مُنقذو القطار
تحسنَت صحةُ السيد الروسي في اليوم التالي، وتحسنت أكثر في اليوم الذي تلاه، وفي اليوم الثالث أصبحت صحته جيدةً بما يكفي لكي يخرج إلى الحديقة. لقد وُضع له كرسيٌّ من الخوص المنسوج وجلس عليه مرتديًا ملابس الأب، وكانت كبيرةً جدًّا عليه. لكن عندما ثنَت الأم أطراف الأكمام والسراويل لاءمَته الملابسُ بصورةٍ مقبولة. لقد أصبح وجهه طيبًا في ذلك الوقت إذ لم يعد بعدُ متعبًا ولا خائفًا، وكان يبتسم في وجوه الأطفال كلما رآهم. كانوا يتمنون من قلوبهم لو كان يستطيع الحديث بالإنجليزية. لقد كتبتْ أمهم العديد من الخطابات لأُناسٍ اعتقدتْ أنهم ربما يعرفون في أي مكانٍ من إنجلترا يُحتمَل أن تكون زوجة سيدٍ روسي وأسرته؛ لكنها لم تكتب لأولئك الذين كانت تعرفهم قبل مجيئها للعيش في البيت ذي المداخن الثلاث — لم تكتب قطُّ لأيٍّ منهم — وإنما لأناسٍ لا تعرفهم؛ أعضاء في البرلمان، ومحرري صحف، وأمناء سر بعض الجمعيات.
لم تنجز الكثير في القصة التي كانت تؤلفها، وإنما اكتفت بتصحيح بعض مسوَّدات الطباعة أثناء جلوسها في الشمس بقرب الروسي، وحديثها إليه بين الحين والآخر.
شعر الأطفال برغبة شديدةٍ في إظهار مدى تعاطفهم لذلك الرجل الذي زُجَّ به في السجن وأُرسِل إلى سيبيريا لمجرد أنه ألَّف كتابًا جميلًا عن الفقراء. كانوا يستطيعون الابتسام في وجهه، لا شك في ذلك؛ كانوا يستطيعون ذلك وقد عملوه بالفعل. لكنك عندما تُفرط في الابتسام طوال الوقت، تُصبح الابتسامةُ عُرضةً للثبات على وجهك كابتسامة الضبع؛ ومِن ثَمَّ لا تعود تبدو ودودةً، وإنما ببساطةٍ تبدو أقربَ إلى السخافة؛ لذا حاول الأطفال فعل أشياء أخرى، فظلوا يُحضِرون له الأزهار إلى أن أصبح المكان الذي يجلس فيه محاصَرًا بباقاتٍ صغيرةٍ ذابلةٍ من نباتات النفل والورود وأزهار جرس كنتربري.
بعد ذلك خطرت لفيليس فكرة. فأشارت إلى الآخرَين إشارةً غامضةً وسحبتهما إلى الفناء الخلفي، وهناك، في مكانٍ خفيٍّ؛ بين المضخة وبرميل الماء، قالت:
«أتذكران عندما وعدني بيركس أن يعطيني أولَ ما ينضج من ثمار الفراولة في حديقته؟» كان بيركس، كما ستتذكرون، هو الحمَّال. «حسنٌ، أعتقد أنها نضجت الآن. لنذهب إلى المحطة ونرى.»
كانت الأم قد ذهبت إلى المحطة قبل ذلك؛ إذ كانت قد وعدت ناظر المحطة أن تخبره قصة السجين الروسي. لكنْ حتى مفاتن السكة الحديدية كانت قد عجزت عن اقتلاع الأطفال من جوار الغريب المثير للاهتمام؛ لذا فقد ظلوا ثلاثة أيامٍ لا يذهبون إلى المحطة.
وذهبوا بعد ذلك.
لكنَّ الجفاء الشديد الذي استقبلهم به بيركس أدهشهم وأصابهم بالكرب.
قال لهم عندما اختلسوا النظر إليه وهم عند باب حجرة الحمَّالين: «لقد نالني عظيمُ الشرف بزيارتكم، بالتأكيد.» وواصل قراءة جريدته.
ساد الغرفةَ صمتٌ مُقلق.
قالت بوبي متنهدةً: «يا إلهي، أعتقد أنك غاضب.»
قال بيركس بتعالٍ: «ماذا، أنا؟ ليس أنا! إن الأمر لا يَعنيني.»
