الوقَّادون الهواة
قال بيركس الحمَّال: «جميلٌ هذا البروش الصغير الذي ترتدينه يا آنستي. لا أعلم فيما رأيتُ شيئًا أشبه منه بزهرة الحَوْذان من دون أن يكون زهرةَ الحوذان نفسَها.»
قالت بوبي وقد شعرت بالسعادة والخجل من استحسانه هذا: «نعم، لطالما اعتقدتُ أنه يكاد يكون أشبه بزهرة الحوذان حتى من زهرة حوذانٍ حقيقية — وما تخيلتُ قط أن يُصبِح لي، لي أنا — ثم أهدتني أمي إياه في عيد ميلادي.»
«أوه، هل احتفلتِ بعيد ميلادك؟» هكذا سألها بيركس وقد بدَت عليه علامات اندهاشٍ شديد، وكأن الاحتفال بعيد الميلاد شيء لا ينالُه إلا قلةٌ مُختارة.
قالت بوبي: «نعم، ومتى عيدُ ميلادكَ أنت يا سيد بيركس؟» كان الأطفال يحتسون الشاي مع السيد بيركس في غرفة الحمَّالين وسط المصابيح وروزنامات السكة الحديدية. كانوا قد أحضروا معهم فناجينهم الخاصة وبعض فطائر المربى المطوية. أعد السيد بيركس الشاي في علبة جِعَة كالمعتاد، وشعر الجميع بسعادة غامرةٍ واطمئنانٍ كبير.
قال بيركس وهو يصب من العلبة مزيدًا من الشاي البني الغامق في فنجان بيتر: «عيد ميلادي؟ لقد تركتُ الاعتناء بعيد ميلادي من قبل أن تُولَدوا.»
قالت فيليس باهتمام: «لكن لا بد أن تكون قد وُلِدتَ في يومٍ ما، أليس كذلك؟ حتى إن كان منذ عشرين سنة؛ أو ثلاثين أو ستين أو سبعين.»
أجابها بيركس مبتسمًا ابتسامةً عريضة: «ليس منذ وقتٍ طويلٍ هكذا أيتها الفتاة. إذا كنتِ حقًّا تودين أن تعلمي، فقد كان هذا منذ اثنتَين وثلاثين سنة، وسيحين في الخامس عشر من هذا الشهر.»
سألته فيليس: «ولماذا لا تعتني به إذن؟»
قال بيركس باختصار: «لديَّ شيءٌ آخر لأعتني به إضافةً إلى أعياد الميلاد.»
سألته فيليس بإلحاح: «أوه، وما هو؟ لا أسرار بيننا، أليس كذلك؟»
قال بيركس: «بلى، إنهم العيال وامرأتي.»
كان هذا الحوار هو ما دفع الأطفال إلى التفكير، ثم بعد وقتٍ قليلٍ دفعهم إلى الكلام. لقد كان بيركس، بصفةٍ عامة، أقرب صديقٍ إلى قلوبهم. لم يكن رفيع المقام كناظر المحطة، لكنه كان سهل الجانب أكثر منه؛ ولم يكن ذا نفوذٍ مثل السيد العجوز، لكنهم كانوا يأتمنونه على أمورٍ أكثر خصوصيةً مما يأتمنون السيد العجوز عليه.
قالت بوبي: «يبدو لي فظيعًا ألَّا يهتم أحدٌ بعيد ميلاده. ألا يمكننا عمل شيءٍ ما؟»
قال بيتر: «هيا نذهب إلى جسر قناة الماء ونناقش الأمر باستفاضةٍ هناك. لقد حصلتُ على حبل صيدٍ جديدٍ من ساعي البريد هذا الصباح. لقد أعطانيه في مقابل باقة من الزهور أعطيته إياها ليهديها لزوجته. إنها مريضة.»
قالت بوبي في غضب: «أعتقد إذن أنه كان يجدر بك أن تعطيها الورود من دون مقابل.»
قال بيتر بفظاظة: «نعم، نعم، أعرف!» ووضع يدَيه في جيبَيه.
أسرعت فيليس قائلةً: «لقد فعل هذا بالطبع. إننا ما إنْ سمعنا بمرضها حتى أعددنا الورود وانتظرنا أمام البوابة. كان هذا عندما كنتِ تُعِدين الخبز المحمص من أجل الإفطار. وبعدما شكرَنا على الورود كثيرًا جدًّا — أكثر بكثيرٍ مما كان عليه أن يفعل — أخرج الحبل وأعطاه لبيتر. لم تكن مقايضة؛ كان عرفانًا منه بالجميل.»
