سجناء وأسرى
في أحد الأيام ذهبت الأم إلى مدينة ميدبريدج. كانت قد ذهبت بمفردها، لكن كان من المقرر أن يذهب الأطفال إلى المحطة لاستقبالها. ونظرًا لحبهم للمحطة، لم يكن وجودهم هناك قبل ظهور أي بادرةٍ لوصول قطار أمهم بوقتٍ كافٍ إلا أمرًا طبيعيًّا، حتى ولو وصل القطار في موعده تمامًا، وهو ما لم يكن متوقعًا بالمرة. لا شك أنهم كانوا سيبكرون بالذهاب إلى هناك على أي حال، حتى ولو كان الجو معتدلًا والشمس مشرقة، وجميع مباهج الخمائل والحقول والصخور والأنهار متاحة أمامهم. لكن تَصادف أن كان يومًا مطيرًا للغاية، كما كان يومًا باردًا جدًّا رغم كونه أحد أيام شهر يوليو. كان ثمة رياحٌ عاتيةٌ تَسوق قطعًا من السحاب الأرجواني الداكن في السماء، «كقطعانٍ من فِيَلة الأحلام» على حد قول فيليس. وبدأت الأمطار تَلدغهم بحدة؛ لذا قطَعوا ما تبقى من الطريق إلى المحطة ركضًا. بعد ذلك أخذ المطر ينهمر أسرع وأعنف من ذي قبل، وراح ينصبُّ بانحرافٍ ويضرب نوافذ مكتب الحجز ونوافذ المكان المعتدل البرودة المكتوبِ على بابه «حجرة الانتظار العامة».
قالت فيليس: «وكأننا في قلعةٍ مُحاصَرة. انظُرا إلى سهام الأعداء وهي تهاجم الأبراج المحصَّنة!»
قال بيتر: «بل الأمر أشبه كثيرًا برشَّاش حديقةٍ كبير.»
قرر الأطفال أن ينتظروا على الرصيف الذي يمر بجواره القطارُ المتجه صوب العاصمة؛ لأن الرصيف الموازيَ بدا مُبتلًّا جدًّا في الحقيقة، كما أن المطر كان ينصبُّ مباشرةً باتجاه المأوى الصغير القارس البرودة الذي يجب أن ينتظر فيه الركاب المسافرون القادمون من العاصمة قطاراتهم.
كانوا يتوقعون أن يكون الوقت حافلًا بالأحداث والتشويق، نظرًا لوجود قطارَين متجهَين صوب العاصمة وآخر قادمًا منها قبل مجيء القطار الذي ستعود فيه أمهم إليهم.
قالت بوبي: «ربما سيكون المطر قد توقف حينئذٍ. على أي حال، أنا سعيدةٌ لأنني أحضرتُ مظلة أمي ومعطفها الواقي من المطر.»
دخل الأطفال المكان المهجور المكتوب عليه «غرفة الانتظار العامة»، وقضوا وقتًا ممتعًا جدًّا في لعبةٍ عن الإعلانات. تعرفون اللعبة بالتأكيد، أليس كذلك؟ إنها شبيهةٌ بلعبة دام كرامبو القائمة على التخمين. في لعبة الإعلانات يتناوب كل واحد من اللاعبِين الخروج من الغرفة، ثم العودةَ إليها وهو يحاول قدر استطاعته أن يبدوَ شبيهًا بهيئةِ أحد الإعلانات، ويكون على الآخرين أن يُخمِّنوا الإعلان الذي يقصده. دخلت بوبي وجلست تحت مظلة أمها وجعلت وجهها يبدو مُدبَّبًا حادَّ الزوايا، فعرَف الجميعُ أنها كانت تقلد الثعلب الجالس تحت المظلة في الإعلان. حاولت فيليس جعل معطف أمها يبدو كبساطٍ سحري، لكنَّ المعطفَ لم يقف متصلبًا ولمْ يُشبه الطَّوْفَ كما ينبغي لبساطٍ سحريٍّ أن يكون، ولم يستطع أحدٌ تخمين قصدها. رأى الجميع أن بيتر كان يبالغ بعض الشيء عندما سوَّد وجهه كله بتراب الفحم واتخذ جسمه هيئة العنكبوت وقال إنه يحاكي بقعة الحبر في إعلان أحد منتجات حبر الكتابة.