قال بيتر، وقد منعتْه شدة القلق والانزعاج من تعديل الكلمات: «ما هو الذي لا يَعنيك؟»
قال بيركس: «لا عليكم. بخصوص ذلك الذي حدث هنا أو في أي مكانٍ آخر، إذا كنتم تريدون الاحتفاظ بأسراركم لأنفسكم فاحتفظوا بها ولا بأس. هذا ما عندي.»
فتَّش كلُّ واحد من الأطفال مستودع أسراره سريعًا في فترة الصمت التي تلت كلام بيركس. لكنَّ رءوسًا ثلاثة راحت تهتز نافيةً أن يكون لدى أصحابها أي سر.
قالت بوبي أخيرًا: «إننا لا نكتم عنك أيَّ أسرار.»
قال بيركس: «ربما تكتمون، وربما لا. إنه أمرٌ لا يعنيني. وأتمنى لكم جميعًا يومًا طيبًا جدًّا.» ورفع الجريدة بينه وبينهم وراح يقرأ.
قالت فيليس في يأس: «أوه، لا تفعل هذا! هذا مخيفٌ حقًّا! أيًّا كان الأمر، أخبرنا ما هو.»
«إننا لم نقصد أن نفعله أيًّا كان ما هو.»
لا رد. قلب بيركس صفحات الجريدة وبدأ في قراءة عمودٍ آخر.
قال بيتر فجأةً: «انظر إليَّ. هذا ليس عدلًا. حتى من يرتكبون الجرائم لا يُعاقَبون دون أن يعرفوا سبب العقوبة؛ كما كانوا يفعلون من قبل في روسيا.»
«أنا لا أعرف أي شيءٍ عن روسيا.»
«يا إلهي، بلى، إنك تعرف، عندما جاءت أمي إلى المحطة كي تخبرك أنت والسيد جيلز بكلِّ شيءٍ عن ضيفنا الروسي.»
قال بيركس باستياءٍ وغضب: «ألا يمكنك أن تتخيل الأمر؟ ألا تستطيع أن تتخيله وهو يطلب إليَّ أن أدخل إلى حجرته وأن أتخذ مقعدًا لكي أسمع لما كانت ستقوله السيدة والدتكم؟»
«أتقصد أن تقول إنك لم تسمع شيئًا؟»
قال بيركس: «ولا كلمة واحدة. ولقد تماديتُ وسألته، لكنه أسكتني كما تُسكِتُ المصيدةُ الفأرَ وقال: «إنها أسرار الدولة يا بيركس.» لكنني كنتُ أظن أن واحدًا منكم سيأتي مسرعًا ليخبرني؛ إنكم تسرعون بالمجيء إلى هنا عندما تريدون أن تأخذوا أي شيءٍ من بيركس العجوز.» — صبغ الخجل وجه فيليس حين تذكرَت ثمار الفراولة — وواصل بيركس قائلًا: «معلوماتٍ عن القاطرات أو الإشارات أو ما شابه.»
«لكننا لم نعلم أنك لم تعلم.»
«ظننا أن أمنا أخبرتك.»
«كنا نريد أن نخبرك فقط أننا ظننا أنها ستكون أخبارًا قديمة.»
قالها الثلاثة كلهم في اللحظة نفسها.
قال بيركس إنه لا بأس بذلك، وظلَّ رافعًا الجريدة. لكن فيليس خطفَتها منه فجأةً، وألقتْ ذراعَيها حول عنقه.
وقالت: «أوه، فلنتصالح إذن. سنعتذر لك نحن أولًا، إذا أحببت، لكننا بالفعل لم نكن نعلم أنك لم تعلم.»
قال الآخران: «نحن آسفون للغاية.»
وأخيرًا وافق بيركس على قَبول اعتذارهم.
بعد ذلك أقنعوه بالخروج من الغرفة والجلوس تحت أشعة الشمس في الجانب المكسو بالخضرة من السكة الحديدية، حيث كانت حرارة العشب أعلى بكثيرٍ من أن يلمسه أحد، وهناك، أخذوا يقصون عليه قصة السجين الروسي، فيتحدثون كلٌّ على حِدَة تارة، وتارة يتحدثون جميعًا في الوقت نفسه.
قال بيركس: «حسنٌ، أرى أنه …» لكنه لم يقل رأيه؛ أيًّا كان ما أراد أن يقوله.
وقال بيتر: «نعم، إنه أمرٌ في غاية الفظاعة، أليس كذلك؟ وأنا لا أعجب من فضولك لمعرفة من هو ذلك الرجل الروسي.»
