النهاية
لم تعد الحياة في المنزل ذي المداخن الثلاث مطلقًا إلى ما كانت عليه قبل مجيء السيد العجوز لرؤية حفيده. مع أن الأطفال صاروا الآن يعرفون اسمه، فإنهم لم يتحدثوا عنه به قط؛ أعني عندما كانوا ينفردون بأنفسهم. لقد ظلَّ دائمًا بالنسبة إليهم السيدَ العجوز، وأظنُّ أن من الأفضل أن يظلَّ السيدَ العجوز بالنسبة إلينا نحن أيضًا. فما كان سيبدو لكم حقيقيًّا أكثرَ بأي حال لو كنتُ أخبرتُكم أن اسمه سنوكس أو جينكينز (ولم يكن ذلك اسمه) أليس كذلك؟ وفي النهاية، لا بد من أن يُسمَح لي بالاحتفاظ بسرٍّ واحد. إنه السر الوحيد؛ لقد أخبرتُكم بكلِّ ما سوى ذلك، باستثناء ما سأخبركم به في هذا الفصل، الذي هو الفصل الأخير. إنني، على أية حالٍ، لم أُخبركم بكل شيءٍ، بالطبع. لو كنتُ فعلتُ هذا لَمَا انتهى الكتابُ مطلقًا، ولأصبح هذا شيئًا يدعو للأسف، أليس كذلك؟
حسنٌ، كما كنتُ أقول، فإن الحياة في المنزل ذي المداخن الثلاث لم تعد مطلقًا إلى ما كانت عليه من قبل. كانت الطاهية والخادمةُ لطيفتَين للغاية (لا مانع لديَّ أن أخبركم باسمَيهما؛ إنهما كلارا وإثيلوين)، لكنهما أخبرتا الأم أنهما لا تريدان السيدة فايني، وأنها عجوزٌ فوضوية. لذا لم تعد السيدة فايني تأتي إلى المنزل سوى مرتَين في الأسبوع لتغسل الملابس وتَكويَها. بعد ذلك قالت كلارا وإثيلوين إنهما قادرتان على القيام بالعمل كما ينبغي إذا لم يتدخل فيه أحد، وكان معنى هذا أن الأطفال لم يعودوا يجهزون الشاي ولا يرفعون أدواته ولا يغسلونها ولا ينفضون الغبار عن الغرف.
كان هذا سيُسبب فراغًا كبيرًا في حياتهم، رغم أنهم كثيرًا ما كانوا يتظاهرون أمام أنفسهم وأمام بعضهم البعض بأنهم لا يحبون الأعمال المنزلية. لكن الآن لأن أمهم لم تعد منشغلةً بالكتابة ولا بأعمال المنزل، أصبح لديها وقتٌ للدروس. وأصبح على الأولاد أن يذاكروا دروسهم. ومهما كان الشخص الذي يعلمكم لطيفًا، فالدروس هي الدروس في العالم بأسره، وهي — في أفضل أحوالها — أقلُّ متعةً من تقشير البطاطس أو إشعال النار.
من ناحيةٍ أخرى، إذا كان قد أصبح لدى أمهم الآن وقتٌ للدروس، فقد أصبح لديها وقتٌ للعب كذلك، ولتأليف أناشيد صغيرةٍ للأطفال كما اعتادت أن تفعل من قبل. فلم يكن لديها كثيرُ وقتٍ للأناشيد مُذ جاءت إلى المنزل ذي المداخن الثلاث.
كان ثمة شيءٌ غريبٌ جدًّا في هذه الدروس. كان الأطفال دائمًا يرغبون في أن يذاكروا درسًا غير الدرس الذي يذاكرونه، أيًّا كان هو. فعندما كان بيتر يذاكر اللغة اللاتينية، كان يظن أنه سيكون من اللطيف أن يذاكر التاريخ مثل بوبي. وكانت بوبي تفضل درس الحساب، الذي كانت تذاكره فيليس، أما فيليس بالطبع فكانت ترى أن درس اللغة اللاتينية هو أمتع درسٍ على الإطلاق. وهكذا.