جاء الدور على فيليس مرةً أخرى، وكانت تحاول أن تتشبه بأبي الهول الذي يُعلِن عن رحلاتٍ إلى نهر النيل يُنفِّذها أحد المرشدين السياحيين بنفسه، لكنَّ رنين الإشارة الحادَّ أعلن عن قدوم القطار المتوجه إلى العاصمة. خرج الأطفال مسرعين ليروه وهو يمر. كان على متن قاطرته السائق والوقَّاد نفسهما اللذان أصبحا الآن من أعز أصدقاء الأطفال الثلاثة. تبادلوا جميعًا المجاملات؛ ثم سألهم جيم عن القطار اللعبة، وهنا ألحَّتْ بوبي عليه كي يقبل منها علبةً مبتلةً زلقةً بها حلوى كانت قد صنعتها بنفسها.
أُعجِب سائق القطار بمجاملتها هذه، ووافق على النظر في طلبها بأن يصطحب بيتر يومًا ما في رحلة على متن القاطرة.
صاح سائق القطار فجأةً: «تراجعوا يا رفاق؛ لقد حان وقت الرحيل.»
وكما قال تمامًا، انطلق القطار. ظل الأطفال يشاهدون الأضواء الخلفية للقطار إلى أن توارى في مُنعطف خط السكة الحديدية، ثم استداروا ليعودوا مرةً أخرى وينعموا بتلك الحرية التي نعموا بها في «غرفة الانتظار العامة» المغبرَّة، ويستمتعوا ببهجة لعبة الإعلانات.
لم يتوقعوا أن يروا سوى شخصٍ أو اثنَين، آخر من تبقى من موكب الركاب الذين سلموا تذاكرهم وانصرفوا. لكنهم وجدوا بدلًا من ذلك بقعةٌ قاتمةٌ تُطوِّق الرصيفَ المحيطَ بباب المحطة، ليتضح لهم بعد ذلك أن تلك البقعة القاتمة كانت حشدًا من الناس.
صاح بيتر وهو يهتز فرحًا من الإثارة: «يا إلهي! لقد حدث شيءٌ ما! تعاليا!»
جرى الأطفال على الرصيف. لكنهم عندما وصلوا إلى الحشد لم يستطيعوا بالطبع أن يروا سوى الظهور والمرافق المبتلة بالماء لأولئك الواقفين خارجه. كان الجميع يتكلمون في الوقت نفسه. كان من الواضح أن شيئًا ما قد حدث.
قال شخصٌ يُوحي مظهره أنه من المزارعين: «أرى أنه ليس أكثر سوءًا من أي إنسانٍ طبيعي.» كان بيتر ينظر إلى وجهه الأحمر الحليق وهو يتكلم.
قال شابٌّ يحمل حقيبةً سوداء: «أما أنا فأرى أن هذه إحدى قضايا محكمة الجُنح.»
«ليس هذا؛ بل المستوصف أقرب إلى …»
في ذلك الوقت سُمِع صوتُ ناظر المحطة، وكانت نبرته حازمة ورسمية:
«والآن إذن، أفسِحوا الطريق. سوف أتولى هذا الأمر، لو سمحتم.»
لكنَّ الحشد لم يتحرك. ثم ارتفع صوتُ إنسانٍ فأثار الأطفال للغاية؛ وذلك لأنه كان يتحدث بلغةٍ أجنبية. والأكثر من ذلك أنها كانت لغةً لم يسمعوها قبل ذلك قطُّ. لقد سمعوا اللغة الفرنسية والألمانية قبل ذلك. فقد كانت الخالة إيما تتحدث الألمانية، وكانت تُغني أغنيةً تتضمن بعض الكلمات الألمانية. ولم تكن اللاتينية كذلك؛ فلقد درس بيتر اللاتينية على مدى أربعة فصول دراسية.