قالت بوبي: «يا إلهي. معذرة يا بيتر. أنا آسفة جدًّا.»
قال بيتر بتعالٍ: «لا عليكِ. كنتُ أعرف أنكِ ستعتذرين.»
وهكذا ذهبوا جميعًا إلى جسر قناة الماء. كانت الفكرة أن يصطادوا من فوق الجسر، لكنَّ الحبل لمْ يكن طويلًا بما يكفي.
قالت بوبي: «لا عليكما. تعاليا نقف هنا وحسب ونشاهد الأشياء. كل شيءٍ جميلٌ للغاية.»
كان كل شيءٍ جميلًا فعلًا. كانت الشمس تغرب وضوءُها الأحمر الساطع مُرْخًى فوق التلال الرمادية والأرجوانية، وكانت قناة الماء تنسابُ لامعةً تحت الظلال؛ ولم يكسر انسيابَ سطحها مويجةٌ واحدة. كانت كشريطِ ساتان أشهب ممدودٍ بين المروج الحريرية الخضراء الداكنة الممتدة على ضفتَيها.
قال بيتر: «حسنٌ، لكنني — بشكل أو بآخر — دائمًا ما أستطيع أن أرى جمال الأشياء أكثر بكثير عندما يكون لديَّ شيءٌ أفعله. لننزل إلى الممر الموازي للقناة ونصطَد من هناك.»
تذكرَت فيليس وبوبي كيف رماهم الصِّبية الذين كانوا في قوارب القناة بالفحم، وقالتا ذلك.
قال بيتر: «أوه، هذا هراء. لا يوجد أي صبية هنا الآن. ولو وجدناهم، فسأتشاجر معهم.»
كانت أُختا بيتر طيبتَين بما يكفي بحيث لم تُذكِّراه بأنه لمْ يتشاجر مع الصبية في آخر مرة عندما ظلوا يقذفونهم بالفحم. وإنما قالتا: «حسنٌ إذن.» ونزلوا بحذرٍ على الضفة المنحدرة باتجاه الممر الموازي للقناة. وضع الأطفال الطُّعم بعنايةٍ في حبل الصيد، وظلوا يحاولون الصيد في صبرٍ طيلةَ نصف ساعةٍ ولكن دون جدوى. لم يُقضم الطُّعمُ قضمةً واحدةً تُنعِشُ الأمل في قلوبهم.
كانت جميع العيون مركزةً على المياه البطيئة الحركة التي ظلَّتْ تتظاهر في عزمٍ بأنها لمْ تُئوِ في أحشائها سمكة واحدة، وفي ذلك الحين انطلقتْ صيحةٌ عنيفةٌ عاليةٌ جعلتْهم يثبون فزَعًا.
قال الصوتُ الصائح بنبرة بغيضة إلى أبعد الحدود: «أنتم! اخرُجوا من هنا، ألا تستطيعون؟»
كان ثمة حصانٌ عجوزٌ أبيض قادمٌ على الممر على مسافة ست يارداتٍ منهم. نهض الأطفال على أقدامهم وأسرعوا يتسلقون ضفة القناة.
قالت بوبي: «سننزل مرةً أخرى عندما يمرون.»
لكن، وا أسفاه، فإن القارب، وعلى عادة القوارب الأخرى، توقف تحت الجسر.
قال بيتر: «سوف يلقون المرساة لتثبيت القارب، يا لحظنا العاثر!»
لكنْ لم يُلقِ أحدٌ مرساةً من القارب؛ لأن المرساةَ ليستْ جزءًا من مُعدات قوارب قنوات الماء، وإنما رُبِط بالحبال من مقدمته ومؤخرته إلى الشاطئ؛ ورُبطت الحبالُ سريعًا في الأوتاد والعتلات المثبتة في الأرض.
زمجر الملاح في غضب: «فيمَ تُحدقون؟»
قالت بوبي: «لم نكن نُحدق، لسنا بهذه الوقاحة.»
قال الرجل: «لا يهمني إن كنتم وقحين أم لا. انصرفوا من هنا!»
قال بيتر: «انصرف أنت من هنا.» لقد تذكر ما قاله بشأن العِراك مع الصبية، كما أنه أحس بالأمان وهو في منتصف المسافة بين أسفل الضفة وأعلاها. وأضاف: «إن لنا الحق في الوقوف هنا مثل أي أحدٍ آخر.»
قال الرجل: «أوه، ألكم الحق في الوقوف هنا، حقًّا! سنكتشف ذلك في الحال.» وخطا على متن القارب ثم بدأ ينزل من على جانبه.
قالت بوبي وفيليس بصوتٍ مُتألمٍ واحد: «يا إلهي، هيَّا يا بيتر، هيا!»