وهكذا، في أحد الأيام، عندما جلس الأطفال يذاكرون دروسهم، وجد كلٌّ منهم نشيدًا صغيرًا في مكانه. وسأعرض الأناشيد عليكم لأريكم أن أمهم كانت بالفعل تفهم إلى حدٍّ ما شعورَ الأطفال تجاه الأشياء، وكذلك نوعَ الكلمات التي يستخدمونها، وهذا الأمر لا يُتقنه سوى قلةٍ قليلةٍ من البالغين. أظن أن ذاكرةَ معظم البالغين سيئةٌ للغاية، وأنهم نسوا كيف كانوا يشعرون وهم صغار. بالطبع يفترض أن الأناشيد مكتوبةٌ حسبما جاءت على لسان الأطفال.
•••
لا شك أن مثل هذه الأشياء جعلت الدروس أكثر بهجةً. إنَّ الهدف منها هو أن تعلموا أن الشخص الذي يُعلِّمكم يَفهم أن الأمر ليس بالغَ السهولة كشرب الماء بالنسبة إليكم، وأنه كذلك لا يظن أن بَلاهتكم فقط هي التي تمنعكم من معرفة دروسكم قبل أن تُشرَح لكم!
فيما بعد عندما تحسَّنَتْ رِجلُ جيم، أصبح من الممتع للغاية الصعودُ إلى الطابق العلوي والجلوسُ معه وسماعُ حكاياتٍ عن حياته في المدرسة وعن الفِتيان الآخرين. كان ثمة فتًى يُدعى بار، ويبدو أن رأي جيم فيه كان من أسوأ ما يمكن، وفتًى آخر يُدعى ويجسباي ماينر، وكان جيم يُكِنُّ لآرائه احترامًا كبيرًا للغاية. كما كان هناك ثلاثةُ إخوةٍ يُدعَون بيلي، وكان اسمُ أصغرهم بيلي تيرت، وكان شديد الميل إلى المشاجرة.
كان بيتر يستمع إلى هذا كله بابتهاجٍ كبير، ويبدو أن أمه كانت تُصغي للكلام بشيءٍ من الاهتمام؛ لأنها ذات يومٍ أعطتْ جيم صحيفةً من الورقِ كانت قد كتبتْ عليها قصيدةً عن الفتى بار، وذكرتْ فيها بيلي وويجسباي باسمَيهما بطريقةٍ من أروع ما يكون، كما ذكرت فيها كل مبررات جيم لعدم إعجابه ببار، وكذلك رأيَ ويجسباي الحكيمَ في الأمر. لقد سعد جيم للغاية بهذه القصيدة. إنه لم يحظ قبل ذلك قط بقصيدةٍ تُكتَب خصيصى من أجله. فظلَّ يقرؤها حتى حفظها عن ظهر قلبٍ ثم أرسلها إلى ويجسباي، الذي أحبها بقدر حب جيم لها تقريبًا. ربما تحبونها أنتم أيضًا.
•••
•••
•••
•••
•••
لم يستوعب جيم مطلقًا كيف كانت أمهم ذكيةً إلى ذلك الحد الذي مكَّنها من كتابة هذه القصيدة. أما بالنسبة إلى الآخرين فقد بدَت لطيفةً، لكنها عادية. إنهم كما تعلمون قد تعودوا دائمًا على أن لهم أمًّا تستطيع وضع الجمل التي قالها الناسُ في شِعرها كما قالوها تمامًا، حتى ولو كان ذلك التعبير الصادم الذي في آخر القصيدة، والذي هو من كلام جيم نفسه.
تعلَّم بيتر من جيم لعب الشِّطْرنج والدَّاما والدومينو، وكان وقتًا هادئًا لطيفًا إجمالًا.