قال الحمَّال: «لم يكن فضولًا بقدر ما كان اهتمامًا.»
«حسنٌ، لقد ظننتُ أن السيد جيلز ربما أَخبرك بالأمر. لقد كان فعله هذا شنيعًا.»
قال الحمَّال: «أنا لا ألومه على ذلك أيتها الفتاة. ولِمَ قد أفعل هذا؟ إنني أتفهم دوافعه. ما كان يريد أن يُفشي أسرار مَن يؤيدهم بإفشاء قصة كهذه هنا. ليس هذا من طبيعة البشر؛ لأن على المرء أن يساند من يؤيدهم بغض النظر عما يفعلون. هكذا هي السياسة الحزبية. كنتُ سأفعل الأمر نفسه لو كان هذا الرجل ذو الشعر الطويل يابانيًّا.»
قالت بوبي: «لكنَّ اليابانيين لمْ يرتكبوا مظالمَ شريرةً وحشية كهذه.»
قال بيركس بحذر: «ربما لم يفعلوا، لكنكِ لا تستطيعين أن تأمني الأجانب. أرى أنهم جميعًا بهم الخصال السيئة نفسها.»
سأل بيتر: «فلمَ كنتَ في صف اليابانيين إذن؟»
«حسنٌ، يجب أن تنحاز إلى أحد الفريقَين. تمامًا كما هو الحال مع الليبراليين والمحافظين. الأهم هو أن تختار فريقك وتظلَّ متمسكًا به، مهما حدث.»
رن جرس إحدى الإشارات.
قال بيركس: «ها قد وصل قطار الثالثة وأربع عشرة دقيقة. اختبئوا حتى يمر، ثم سنذهب إلى بيتي، ونرى إن كان أيٌّ من ثمار الفراولة التي حدثتكم عنها قد نضج.»
قالت فيليس: «لو وجدنا أيًّا منها قد نضج، وأعطيتَنيها بالفعل، فإنك لن تمانع في أن أُعطيها للروسي المسكين، أليس كذلك؟»
ضيَّق بيركس عينَيه ثم رفع حاجبَيه.
وقال: «إنها الفراولة إذن التي جاءت بكم إليَّ هذا اليوم، أليس كذلك؟»
كانت هذه لحظةً محرجةً لفيليس؛ فلو أنها قالت «بلى» لبدتْ وقحةً وجشعة وجاحدة لبيركس. لكنها كانت تعلم أنها لو قالت «نعم»، فلن ترضى عن نفسها بعد ذلك. لذا …
قالت: «بلى، هي الفراولة.»
قال الحمَّال: «أحسنتِ! قولي الحقَّ ولو كان …»
أضافت فيليس سريعًا: «لكننا لو كنا نعلم أنك لم تسمع القصة لأتينا إليك في اليوم التالي مباشرةً.»
قال بيركس: «إنني أُصدقكِ أيتها الفتاة.» ثم قفز فوق قضبان السكة الحديدية أمام القطار القادم نحوه والذي لم يكن يَفصله عنه سوى مسافة ست أقدام.
انزعجت الفتاتان من رؤيته وهو يفعل هذا، لكنَّ بيتر أَحبه؛ إذ رآه مثيرًا للغاية.
ابتهج السيد الروسي بثمار الفراولة ابتهاجًا شديدًا لدرجة أن الأطفال الثلاثة راحوا يعصرون أدمغتهم بحثًا عن مفاجأة أخرى يُفاجئونه بها. لكن التفكير المُضنيَ لم يُسفِر عن أي فكرةٍ أكثر جِدَّةً من ثمار الكَرز البري. وقد خطرت لهم هذه الفكرة في صباح اليوم التالي. لقد كانوا رأوا النُّوَّار على الأشجار في فصل الربيع، وكانوا يعلمون أين يبحثون عن أشجار الكرز البري؛ إذ كان ذلك أوان نضوجُ الكرز هنا. كانت الأشجار تنمو على طول الجانب الصخري للمنحدر، الذي تشقُّه فوهةُ النفق، وفوقه كذلك. كانت جميع أنواع الأشجار موجودةً هناك، أشجار البتولا وشجر الزَّان وصغار أشجار البلوط وأشجار البندق، وكان نُوارُ الكرز يلتمع بينها الْتماعَ الثلج والفِضة.