قال بيتر: «لن أنصرف، لكن يحسن بكما أنتما أن تنصرفا.»
صعدت البنتان إلى أعلى الضفة ووقفتا مستعدتَين للفرار سريعًا إلى المنزل حالما تريان أخاهما وقد ابتعد عن الخطر. كان الطريق إلى المنزل يمتد كله أسفل التلة. كانوا يعرفون أنهم جميعًا يحسنون الجري. ولم يبدُ أن الملاح كان يحسنه. لقد كان متوهج الوجه بدينًا ثقيلَ الوزن.
لكن ما إن لامستْ قدمه الممر حتى أدرك الأطفال أنهم أساءوا الحكم عليه.
لقد قفز قفزةً واحدةً إلى أعلى الضفة فأمسك بيتر من رجله، وسحبه إلى الأسفل، وأجلسه على قدمَيه وهو يهزه، ثم أمسكه من أُذنه، وقال في صرامة:
«والآن إذن، ماذا تقصد من وراء ما تفعله؟ ألا تعلم أنه يُحظَر على العامة الصيد من مياه هذه القناة؟ لا يحق لك صيد السمك من هنا؛ هذا فضلًا عن وقاحتك اللعينة.»
ظل بيتر فيما بعد يفتخر دائمًا كلما تذكر أنه تحلى بالشجاعة لقول الحقيقة، رغم أصابع الملاح المستشيطة غضبًا التي أطبقت على أذنه، ورغم وجه الملاح، المصطبغ باللون القرمزي من شدة الغضب، الذي كان قريبًا من وجهه، ورغم أنفاس الملاح الساخنة التي ظل ينفثها في رقبته.
قال بيتر: «لم أكن أصطاد السمك.»
قال الرجل وهو يلوي أُذن بيتر — ليس في عنف — لكنه لواها على أي حال: «هذه ليست غلطتك، أنا واثق من هذا.»
لم يستطع بيتر أن يقول إنها كانت غلطته. كانت بوبي وفيليس تُمسِكان بالسياج في الأعلى وتتقافزان من القلق. وفجأةً انسلتْ بوبي من بين قضبان السياج وأسرعت بالنزول على الضفة باتجاه بيتر، وفعلت ذلك بهوجٍ شديدٍ للغاية لدرجة أن فيليس، التي تبعتها في هدوءٍ واتزانٍ أكبر، تأكدتْ أن انحدار أختها هذا سينتهي بها في ماء القناة. وقد كان هذا ما سيحدث لو لمْ يترك الملاحُ أذن بيتر ويمسك بوبي بذراعه المكسوة بصوف الجرسي.
قال الملاح وهو يُجلِسها على قدمَيها: «من الذي جئتِ لتدفعيه؟»
قالت بوبي لاهثةً: «أوه، ما جئتُ لدفع أي أحد. على الأقل، لم أفعل هذا عن عمْد. أرجوك لا تغضب من بيتر. إذا كانت قناتَك فإننا آسفون بالتأكيد، ولن نعود إلى هذا مرةً أخرى. لكننا لمْ نكن نعلم أنها قناتُك.»
قال الملاح: «انصرفوا من هنا.»
قالت بوبي بنبرةٍ جادة: «نعم، سننصرف؛ بالتأكيد سننصرف، لكننا نرجوك أن تسامحنا؛ ونحن بالفعل لمْ نصطَد سمكةً واحدة. ولو فعلنا لأخبرتُك على الفور، أُقسم بشرفي أنني كنتُ سأخبرك.»
مدَّت بوبي يدَيها وقلبتْ فيليس جيبها الصغير الخاوي لتُرياه أنهما بالفعل لم تكونا تخبئان أي أسماك معهما.
قال الملاح بنبرةٍ أكثر رقة: «حسنٌ، أسرعوا بالانصراف إذن، وإياكم أن تفعلوا ذلك مرةً أخرى، انتهى الكلام.»
أسرع الأطفال بصعود الضفة.
صاح الرجل قائلًا: «ألقِ لنا معطفًا يا ماريا.» فخرجت من باب مقصورة الركاب في القارب امرأةٌ حمراء الشعر ترتدي شالًا أخضر مُربعَ النقش، وعلى ذراعَيها طفلٌ رضيعٌ، وألقت له المعطف. ارتدى الرجل المعطف، وصعد إلى ضفة القناة، وراح يمشي متمايلًا فوق الجسر متوجِّهًا إلى القرية.
وناداها من فوق الجسر قائلًا: «ستجدينني في «حانة روز آند كراون» بعدما تُهجِعين الطفل.»