ما إن أخذت رِجلُ جيم تتحسن يومًا بعد يومٍ حتى ساد بين كلٍّ من بوبي وبيتر وفيليس شعورٌ مفاجئٌ بضرورة عملِ شيءٍ ما لتسليته؛ ليس الألعاب وحسب، وإنما شيءٌ كبيرٌ بحق. لكنهم وجدوا أن التفكير في أيِّ شيءٍ يفعلونه كان أصعبَ كثيرًا من المعتاد.
قال بيتر، بعدما ظلَّ كلٌّ منهم يُفكر ويفكر إلى أن أحسوا وكأن رءوسهم قد ثقلت وتورمت للغاية: «لا جدوى من هذا إذا كنا لا نستطيع الاهتداءَ إلى أيِّ شيءٍ لتسليته، فإننا لا نستطيع وحسب، ويجب أن نتوقف عن هذا. ربما يحدثُ شيءٌ ما من تلقاء نفسه يحبه جيم.»
«إن الأشياء بالفعل تحدث من تلقاء نفسها أحيانًا، من دون أن يكون من صنيعكم.» هكذا قالت فيليس، وكأنما كلُّ ما حدث في الكون كان من صنيعها هي.
قالت بوبي بنبرةٍ حالمة: «أتمنى أن يحدث شيءٌ ما، شيءٌ رائع.»
وقد حدث بالفعل شيءٌ رائعٌ بعدما قالت هذا بأربعة أيامٍ بالتمام. ليتني أستطيع أن أقول إنه حدث بعد ثلاثة أيام؛ فدائمًا ما تحدث الأمور في القصص الخيالية بعد ثلاثة أيام. لكن هذه ليست قصةً خيالية، وعلاوة على هذا، فقد كانت أربعة أيامٍ بالفعل وليس ثلاثة، وإنَّ ما يُميزني فوق كل شيءٍ هو أمانتي المتناهية.
لم يكد الأطفال في تلك الأيام يُشبِهون أطفالَ السكة الحديدية على الإطلاق، وكانوا بمرور الأيام يشعرون جميعًا بشيءٍ من القلق تجاه ما عبرتْ عنه فيليس يومًا ما.
لقد قالتْ بحزُّنٍ: «أتساءل إن كانت السكة الحديدية تشتاق إلينا. إننا لم نعد نراها الآن مطلقًا.»
قالت بوبي: «يبدو هذا نكرانًا للجميل؛ لقد كنا نحبها للغاية عندما لم يكن هناك أيُّ أحدٍ آخر يلعب معنا.»
قال بيتر: «إن بيركس يأتي دائمًا للسؤال عن جيم، وقد تحسنت صحةُ طفل عامل التحويلة. هكذا أخبرني.»
قالت فيليس موضحةً: «لم أقصد الناس، وإنما قصدتُ السكة الحديدية الحبيبة نفسها.»
قالت بوبي، في اليوم الرابع هذا، وكان يوم ثلاثاء: «إن ما لا يُعجبني هو أننا توقفنا عن التلويح لقطار التاسعة والربع، ولم نعد نرسل معه تحايانا لأبي.»
قالت فيليس: «فلنبدأ من جديد.» وهكذا فعلوا.
إن التغيير الذي أصاب كلَّ شيءٍ، والذي نَجَمَ عن وجود خدمٍ في المنزل وعن عدم انشغال الأم بشيءٍ من كتابتها، قد جعل الوقت الذي مرَّ عليهم منذ ذلك الصباح الغريب في بداية الأمر — عندما استيقظوا مبكرًا جدًّا وأحرقوا قعر غلاية الشاي، وتناولوا فطيرة تفاحٍ على الإفطار، ورأوا السكة الحديدية لأول مرة — جعله بطريقةٍ ما يبدو طويلًا للغاية.