أحس الأطفال ببعض الارتياح، على أي حال، عندما وجدوا أن أيًّا من الحشد لم يفهم شيئًا من تلك اللغة الأجنبية أفضل مما فهموا.
قال المزارع ببطء وتثاقل: «ما هذا الذي يقوله؟»
قال ناظر المحطة الذي قضى يومًا كاملًا ذات مرة في مدينة بولون الفرنسية: «تبدو لي شبيهةً بالفرنسية.»
صاح بيتر قائلًا: «ليست الفرنسية!»
سأله أكثرُ من شخص: «فما هي إذن؟» تراجع الحشد إلى الوراء قليلًا ليرَوا من الذي تكلم، وتقدم بيتر إلى الأمام، بحيث صار في الصف الأمامي عندما أُغلِق الحشد مرةً أخرى.
قال بيتر: «لا أدري ما هي، لكنها ليست الفرنسية. أنا متأكدٌ من هذا.» ثم رأى ما الذي كان في وسط الحشد. لقد كان مَن تحدث هذه اللغة الغريبة رجلًا، لم يشك بيتر في ذلك. كان رجلًا طويل الشعر مضطرب العينَين، يرتدي ثيابًا رثةً لمْ يرَ بيتر ثيابًا على طرازها من قبل؛ رجلٌ راجف اليدَين والشفتَين، وقد تكلم ثانيةً عندما وقعت عيناه على بيتر.
قال بيتر: «كلا، ليست الفرنسية.»
قال المزارع: «جرِّب أن تكلمه بالفرنسية ما دمتَ تعرف الكثير عنها هكذا.»
بادر بيتر في جُرأةٍ إلى سؤاله: «باغليه فو فغانسيه؟ (هل تتحدث الفرنسية).» وهنا تقهقر الحشد مرةً أخرى؛ لأن الرجل ذا العينَين المضطربتَين ترك الاستناد إلى الحائط، واندفع إلى الأمام وأمسك يدَي بيتر، وراح يقذف من فمه سيلًا من الكلمات التي عرَف بيتر وقعها، رغم أنه لم يفهم كلمةً واحدةً منها.
قال بيتر: «مرحى!» واستدار لينظر إلى الحشد بعينَي المنتصر، ويدا الرجل الغريب ذي الهيئة الرثة لا تزالان تقبضان بشدةٍ على يدَيه، وأضاف: «هذا الكلام بالفرنسية.»
«ماذا يقول؟»
اضطُر بيتر إلى الاعتراف فقال: «لا أعرف.»
قال ناظر المحطة مرةً أخرى: «بعد إذنك، تحرك لو سمحتَ. سوف أتعامل مع هذه القضية.»
ابتعد بعضٌ من الركاب الأكثر حياءً أو الأقل فضولًا بتثاقل وعلى مضض. واقتربت فيليس وبوبي من بيتر. لقد درس الأطفالُ الثلاثة جميعًا اللغة الفرنسية في المدرسة. كم تمنَّوا من قلوبهم في تلك اللحظة أن لو كانوا أتقنوها! هز بيتر رأسه للرجل الغريب، لكنه أيضًا صافحه أحرَّ مصافحةٍ ونظر إليه أرق نظرةٍ استطاعهما. تردد أحد المحتشدين قليلًا، ثم قال فجأةً، بفرنسيةٍ ركيكةٍ: «نو كومبرينيه (لا أحد يفهمك)!» ثم سحب نفسه من الزحام وقد احمرَّ وجهه بشدةٍ من فرط الخجل، وانصرف.
همست بوبي في أذن ناظر المحطة: «خذه إلى حجرتك، إن أمي تتحدث الفرنسية. وستصل في القطار القادم من مدينة ميدبريدج.»
أمسك ناظر المحطة ذراع الرجل الغريب، فجأةً لكن من دون عنف. لكن الرجل انتزع ذراعه من قبضة ناظر المحطة بقوةٍ، وتقهقر إلى الوراء وهو يسعل ويرتجف ويحاول دفع ناظر المحطة بعيدًا.
قالت بوبي: «يا إلهي، لا تفعل! ألا ترى كم هو خائف؟ إنه يظن أنك ستسجنه. أنا متأكدة أنه يظن ذلك؛ انظُر إلى عينَيه!»