بعدما توارى الرجل عن الأنظار عاد الأطفال ببطءٍ مرةً أخرى. كان بيتر مُصرًّا على هذا.
قال بيتر: «ربما تكون القناة ملكه، رغم أنني لا أُصدق هذا. لكن الجسر ملك الجميع. لقد قال لي الدكتور فوريست إنه ملكيةٌ عامة. لن يُجبرني هو ولا أيُّ أحدٍ غيره على مغادرة الجسر، صدقاني.»
كانت أذن بيتر لا تزال مُلتهبة، وهكذا كانت مشاعره.
سارت البنتان خلفه مثلما يسير الجنود البواسل خلف قائد سَرِيَّةٍ فدائية.
«أتمنى بصدقٍ ألا تفعل هذا.» كان هذا كل ما قالتاه.
قال بيتر: «عودا إلى البيت إذا كنتما خائفتَين. اتركاني بمفردي. أنا لستُ خائفًا.»
تلاشى وقعُ أقدام الرجل على الطريق الهادئ. لم تقطع سكونَ الليل تغاريدُ بلابل أشجار السُّعد ولا صوتُ المرأة التي في القارب وهي تُغني لرضيعها كي ينام. لقد كانت أغنيةً حزينة تلك التي كانت تُغنيها. كان فيها شيءٌ عن بيل بيلي وكيف تريده أن يعود إلى المنزل.
وقف الأطفال مستندين بأذرعهم على سور الجسر؛ كانوا سعداء بما نعموا به من الهدوء لبضع دقائق؛ لأن الأفئدة الثلاثة كانت تدق بسرعةٍ بالغة.
قال بيتر بصوتٍ أجش: «لن يطردني أيُّ ملاحٍ عجوزٍ من هنا، لن يفعل.»
قالت فيليس تُهدِّئه: «بالطبع لن يفعل، إنك لمْ تستسلم له! لذا يمكننا الآن أن نعود إلى البيت، ألا ترى هذا؟»
قال بيتر: «لا.»
لم يقل أحدٌ أيَّ شيءٍ غير هذا حتى خرجت المرأةُ من القارب، وصعدت على الضفة، ثم جاءت تمشي على الجسر.
ترددت المرأةُ وهي تنظر إلى ظهور الأطفال الثلاثة ثم تنحنحتْ.
ظل بيتر على هيئته، لكن البنتَين الْتفتتا.
قالت المرأة: «يجب ألا تَشغلوا بالكم بزوجي بيل. إنه ليس شريرًا في الحقيقة كما يبدو. إن بعض الأطفال من طريق فيرلي واي مشاغبون للغاية. إنهم هم الذين أثاروا غضبه عندما صاحوا ناعتين إياه بآكلِ فطيرة الكلاب تحت جسر مارلو.»
سألتها فيليس: «من الذي فعل هذا؟»
قالت المرأة: «لا أعرف.» وأضافت: «لا أحد يعرف! لكن بطريقةٍ ما، ولا أدري سببها ولا دوافعها، كانت كلماتهم غصة في حلق سيد القارب. لا تشغلوا بالكم. فلن يعود قبل ساعتَين كاملتَين. تستطيعون صيد الكثير من السمك قبل مجيئه. إن الضوء ساطعٌ وكل شيءٍ مهيأ.»
قالت بوبي: «شكرًا لكِ، أنتِ طيبةٌ للغاية. أين طفلكِ الرضيع؟»
قالت المرأة: «نائمٌ في مقصورة الركاب. إنه بخير. وهو لا يستيقظ مطلقًا قبل الثانية عشرة. إنه دقيقٌ مثل ساعة كنيسة.»
قالت بوبي: «أنا آسفة، كنتُ أود أن أراه عن قرب.»
قالت المرأةُ وقد أشرق وجهها وهي تتكلم: «ولن تري أجمل منه أبدًا يا آنستي، وإن كنتُ أنا مَن تقول هذا.»
قال بيتر: «ألستِ خائفةً من تركه بمفرده؟»
قالت المرأة: «أَحبك الرب! لا، لستُ خائفة، ومن الذي قد يؤذي رضيعًا صغيرًا مثل هذا؟ وفوق هذا فإن الكلب سبوت موجودٌ هناك. وداعًا!»
وانصرفت المرأة.
قالت فيليس: «هلا نعود إلى المنزل؟»
قال بيتر باقتضاب: «يمكنكما أن تعودا. أما أنا فسأصطاد.»
قالت فيليس: «أظن أننا أتينا إلى هنا لنتحدث عن عيد ميلاد بيركس.»