كانوا في شهر سبتمبر في ذلك الحين، وكان العشب الذي يكسو المنحدرَ المؤديَ إلى السكة الحديدية يابسًا وهشًّا. كان قليلٌ من سبلات العشب الطويلة ينتصب مثل قطعٍ صغيرةٍ من أسلاكٍ ذهبية، وكانت بعض أزهار الجريس الزرقاء الهشة تهتزُّ في سويقاتها الصلبة الهيفاء، وأزهار الجيبسي تفتح أقراصها الأرجوانية الشاحبة حتى بدت عريضةً منبسطة، وكانت الأزهار النجمية الذهبية في عشبة القديس يوحنا تلتمع على حواف بِركة الماء الواقعة في منتصف الطريق بين المنزل والسكة الحديدية. قطفتْ بوبي مجموعةً من الأزهار ملأتْ بها يدها وراحت تتخيل كم ستبدو جميلةً عندما تُوضَع على البطانية ذات اللونَين الأخضر والوردي المصنوعة من عادم الحرير التي تُغطي رجل جيم المكسورة المسكينة الآن.
قال بيتر: «أسرِعا، وإلَّا فسيفوتنا قطارُ التاسعة والربع!»
قالت فيليس: «لا أستطيع الإسراعَ أكثر من هذا. أوه، تبًّا! لقد انفكَّ رباطُ حذائي ثانيةً!»
قال بيتر: «عندما تتزوجين، سينفكُّ رباطُ حذائكِ وأنتِ تسيرين في ممر الكنيسة، وسيتعثر فيه الرجلُ الذي ستتزوجينه ويتهشم أنفُه على الأرضية المُزخرفة؛ وساعتها ستقولين إنكِ لن تتزوجيه، وستُصبحين عانِسًا رغمًا عنكِ.»
قالت فيليس: «لن أفعل هذا. أُفضل كثيرًا أن أتزوج رجلًا بأنفٍ مُهشمٍ على ألَّا أتزوجَ أحدًا.»
أكملتْ بوبي قائلةً: «لكنَّ الزواج برجلٍ مُهشمِ الأنف شيءٌ مُروع. إنه لن يستطيع شمَّ الأزهار في العُرس. ألن يكون هذا فظيعًا!»
صاح بيتر قائلًا: «سُحقًا لأزهار العُرس! انظُرا! لقد نزلت الإشارة. يجب أن نجري!»
جرى الأطفال. ومن جديدٍ راحوا يلوحون بمناديلهم لقطار التاسعة والربع، دونما أيِّ اكتراثٍ لِما إن كانت المناديل نظيفةً أم لا.
صاحت بوبي قائلةً: «أبلِغ حبنا لأبينا!» وكذا صاح الآخران:
«أبلغ حبنا لأبينا!»
لوَّح لهم السيد العجوز من نافذة عربة الدرجة الأولى التي يستقلها. كان يلوح بحماس شديد. ولم يكن ذلك غريبًا؛ لأنه دائمًا ما كان يلوح لهم. لكنَّ الغريب حقًّا أن ثمة مناديل راحت ترفرف، وجرائدَ تومئ، وأياديَ تلوح بشدة، من كل نافذةٍ من نوافذ القطار. لقد اندفع القطار بجوارهم بقوةٍ بقعقعة وزمجرة، وراح الحصى الصغيرُ يتواثب ويرقص تحته أثناء مروره، وتَرك الأطفالَ ينظر أحدُهم إلى الآخر.
قال بيتر: «حسنٌ!»
قالت بوبي: «حسنٌ!»
قالت فيليس: «حسنٌ!»
تساءل بيتر قائلًا: «أيَّ شيءٍ قد يعنيه هذا؟» لكنه لم يتوقع أيَّ رد.
قالت بوبي: «لا أعرف. ربما يكون السيد العجوز قد طلب من الناس في محطته أن يرقبونا ويُلوِّحوا لنا. إنه يعلم أن هذا سيعجبنا!»