قال المزارع: «إنهما كعينَي الثعلب عندما يقع في الشَّرَك.»
استأنفتْ بوبي كلامها قائلةً: «أوه، دعوني أحاول! إنني بالفعل أعرف كلمةً أو اثنتَين بالفرنسية فقط لو استطعتُ أن أتذكرهما.»
أحيانًا في لحظات الاحتياج الشديد، يمكننا أن نفعل أشياء رائعة؛ أشياء لا نستطيع حتى أن نحلم بأن نفعلها في لحظات حياتنا العادية. إن بوبي لم تقترب يومًا من اعتلاء المركز الأول في حصة اللغة الفرنسية، لكن لا بد أنها قد تعلمتْ شيئًا ما دون أن تفطن لذلك؛ لأنها في تلك اللحظة، وهي تنظر إلى تلكما العينَين المضطربتَين المذعورتَين، تذكرتْ بالفعل، وعلاوةً على ذلك، فقد تكلمتْ ببعض الكلمات بالفرنسية. قالت:
«فوز اتندغ (انتظر من فضلك). ما ميغ باغليه فغانسيه (إن أمي تتحدث الفرنسية). نُو (نحن) … كيف نقول طيبين بالفرنسية؟»
لم يعرف أحد.
قالت فيليس: ««بُو» تعني «رفقاء».»
«نوز اتغ بُو بوغ فو (إننا رفقاء بك).»
لا أدري إن كان الرجل قد فهم كلماتها، لكنه فهم لمسة اليد التي دفعَت بها في يده، وطيبة اليد الأخرى التي راحت تُمررها برفقٍ على كُمه الرث.
جذبته بوبي برفقٍ إلى المأوى الأكثر سرية لناظر المحطة. وتبعهم الطفلان الآخران، ثم أغلق ناظر المحطة الباب في وجه المحتشدين، الذين ظلوا واقفين قليلًا في مكتب الحجز يتكلمون وينظرون إلى الباب الأصفر الذي أُغلِق سريعًا، ثم انصرفوا فُرادى وأزواجًا وهم يتذمرون.
ظلت بوبي وهم في غرفة ناظر المحطة ممسكةً بيد الرجل الغريب وظلت تُمرر يدها الأخرى برفق على كمه.
قال ناظر المحطة: «ها قد بدأت المشاكل، ليس معه تذكرة؛ ولا يعرف حتى إلى أين يريد أن يذهب. لا أعرف الآن سوى أنه ينبغي لي أن أطلب الشرطة.»
أخذ الأطفال كلهم يتوسلون إليه في وقتٍ واحد: «أوه، لا تفعل!» وفجأةً وقفتْ بوبي بين الرجل الغريب وبين الآخرين؛ إذ رأته يبكي.
بقدر غير مألوفٍ تمامًا من حُسن الحظ وجدتْ بوبي منديلًا في جيبها. وبفضلِ صدفةٍ أكثر غرابةً كان المنديل نظيفًا إلى حدٍّ ما. أخرجت بوبي المنديل وهي واقفة أمام الرجل الغريب، وناولته إياه خُفيةً فلم يرَها أحد.
كانت فيليس تقول: «انتظر حتى تأتي أمي، إنها تجيد الحديث بالفرنسية. سوف تحب الاستماع إليها.»
قال بيتر: «أنا واثقٌ أنه لم يفعل أي شيءٍ يستدعي أن ترسله إلى السجن.»
قال ناظر المحطة: «يبدو لي من المتشردين. حسنٌ، لا أمانع في التسليم ببراءته إلى أن تصل والدتك. أريد أن أعرف إلى أي بلدٍ ينتمي. يجب أن أعرف هذا.»
بعد ذلك خطر لبيتر فكرة. أخرج مظروفًا من جيبه، وأوضح أنه كان ممتلئًا إلى نصفه بطوابع بريدٍ لبلدان أجنبية.
قال بيتر: «انظروا، لنعرض عليه هذه …»
نظرت بوبي إلى الغريب فوجدته قد جفف عينَيه بمنديلها. لذا قالت: «حسنٌ.»