«سوف نعتني بعيد ميلاد بيركس.»
وهكذا نزلوا إلى الممر الموازي للقناة مرةً أخرى وبدأ بيتر يصطاد. لكنه لم يَصِد أي شيء.
كان الظلام قد أوشك على أن يشتد، وكان الإرهاق قد بدأ ينال من البنتَين، وكانوا، كما قالت بوبي، قد تجاوزوا موعد ذَهابهم إلى النوم، وفجأةً صاحت بوبي: «ما هذا؟»
وأشارتْ إلى القارب الذي في القناة. كان الدخان يتصاعد من مدخنة مقصورة الركاب، لقد كان في الحقيقة يتموج برفقٍ في نسيم المساء الرقيق طوال الوقت؛ لكنَّ حلقاتٍ أخرى من الدخان كانت تتصاعد في تلك اللحظة، وكانت آتيةً من باب المقصورة.
قال بيتر في هدوء: «إنها تحترق، هذا كل ما في الأمر. نال ما يستحقه.»
صاحت فيليس: «يا إلهي؛ كيف تقول هذا؟ فكر في الكلب المسكين.»
صرخت بوبي: «الرضيع!»
وفي الحال أسرع الثلاثة إلى القارب.
كانت أحبال تثبيت القارب مرتخيةً، وكانت النسمة الواهنة، التي لا يكاد يشعر بها أحدٌ من وهنها، قويةً بما يكفي، رغم هذا، لكي تجرف مؤخر القارب إلى جوار الضفة. صعدت بوبي أولًا؛ ثم تبعها بيتر، وهو الذي انزلقتْ قدمُه وسقط. غاص في مياه القناة حتى رقبته، ولم تستطع قدماه لمس قاعها، لكنَّ ذراعه كانت على حافة القارب. أمسكته فيليس من شعره. لقد آلمه هذا، لكنه ساعده على الخروج من الماء. وبعد دقيقةٍ قفز إلى القارب، وتبعته فيليس.
صاح بيتر في بوبي قائلًا: «ليس أنتِ! بل أنا؛ لأنني مبتل.»
أدرك بيتر بوبي عند باب مقصورة الركاب، ودفعها من طريقه بخشونةٍ شديدةٍ في الحقيقة؛ لو أنهما كانا يلعبان، لجعلت هذه الخشونةُ بوبي تذرف الدموعَ من الغضب والألم. أما في هذه اللحظة، ورغم أنه دفعها بعنفٍ على حافة مخزن القارب، وسُحِجَت ركبتها ومرفقها وانكدما، فإنها لم تزد على أن صاحت قائلة:
«لا، ليس أنت، بل أنا.» ونهضتْ من جديدٍ بصعوبة. لكن لم تكن سريعةً بما يكفي.
كان بيتر قد نزل بالفعل درجتَين من درجات مقصورة الركاب وسط سحابة الدخان الكثيف. لكنه توقف، وتذكر كل ما سمعه من قبل عن الحرائق، ونزع منديله المبلل بالماء من جيبه العلوي المجاور لصدره وربطه على فمه. وقال وهو ينزعه من جيبه:
«كل شيءٍ على ما يرام، لا يكاد يوجد حريقٌ على الإطلاق.»
وقد أحسن بيتر إلى حدٍّ ما فيما قاله هذا، رغم أنه اعتقد أنها كذبة. لقد قصد بها منْع بوبي من الجري وراءه إلى الخطر. لكنها بالطبع لم تمنعها.
كانت المقصورةُ تتوهج بحمرة الضوء؛ فقد كان ثمة مصباحُ نفطٍ يُضيء في هدوءٍ وسط شبورة برتقالية اللون.
قال بيتر وقد رفع المنديل من على فمه لحظةً: «مرحبًا، مرحبًا، أيها الرضيع؛ أين أنت؟» واختنقتْ أنفاسه.
صاحت بوبي من مسافةٍ قريبة خلفه: «أوه، دعني أدخل.» لكن بيتر دفعها إلى الخلف بخشونةٍ أكبر من ذي قبل، وواصل تقدمه.
والآن لا أدري ما الذي كان سيحدث لو لم يبكِ الرضيع؛ لكنه في تلك اللحظة تحديدًا أخذ يبكي. تحسس بيتر طريقه وسط الدخان المعتم، فوجد شيئًا صغيرًا طريًّا دافئًا ينبض بالحياة، والتقطه وعاد ليخرج به، وكاد يتعثر ويسقط فوق بوبي التي كانت على مسافةٍ قريبةٍ خلفه. فقد نهش كلبٌ رجله؛ ثم حاول النباح، لكنه غصَّ بالدخان.