لكن الغريب للغاية أن هذا هو ما حدث تمامًا. لقد ذهب السيد العجوز في وقت مبكر من صباح اليوم إلى محطته، وكان معروفًا ويحظى باحترام شديد فيها، وانتظر عند الباب الذي يقف عنده الشابُّ حاملًا تلك الآلة المثيرة للاهتمام التي تثقب التذاكر، وأخذ يقول شيئًا ما لكل راكبٍ يمر من ذلك الباب. وبعدما أومأ الركابُ بالموافقة على ما قاله السيد العجوز — وكانت إيماءاتهم تُعبر عن كل درجات الدهشة، والاهتمام، والشك، والرِّضا المبهِج، والموافقة المتذمرة — توجه كلُّ واحدٍ منهم إلى الرصيف وراح يقرأ جزءًا معينًا من جريدته. وبعدما دخل الركابُ القطار، أَخبروا الركاب الآخرين الذين كانوا بداخله بالفعل بما قاله السيد العجوز، وعندها نظر الركاب الآخرون كذلك في جرائدهم وبدَوْا مندهشين للغاية، ومسرورين في العموم. بعد ذلك، عندما مرَّ القطارُ أمام السور الذي كان الأطفال الثلاثة يجلسون عليه، أخذت الجرائد والأيدي والمناديلُ تُلوِّح بجنون، حتى راح ذلك الجانب كلُّه من القطار يُرفرف بالبياض كصور تتويج الملك في جهاز عرض الصور في مسرح ماسكلين آند كوك للألعاب السحرية. أما في أعين الأطفال، فقد كان الأمر يبدو وكأن القطار نفسه قد سرَت فيه الحياة، وكان يتجاوب أخيرًا مع الحُب الذي منحوه إيَّاه بسخاءٍ كبيرٍ ومنذ زمنٍ طويل.
قال بيتر: «هذا من أعجب ما يكون!»
حاولت فيليس ترديد كلامه: «من أعجب ما يكون!»
لكن بوبي قالت: «ألا تعتقدان أن تلويحات السيد العجوز بدتْ ذات دلالةٍ أكثر من المعتاد؟»
قال الآخران: «نعم.»
قالت بوبي: «لكني أعتقد هذا. أظن أنه كان يحاول أن يُوضح لنا شيئًا ما بجريدته.»
تساءل بيتر، كما هي عادته: «يوضح ماذا؟»
أجابته بوبي: «لا أدري، لكنني أشعر بغثيانٍ رهيب. أشعر تمامًا وكأنما شيءٌ ما كان سيحدث.»
قال بيتر: «ما سيحدث أن جورب فيليس سيسقط.»
لم يكن هذا إلَّا صحيحًا تمامًا. لقد انهارت حمَّالةُ الجورب بسبب الرجِّ العنيف الذي أحدثه التلويحُ لقطار التاسعة والربع. وقام منديل بوبي مقام الإسعافات الأولية للجورب المُصاب، وعادوا جميعًا إلى المنزل.
كانت الدروس أصعب على بوبي من المعتاد في ذلك اليوم، بل إنها شعرت بخِزْي شديد من نفسها بسببِ مسألةٍ حسابيةٍ يسيرةٍ للغاية حول قسمةِ ٤٨ رطلًا من اللحم و٣٦ رطلًا من الخبز بين ١٤٤ طفلًا جائعًا لدرجة أن أمها راحت تنظر إليها في قلق.
وسألتْها: «ألا تشعرين بأنكِ على ما يُرام يا عزيزتي؟»
كان جواب بوبي غير المتوقع: «لا أدري. لا أعرف ما الذي أشعر به. لكنني لا أتكاسل. أمي، هلا أعفيتِني من الدروس اليوم؟ أُحس وكأنني أريد أن أكون بمفردي تمامًا.»
قالت أمها: «نعم، بالطبع سأُعفيكِ منها، لكن …»
أسقطتْ بوبي لوح الكتابة من يدها. انصدع اللوحُ من عند العلامة الخضراء الصغيرة التي تساعد كثيرًا في رسم الأشكال حولها، ولمْ يعد لحاله الأولى بعد ذلك مطلقًا. ودون أن تنتظر لتلتقطه انطلقتْ. لمحتْها أمها في الردهة تبحث بشرودٍ بين معاطف المطر والمظلات عن قبعة الحديقة خاصتها.