أراه الأطفال طابع بريدٍ إيطاليًّا، وأشاروا إليه ثم إلى طابع البريد ثم إليه مرةً أخرى، وراحوا يُسائلونه بإشارات بحواجبهم؛ لكنه هز رأسه. ثم أروه طابع بريدٍ نرويجيًّا — كان من ذلك النوع الأزرق المعروف — لكنه من جديدٍ أشار إليهم أن لا. بعد ذلك أرَوه طابعًا إسبانيًّا، وهنا أخذ المظروف من يد بيتر وراح يبحث في الطوابع بيدٍ مرتعشة. كانت اليد التي مدها في النهاية، وهو يشير بها إشارةَ من يجيب سؤالًا وُجِّه إليه، تحمل طابع بريدٍ روسيًّا.
صاح بيتر قائلًا: «إنه روسي، أو إنه يشبه «الرجل الذي كان» في قصة كيبلينج، أتعرفون!»
دُقَّ جرسُ الإشارة معلنًا وصول قطار مدينة ميدبريدج.
قالت بوبي: «سأبقى معه ريثما تحضرون أمي.»
«ألستِ خائفةً يا آنستي؟»
قالت بوبي وهي تنظر إلى الرجل الغريب، وكأنما تنظر إلى كلبٍ غريبٍ غيرِ مأمون الطباع: «أوه، لا. إنك لن تؤذيني، أليس كذلك؟»
ابتسمت بوبي في وجهه، وابتسم لها بدوره، لكن ابتسامته كانت ملتويةً غريبة. ثم أخذ يسعل مرةً أخرى. واندفع القطار القادم بجوارهم بحفيفٍ ثقيلٍ مقرقع، وخرج ناظر المحطة وبيتر وفيليس لاستقباله. كانت بوبي لا تزال مُمسِكةً بيد الرجل الغريب عندما عادوا برفقة أمها.
نهض الرجل الروسي من مكانه وانحنى لها بطريقة رسمية للغاية.
بعد ذلك حدثته الأم بالفرنسية، وأجابها، بكلامٍ متقطعٍ في البداية، لكنه ما لبث أن استفاض في الكلام أكثر فأكثر.
علم الأطفال من مراقبة وجهه ووجه أمهم أنه كان يقول لها أشياء أثارت في نفسها غضبًا وشفقة وحزنًا وسخطًا، كلٌّ في آنٍ واحد.
قال ناظر المحطة وقد عجز عن كبح فضوله أكثر من ذلك: «حسنٌ يا سيدتي، ما الأمر؟»
قالت الأم: «أوه، لا بأس. إنه روسي، وقد ضيع تذكرته. وأخشى أنه مريضٌ للغاية. إذا لم يكن لديك مانعٌ، فسآخذه معي إلى البيت الآن. إنه حقًّا مُنهَكٌ للغاية. سوف أستقصي أمره وأخبرك كل شيء عنه في الغد.»
قال ناظر المحطة بارتياب: «أرجو ألا تكتشفي أنكِ قد أخذتِ معكِ أفعى متجمدة.»
ابتسمت الأم وقالت مبتهجة: «أوه، لا. أنا متأكدةٌ تمامًا أن هذا لن يكون. يا إلهي، إنه رجل عظيمٌ في بلده، إنه يؤلف الكتب — وكتبه جميلة — لقد قرأتُ بعضها؛ لكنني سأخبرك بكل شيءٍ غدًا.»
عاودت الحديث مع الروسي من جديدٍ بالفرنسية، واستطاع الجميع أن يروا الدهشة والسرور والامتنان في عينَيه. قام الرجل من مكانه وانحنى بأدبٍ لناظر المحطة، ثم مدَّ ذراعه بأدبٍ بالغٍ للأم. أمسكت الأم بها، لكنْ كان باستطاعة أي أحد أن يلاحظ أنه هو الذي كان يستند عليها، وليست هي.
قالت الأم: «فلتُسرعا إلى البيت يا بنات، وتوقِدا نارًا في غرفة الجلوس، ويجدر ببيتر أن يذهب لإحضار الطبيب.»