قال بيتر وهو ينزع المنديل من على فمه ويترنح على ظهر القارب: «إن الطفل معي.»
أخذت بوبي تقبض بيدها في المكان الذي أتى منه صوت النباح، ووقعتْ يداها على الظهر البدين لكلبٍ ناعم الشعر. استدار الكلب وأطبق أسنانه على يدها، لكن برفقٍ شديد، وكأنه يقول لها:
«إن عليَّ أن أنبح وأعض إذا دخل الغرباء مقصورة سيدي، لكنني أعرف أن قصدكما خير؛ لذا لن أعضكِ عضةً حقيقية.»
تركت بوبي الكلب.
وقالت: «لا بأس، أيها العجوز. إنك كلبٌ طيب. ناولني الرضيع يا بيتر؛ إنك مبتلٌّ للغاية وستصيبه بالبرد.»
ابتهج بيتر جدًّا بإعطائها تلك الصُّرة الصغيرة الغريبة التي كانت تتلوى وتنشج بالبكاء بين ذراعَيه.
أسرعتْ بوبي تقول: «والآن أسرِع مباشرةً إلى حانة «روز آند كراون» وأخبرهما. سأبقى أنا وفيليس هنا مع الصغير. كفى بكاءً الآن أيها الحبيب، أيها الجميل، أيها اللطيف! اذهب الآن يا بيتر! اجرِ!»
قال بيتر بنبرةٍ حازمة: «لا يمكنني الجري وأنا أرتدي هذه الأشياء. إنها ثقيلةٌ كالرصاص. سوف أمشي.»
قالت بوبي: «سأجري أنا إذن. اصعدي إلى الضفة يا فِل، وسأناولكِ الصغير.»
ناولت بوبي الرضيع لفيليس بحذر. جلستْ فيليس على الضفة وحاولتْ تهدئة الرضيع. أخذ بيتر يعصر الماء من أكمامه وأرجُل سراويله القصيرة بقدر ما استطاع، أما بوبي فهي التي راحت تجري كالريح على الجسر ثم على الطريق الأبيض الطويل الهادئ الذي أضاءته حمرةُ المغيب، باتجاه حانة «روز آند كراون.»
ثمة حجرةٌ جميلةٌ عتيقة الطراز في حانة «روز آند كراون»، يجلس فيها الملاحون وزوجاتهم مساءً لشرب جِعَة العشاء، وتحميص شطائر الجبن على قطعٍ متوهجةٍ من الفحم بمقدارِ مَلء سلةٍ في وعاء يبرز داخل الحجرة من تحت مدخنةٍ ضخمةٍ ذات غطاء، وقد كانت تلك المدخنة أكثر دفئًا وجمالًا وتوفيرًا للراحة من أي مدفأةٍ رأيتُها في حياتي.
كان ثمة مجموعةٌ لطيفةٌ من الملاحين مجتمعين حول النار. ربما لم تكونوا لتحسبوهم لطفاء، لكنهم كانوا كذلك بالفعل؛ لأنهم كانوا جميعًا أصدقاء أو معارف، وكانوا يحبون الأشياء نفسها، ويتكلمون كلامًا واحدًا. هذا هو السر الحقيقي وراء وجود رفقةٍ لطيفة. لقد كان رفاق الملاح بيل — الذي وجده الأطفال بغيضًا للغاية — يعدونه رفيقًا رائعًا. كان في ذلك الوقت يقص حكايةً عن أخطاءٍ ارتكبها؛ دائمًا ما يكون هذا موضوعًا مثيرًا. لقد كان يتكلم عن قاربه.
قال: «وأمرني قائلًا: «ادهنه بالكامل.» ولمْ يحدد لونًا معينًا، أرأيتم؟ لذا أحضرتُ الكثير من الطلاء الأخضر وأخذتُ أدهنه من أوله لآخره، وصدقوني، لقد بدا جيدًا للغاية. ثم أقبل عليَّ وقال: «لماذا دهنته كلها بلونٍ واحدٍ؟» هكذا سألني. وقلتُ له، قلتُ: «لأنني أعتقد أن هذا سيجعله يبدو ممتازًا.» هكذا قلتُ. وقلتُ أيضًا: «ولا أزال أعتقد هذا.» فقال لي: «أهكذا تعتقد؟ إذن فلتدفع أنت ثمن الطلاء اللعين.» هكذا قال لي. واضطُرِرتُ أن أفعل ذلك أيضًا.» سَرَت همساتُ التعاطف في الحجرة. لكن بوبي اقتحمتها عليهم مُحدِثة ضجة؛ فقد دفعت الباب الدوَّار وفتحته وهي تصيح لاهثةً:
«بيل! أريد الملاح بيل.»