فقالت: «ما الأمر يا حبيبتي؟ هل تشعرين بتوعك؟»
قالتْ بوبي، بأنفاسٍ متقطعة قليلًا: «لا أعرف، لكنني أريد أن أخلوَ بنفسي وأرى إن كان رأسي حقًّا مصابًا بدوار وبطني متلويًا مرتبكًا.»
قالت أمها وهي تُملِّس على شعرها من عند جبهتها إلى أطرافه: «ألم يكن من الأفضل لكِ أن تستلقي في فراشكِ لتستريحي قليلًا؟»
قالت بوبي: «أظن أني سأستفيق أكثر في الحديقة.»
لكنها لم تستطع البقاءَ في الحديقة؛ لقد بدت نباتاتُ الخطمية البرية وزهور النجمة والورودُ الحديثة وكأنما كانت تترقب جميعُها حدوث شيءٍ ما. كان يومًا من أيام فصل الخريف، تلك الأيام المشمسة الهادئة، التي تبدو فيها جميعُ الأشياء وكأنما في انتظار.
أما بوبي فلمْ تستطع الانتظار.
وقالت: «سأذهب إلى المحطة وأتحدث مع بيركس وأسأل عن طفل عامل التحويلة.»
وهكذا ذهبتْ إلى هناك. وفي طريقها مرتْ على السيدة العجوز التي تعمل في مكتب البريد، والتي قبَّلتْها وعانقتْها، لكنَّ ما أدهش بوبي بعض الشيء أنها لم تقل لها أي شيء سوى:
«بارككِ الربُّ يا حبيبتي …» وأضافت، بعد فترةِ صمتٍ قصيرة: «انطلقي … اذهبي.»
أما صبيُّ بائع الأقمشة، والذي كان يبدو أحيانًا دُونَ المهذب قليلًا وفوق الوَقِحِ قليلًا، فقد لمس قبعته مُحَيِّيًا، ونطق بتلك الكلمات الغريبة:
«صباح الخير يا آنستي، أنا واثقٌ …»
كان سلوكُ الحداد، وهو قادمٌ وفي يده جريدةٌ مفتوحةٌ، أكثر غرابةً؛ فقد ابتسم ابتسامةً عريضةً، رغم أنه لم يكن يميل، في أغلب الأحيان، إلى الابتسامات، وراح يلوح بالجريدةِ قبل أن يصل إلى بوبي بمسافةٍ كبيرة. وعندما مرَّ أمامها، قال، ردًّا على قولها «صباحُ الخير»:
«صباحُ الخيرِ عليكِ يا آنستي، ولتنعمي بأيامٍ كثيرةٍ قادمةٍ صباحُها خيرٌ! أرجو لكِ السعادة، من كل قلبي!»
قالت بوبي في نفسها وقد تسارعت دقات قلبها: «يا إلهي! لا بد أن شيئًا ما سيحدث! أنا واثقةٌ من هذا؛ إن الجميع يتصرفون بغرابةٍ شديدة، مثلما يفعل الناس في الأحلام.»
صافحها ناظرُ المحطة بحرارةٍ. في الواقع، لقد ظلَّ يرفع يدها ويخفضها وكأنها مقبض مضخة. لكنه لم يُفسر لها سبب هذه التحية الحماسية غير المعتادة، وإنما قال فقط:
«لقد تأخر قطارُ الحادية عشرة وأربعٍ وخمسين دقيقةً قليلًا يا آنستي؛ إنها الحقائب الزيادة في وقت الإجازة هذا.» ثم انصرف سريعًا جدًّا إلى معبده الداخليِّ ذلك الذي لم تجرؤ بوبي حتى على أن تلحق به إليه.
