تقديرًا للشجاعة
أرجو ألا تجدوا مانعًا في أن أستفيض في الحديث عن روبيرتا. الحقيقة أنني أصبحتُ متعلقةً بها للغاية. إنني كلما لاحظتُها ازددتُ لها حُبًّا. وإني أرى فيها جميع الأشياء التي أُحب.
على سبيل المثال، كانت تحرص حرصًا نادرًا جدًّا على جعل الآخرين سعداء. كما أنها كانت قادرةً على حِفظ الأسرار، وهي مزيةٌ نادرةٌ إلى حدٍّ ما. وكانت تتحلى كذلك بالقدرة على التعاطف في صمت. يبدو هذا مملًّا بعض الشيء، أعرف هذا، لكنه في الحقيقة ليس مملًّا جدًّا كما يبدو. إنه يعني فقط أن تكون لدى شخصٍ ما القدرةُ على الشعور بحزنك، وأن يزداد حُبًّا لك من أجل حزنك هذا، من دون أن يُزعجك بالحديث طوال الوقت عن مدى أسفه عليك. هذا ما كانت عليه بوبي. لقد علمتْ أن أمها كانت حزينةً؛ وأنها لم تُخبرها بسبب حزنها. ومِن ثَمَّ ازدادت فقط حبًّا لأمها، ولم تنطق قط بكلمةٍ واحدةٍ تجعل أمها تعرف مدى تَحيُّرِ ابنتها الصغيرة في سبب حزن أمها. إن هذا يحتاج إلى ممارسة؛ وليس أمرًا شديد السهولة كما قد تتصورون.
مهما حدث من أمرٍ — وقد حدثت جميع أنواع الأمور السارة المبهجة العادية — كالنزهات، والألعاب، وإحضار أقراص الكعك المُحلى من أجل الشاي، فقد ظلتْ هذه الأفكار تُعاود بوبي؛ «أمي حزينة. لماذا؟ لا أدري. وهي لا تريدني أن أدري. لن أحاول اكتشاف السبب. لكنها حزينة. لماذا؟ لا أدري. وهي لا تريدني …» وهكذا، ظلت تتكرر وتتكرر مثل نغمةٍ لا تدرون متى تتوقف.
ظل السيد الروسي مستحوذًا على نصيبٍ كبيرٍ من أفكار الجميع. لقد ردَّ جميعُ محرري الصحف وأمناء سر الجمعيات وأعضاء البرلمان على رسائل أمهم بأدبٍ جم؛ لكنَّ أحدًا منهم لم يعرف أين عساها أن تكون زوجة وأولاد السيد شيبانسكي. (هل أخبرتكم أن الاسم الروسي الأصيل للسيد الروسي هو ذلك؟)
كانت لبوبي سجيةٌ أخرى سيختلف ما تسمعون من وصفها باختلاف مَن يصفونها. فالبعض يسمونها «تدخلًا في شئون الآخرين»، والبعض يسمونها «مد يد العون للمحتاج»، وبعضهم يسمونها «طِيبة ودودة.» إنما معناها هو فقط السعي إلى مساعدة الناس.
لقد أجهدت بوبي ذهنها في التفكير كيما تهتدي إلى طريقةٍ تساعد بها السيد الروسي في العثور على زوجته وأولاده. لقد تعلم بعض الكلمات الإنجليزية الآن. فأصبح باستطاعته أن يقول «صباح الخير» و«طاب مساؤك» و«لو سمحت» و«شكرًا لك»، و«رائع» وذلك عندما كان الأطفال يحضرون له الأزهار، و«جيدة جدًّا» عندما كانوا يسألونه كيف كانت ليلته.
كانت بوبي تقول إنها تشعر أن الطريقة التي يبتسم بها عندما «ينطق ما تعلَّمَه من الإنجليزية» كانت «جميلةً للغاية». لقد اعتادت أن تتذكر وجهه؛ لأنها كانت تتخيل أنه ربما يقودها إلى طريقةٍ ما تساعده بها. لكنه لم يَقُدها لشيء. لكن وجوده معهم أبهجها لأنها رأت أنه جعل أمها أسعد مما كانت عليه.
قالت بوبي: «إنها تحب أن يكون هناك من تحسن معاملته، حتى إلى جانبنا نحن. أعرف أنها كانت تكره أن تُلبسه ملابس والدي. لكن أظن أن فِعلها كان خيرًا وكان في ذلك تعويض لها رغم صعوبته على نفسها، وإلا لَمَا فعلتْه.»
ظلت بوبي لياليَ عديدةً، بعد ذلك اليوم الذي أنقذتْ فيه القطار من التحطم، هي وبيتر وفيليس، بتلويحهم له براياتهم الصوف الحمراء الصغيرة، ظلَّتْ تستيقظ من نومها صارخةً مرتجفة، حيث كانت تتبدى لها من جديدٍ تلك التلة الرهيبة، والقطار المطمئن المسكين وهو يندفع مسرعًا باتجاهها؛ متوهمًا أنه إنما كان يؤدي مهمته الخفيفة السريعة، وأن كل شيءٍ كان ممهَّدًا ومأمونًا. ثم بعد هذا كانت تسري بجسمها ارتعاشةُ بهجةٍ دافئةٌ عندما تتذكر كيف تمكنت بالفعل هي وبيتر وفيليس والقمصان الصوف الداخلية الحمراء من إنقاذ الجميع.