ساد الحجرةَ صمتٌ من أثر الذهول. كانت أقداح الجعة مرفوعةً في الهواء، وتجمدتْ وهي في طريقها إلى الأفواه العطشى.
قالت بوبي وقد رأت زوجة الملاح وتوجهت إليها: «أوه، إن مقصورة الركاب في قاربكِ تحترق. أسرعي.»
انتفضت المرأة واقفة، ووضعتْ يدًا كبيرةً حمراء على خاصرتها، على جانبها الأيسر، في المكان الذي يبدو أن قلوبكم تكون فيه عندما يصيبكم فزعٌ أو تعاسة.
صاحت المرأة بصوتٍ رهيب: «ريجينالد هوراس! حبيبي ريجينالد هوراس!»
قالت بوبي: «لا بأس. إذا كنتِ تقصدين الرضيع؛ فقد أنقذناه. والكلب كذلك.» لم تجد بوبي في صدرها نفَسًا لقول المزيد، سوى: «أسرعي إلى هناك؛ إن القارب مشتعلٌ كله.»
ثم ارتمتْ على دكة الحانة وحاولت أن تلتقط تلك الأنفاس المريحة التي تعقب الجري والتي يُسمِّيها الناس «استرداد الأنفاس.» لكنها أحستْ وكأنها لن تتنفس من جديدٍ أبدًا.
نهض الملاح بيل من مكانه ببطءٍ وتثاقل. لكن زوجته كانت قد قطعت مائة ياردةٍ من الطريق قبل أن يفهم الأمر جيدًا.
لم تكد فيليس، التي جلستْ ترتعش بجوار قناة الماء، تسمع وقع الأقدام المقتربة سريعًا منها حتى قذفت المرأةُ بنفسها على السياج، وتدحرجتْ على الضفة، وانتزعت الرضيع منها.
قالت فيليس تعاتبها: «لا تفعلي هذا. لقد جعلتُه ينام لتوي.»
•••
أقبل بيل بعد ذلك يتكلم بلغةٍ لا يعرفها الأطفال مطلقًا. ثم وثب باتجاه القارب وراح يغرف دلاءً من الماء. وقد ساعده بيتر وأطفئا النار معًا. أما فيليس، وزوجة الملاح، والرضيع — وبوبي التي لحقت بهم بعد وقتٍ قصيرٍ كذلك — فوقفن متضامَّات وكأنهن كومة على ضفة القناة.
أخذت المرأةُ تردد مرةً بعد أخرى: «ساعدني يا إلهي، لو كنتُ أنا التي تركت أي شيءٍ يمكن أن يشتعل.»
لكن لم تكن هي التي فعلتْ هذا. لقد كان الملاح بيل هو الذي أفرغ غليونه في القارب وسقط الرماد الملتهب على البساط المفروش أمام الموقد وظل يحترق هناك ببطءٍ من دون لهبٍ ثم في النهاية اندلعت منه النار. لكنه كان عادلًا برغم صرامته؛ فلمْ يلُم زوجته على خطئه، كما كان من الممكن أن يفعل الكثير من الملاحين، والرجالُ الآخرون كذلك.
•••
كاد القلق أن يدفع أمهم إلى التهور عندما وصل الأطفال الثلاثة أخيرًا إلى المنزل ذي المداخن الثلاث، وكانوا جميعهم في ذلك الوقت مبللين للغاية؛ إذ بدا أن البلل الذي طال ملابس بيتر قد رشح على ملابسهم. لكنها عندما استخلصت حقيقة ما حدث من روايتهم المختلطة غير المترابطة، اعترفتْ أنهم أحسنوا التصرف تمامًا، وأنه لم يكن بإمكانهم فعلُ شيءٍ غير هذا. كما أنها لمْ تضع أي عراقيل في طريق قَبولهم للدعوة الودودة التي أنهى بها الملاح لقاءه معهم.
كان الملاح قد قال: «تعالوا إلى هنا غدًا في الساعة السابعة، وسوف أصطحبكم على متن القارب في رحلة كاملة إلى قرية فيرلي ذهابًا وإيابًا، هكذا سأفعل، ولن تدفعوا مليمًا واحدًا. تسعة عشر هويسًا!»
لم يعرف الأطفال ما هي الأهوسة؛ لكنهم كانوا عند الجسر في الساعة السابعة، وكان معهم سلةٌ فيها خبزٌ وجبنٌ ونصف كعكة مخبوزة بماء الصودا، وربع فخذٍ رائعٍ من لحم الضأن.