لكن بوبي هي التي ذهبت إلى الطبيب.
قالت بوبي لاهثةً عندما وصلت إليه وهو مرتدٍ قميصه من دون معطفٍ فوقه، وكان يُزيل الحشائش الضارة من حوض أزهار البنفسج خاصته: «أكره أن أخبرك هذا، لكن ثمةَ رجلًا روسيًّا زريَّ الهيئة للغاية مع أمي، وأنا واثقةٌ أنه سيحتاج إلى الانضمام إلى جمعية التأمين هو الآخر. أنا متأكدةٌ أنه ليس لديه أي مال. لقد وجدناه في المحطة.»
سألها الطبيب وهو يُحضِر معطفه: «وجدتموه! هل كان تائهًا إذن؟»
فاجأته بوبي بقولها: «نعم. هذا ما كان عليه تمامًا. لقد تركته وهو يقص على أمي قصةَ حياته الحزينة بلغة فرنسيةٍ عذبةٍ؛ وطلبت مني إذا وجدتُك في البيت أن أستأذنك في أن تتكرم بالحضور في الحال. إنه يُعاني سعالًا مريعًا، وكان يبكي.»
ابتسم الطبيب.
قالت بوبي: «أوه، لا تفعل. أرجوك لا تفعل. ما كنتَ لتبتسم لو رأيتَه. إنني لمْ أرَ رجلًا يبكي في حياتي من قبل. أنت لا تدري كيف يبدو حاله.»
حينئذٍ تمنَّى الدكتور فوريست لو أنه لم يبتسم.
عندما وصلت بوبي برفقة الطبيب إلى المنزل ذي الثلاث المداخن، كان الروسي جالسًا في المقعد ذي الذراعَين الذي كان يجلس فيه والدها، ممددًا قدمَيه أمام وهج نارِ الحطب المستعرة، يحتسي الشاي الذي صنعته له أمها.
«يبدو الرجل منهكًا، نفسيًّا وبدنيًّا.» كانت هذه كلمات الطبيب. ثم أضاف: «إن سعاله مريع، لكن لا يوجد شيءٌ لا يمكن علاجُه. لكن يجب أن يذهب إلى الفراش في الحال، وأوقدوا نارًا إلى جواره أثناء الليل.»
قالت الأم: «سأوقد نارًا في غرفتي؛ إنها الغرفة الوحيدة التي بها مدفأة.» وأوقدتِ النار، وبعد قليلٍ أسند الطبيبُ الرجل الغريب حتى أوصله إلى الفراش.
كان في غرفة الأم صندوق كبيرٌ أسود لحفظ الملابس لمْ يره أيٌّ من الأطفال مفتوحًا قط. لكنها الآن، وبعدما أوقدتِ النار، فتحته وأخرجت منه بعض الملابس — ملابس رجالية — ووضعتها لتتهوى بجوار النار التي أُشعِلَتْ لتوها. دخلت بوبي إلى الغرفة ومعها المزيد من الحطب من أجل النار، فرأت الاسم المنقوش على المنامة الرجالية، ونظرت في الصندوق المفتوح. كان كل ما استطاعت رؤيته ملابس رجالية. كان الاسم المنقوش على المنامة هو اسم والدها. إذن لم يأخذ والدها ملابسه معه. وكانت تلك المنامة واحدة من منامات والدها الجديدة. تذكرت بوبي أنها صُنِعت قبل عيد ميلاد بيتر مباشرة. لماذا لمْ يأخذ والدها ملابسه؟ انسلَّتْ بوبي من الغرفة. وبينما هي ذاهبةٌ سمعت المفتاح وهو يدور في قفل الصندوق. كان قلبها يدق دقاتٍ مرعبة. لماذا لمْ يأخذ والدها ملابسه؟ عندما خرجت الأم من الغرفة اندفعتْ بوبي إليها وطوقت خاصرتها بذراعَيها بقوةٍ، وهمست في أذنَيها قائلةً:
«أمي … إن أبي لمْ … لمْ يمُتْ، أليس كذلك؟»
«لا يا عزيزتي! ما الذي جعلكِ تفكرين في شيءٍ مخيفٍ كهذا؟»
«أنا … لا أعرف.» هكذا قالت بوبي وقد غضبتْ من نفسها، لكنها كانت لا تزال متمسكةً بقرارها بألَّا ترى أيَّ شيءٍ لمْ تُرِد أمها أن تجعلها تراه.