في صباح أحد الأيام وصلتهم رسالة. كانت مرسَلةً إلى بيتر وبوبي وفيليس. فتح الأطفال الرسالة بفضولٍ غامر؛ لأنهم كانوا لا يتلقَّون رسائل غالبًا.
سيدي العزيز، سيدتاي العزيزتان
لقد تقرر إقامة حفل تكريم لكم، تخليدًا لذكرى مبادرتِكم الشجاعة إلى تحذير القطار في اليوم … من الشهر الجاري، ومنعِكم ما كان سيصبح، بالحديث عن أرواح البشر، حادثةً مروعة. سوف يُعقَد الاحتفال في المحطة في الساعة الثالثة من اليوم الثلاثين من الشهر الجاري، إذا كان هذا المكان والتوقيت مناسبَين لكم.
لم تمر بالأطفال الثلاثة لحظةٌ في حياتهم شعروا فيها بالفخر أكثر من هذه اللحظة. أسرعوا إلى أمهم بالرسالة، فشعرتْ هي الأخرى بالفخر وقالت مثل ذلك، وقد سعد الأطفال بهذا سعادةً لم يشعروا بها من قبل قط.
قالت أمهم: «لكن لو كان التكريم مالًا، فعليكم أن تقولوا: «شكرًا لكم، لكننا نُفضِّل ألَّا نأخذه».» وأضافت: «سوف أغسل ملابسكم المصنوعة من الموسلين الهندي في الحال. يجب أن تظهروا مهندمين في مناسبةٍ كهذه.»
قالت بوبي: «أستطيع أن أغسل الثياب أنا وفِل، إذا تفضلتِ أنت بكيِّها يا أمي.»
إن غسل الثياب ممتعٌ بعض الشيء. تُرى هل جربتموه من قبل؟ لقد غسلوا هذه الثياب تحديدًا في المطبخ الخلفي، ذي الأرضية الحجرية وكان به حوض حجريٌّ كبير تحت نافذته.
قالت فيليس: «لنضع ماء الغسل في الحوض، ثم يمكننا أن نتظاهر بأننا من النساء اللواتي يغسلن الملابس في الخلاء كاللاتي رأتهن أمي في فرنسا.»
قال بيتر، ويداه في جيبَيه: «لكنهن كُنَّ يغسلن في النهر البارد. وليس في ماءٍ دافئٍ كالذي تغسلين فيه.»
قالت فيليس: «هذا نهرٌ دافئٌ إذن، ساعدني في حمل ماء الغسل، من فضلك.»
قال بيتر: «أتمنى لو كان هناك من يساعدك سواي.» لكنه ساعدها على أي حال.
«والآن إلى الدلك والفرك ثم الفرك والدلك.» هكذا قالت فيليس وهي تتواثب في أرجاء المطبخ بابتهاجٍ بينما كانت بوبي ترفع الغلاية الثقيلة بحذرٍ من فوق شعلة المطبخ.
قالت بوبي وقد صدمها كلام فيليس للغاية: «أوه، لا! لا تفركي قماش الموسلين. إنما تضعين الصابون المغلي في الماء الساخن وترغينه كله؛ ثم تحركين الموسلين وتعصرينه، برفقٍ شديدٍ جدًّا، وبهذا تخرج جميع الأوساخ منه. إن الأشياء الخشنة فقط كأغطية المائدة والملاءات هي التي تُفرَك.»
كانت أزهار الليلك وأزهار جلور دو ديجون تتمايل مع النسيم الرقيق خارج النافذة.
قالت بوبي وهي تشعر بنضجٍ كبير: «إنه يومٌ جيدٌ لتجفيف الملابس؛ هذه واحدة. يا إلهي، أتساءل أي مشاعرَ رائعةٍ سوف نشعر بها يا تُرى عندما نرتدي فساتين الموسلين الهندي!»
قالت فيليس وهي تهز فساتين الموسلين وتعصرها باحترافيةٍ شديدة: «نعم، إني لأتساءل أيضًا عن هذا.»
«والآن نعصر الثياب لنُخرِج منها الماء المغمور بالصابون. لا يجب ألا نَلوِيَها ثم بعد ذلك نشطفها بالماء. سوف أمسكها ريثما تُفرِغي ماء الغسل أنتِ وبيتر وتحضران ماءً نظيفًا.»
«تكريم! هذا يعني هدايا، ترى ما نوعها؟» هكذا تساءل بيتر وأختاه، بعدما غسلتا المشابك ونظَّفتا حبل الغسيل كما ينبغي، وعلقتا الفساتين لتجف.