كانت فوهة النفق بعيدةً بعض الشيء عن المنزل ذي المداخن الثلاث؛ لذا سمحت لهم أمهم بأخذ غدائهم معهم في سلة. وكانت السلة ستفي بالغرض ليحضروا فيها ثمار الكرز لو وجدوا أي ثمارٍ ناضجة. وأعارتهم كذلك ساعتها الفضية لكيلا يتأخروا على موعد وجبة شاي الأصيل. لقد قررتْ ساعة بيتر ماركة ووتربيري ألا تعمل منذ ذلك اليوم الذي أسقطها فيه بيتر في برميل الماء. وهكذا بدءوا رحلتهم. عندما وصلوا إلى قمة النفق المكشوف الذي تمر فيه قضبان السكة الحديدية، انحنوا على السور وراحوا ينظرون إلى المكان الذي تمتد فيه قضبانُ السكة الحديدية؛ في قاعِ ما بدا تمامًا، كما قالت فيليس، كوادٍ جبلي عميقٍ ضيق.
«لولا وجودُ السكة الحديدية في الأسفل، لبدا المكان وكأن أرجل البشر لم تطَأْه يومًا، أليس كذلك؟»
كان جانبا النفق المكشوف يتكونان من حجارةٍ رماديةٍ نُحِتَت بانحدارٍ شديدٍ جدًّا. كان الجزء العلوي من النفق المكشوف بالفعل عبارة عن وادٍ طبيعيٍّ صغيرٍ ضيقٍ في الأصل، ثم حُفر إلى مستوًى أعمق مما كان عليه لكي يُصبح في مستوى فوهة النفق المغلق الذي يعلوه الجسر ويمر القطار من تحته. كان العشب والأزهار ينبتان فيما بين الصخور، كما نبتَ للبذور التي أسقطها الطيرُ في شقوق الصخور جذورٌ ونمَتْ حتى أصبحتْ شُجيراتٍ وأشجارًا تُشرِف على النفق المكشوف. كان قُربَ النفق المغلق دَرَجٌ يؤدي إلى خط السكة الحديدية — لم يكن سوى قضبان خشبية مثبتة بإحكامٍ في الأرض — وكان شديدَ الانحدار والضيق؛ فكان أقرب إلى سلم متنقل منه إلى درَج.
قال بيتر: «يجدر بنا أن ننزل. أنا واثقٌ أن الوصول إلى ثمار الكرز سيكون أسهلَ عندما نقف على جانِبَي السلالم. تذكَّرا أننا قطفنا نوار الكرز الذي وضعناه على قبر الأرنب ونحن واقفان عليها.»
وهكذا ساروا بمحاذاة السور باتجاه البوابة الدوارة الصغيرة القائمة فوق قمة ذلك الدَّرَج. وعندما كادوا يصلون إلى البوابة قالت بوبي:
«صه. توقفا! ما هذا؟»
كان «هذا» صوتًا غريبًا جدًّا في الحقيقة؛ صوتٌ هادئٌ، لكن كان من السهل جدًّا تمييزُه من بين صوت الريح التي تضرب فروع الأشجار، وهمهمة أسلاك التلغراف وطنينها. كان صوتًا هامسًا شبيهًا بالخشخشة. وعندما أصغوا إليه توقف، لكنه عاد ليبدأ من جديد.
وفي هذه المرة لمْ يتوقف، وإنما صار أكثر صخبًا وأكثر خشخشةً وزمجرة.
صاح بيتر فجأةً: «انظُرا، تلك الشجرة التي هناك!»
كانت الشجرة التي أشار إليها واحدةً من تلك الأشجار ذات الأوراق الرمادية الخشنة والأزهار البيضاء. إن ثمار الكرز، عندما تنضج، تكون قرمزيةً زاهية، لكنك عندما تقطفها فإنها تخذلك باستحالتها إلى اللون الأسود قبل أن تذهبَ بها إلى البيت. وعندما أشار بيتر، كانت الشجرة تتحرك؛ ليس فقط كما ينبغي للأشجار أن تتحرك عندما تندفع الريح من خلالها، وإنما كانت تتحرك كلُّها جملةً واحدة، وكأنما كانت مخلوقًا حيًّا يسير بقدَمَيه نزولًا على جانب النفق المكشوف.
صاحت بوبي قائلةً: «إنها تتحرك! يا إلهي، انظُرا! والأشجار الأخرى كذلك. إنها تفعل مثل غابة بيرنام في مسرحية ماكبث.»
قالت فيليس لاهثةً: «إنه سِحر. لطالما عرَفتُ أن هذه السكة الحديدية مسحورة.»