عانقتها أمها في الحال وقالت: «لقد كان أبوكِ في أحسن حالٍ عندما قرأتُ رسالته الأخيرة. وسيعود إلينا يومًا ما. لا تُفكري في مثل هذه الأشياء المريعة يا حبيبتي!»
بعد ذلك، عندما توافر للغريب الروسي ما جعله مستريحًا في تلك الليلة، جاءت الأم إلى غرفة البنتَين. كانت قد جهزت لتنام في سرير فيليس، وكانت فيليس ستنام على مرتبةٍ على الأرض، وكانت هذه مغامرةً ممتعةً جدًّا لفيليس. وما إن دخلت الأم إلى الغرفة حتى نهض شخصان يكسوهما البياضُ فجأةً، وناداها صوتان متحمسان:
«والآن يا أمي، أخبرينا بكل شيءٍ عن السيد الروسي.»
جاء شيءٌ يكسوه البياض يقفز حتى دخل الغرفة. كان ذلك هو بيتر، وكان يجر لحافه خلفه وكأنه ذيل طاوس أبيض.
قال: «لقد طال صبرنا، وقد اضطُرِرتُ إلى بلع لساني كي لا أقول لكِ إنني لن أنام، وكنتُ قد أوشكتُ على النوم وقد طال سكوتي جدًّا، وهذا مؤلمٌ جدًّا. فلتخبرينا بالأمر في قصةٍ طويلة جميلة.»
قالت الأم: «لا أستطيع الإطالة في الكلام الليلة. إنني متعبةٌ للغاية.»
عرفتْ بوبي من نبرة صوت أمها أنها كانت تبكي، لكنَّ الآخرَين لم يلاحظا.
قالت فيليس: «حسنٌ، فلتطيلها بقدر ما تستطيعين.» ووضعتْ بوبي ذراعَيها على خصر أمها والتصقت بها.
«حسنٌ، إنها قصةٌ طويلةٌ بما يكفي لكي تملأ كتابًا كاملًا. إنه يعمل كاتبًا؛ لقد ألَّف كتبًا جميلة. في روسيا في عهد القيصر لم يكن يجرؤ أحدٌ على قول أي شيءٍ في حق الأغنياء عندما يُخطئون، ولا أيَّ شيءٍ عمَّا ينبغي فِعلُه لإسعاد الفقراء وتحسين أوضاعهم. ولو تكلم أحدٌ كان يُزَج به في السجن.»
قال بيتر: «لكن لا يحق لهم فِعل هذا. إن الناس لا يُسجَنون إلا عندما يرتكبون الأخطاء.»
قالت الأم: «أو عندما يظن القُضاةُ أنهم ارتكبوا خطأً. نعم، هكذا هو الحال في إنجلترا. لكن في روسيا كان الأمر مختلفًا. وقد كتب كتابًا جميلًا عن الفقراء وعن كيفية مساعدتهم. لقد قرأتُ هذا الكتاب. لا شيءَ فيه سوى الخير والطيبة. لكنهم وضعوه في السجن بسببه. لقد قضى ثلاث سنواتٍ في زنزانةٍ رهيبةٍ تحت الأرض، لا يكاد يدخلها أي ضوء، وتغشاها الرطوبة، وبغيضة. وظل في السجن بمفرده تمامًا طيلة ثلاث سنين.»
ارتعش صوتُ الأم قليلًا وتوقف فجأةً.
قال بيتر: «لكن يا أمي، لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًّا في أيامنا هذه. إنه يبدو شبيهًا بشيءٍ ما في كتاب التاريخ؛ محاكم التفتيش، أو شيء كهذا.»