قالت فيليس: «قد تكون أي شيء، إن ما حلمتُ باقتنائه دومًا هو فيلٌ صغيرٌ لعبة؛ لكنني أظن أنهم لن يعرفوا هذا.»
قالت بوبي: «هل تظنان أن تكون نماذج ذهبية لقاطراتٍ بخارية؟»
قال بيتر: «أو نموذجٌ كبيرٌ لمشهد منع وقوع الحادثة، يكون فيه نموذجٌ مصغرٌ لقطارٍ، ودُمًى تُشبهنا نحن وسائق القاطرة والوقَّاد والرُّكاب.»
قالت بوبي بارتيابٍ وهي تُجفِّف يديها في المِنشفة الخشنة المعلقة على أسطوانةٍ خلف باب حجرة غسل الأواني: «هل تحبان، هل تحبان أن نُكافَأ لأننا أنقذنا قطارًا؟»
قال بيتر بصراحة: «نعم، أحب هذا، ولا تحاولي خداعنا بأنك لا تحبين هذا أيضًا؛ لأنني أعلم أنكِ تحبينه.»
قالت بوبي بارتيابٍ: «نعم، أعلم أنني أحب ذلك. لكن ألا ينبغي لنا أن نكتفي فقط بما عملناه، وألَّا نطالب بأي شيءٍ أكثر منه؟»
قال أخوها: «من الذي طالب بأي شيءٍ أكثر منه، أيتها الحمقاء؟ إن الجنود الذين يحصلون على وسام «صليب فيكتوريا» لا يُطالِبون به؛ لكنهم برغم هذا يسعدون غاية السعادة عندما ينالونه. ربما تكون هدايانا ميداليات. وحينئذٍ، عندما أُصبح عجوزًا جدًّا، سأريها لأحفادي وأقول: «إنما قمنا بواجبنا.» وسيفتخرون بي للغاية.»
نبَّهتْه فيليس قائلةً: «يجب أن تتزوج، وإلَّا فلن يكون لديك أي أحفاد.»
قال بيتر: «أظن أني سأُضطَر لأن أتزوج يومًا ما، لكنَّ وجودها معي طوال الوقت سيكون مزعجًا أيما إزعاج. أود لو أتزوج سيدةً مصابةً بنوبات إغماء، وألا تُفيق منها سوى مرةٍ أو مرتَين في العام.»
قالت بوبي: «فقط لتقول لك إنك نور حياتها، ثم تعود إلى نومها من جديد. أجل. لن يكون هذا سيئًا.»
قالت فيليس: «عندما أتزوج، سأريد من زوجي أن يرغب في أن أظل في وعيي طوال الوقت، لكي أسمعه وهو يقول كم أنا جميلة.»
قالت بوبي: «أظن أنه سيكون جميلًا لو تزوجتِ رجلًا فقيرًا جدًّا، ومِن ثَمَّ تقومين أنتِ بجميع أعمال المنزل ويكون هو مغرمًا بكِ للغاية، ويرى أثناء عودته إلى البيت في كل ليلة دخانَ الخشب الأزرقَ وهو يتصاعد من موقد منزلكم ويلتف بين الأشجار. أرى أنه ينبغي لنا أن نرد على تلك الرسالة ونقول إن الوقت والمكان سيناسباننا. ها هو ذا الصابون يا بيتر. إن كلينا نظيفٌ كما ينبغي أن تكون النظافة. أحضري لنا صندوق أوراق الكتابة الوردي الذي حصلتِ عليه في عيد ميلادكِ يا فِل.»
استغرق الأطفالُ بعضَ الوقت في إعداد ما سيقولونه. لقد عادت أمهم إلى القصص التي تكتبها، وقد أَتلف ثلاثتُهم العديدَ من الأوراق الوردية، ذات الحواف المدورة الذهبية ورسوماتِ نبات النَّفَل الأخضر ذي الأوراق الأربع في أركانها، قبل أن يُقرِّروا ما سيقولون. بعد ذلك نسخ كلٌّ منهم نسخةً من الرسالة ووقَّع تحتها باسمه.
عزيزي السيد جيبيز إنجلوود
شكرًا جزيلًا لك. لم نكن نرغب في أن نُكافأ وإنما أردنا إنقاذ القطار وحسب، لكننا سعداء لأنك تعتقد أننا نستحق التكريم، وشكرًا جزيلًا لك. سيكون الوقت والمكان اللذان حددتهما مناسبَين جدًّا لنا. نشكرك شكرًا جزيلًا.
ملحوظة: شكرًا جزيلًا لك.
قالت بوبي وهي تأخذ الفساتين النظيفة الجافة من على الحبل: «إن غسل الملابس أسهل بكثيرٍ من كيِّها. أُحب رؤية الأشياء عندما تُصبح نظيفة. يا إلهي؛ لا أدري كيف سنصبر حتى يحين الوقتُ لنعلم نوع التكريم الذي سيُقدمونه!»