كان يومًا رائعًا. أخذ الحصان الأبيض العجوز يبذل جهده ليجر الحبال، وراح القارب ينساب بسلاسة واطِّرادٍ عبر المياه الساكنة. كانت السماء زرقاء فوق رءوسهم. وكان السيد بيل في أقصى ما يمكن لإنسانٍ أن يكون من اللطف. ما كان أحدٌ ليتخيل إمكانية أن يكون هذا هو الرجل نفسه الذي أمسك بيتر من أُذنه. أما عن زوجة السيد بيل، فقد كانت لطيفةً معهم دائمًا، كما قالت بوبي، وهكذا كان الرضيع، وحتى سبوت، الذي كان بإمكانه أن يعقرهم بشدة لو أراد.
قال بيتر بعدما وصلوا إلى البيت وهم في غاية السعادة، وغاية الإرهاق، وغاية الاتساخ: «كانت رحلةً رائعةً وحسب يا أمي، فوق تلك القنطرة الرائعة مباشرةً. والأهوسة؛ إنكِ لا تعرفين كيف تبدو هذه الأهوسة. إنكِ تغطسين باتجاه الأرض، ثم بعد ذلك، وعندما تشعرين أنكِ لن تتوقفي أبدًا عن الانخفاض إلى الأسفل، تبدأ بوابتان سوداوان كبيرتان في الانفتاح رويدًا رويدًا؛ وتخرجين منهما، وهناك تجدين نفسكِ فوق القناة كما كنتِ قبل ذلك تمامًا.»
قالت الأم: «أعرف هذا؛ ثمة أهوسةٌ في نهر التيمز. كنتُ أنا ووالدكم نذهب إلى النهر في مدينة مارلو قبل زواجنا.»
قالت بوبي: «والرضيع الحبيب اللطيف الجميل، لقد تركني أعتني به وقتًا طويلًا جدًّا؛ وكان هذا رائعًا للغاية. أمي، أتمنى لو كان عندنا رضيعٌ لألعب معه.»
قالت فيليس: «وكان الجميع في غاية اللطف معنا، جميع من قابلناهم. وقالوا إن بإمكاننا الصيدَ وقتما نشاء. وسيُرينا بيل كيف نصطاد عندما يذهب إلى تلك الأنحاء في المرة المقبلة. إنه يقول إننا لا نعرف كيفية الصيد في الحقيقة.»
قال بيتر: «لقد قال إنكِ أنتِ التي لا تعرفين. لكنه يا أمي قال إنه سيخبر جميع الملاحين على امتداد القناة بأكملها أننا أطفالٌ شِهامٌ جيدون، وأن عليهم أن يُعاملونا معاملةً جيدةً، مثلما كنا جيدين.»
قاطعته فيليس قائلةً: «وعندئذٍ قلتُ إنَّ كل واحدٍ منا سيرتدي وشاحًا أحمر اللون دائمًا عندما نذهب للصيد بجوار القناة؛ لكي يعرفوا أننا نحن الذين نصطاد، وأننا نحن الشهام الجيدون، ويعاملوننا بلطف!»
قالت الأم: «إذن قد أصبح لديكم مجموعة أخرى من الأصدقاء؛ من السكة الحديدية أولًا، ثم من القناة!»
قالت بوبي: «أوه، نعم. أعتقد أن كل إنسانٍ في الدنيا قد يكون صديقًا إذا استطعتِ فقط أن تُقنعيه أنكِ لا تريدين أن تكوني عدوًّا.»
قالت الأم: «ربما تكونين مُحقة.» ثم تنهدت وقالت: «تعالوا يا أحبتي. حان وقتُ النوم.»
قالت فيليس: «نعم، يا إلهي؛ وقد كنا ذهبنا إلى هناك لنتحدث بشأن ما سنفعله بشأن عيد ميلاد بيركس. ولم نتكلم كلمةً واحدةً عنه!»
قالت بوبي: «لم نقل الكثير، لكنَّ بيتر أنقذ حياة ريجينالد هوراس. أعتقد أن حدوث هذا في ليلة واحدة جيد بما فيه الكفاية.»
قال بيتر بصدق وإخلاص: «كانت بوبي ستنقذه لو لمْ أُسقطها أرضًا؛ لقد فعلتُ ذلك مرتَين.»
قالت فيليس: «وأنا أيضًا، لو أنني كنت أعرف كيف أنقذه.»
قالت الأم: «نعم. لقد أنقذتم حياة طفلٍ صغير. أعتقد أن هذا كافٍ لليلةٍ واحدة. أوه، يا أحبابي، حمدًا للرب أنكم جميعًا آمنون!»