بدا الأمر بالفعل شبيهًا قليلًا بالسحر؛ إذ بدت جميع الأشجار الواقعة على امتداد عشرين ياردةٍ تقريبًا في الضفة المقابلة وكأنما تسير نازلةً ببطءٍ في اتجاه خط السكة الحديدية، وكانت الشجرة ذات الأوراق الرمادية تسير خلف بقية الأشجار وكأنها راعٍ عجوز يسوق قطيعًا من الخراف الخضراء.
قالت فيليس: «ما هذا؟ يا إلهي، ما هذا؟ إنه سحرٌ أكثر بكثيرٍ مما أستطيع تحمله. أنا لستُ مطمئنة. لنذهب إلى البيت.»
لكنَّ بوبي وبيتر تشبثا بالسور بقوةٍ وظلَّا ينظران وقد انقطعت أنفاسهما من الدهشة. ولم تتحرك فيليس خطوة واحدة للذهاب إلى البيت بمفردها.
ظلت الأشجار تتحرك بلا توقف، وسقطت التربةُ الرخوة وبعض الأحجار وراحت تُقرقع على قضبان السكة الحديدية بعيدًا في الأسفل.
«إنها تنهار كلها.» حاول بيتر أن يقول هذه الكلمات، لكنه لم يكد يجد أي صوتٍ ينطقها به. وبالفعل، في اللحظة التي كان يتكلم فيها تمامًا، راحت الصخرة الكبيرة التي كانت الأشجار السائرة تنمو على قمتها، تميل ببطءٍ إلى الأمام. وهنا توقفت الأشجار عن المسير، وثبتت في مكانها وراحت ترتعش. بدت الأشجار، وهي تميل مع الصخرة، وكأنها ترددتْ قليلًا، ثم، وبصوت اندفاع، انزلقت الصخرة والأشجار والعشب والشجيرات من على جانب النفق المكشوف مباشرةً، وسقطت فوق القضبان بارتطامٍ متخبط سُمِع صوتُه من على بعد نصف ميل. وارتفعت على إثر ذلك سحابة من الغبار.
قال بيتر بنبرةٍ مرتاعة: «يا إلهي، أليس هذا شبيهًا تمامًا بلحظة دخول الفحم إلى القبو؟ … إذا لم يكن يوجد أيُّ سقفٍ للقبو واستطعتم النظر إليه من أعلى.»
قالت بوبي: «انظُرا كم هي ضخمةٌ التلةُ التي تكونت!»
قال بيتر ببطءٍ: «نعم.» وكان لا يزال منحنيًا على السور. ثم كرَّر ببطءٍ أشد: «نعم.»
بعد ذلك اعتدل في وقفته.
وقال: «إن قطار الحادية عشرة وتسع وعشرين دقيقة القادم من العاصمة لم يمر بعد. لا بد أن نخبرهم في المحطة بما جرى، وإلا فستقع حادثة مروعة.»
قالت بوبي: «لنركض.» وبدأت في الركض بالفعل.
لكنَّ بيتر صاح بها: «ارجعي!» ونظر في ساعة أمه. كان متأهبًا وجادًّا للغاية، وبدا وجهه لعيونهما أكثر شحوبًا من أي وقت مضى.
قال بيتر: «لا وقت لدينا. إن المحطة على بعد ميلَين، والساعة تجاوزت الحادية عشرة.»
اقترحت فيليس بأنفاسٍ متقطعة: «ألا يُمكننا، ألا يمكننا أن نتسلق أحد أعمدة التلغراف ونفعل شيئًا ما في الأسلاك؟»
قال بيتر: «إننا لا نعرف كيف نفعل هذا.»
قالت فيليس: «إنهم يفعلون هذا في الحروب. أعرف هذا، لقد سمعتُ عنه.»
قال بيتر: «إنهم إنما يقطعونها، أيتها الحمقاء، وليس لهذا أي جدوى. ثم إننا لا نستطيع قطعها حتى لو صعدنا إليها، كما أننا لا نستطيع الصعود إليها. لو كان معنا أي شيء أحمر اللون، كان سيُمكننا أن ننزل إلى القضبان ونلوح به.»
قالت فيليس: «لكن القطار لن يرانا قبل أن يصل إلى المنعطف، وساعتها سيرى التلة كما نراها نحن، وربما أفضل مما نراها، لأنه أكبر بكثيرٍ منا.»
كرر بيتر كلامه قائلًا: «لو كان معنا فقط شيءٌ أحمر اللون، لكنَّا اقتربنا من المنعطف ولوَّحنا للقطار.»