عندما أتى اليوم أخيرًا، والذي بدا أنه أتى بعد مدةٍ طويلةٍ جدًّا، توجه الأطفال الثلاثة إلى المحطة في الوقت المحدد. وكان كل ما جرى في شدة الغرابة لدرجة أنه بدا لهم كحلم. لقد خرج ناظر المحطة لاستقبالهم — وكان يرتدي أجمل ثيابه، كما لاحظ بيتر في الحال — وقادهم إلى غرفة الانتظار التي لعبوا فيها لعبة الإعلانات ذات مرة. لكنها بدَت مختلفةً تمامًا هذه المرة؛ فقد فُرش فيها سجادة — ووُضِعتْ أُصُصُ الزهور على رف المدفأة وأفاريز النوافذ — وكانت الفروع الخُضر تنتصبُ، كما تنتصب فروع الآس البري وفروع شجرة الغار في عيد الميلاد، فوق ملصقات الإعلانات المؤطرة لشركة كوكس تورز السياحية وشركة بيوتيز أوف ديفون وشركة قطارات باريس ليونز ريلواي. كان هناك عددٌ كبيرٌ من الناس غير الحمَّال — سيدتان أو ثلاث يرتدين فساتين أنيقة، وحشدٌ غفيرٌ من السادة يرتدون قبعاتٍ عاليةٍ ومعاطف — إضافةً إلى جميع من يعملون بالمحطة. وقد تعرف الأطفالُ على العديد من الناس الذين كانوا في القطار يوم القمصان الداخلية الصوف الحمراء. وكان أفضل ما في الأمر أن السيد العجوز صاحبهم كان موجودًا، وبدا معطفه وقبعته وياقته مختلفين كلَّ الاختلاف عن معاطف وقبعات وياقات الآخرين جميعًا. صافحهم السيد العجوز ثم بعد ذلك جلس الجميع في مقاعدهم، وبدأ رجل محترم ذو نظارةٍ — اكتشفوا فيما بعد أنه رئيس المقاطعة — يلقي خطابًا طويلًا جدًّا؛ وكان خطابًا شديد الذكاء في الواقع. لكنني لن أكتب الخطاب هنا. أولًا: لأنكم ربما ترونه مملًّا؛ وثانيًا: لأنه جعل وجوه الأطفال جميعًا تصطبغ بحمرة شديدة من شدة الخجل، كما جعل ذلك الخجل يبث حرارته في آذانهم أيضًا مما زاد في حرصي على تجنب هذا الجزء من الموضوع؛ وثالثًا: لأن السيد المحترم احتاج للكثير جدًّا من الكلمات لقول ما أرادَ قولَه؛ حتى إنني بالفعل لا أجد الوقت لكتابتها كلها. لقد قال جميع أنواع عبارات الثناء على شجاعة الأطفال وحضور أذهانهم، وعندما انتهى من حديثه جلس، وراح الحاضرون جميعًا يصفقون ويقولون: «مرحى، مرحى.»
من مديري شركة قطارات جريت نورثيرن آند ساوذرن ريلواي امتنانًا وتقديرًا للشجاعة وسرعة التصرف التي منعت وقوع حادثة يوم … سنة ١٩٠٥.
كانت الساعات من أجمل ما يمكنكم أن تتصوروا، وكان لكل واحدةٍ علبةٌ جلديةٌ زرقاء تُوضَع فيها عندما تكون في المنزل.
«يجب أن تُلقي خطابًا الآن وتشكر الجميع على فضلهم.» بهذه الكلمات همس ناظر المحطة في أُذن بيتر ثم دفعه للأمام مُضيفًا: «ابدأ ﺑ «سيداتي وسادتي».»
كان كل واحدٍ من الأطفال قد قدَّم بالفعل عبارات الشكر كما ينبغي تمامًا.
قال بيتر متفاجئًا: «يا إلهي»، لكنه لم يقاوم الدفعة التي دفعه إياه ناظر المحطة.
وقال بصوتٍ مبحوحٍ بعض الشيء: «سيداتي وسادتي»، ثم توقف قليلًا، وسمع دقات قلبه وقد بلغ صوتُها حلقه؛ ثم واصل باندفاعٍ: «سيداتي وسادتي، إنه لكرمٌ بالغٌ منكم، وسوف نحتفظ بالساعات طيلةَ حياتنا؛ لكننا في الحقيقة لا نستحقها لأن ما فعلناه ليس بشيءٍ، صدقوني. أقصد لقد كان مثيرًا للغاية، وما أريد قولُه هو … شكرًا لكم جميعًا، شكرًا جزيلًا.»
صفق الناس لبيتر أكثر مما صفقوا لرئيس المقاطعة، وبعدها صافح الحاضرون جميعًا الأطفال الثلاثة، وحالما سمحَتْ لهم حدودُ اللياقة غادروا، وانطلقوا يَنهبون التلة ركضًا صاعدين إلى المنزل ذي المداخن الثلاث وساعاتهم بأيديهم.
