تصدير المُراجِع
كنتُ أنتوي كتابةَ كلمةٍ موجزة عن فرجينيا وولف على نحو ما فعلتُ في كتابي الصغير «الأدب وفنونه» (١٩٨٤م)، الذي طُبع عدة طبعات، وكانت الطبعات تنفد في كل مرة، وأتحدثُ فيه عن فن كتابة القصة الحديثة والحداثية، ولكنني عندما قرأتُ مقدمة المُترجِمة، هنا بهذا الكتاب، التي تنثر فيها مفاتيحَ قراءة وولف التي أسمتها ناعوت: «الفرَس الحرون»، وجدتُ أنها تفي بالغرض، وهكذا اكتفيتُ بالمراجعة اللغوية.
ولقد راعني أن الكاتبة المبدعة فاطمة ناعوت تؤمن بما أومنُ به في فن الترجمة، ألا وهو أننا لا نستطيع تحقيق الأمانة الحقَّة في الترجمة الأدبية، أو ما يمكن تسميته النقلَ الصادق للأثر الأدبي من لغة إلى لغة، إلا إذا اجتهدنا في ترجمة الأسلوب أيضًا، ومعنى ذلك تقديمُ صورةٍ كاملة للمعاني والمباني جميعًا في النص المترجَم؛ فالمبنى في الأدب له معنًى، وهو يتضافر مع دلالة الألفاظ التي قد تُستخدم في مبانٍ أخرى، ويشتبك معها في إيصال المعنى المتفرِّد الذي يتميز به كلُّ أثرٍ أدبي حقيقي شهد له النُّقَّاد، وتقبَّلته ذائقةُ الجمهور. والمباني تتفاوت بتفاوتِ ما ترمي إليه الكاتبةُ في هذه المجموعة، وهو لا يتفاوتُ بتفاوتِ ما يُسمى بالتيمة أو خيط الفكرة والصورة وحسب، بل أيضًا بتفاوتِ رؤية الكاتبة من موقفٍ شعوري إلى موقفٍ شعوري آخَر قد يتصل بسابقه أو يُمهِّد للاحقه، وربما كان مُغايِرًا لهذا أو ذاك. وهو ما نستدلُّ عليه باختلاف المبنى ولو اتصلَ الموقفان من الداخل.
وقد دفعني إلى محاولة ترجمة الأسلوب فيما أُترجمُ من آثار أدبية إيماني بأن الأدب يستمدُّ من الشكل طاقةً خاصة به، وإهمال ذلك الشكل ينتقص من تلك الطاقة؛ فقارئ الشِّعر لا يكتفي بما يقول الشاعر؛ أي بما ينقله من فِكر قد يجد التعبير المنثور عنه (في الشرح أو الإيضاح)، بل يتذوَّق أيضًا أسلوبَ الشاعر في صوغ هذا الفكر؛ ولهذا كنتُ ولا أزال أُترجمُ الشِّعرَ شِعرًا، والنثرَ نثرًا، مُحاوِلًا في ترجمة الشعر إخراجَ الإيقاع الكامن في الأصل، استلهامًا لما أُحسُّه وأستشعره، ومُحاوِلًا في ترجمة النثر الأدبي إخراجَ نبضِ الأسلوب الذي يتبدَّى في أبنية العبارات، وما نستشفُّه في هذه الأبنية من حركة داخلية، عادةً ما تكون مقصورةً عليه وحده.
وهذا ما تفعله فاطمة ناعوت هنا؛ إذ تنجح في تمثُّل أبنية فرجينيا وولف واستيعابها قبل نقلها بلون من المحاكاة يقترب من الإبداع الجديد، فهو بلغةٍ جديدة، وهو ترجمة (والترجمة في معناها الاشتقاقي نقلٌ للمكان) تنقلنا من مكان إلى مكان، فتُعيدُ فاطمة بناءَ المواقف الشعورية في القصص الأصلية بلغة الضاد، متيحةً للقارئ العربي فرصةَ الاطلاع على فنِّ فرجينيا، ولو اختلفت اللغة.
والمترجِم الذي يختار هذا المركب الصعب لا بد أن يكون مُبدِعًا أولًا حتى يستطيع إبداع النص الإبداعي الجديد. وقد يتأثر في إبداعه هذا النصَّ الجديد بعصره، أو بتقاليد لغته، أو بأسلوب كتابته الخاصة المتفرِّدة، وقد يتأثر في الترجمة إذَن بهذا كله، وهذا لا غبارَ عليه، بل إنه محتوم؛ لأن النصَّ المُبدَع الجديد يُمثِّل صورةَ النص الأصلي الآن وهنا، وعند هذا المبدِع الذي يترجِم، ومن حقِّ جيلٍ لاحق أن يعيدَ تقديمَ الأثر الأدبي وفقًا لاختلافِ المكان والزمان؛ ولذلك تكثُر الترجماتُ للآثار الأدبية الكبرى، وتتبدَّى في كلٍّ منها هذه المؤثرات، جميعها أو بعضها.
لقد نجحت فاطمة ناعوت فيما تصدَّت إليه هنا في هذه المجموعة: «أثرٌ على الحائط»، مثلما قدَّمَت لنا قبل سنوات كتابًا آخر لفرجينيا وولف ذاتها، عنوانُه: «جيوبٌ مُثقَلة بالحجارة»، ونرجو أن تتبعه بآثارٍ أدبية أخرى تُثري بها المكتبةَ العربية.
القاهرة، ٢٠٠٩م