لم ترَ بوبي بيركس؛ لذا تشاركت الرصيف الخاليَ مع قطة المحطة. هذه السيدةُ المبرقشة اللون، والتي عادةً ما تميل إلى الانطواء على نفسها، جاءت اليومَ لتحك نفسها في جوربَي بوبي البُنيَّين، جاءت بظهرٍ مقوس، وذيلٍ مُلوحٍ، وخرخرةٍ مسرورةٍ مدوية.
قالت بوبي وهي تنحني لتملس على ظهرها: «يا إلهي! ما أطيب الجميع اليوم؛ حتى أنتِ أيتها الهرة!»
لم يظهر بيركس حتى دقَّتْ إشارةُ قطار الحادية عشرة وأربعٍ وخمسين دقيقة، وحين ظهرَ، كان — كالآخرين جميعًا في صباح ذلك اليوم — يحمل في يده جريدة.
قال بيركس: «مرحبًا! ها أنتِ ذي. حسنٌ، لو كان هذا هو القطار، فسيكون هذا ذكاءً منكِ! حسنٌ، بارككِ الربُّ يا حبيبتي! لقد رأيته في الجريدة، ولا أظنني سعدتُ بأيِّ شيءٍ في حياتي كلها مِثلَ هذه السعادة الغامرة!» ونظر إلى بوبي قليلًا، ثم قال: «لا بُد أن أحظى بواحدةٍ يا آنستي، وأعرف أنكِ لن تغضبي مني في يومٍ كهذا!» وبعد هذه الكلمات مباشرةً طبعَ قبلةً على أحد خدَّيها، ثم على الآخر.
لكنه سألها في قلق: «لم تغضبي مني، أليس كذلك؟ لم أتجاوز حدودي كثيرًا، أليس كذلك؟ في يومٍ كهذا، أتعرفين …»
قالت بوبي: «بلى، بلى، بالطبع ليس هذا تجاوزًا يا عزيزي السيد بيركس؛ إننا نحبك وكأنك عم لنا تمامًا … لكن … في يومٍ مثل ماذا؟»
قال بيركس: «مثل هذا اليوم! ألم أقل لكِ إني رأيته في الجريدة؟»
سألته بوبي: «رأيتَ ماذا في الجريدة؟» لكنَّ قطار الحادية عشرة وأربعٍ وخمسين دقيقة كان قد دخل المحطة بالفعل، وكان ناظر المحطة ينظر إلى جميع الأماكن التي لم يكن بيركس موجودًا فيها والتي كان ينبغي أن يكون فيها.
تُرِكَت بوبي واقفةً بمفردها، وراحت قطة المحطة تنظر إليها من تحت المقعد الطويل بعينَين ذهبيتَين وَدودتَين.
بالطبع تعلمون بالفعل ما الذي كان سيحدث تحديدًا، لكن بوبي لم تكن على هذه الدرجة من الفطنة. لقد كان يتملكها ذلك الشعور الغامض المربك المترقِّب الذي يتملَّك قلب المرء في الأحلام. لا أعلم ما الذي كان يتوقعه قلبُها — ربما الشيء نفسه الذي أعلم أنا وأنتم أنه كان سيحدث — لكنَّ عقلها لمْ يتوقع شيئًا؛ لقد كان شبه خاوٍ، وما كان يشعر بشيءٍ سوى الإرهاق والبلادة وشعورٍ بالخواء، كذلك الذي تشعر به أجسامكم عندما تكونون قد مشيتم مسافةً طويلةً ويكون قد مرَّ وقتٌ طويلٌ بالفعل على موعد غدائكم.
لم يخرج من قطار الحادية عشرة وأربعٍ وخمسين دقيقةً سوى ثلاثة أشخاص. كان أولهم مزارعًا يحمل صندوقَين من الخوص مليئَين بدجاجٍ حيٍّ وقد أخرج الدجاجُ رءوسه الخمرية اللون من بين أماليد الصندوق المجدولة وراح ينظر في قلق؛ أما الثانية فكانت الآنسة بيكيت، ابنة عم زوجة البقال، وكان معها صندوقٌ قصديريٌّ وثلاثة طرودٍ ملفوفةٍ في ورقٍ بُنِّي؛ أما الثالث …
«يا إلهي! أبي! أبي!» اندفعت تلك الصرخة مثل سكينٍ في قلوب جميع مَن في القطار، وأخرج الناس رءوسهم من النوافذ ليروا رجلًا طويلًا شاحبًا شفتاه مطبقتان في خطٍّ دقيقٍ ضيق، وفتاةً صغيرةً متشبثةً به بذراعَيها ورِجلَيها، بينما ذراعاه تُطوقانها بقوة.