كان يومًا رائعًا؛ من تلك الأيام التي نادرًا جدًّا ما تحدث لأي أحدٍ، ولا تحدث لمعظمنا أبدًا.
قالت بوبي: «كنتُ أرغب بشدةٍ في الحديث إلى السيد العجوز عن أمرٍ آخر، لكنَّ الناس كانوا كثيرين جدًّا؛ وكأننا كنا في كنيسة في يوم الأحد.»
سألتها فيليس: «ما الذي رغبتِ في قوله؟»
قالت بوبي: «سأخبركِ بعدما أُفكر فيه أكثر.»
وهكذا، وبعدما زادت الأمر قليلًا من التفكير، كتبتْ رسالة.
عزيزي السيد العجوز، أرغب بشدةٍ في طلبِ شيءٍ منك. لو استطعتَ النزول من القطار والذهاب بالقطار الذي يليه، فسيكون هذا جيدًا. لا أريدك أن تعطيني أي شيء. لقد قالت أمي إنه ينبغي لنا ألا نفعل هذا. وإضافةً إلى هذا، فإننا لسنا بحاجة إلى أيِّ شيء. إنما أريد فقط أن أُحدِّثك عن سجينٍ وأسير.
أقنعتْ بوبي ناظر المحطة بإعطاء الرسالة للسيد العجوز، وفي اليوم التالي طلبتْ من بيتر وفيليس أن يذهبا معها إلى المحطة وقتَ مرور القطار الذي سيأتي فيه السيد العجوز من المدينة.
لقد شرحتْ لهما فكرتها؛ وقد وافقا عليها تمامًا.
غسل الثلاثة جميعُهم أيديهم ووجوههم، وصففوا شعورهم، وأصلحوا من هندامهم بقدر ما استطاعوا. لكنَّ فيليس، سيئةَ الحظ دائمًا، سكبتْ دورقًا من عصير الليمون على فستانها من الأمام. لم يكن أمامها متسعٌ من الوقت لتغير ملابسها؛ وتصادف أن هبَّت الريح من مخزن الفحم، فاكتسى فستانُها في الحال بالرماد، الذي التصق ببقع عصير الليمون الدبقة، وجعل فيليس تبدو، كما قال بيتر: «كأيِّ طفلةٍ صغيرةٍ متشردة.»
وقرروا أن تبقى وراء الآخرَين قدر الإمكان.
قالت بوبي: «ربما لن يلاحظ السيدُ العجوز. إن أبصار كبار السن ضعيفة غالبًا.»
لكن لم يكن ثمة ما يدل على وجود ضعف في عينَي السيد العجوز ولا في أي جزءٍ آخر منه عندما نزل من القطار وراح يُقلب عينَيه في أرجاء رصيف المحطة.
شعر الأطفال الثلاثة، بعد أن بلغ الأمر ذروته في تلك اللحظة شعروا فجأةً، بتلك الهجمة التي يشنها الخجل الشديد عليكم فيرفع حرارة آذانكم ويصبغها باللون الأحمر، ويجعل أياديَكم دافئةً مبتلةً، وأطرافَ أنوفكم ورديةً متوهجة.
قالت فيليس: «يا إلهي، إن قلبي يخفق بقوةٍ وكأنه محركٌ بخاريٌّ؛ وتحت حزامي مباشرةً كذلك.»
قال بيتر: «هذا هراء. إن قلوب الناس ليست تحت أحزمتهم.»
قالت فيليس: «لا يهمني. إن قلبي أنا تحت حزامي.»
قال بيتر: «لو كنتِ ستتكلمين مثلما تتكلم كتبُ الشعر، فإن قلبي أنا سيقفز من فمي.»
قالت روبيرتا: «أما أنا فقد وقع قلبي في حذائي من القلق، لكن دعكما من هذا؛ سوف يظن السيد العجوز أننا حمقى.»
قال بيتر باغتمام: «لو ظن ذلك فلن يكون قد ابتعد كثيرًا عن الصواب.» ومضوا لمقابلة السيد العجوز.
قال الرجل وهو يصافحهم جميعًا واحدًا بعد الآخر: «مرحبًا، سُرِرتُ للغاية بمقابلتكم.»
قالت بوبي بأدبٍ والعرق يرشح من وجهها: «لقد كان لُطفًا منك أنْ خرجتَ لمقابلتنا.»
أمسك السيد العجوز بذراعها وجذبها برفقٍ إلى حجرة الانتظار التي كانت تلعب فيها هي والآخران لعبة الإعلانات في ذلك اليوم الذي عثروا فيه على الرجل الروسي. وتبعهما بيتر وفيليس. قال السيد العجوز وهو يهز ذراع بوبي برفقٍ ووُدٍّ قبل أن يتركه: «حسنٌ! أخبريني، ما الأمر؟»
قالت بوبي: «يا إلهي، لو سمحت!»
قال السيد العجوز: «نعم؟»
قالت بوبي: «أقصد أن أقول …»
قال السيد العجوز: «ماذا؟»
قالت: «إن الأمر كله جميلٌ وخيرٌ للغاية.»