قالت أمه: «لكنه كان حقيقيًّا بالفعل. كان كله حقيقيًّا بصورةٍ مفزعة. حسنٌ، ثم أخرجوه من السجن وأرسلوه إلى سيبيريا، مُدانًا مربوطًا في سلسلةٍ مع مدانين آخرين — كانوا رجالًا من الأشرار الذين ارتكبوا جميع أنواع الجرائم — كانت سلسلةً طويلةً من هؤلاء الرجال، وأخذوا يمشون، ويمشون، ويمشون، طيلةَ أيامٍ وأسابيع، حتى ظنَّ أنهم لن يَكفُّوا عن المسير. وكان المراقبون يسيرون وراءهم بالسياط — نعم، سياط — ليجلدوهم إذا كلَّوا عن السير. وقد أَصاب العرجُ بعضهم، وسقط بعضهم على الأرض، وعندما كانوا يعجزون عن القيام واستكمال المسير، كانوا يضربونهم، ثم يتركونهم ليموتوا. يا إلهي، إن الأمر كله في غاية الفظاعة! وفي النهاية وصل إلى المناجم، وكان قد حُكم عليه بالبقاء هناك مدى الحياة؛ مدى الحياة، فقط لأنه ألَّف كتابًا جيدًا نبيلًا رائعًا.»
«وكيف تمكن من الهروب؟»
«عندما جاءت الحرب، سُمِح لبعض السجناء الروس بالتطوع جنودًا فيها. وقد تطوع. لكنه فرَّ مع أول فرصةٍ أُتيحَت له، ثم …»
قال بيتر: «لكن هذا جبنٌ شديد، أليس كذلك، أن يفر من الجندية؟ خاصةً في وقت الحرب.»
«هل تعتقد أنه كان يَدينُ بأيِّ شيءٍ لبلدٍ فعل به كل ذلك؟ لو كان كذلك، فإنه يدين بأكثرَ من هذا لزوجته وأولاده. إنه لا يدري ما الذي حدث لهم.»
صاحت بوبي: «يا إلهي، إذن فقد كان يفكر فيهم ويبتئس عليهم أيضًا طوال فترة بقائه في السجن، أليس كذلك؟»
«بلى، كان يفكر فيهم ويبتئس عليهم طوال فترة بقائه في السجن. لقد كان يعلم أنه ربما يُزَج بهم في السجن بأي تهمة هم كذلك. لقد كانوا يفعلون تلك الأشياء في روسيا. لكنه عندما كان في المناجم نجح بعض أصدقائه في إيصال رسالةٍ إليه يخبرونه فيها أن زوجته وأولاده هربوا وجاءوا إلى إنجلترا. لذا عندما فرَّ جاء إلى هنا ليبحث عنهم.»
قال بيتر صاحبُ التفكير العملي: «وهل حصل على عنوانهم؟»
«لا؛ إنجلترا وحسب. لقد كان في طريقه إلى لندن، وحسِب أنه يلزمه أن يبدل القطار في محطتنا، ثم اكتشف أنه فقد تذكرته ومحفظة نقوده.»
«أوه، هل تتوقعين أن يجدهم؟ أقصد زوجته وأولاده، وليس التذكرة وهذه الأشياء.»
«أرجو ذلك. يا إلهي، أرجو وأدعو أن يجد زوجته وأولاده من جديد.»
حتى فيليس أدركت في تلك اللحظة أن صوت أمها كان مضطربًا للغاية.
قالت فيليس: «يا للأسى، يا أمي، كم تبدين حزينةً للغاية من أجله!»
لم تُجب أمها للحظةٍ، ثم لم تقل سوى: «نعم.» ثم بدا أنها تُفكِّر. بقي الأطفال ساكتين في ذلك الوقت.
بعد قليلٍ قالت: «أحبتي، عندما تتلون صلواتكم، أظن أنه ربما يجدر بكم أن تسألوا الرب أن ينزل رحمته على جميع السجناء والأسرى.»
أخذت بوبي تُكرِّر بتمهل: «أن يُنزِل رحمته على جميع السجناء والأسرى. هكذا يا أمي؟»
قالت أمها: «نعم، على جميع السجناء والأسرى. جميع السجناء والأسرى.»