسَّ بشيءٍ من شجاعةٍ جديدةٍ دافئةٍ مريحةٍ تَدفقُ داخله فجأة.
وقال: «سيكون هذا مؤلمًا بعض الشيء، أليس كذلك؟ أنا لا أقصد أن أكون جبانًا. لن تظنوني جبانًا إذا أُغمي عليَّ ثانيةً، أليس كذلك؟ أنا في الحقيقة وبصدقٍ لا أتعمد فعل هذا. كما أنني أكره حقًّا أن أتسبب لكم في كل هذا العناء.»
قالت الأم: «لا تُقلق نفسك، إنك أنتَ من يعاني، أيها العزيز المسكين؛ وليس نحن.»
وقبَّلتْه وكأنما هو بيتر وقالت: «نحن نحب أن تكون معنا هنا؛ أليس كذلك يا بوبي؟»
قالت بوبي: «بلى.» ورأت من تعبيرات وجه أمها كم كانت مُحِقة عندما أحضرت كلب الصيد الجريحَ ذا الصدرة الصوفية الحمراء إلى المنزل.