قال: «لكن؟»
قالت: «أرجو أن تسمح لي بقول شيءٍ ما.»
قال: «قوليه.»
قالت بوبي: «حسنٌ إذن.» ثم مضتْ تقص عليه قصة الرجل الروسي الذي ألف ذلك الكتاب الجميل عن الفقراء، فزُجَّ به في السجن ثم أُرسِل إلى سيبيريا فقط من أجل هذا.
قالت بوبي: «وما نريده أكثر من أي شيءٍ آخر هو أن نعثر له على زوجته وأولاده، لكننا لا نعرف كيف. لكن لا بد أنك ذكيٌّ لأبعد الحدود، وإلا لما صرتَ مُديرًا للسكة الحديدية. ولو كنتَ تعرف كيف تعثر عليهما؛ فهل ستفعل؟ إننا نود أن نحصل منك على هذا أكثر من أيِّ شيءٍ آخر. إننا مستعدون حتى للاستغناء عن الساعات، إذا كان بإمكانك أن تبيعها وتستخدم المال في العثور على زوجته.»
وقال الآخران مثل ذلك أيضًا، وإن لم يكن بحماستها الكبيرة نفسها.
قال السيد العجوز وهو يجذب صُدرته البيضاء ذات الأزرار الذهبية الكبيرة إلى الأسفل: «اممم، ما الاسم الذي قُلتِه؛ فرينجبانسكي؟»
قالت بوبي بنبرةٍ جادة: «لا، لا، سأكتبه لك. إنه في الحقيقة لا يبدو كذلك أبدًا إلا عندما تنطقه.» وسألته قائلةً: «هل معك قلمُ رصاصٍ ومظروفٌ أكتب على ظهره؟»
أخرج السيد العجوز من جيبه علبة أقلام رصاصٍ ذهبيةً، ومُفكرةً روسيةً جميلةً، طيبة الرائحة، لها غلافٌ من جلدٍ أخضر وفتحها على صفحةٍ جديدة.
وقال: «تفضلي، اكتبيه هنا.»
كتبت بوبي حروفَ الاسم وقالت:
«هكذا يُكتب. لكنه يُنطق «شيبانسكي».»
أخرج السيد العجوز نظارةً ذهبيةَ الحواف ووضعها على أنفه. وعندما قرأ الاسم، بدا على وجهه تغيرٌ كبير.
وقال: «ذلك الرجل؟ يا للعجب! يا إلهي، لقد قرأتُ كتابه! لقد تُرجم إلى جميع اللغات الأوروبية. إنه كتابٌ جيد؛ كتابٌ ممتاز. وهكذا آوتْه أمكم في منزلكم؛ كما فعل السامري الصالح. حسنٌ، حسنٌ. اسمعوني أيها الأطفال؛ لا بد أن أمكم امرأةٌ في غاية الطيبة.»
قالت فيليس باندهاش: «إنها كذلك بالطبع.»
قالت بوبي بحياءٍ بالغ، لكن بإصرارٍ كبيرٍ على التحلي بالأدب: «وأنتَ أيضًا رجلٌ طيب جدًّا.»
قال السيد العجوز وهو يخلع قبعته بحركة مسرحية: «هذا ثناءٌ لا أستحقه. والآن هل تسمحين لي أن أخبركِ برأيي فيكِ؟»
أسرعت بوبي بقولها: «أوه، أرجوك لا تفعل.»
سألها السيد العجوز: «ولِمَ؟»
قالت بوبي: «لا أدري لماذا بالضبط. فقط؛ لو كان سيئًا، فلا أُحب أن تقوله؛ ولو كان جميلًا، فسأُفضل ألا تقوله.»
أخذ السيد العجوز يضحك.
وقال: «حسنٌ إذن. سوف أقول فقط إنني سعيدٌ جدًّا لأنكِ لجأتِ إليَّ في هذا الأمر؛ إنني سعيدٌ للغاية في الحقيقة. ولن أتفاجأ لو اكتشفتُ شيئًا ما قريبًا جدًّا. إنني أعرف الكثيرين جدًّا من الرُّوس في لندن، وكلُّ روسيٍّ يعرف اسم هذا الرجل. والآن أخبروني كلَّ شيءٍ عنكم أنتم.»
والتفتَ إلى الآخرَين، لكن لم يكن هناك سوى واحدٍ منهما فقط، وهو بيتر. فقد اختفت فيليس.
قال السيد العجوز مرةً أخرى: «أخبرني بكل شيءٍ عن نفسك.» لكنَّ بيتر بالطبع لم ينطق من شدة الذهول.
قال السيد العجوز: «حسنٌ، سنُجري امتحانًا. اجلسا أنتما الاثنان على المنضدة، وسأجلس أنا على المقعد وأُوجِّه لكما أسئلة.»