«نستطيع أن نلوح له، على أي حال.»
«سيظنون فقط أننا نلوح كالمعتاد. لطالما لوحنا للقطار من قبل. على أي حال، تعاليا لننزل.»
نزل الأطفال الثلاثة على الدَّرَج الشديد الانحدار. كانت بوبي شاحبةً مرتجفة. وبدا وجه بيتر أنحف من المعتاد. أما فيليس فكان وجهها محمرًّا متعرقًا من القلق الذي اعتراها.
وقالت: «يا إلهي، كم أشعر بالحر! وأنا التي ظننت أن الجو سيصبح باردًا؛ ليتنا لم نَرْتدِ …» وتوقفت فجأةً، ثم ختمت كلامها بنبرةٍ مختلفةٍ تمامًا: «قمصاننا الصوفية الداخلية.»
استدارت بوبي من أسفل الدَّرَج.
وصاحت قائلةً: «يا إلهي، نعم. إنها حمراء اللون! هيا لنخلعها.»
وخلعتاهما بالفعل، ثم أخذوا يركضون على امتداد القضبان، والقميصان الصوفيان الداخليان مطويَّان تحت ذراعَيهما، وراحوا يدورون حول تلة الأحجار والصخور والتراب والأشجار المنحنية والمحطمة والملوية التي سقطت لتوها. كانوا يَركضون بأقصى سرعة لديهم. كان بيتر في المقدمة، لكن البنتين لم تكونا متأخرتَين عنه كثيرًا. ووصل الثلاثة إلى المنعطف الذي كان يُخفي التلة عن خط السكة الحديدية المستقيم الممتد بطول نصف ميلٍ من دون انحناءٍ أو انعطاف.
قال بيتر وهو ممسكٌ بأكبر القميصَين الصوف الداخليَّين: «الآن.»
قالت فيليس بتلعثم: «إنك لن … إنك لن تمزقهما، أليس كذلك؟»
قال بيتر بصرامةٍ واختصار: «اصمتي.»
قالت بوبي: «أوه، نعم. اجعلهما مِزَقًا صغيرةً إذا أردت. ألا تفهمين يا فِل، إذا لم نستطع إيقاف القطار، فستقع حادثةٌ حقيقية؛ حادثةٌ توقع قتلى. يا إلهي، هذا مخيف! انظُر يا بيتر، لن تستطيع أبدًا أن تقطعهما من عند الياقة!»
أخذتْ بوبي منه القميص الصوفي الأحمر وقطعتْه من مسافةِ بوصةٍ من الياقة. ثم مزقت القميص الآخر بالطريقة نفسها.
قال بيتر، وهو يُمزِّق القميصَين بدوره: «ها قد انتهيت!» لقد قَسمَ كل قميصٍ إلى ثلاثة أجزاء. وأضاف: «أصبح لدينا الآن ستُّ رايات.» ثم نظر في الساعة مرةً أخرى، وقال: «وأمامنا سبعُ دقائق. لا بد أن يكون لدينا سَوارٍ للرايات.»
نادرًا ما تكون السكاكين التي تُعطى الأولاد، ولسببٍ ما غريبٍ، من النوع الذي يحتفظ معدنه بحدته؛ لذلك اضطُرُّوا إلى كسر الشجيرات الصغيرة بأيديهم. وقد اقتلعوا اثنتَين منها من الجذور، ثم أزالوا الأوراق عنها.
قال بيتر: «يجب أن نصنع ثقوبًا في الرايات، وأن نُدخِل العصيَّ في الثقوب.» وصنعوا الثقوب بالفعل. كانت السكين حادة بما يكفي لقطع الصوف. بعد ذلك نصب الأطفال اثنتَين من الرايات في كومتَين من الحصى بين العوارض التي يمتد فوقها قضيبا القطار القادم من العاصمة. بعد ذلك أمسكت كلٌّ من فيليس وروبيرتا بإحدى الرايات، ووقفتا مستعدَّتَين للتلويح بهما بمجرد أن يظهر القطار.
قال بيتر: «سأمسك أنا الرايتَين الأُخريَين بنفسي؛ لأن التلويح بشيءٍ أحمر اللون كان فكرتي أنا.»