•••
قالت بوبي وهما يسيران في الطريق: «كنتُ أعلم أن شيئًا رائعًا سيحدث، لكن لم يخطر ببالي أنه سيكون هذا. يا إلهي، أبي، أبي!»
سألها أبوها: «أخبريني، أما تلقتْ والدتُك رسالتي؟»
«لم تأتِ أي رسائل هذا الصباح. يا إلهي! أبي! إنه أنتَ بالفعل، أليس كذلك؟»
أكدتْ لها قبضةُ يدٍ لم تنسها أنه كان هو بالفعل. «يجب أن تدخلي بمفردكِ يا بوبي وتخبري أمكِ بهدوءٍ شديدٍ أن كل شيء على ما يرام. لقد أمسكوا الرجل الذي فعلها. الجميع يعلمون الآن أن أباكِ لم يفعل ذلك.»
قالت بوبي: «كنتُ أعلم طوال الوقت أنكَ لم تفعلها، أنا وأمي وصاحبنا السيد العجوز.»
قال: «نعم، إن الفضل كله يعود إليه. لقد أرسلتْ لي أمكِ رسالةً وأخبرتْني أنكِ اكتشفتِ الأمر. وأخبرتْني كيف كُنتِ بالنسبة إليها. يا صغيرتي الحبيبة!» وتوقفا قليلًا بعد ذلك.
وها أنا أراهما الآن يَعبران المرج. دخلتْ بوبي إلى المنزل وهي تحاول أن تمنع عينَيها من الكلام قبل أن تجد شفتاها الكلمات المناسبة لكي «تخبر والدتها بهدوءٍ شديد» أنَّ الحزن والعناء والفراق قد انتهوا أخيرًا، وأن أباها قد عاد إلى البيت.
أرى أباها يسير في الحديقة، ينتظر وينتظر. إنه ينظر إلى الزهور، وكلُّ زهرةٍ إنما هي معجزةٌ لعينَين لمْ ترَيا طوال شهور الربيع والصيف سوى حَجَرِ الرصْفِ والحصى والقليل النادر من العشب. لكنَّ عينَيه ظلَّتا تلتفتان إلى المنزل. وبعد قليلٍ ترك الحديقة وذهب للوقوف أمام أقرب باب. إنه الباب الخلفي، وطيور السنونو تدور في الفِناء. إنها تستعد للطيران بعيدًا عن الريح الباردة والصقيع القارس والذَّهاب إلى أرض الصيف الدائم. إنها طيور السنونو نفسها التي بنى لها الأطفال أعشاش الطين الصغيرة.
الآن فُتح باب المنزل. وجاء صوتُ بوبي من داخله قائلًا:
«ادخل يا أبي؛ ادخل!»
دخل أبوها وأُغلِق الباب. أظن أننا لن نفتح الباب أو نتبعه. أظن أن الآن تحديدًا لا داعي لوجودنا هناك. أرى أن أفضل شيءٍ نفعله أن نبتعد سريعًا وبهدوء. ومن عند طرف المرجة، بين سبلات العُشب الذهبية الهزيلة وأعشاب الجريس المستديرة الأوراق وورود الجيبسي وعشبة القديس يوحنا، يمكننا فقط أن نُلقِيَ نظرةً أخيرة، من خلف ظهورنا، على المنزل الأبيض الذي لم يعد لوجودنا فيه نحن ولا أيِّ أحدٍ آخر أيُّ داعٍ الآن.