أجرى السيد العجوز الامتحان، فعرف أسماءهم وأعمارهم؛ واسم أبيهم ومهنته؛ ومنذ متى وهم يعيشون في المنزل ذي الثلاث المداخن والكثير من الأشياء الأخرى.
كانت الأسئلة على وشك التحول إلى مسائل من نوع «اشترى فلانٌ سمكةً ونصفَ سمكةٍ من سمك الرنجة بثلاث قطع نقديةٍ من فئة نصف البنس …» و«إذا كان لدينا رطلٌ من الرصاص ورطلٌ من الريش …» لكنَّ باب حجرة الانتظار انفتح على إثر ركلةٍ من حذاءٍ عالي الساق؛ وعندما دخل الحذاء إلى الحجرة رأى الجميع أن رباطه كان قد أوشك على أن ينفكَّ؛ ودخلتْ فيليس إلى الغرفة ببطءٍ وحرصٍ شديدَين.
كانت تحمل في إحدى يدَيها علبةً قصديرية كبيرة، وفي الأخرى شريحةً سميكةً من الخبز والزبد.
«شاي بعد الظهيرة.» هكذا قالتْ مُعلنةً في فخرٍ، وناولت العلبة والخبز والزبد السيد العجوز، الذي أخذها وقال:
«يا إلهي!»
قالت فيليس: «نعم.»
قال السيد العجوز: «هذا لطفٌ كبيرٌ منكِ، لطفٌ كبير.»
قالت بوبي: «لكن كان يجدر بكِ أن تُحضري فنجانًا وطبقًا.»
قالت فيليس، وقد احمرَّ وجهها خجلًا: «إن بيركس يشرب دائمًا من العلبة.» وأضافت: «أظن أنه لطفٌ كبيرٌ منه أن يعطيني إياها من الأساس؛ فما بالُكِ بالفناجين والأطباق؟»
قال السيد العجوز: «وأنا أيضًا أشرب منها.» وارتشف رشفاتٍ من الشاي وتذوق الخبز والزبد.
بعد ذلك حان وقتُ قدوم القطار التالي، ودخله السيد العجوز وهم يُشيِّعونه بالكثير من كلمات الوداع الطيبة.
قال بيتر بعدما أصبحوا بمفردهم على رصيف المحطة، وبعدما توارت أنوار القطار الخلفية وراء المنعطف: «حسنٌ، أعتقد أننا أشعلنا شمعةً اليوم — مثلما فعل الأُسقُف لاتيمَر، تعرفان ذلك، عندما أُحرق — وسنحتفل بضيفنا الروسي قريبًا.»
وهذا ما حدث بالفعل.
لم تمر عشَرةُ أيامٍ على المقابلة التي جرَت في حجرة الانتظار حتى جلس الأطفال الثلاثة على قمة أضخم صخرةٍ في المرج أسفل منزلهم يشاهدون قطار الخامسة وخمس عشرة دقيقة وهو يغادر المحطة وينطلق مطلقًا الدخان على امتداد السطح السفلي من الوادي. ورأوا كذلك تلك القلة من الناس الذين خرجوا من المحطة وراحوا يسيرون متفرقين على الطريق باتجاه القرية؛ ورأوا شخصًا يغادر الطريق ويفتح البوابة التي يسلك من خلالها السائرُ عبرَ الحقول إلى المنزل ذي المداخن الثلاث؛ وليس إلى أيِّ مكانٍ سواه.
قال بيتر وهو يزحف نازلًا عن الصخرة: «من عساه يكون هذا؟!»
قالت فيليس: «لنذهب ونرَ.»
وهكذا فعلوا. وعندما اقتربوا بما يكفي ليروا مَن كان ذلك الشخص، وجدوا أنه كان صاحبهم السيد العجوز نفسه، كانت أزرار ثيابه النحاسيةُ تتلألأ في ضوء شمس الأصيل، وبدتْ صُدرته البيضاءُ وسط خُضرةِ المرج أنصعَ بياضًا منها في أيِّ وقتٍ مضى.
صاح الأطفال ملوحين بأيديهم: «مرحبًا!»
وصاح السيد العجوز ملوحًا بقبعته: «مرحبًا!»
ثم انطلق الثلاثة يركضون، وحين وصلوا إليه كانت أنفاسهم منقطعة واستطاعوا بالكاد أن يقولوا:
«كيف حالُك؟»
قال: «أخبارٌ جيدة. لقد عثرتُ على زوجة صاحبكم الروسي وابنه؛ ولا أستطيع كبح رغبتي في إخباره.»
لكنه عندما نظر إلى وجه بوبي أحس أن بإمكانه كبْحَ تلك الرغبة.
قال لها: «تفضلي، أسرعي أنتِ وأخبريه. وسيُريني أخواك الآخران الطريق.»