كانت بوبي ستبدأ الشجار فقالت: «لكن القميصَين قميصانا نحن.» لكنَّ بوبي قاطعتها قائلةً:
«يا إلهي، ماذا يهم لو لوَّح أيُّ أحد بأي شيء، إذا كنا نستطيع فقط أن ننقذ القطار؟»
ربما لم يحسب بيتر جيدًا عدد الدقائق التي سيستغرقها قطار الحادية عشرة وتسع وعشرين دقيقة للوصول من المحطة إلى المكان الذي كانوا يقفون فيه، أو ربما القطار هو الذي تأخر. على أي حال، لقد بدت مدةٌ انتظارهم طويلةً جدًّا.
بدأ صبر فيليس يَنفد، فقالت: «أعتقد أن الساعة ليست مضبوطة، وأن القطار قد مرَّ.»
أراح بيتر جسمه من الهيئة البطولية التي كان قد اختار أن يتخذها ليُظهِر عَلَمَيه. وبدأت بوبي تملُّ من الترقُّب.
بدا لها أنهم ظلوا واقفين هناك ساعاتٍ طوالًا، مُمسكين بتلك الرايات الصوفية الحمراء الصغيرة السخيفة التي لن يراها أحدٌ أبدًا؛ وأن القطار لن يكترث لهم؛ وإنما سينطلق مسرعًا بجانبهم وينعطف باندفاعٍ وتهورٍ ليرتطم بتلك التلة الفظيعة؛ وأن جميع من على متنه سيموتون. أصبحت يداها باردتَين جدًّا وراحتا ترتجفان حتى إنها بالكاد كانت تستطيع الإمساك بالعلم. وفي تلك اللحظة جاء صوت زمجرة وطنين القضبان من بعيد، وظهرت نفثةٌ من البخار الأبيض من بعيدٍ جدًّا عبر خط السكة الحديدية.
قال بيتر: «اثبُتا، ولَوِّحا بقوة! وعندما يصل إلى شجيرة الجولق الكبيرة تلك تراجعا، لكن استمرا في التلويح! لا تقفي على القضبان يا بوبي!»
جاء القطار مندفعًا بسرعةٍ كبيرة جدًّا ومقرقعًا أثناء اندفاعه.
صاحت بوبي: «إنهم لا يروننا! إنهم لن يرونا! لا فائدةَ من كل ما نفعله!»
بدأت الرايتان الصغيرتان المثبتتان عند القضبان تتمايلان عندما راح القطار المقترب يهز كومتَي الحصى اللتَين كانتا تنتصبان فوقهما ويخلخلهما. وأخذت واحدةٌ منهما تنحني ببطءٍ حتى سقطتْ على شريط القطار. وهنا قفزت بوبي إلى الأمام والتقطتها، وأخذت تلوح بها؛ ولم تعد يداها ترتعشان الآن.
بدا أن القطار كان قادمًا باتجاههم بأقصى سرعة لديه؛ فلقد اقترب كثيرًا في تلك اللحظة.
قال بيتر بشدة: «ابتعدي عن القضبان، أيتها الغبية الخرقاء!»
قالت بوبي ثانيةً: «لا فائدةَ من هذا.»
صاح بيتر فجأةً: «تراجعي!» وجذب فيليس من ذراعها إلى الوراء.
لكن بوبي صاحت: «ليس بعد، ليس بعد!» وراحت تلوح برايتَيها وهي واقفة على شريط القطار. بدت مقدمة القاطرة سوداء وضخمة. وكان صوتها عاليًا وعنيفًا.
صاحت بوبي: «أوه، توقف، توقف، توقف!» لكنَّ أحدًا لم يسمعها. على الأقل لم يسمعها بيتر ولا فيليس؛ لأن اندفاع القطار المقبل عليهم أخفى صوتها بوابلٍ من صوته. لكنها فيما بعد كانت تتساءل إن كانت القاطرة نفسها لم تسمعها. لقد بدا الأمر تقريبًا وكأنها سمعتها؛ لأنها أخذت تتباطأ سريعًا، أخذت تتباطأ ثم توقفت، على بعد أقل من عشرين ياردة من المكان الذي وقفت فيه بوبي تلوح برايتَيها فوق شريط القطار. لقد رأت القاطرة السوداء الضخمة وهي تتوقف فجأةً، لكنها بطريقةٍ ما لم تستطع أن تتوقف عن التلويح بالرايتَين. وعندما نزل السائق والوقَّاد من القاطرة وذهب بيتر وفيليس ليقابلاهما ويقصا عليهما في انفعالٍ قصتهما عن التلة الرهيبة الواقعة بالقرب من المنعطف، كانت بوبي لا تزال تلوح بالرايتَين لكن بوهنٍ وارتعاشٍ متزايدَين.