انطلقتْ بوبي مسرعةً. لكنها عندما ألقت الخبرَ بأنفاسٍ متقطعةٍ على أمها والرجل الروسي الجالسَين في هدوء الحديقة — وعندما أشرق وجهُ أمها إشراقًا فائق الجمال، وقالت للرجل المنفي بعض الكلمات الفرنسية المتلاحقة — تمنت بوبي لو لم تكن نقلت إليهما الخبر. فقد نهض الروسي فجأةً من كرسيِّه وصاح صيحةً جعلت قلب بوبي يثب من مكانه ويرتجف؛ صيحةَ حبٍّ وشوقٍ لم تسمع مثلها قط. بعد ذلك أمسك يد أمها ووضع عليها قبلةً في رفقٍ واحترام؛ ثم ارتمى على كرسيه وغطى وجهه بيديه وراح ينشج بالبكاء. وهنا انسلَّتْ بوبي من أمامهما خفيةً. ولم تُرِد أن ترى الآخرين في تلك اللحظة.
لكنها كانت مبتهجةً كالجميع عندما انتهت المحادثةُ الفرنسية الطويلة، وعندما انطلق بيتر يقطع شوارع القرية لإحضار الكعك المحلى والفطائر، وجهزت الفتاتان الشاي وأخذتاه إلى الحديقة.
كان السيد العجوز في منتهى السعادة والبهجة. وبدا أنه كان يجيد الحديث بالإنجليزية والفرنسية في اللحظة نفسها تقريبًا، وكانت أمهم تفعل الشيء نفسه تقريبًا. لقد كان وقتًا مبهجًا. بدا كذلك أن أمهم لم تستطع أن تولي للسيد العجوز الاهتمام الكافي، ووافقتْ في الحال عندما استأذنها في أن يُقدم بعض اﻟ «أطايب» لأصدقائه الصغار.
كانت الكلمة جديدة على الأطفال؛ لكنهم خمنوا أنها تعني الحلوى؛ لأن العلب الثلاث الكبيرة الملونة بالأخضر والوردي، والمربوطة بأشرطة خضراء، التي أخرجها من حقيبته، كان بها طبقاتٌ من الشوكولاتة الجميلة التي لم يسبق لهم أن رأوها من قبل.
حُزمت أمتعة الرجل الروسي القليلة، ورافقوه جميعهم إلى المحطة وودَّعوه هناك.
بعد ذلك التفتت الأم إلى السيد العجوز وقالت:
«لا أدري كيف أشكرك على كل ما فعلتَه. لقد سعدتُ حقًّا برؤيتك. لكننا نحيا حياةً هادئةً للغاية؛ وأنا في غاية الأسف لأنني لا أستطيع دعوتك لزيارتنا مرةً أخرى.»
اعتقد الأطفال أن هذا في غاية القسوة. فحين كانوا يحصلون على صديق، وصديقٍ مخلصٍ جدًّا، كانوا يودون من صميم قلوبهم أن يأتي لزيارتهم مرةً أخرى.
أما ما دار بخاطر السيد العجوز فلم يعرفوه؛ فلم يزد على أن قال:
«إنني أعد نفسي محظوظًا للغاية يا سيدتي لأنكِ استقبلتِني مرةً في بيتك.»
قالت الأم: «يا إلهي، أعرف أنني أبدو فظةً وناكرةً للجميل بالتأكيد … لكن …»
قال السيد العجوز وهو ينحني انحناءةً أخرى من انحناءاته المهذبة: «لا يمكن أبدًا أن تَبدي بأي صورةٍ سوى أن تكوني أجمل وأرق سيدة.»
وعندما استداروا ليصعدوا التلة، رأتْ بوبي وجه أمها.
فقالت: «كم تبدين متعبةً يا أمي، استندي عليَّ.»
قال بيتر: «إن من واجبي أنا أن أُعين أمي؛ فأنا رَجل الأسرة في غياب والدي.»
استندتْ أمهما على كلٍّ منهما.
قالت فيليس وهي تتواثب في ابتهاج: «كم هو جميلٌ للغاية أن أتخيل الروسي العزيز وهو يعانق زوجته التي لم يرها منذ مدةٍ طويلة. لا بد أن الرضيع قد كبر كثيرًا مُنذ أن رآه.»
قالت أمها: «نعم.»
تابعت فيليس وهي تتواثب بمزيد من الابتهاج: «تُرى هل سيعتقد أبي أنني قد كبرت. لقد كبرتُ بالفعل، أليس كذلك يا أمي؟»
قالت أمها: «نعم، أوه، نعم.» وأحست بوبي وبيتر بيدَيها تقبضان بشدةٍ أكثر على ذراعَيهما.
قال بيتر: «كم أنتِ مسكينة يا أمي، إنكِ مُتعَبةٌ بحق.»
قالت بوبي: «تعالي يا فِل؛ سوف أُسابقكِ إلى البوابة.»
وبدأت السباق، رغم أنها لم تكن تحب أن تفعل هذا. إنكم تعرفون لِمَ فعلَت بوبي ذلك. لقد حسبَتْ أمها أنها إنما ملَّتْ من المشي ببطء. حتى الأمهات، اللاتي يُحبِبنكم أكثر من أي شخصٍ آخر، قد لا يفهمنكم أحيانًا.