عندما التفت الآخرون إليها وجدوها ممددةً على شريط القطار وقد ألقت بيدَيها إلى الأمام وهما لا تزالان تقبضان بقوةٍ على عصوَي الرايتَين الصوف الحمراوَين الصغيرتَين.
رفعها سائق القطار من على الأرض، وحملها إلى القطار، ثم وضعها على وسائد إحدى عربات الدرجة الأولى.
وقال: «لقد أُغمي على الفتاة المسكينة في الحال؛ ولا عجب. سوف أُلقي نظرةً فقط على هذه التلة التي تتحدثون عنها، ثم سنعود بكم إلى المحطة ونُحضر طبيبًا ليراها.»
أحس الطفلان بالرعب لرؤية بوبي وهي هامدةٌ تمامًا ووجهها شديد الشحوب، وشفتاها زرقاوان ومفتوحتان.
قالت فيليس هامسةً: «أعتقد أن الناس يبدون هكذا عند موتهم.»
قال بيتر محتدًّا: «إياكِ أن تقولي هذا!»
جلس الطفلان إلى جوار بوبي على الوسائد الزرقاء، ومضى القطار عائدًا. وقبل أن يصل إلى محطتهم تنهدت بوبي وفتحت عينَيها، وتحولت عن جنبها الذي كانت عليه وبدأت تبكي. وأبهج ذلك الآخرَين بصورةٍ مذهلة. لقد رأَياها وهي تبكي من قبل، لكنهما لم يرياها قط غائبةً عن الوعي، ولا أيَّ أحدٍ غيرها كذلك. ولم يكن لديهما دراية بما يجب أن يفعلاه أثناء إغمائها، لكن لأنها الآن كانت تبكي وحسب فقد كانا يستطيعان أن يَلْكماها في ظهرها ويطلبا منها أن تكف عن البكاء، تمامًا كما اعتادا أن يفعلا دائمًا. وبعد قليلٍ، عندما توقفت عن البكاء، أصبح بإمكانهما أن يضحكا منها لجبنها الشديد الذي جعلها تفقد الوعي.
عندما وصل القطار إلى المحطة، كان الأطفال الثلاثة أبطالًا احتفى بهم جَمْعٌ جياشٌ فوق رصيف المحطة.
كانت عبارات الثناء التي تلقَّوها على «سرعة تصرفهم» و«حسن تمييزهم» و«براعتهم» كفيلةً بإيقاع أي أحدٍ في الغرور. استمتعَت فيليس بوقتها تمامًا؛ فلم تكن بطلةً حقيقيةً قبل ذلك قط، وكان هذا الإحساس مبهجًا. أما بيتر فقد صبغ الخجلُ أذنَيه بلونٍ أحمر قانٍ؛ لكنه استمتع هو الآخر بوقته. بوبي فقط هي التي تمنت أن لم يفعلوا جميعًا ما فعلوه. وأرادت الابتعاد عن هذا المكان.
قال ناظر المحطة: «أتوقع أن ترسل لكم شركة السكة الحديدية خطابًا بشأن هذا.»
تمنت بوبي ألا تسمع عن الأمر بعد ذلك أبدًا. وأخذت تجذب بيتر من سترته.
وقالت: «أوه، هيا لنذهب، هيا لنذهب! أريد الذهاب إلى المنزل.»
وهكذا انصرفوا. وبينما هم في طريقهم أخذ ناظر المحطة والحمَّال والحراس والسائق والوقَّاد والركاب يُحيُّونهم بالهتاف.
صاحت فيليس: «يا إلهي، اسمعا، هذا الهتاف من أجلنا نحن!»
قال بيتر: «نعم. أنا سعيدٌ لأنني فكرتُ في البحث عن شيءٍ أحمر اللون للتلويح به.»
قالت فيليس: «كم كنا محظوظين عندما ارتدينا قمصاننا الصوف الداخلية الحمراء!»
لم تقل بوبي شيئًا. كانت تفكر في التلة الرهيبة، والقطار الذي كان يندفع مسرعًا باتجاهها في اطمئنان.
قال بيتر: «وكنَّا نحن مَن أنقذهم.»
قالت فيليس: «كم كان سيصبح الأمر مرعبًا لو كانوا جميعًا قد ماتوا! أليس كذلك يا بوبي؟»
قالت بوبي: «لم نحصل على ثمرة كرزٍ واحدةٍ، على كل حال.»
ظنَّ الآخران أنها عديمة المشاعر من دون ريب.